كتاب :مجلد 9. المحلى أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)
=======
== مِنْهُمْ سَهْلُ بْنُ أَبِي
حَثْمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- " أَنَّهُ نَهَى، عَنْ
بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ،
إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ وَالنَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ
يَأْخُذُهَا أَهْلُ الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا ".
قال أبو محمد : تَحْدِيدُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ يَقْضِي عَلَى هَذِهِ الأَحَادِيثِ؛
لأََنَّهُ إنْ كَانَ فِي النَّخْلَتَيْنِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ
كَانَ فِي النَّخَلاَتِ أَقَلُّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ جَازَ ذَلِكَ فِيهَا؛
لأََنَّ تَحْدِيدَ الْخَمْسَةِ الأَوْسُقِ زِيَادَةُ حُكْمٍ، وَزِيَادَةُ حَدٍّ،
وَزِيَادَةُ بَيَانٍ، وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/465)
من ابتاع كذلك رطبا للأكل ثم مات
فورثته عنه أو مرض أو استغنى عن أكلها فقد ملك الرطب
...
1474 –
مَسْأَلَةٌ- فَمَنْ ابْتَاعَ كَذَلِكَ رُطَبًا لِلأَكْلِ ثُمَّ مَاتَ فَوُرِثَتْ
عَنْهُ، أَوْ مَرِضَ، أَوْ اسْتَغْنَى، عَنْ أَكْلِهَا إِلاَّ أَنَّهُ حِينَ
اشْتَرَاهَا كَانَتْ نِيَّتُهُ أَكْلَهَا بِلاَ شَكٍّ، فَقَدْ مَلَكَ الرُّطَبَ
مِلْكًا صَحِيحًا،
وَيَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/465)
لا يحوز حكم العرايا المذكور في
شيء من الثمار غير ثمار النخل ولا يجوز بيع شيء من الثمار سواء ثمر النخل بخرصها
أصلا
...
1475 –
مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَجُوزُ حُكْمُ الْعَرَايَا الْمَذْكُورُ فِي شَيْءٍ مِنْ
الثِّمَارِ غَيْرَ ثِمَارِ النَّخْلِ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ سِوَى ثَمَرِ النَّخْلِ بِخَرْصِهَا
أَصْلاً، لاَ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ، وَلاَ مَجْمُوعَةٍ فِي الأَرْضِ أَصْلاً.
وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ الْعِنَبُ بِالزَّبِيبِ كَيْلاً، لاَ مَجْمُوعًا، وَلاَ
فِي عُودِهِ، وَلاَ بَيْعُ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَهَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالاَ: أَنَا أَبُو أُسَامَةَ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- عَنِ الْمُزَابَنَةِ ، وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ ثَمَرِ النَّخْلِ
بِالتَّمْرِ كَيْلاً وَبَيْعُ الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ كَيْلاً. وَعَنْ كُلِّ
ثَمَرٍ بِخَرْصِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ
عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ " أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نَهَى، عَنْ بَيْعِ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلاً
". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا قُتَيْبَةُ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم- عَنِ الْمُزَابَنَةِ أَنْ يَبِيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إنْ كَانَتْ نَخْلاً
بِتَمْرٍ كَيْلاً، وَإِنْ كَانَ كَرْمًا أَنْ يَبِيعَهُ بِزَبِيبٍ كَيْلاً، وَإِنْ
كَانَ زَرْعًا أَنْ يَبِيعَهُ بِكَيْلِ طَعَامٍ ".
(8/465)
إن كان ثمر ماعدا ثمر النخل جاز
أن يباع بيابس ورطب من صنفه وغير صنفه بأكثر منه وبأقل وأن يسلم في جنسه وغير جنسه
ما لم يكن يخرصه
...
1476- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ ثَمَرُ مَا عَدَا ثَمَرِ النَّخْلِ جَازَ أَنْ
يُبَاعَ بِيَابِسٍ وَرُطَبٍ مِنْ صِنْفِهِ، وَمِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ بِأَكْثَرَ
مِنْهُ، وَبِأَقَلَّ وَمِثْلِهِ، وَأَنْ يُسَلَّمَ فِي جِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ
مَا لَمْ يَكُنْ بِخَرْصِهِ كَمَا ذَكَرْنَا،
وَمَا لَمْ يَكُنْ زَبِيبًا كَيْلاً بِعِنَبٍ؛ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. وَقَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} . فَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَفَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَهُ {وَمَا
كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا}. فإن قيل: قَدْ نَهَى، عَنِ الرُّطَبِ بِالْيَابِسِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام سَأَلَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذَا يَبِسَ؟ فَقِيلَ:
نَعَمْ، فَنَهَى، عَنْ بَيْعِهِ بِالتَّمْرِ قلنا: أَمَّا أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ
إذَا يَبِسَ، فَإِنَّ مَالِكًا،
(8/465)
اعتراض وارد على المصنف فيما ذهب
إليه والجواب عن ذلك
...
1477 –
مَسْأَلَةٌ- فإن قال قائل: فَأَنْتُمْ الْمُنْتَمُونَ إلَى الأَخْذِ بِمَا صَحَّ
مِنْ الآثَارِ
وَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَطَاءٍ، وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَطِيبَ، وَلاَ يُبَاعُ شَيْءٌ
مِنْهُ إِلاَّ بِالدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ ". وَرَوَيْتُمُوهُ أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ
جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ قلنا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: نَعَمْ؛ لأََنَّ الثِّمَارَ
كُلَّهَا إذَا يَبِسَتْ حُدَّتْ أَوْ لَمْ تُجَدَّ فَهِيَ ثِمَارٌ قَدْ طَابَتْ
بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ، وَلاَ خِلاَفَ فِي اللُّغَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ أَمَرَ بِبَيْعِ التَّمْرِ يَدًا
بِيَدٍ، كَيْلاً بِكَيْلٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَأَمَرَ بِبَيْعِهِ بِغَيْرِ
صِنْفِهِ كَيْفَ شِئْنَا. فَصَحَّ النَّصُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ التَّمْرِ بِمَا
شِئْنَا مِمَّا يَحِلُّ بَيْعُهُ، فَكَانَ مَا فِي هَذَا مُضَافًا إلَى مَا فِي
خَبَرِ جَابِرٍ الْمَذْكُورِ وَزَائِدًا عَلَيْهِ، فَكَانَ ذَلِكَ: لاَ تَبِيعُوا
الثَّمَرَ إذَا طَابَ إِلاَّ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَبِمَا شِئْتُمْ،
حَاشَا مَا نُهِيتُمْ عَنْهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ. وَقَدْ
صَحَّ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ الْمَقْطُوعُ بِهِ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ
الثِّمَارِ بَعْدَ طِيبِهَا حُكْمُهَا فِيمَا يُبَاعُ مِمَّا يَجُوزُ حُكْمُ
التَّمْرِ، وَهَذَا برهان صَحِيحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ وَمَا
نَعْلَمُ أَحَدًا مَنَعَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِغَيْرِ الدَّنَانِيرِ
وَالدَّرَاهِمِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/467)
لا يكون الربا إلا في بيع أو قرض
أو سلم ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك
...
1478- مَسْأَلَةٌ- الرِّبَا: وَالرِّبَا لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي بَيْعٍ، أَوْ
قَرْضٍ، أَوْ سَلَمٍ، وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؛
لأََنَّهُ لَمْ تَأْتِ النُّصُوصُ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَلاَ حَرَامَ إِلاَّ مَا
فُصِّلَ تَحْرِيمُهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ
جَمِيعًا} . وَقَالَ تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}.
وَقَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} .
(8/467)
الربا لا يجوز في البيع أو السلم
إلا في ستة أشياء فقط وبيانها مفصلة
...
1479 –
مَسْأَلَةٌ- وَالرِّبَا لاَ يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَالسَّلَمِ إِلاَّ فِي
سِتَّةِ أَشْيَاءَ فَقَطْ:
فِي التَّمْرِ، وَالْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْمِلْحِ، وَالذَّهَبِ،
وَالْفِضَّةِ وَهُوَ فِي الْقَرْضِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلاَ يَحِلُّ إقْرَاضُ
شَيْءٍ لِيُرَدَّ إلَيْك أَقَلَّ، وَلاَ أَكْثَرَ، وَلاَ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ
أَصْلاً، لَكِنْ مِثْلُ مَا أَقْرَضْت
(8/467)
بيان خطأ من يقول في علة الربا أن
النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أعلى القوت وهو البروداون القوت وهو الملح ليدل على
أن حكم ما بينهما كحكمهما
...
1480 –
مَسْأَلَةٌ- قال أبو محمد: وَهَهُنَا أَشْيَاءُ ذَكَرَهَا الْقَائِلُونَ
بِتَعْلِيلِ حَدِيثِ الرِّبَا كُلُّهُمْ،
وَهِيَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ
بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: " الذَّهَبُ
بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ، حَتَّى
خَلَصَ إلَى الْمِلْحِ ". قَالُوا: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عليه
السلام ذَكَرَ غَيْرَ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَمْ
يَرْوِهِ إِلاَّ حَكِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ
أَسْقَطَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ ذِكْرَ الْبُرِّ، وَالتَّمْرِ وَالشَّعِيرِ،
فَبَطَلَ تَقْدِيرُهُمْ أَنَّهُ ذَكَرَ أَصْنَافًا لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ مِنْ
الرُّوَاةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ بَكْرِ
بْنِ حَمَّادٍ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ
الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ فِيهِ: " حَتَّى
خَصَّ الْمِلْحَ " فَلاَحَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ تِلْكَ الأَصْنَافِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ مِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ يَذْكُرَ عليه السلام
شَرَائِعَ مُفْتَرَضَةً فَيَسْقُطُ ذِكْرُهَا، عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ أَوَّلِهِمْ،
عَنْ آخِرِهِمْ مِنْ غَيْرِ نَسْخٍ، هَذَا خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَا
يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} . وَقَوْله تَعَالَى
{إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . وَلَوْ جَازَ
هَذَا لَكَانَ الدِّينُ لَمْ يَكْمُلْ، وَالشَّرِيعَةُ
(8/486)
فَاسِدَةً، قَدْ ضَاعَتْ مِنْهَا
عَنَّا أَشْيَاءُ، وَلَكُنَّا مُكَلَّفِينَ مَا لاَ نَقْدِرُ عَلَيْهِ،
وَمَأْمُورِينَ بِمَا لاَ نَدْرِيهِ أَبَدًا، وَهَذِهِ ضَلاَلاَتٌ نَاهِيك بِهَا،
وَبَاطِلٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ جُبَيْرٍ،
عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه
وسلم- قَالَ: " التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالزَّبِيبُ بِالزَّبِيبِ،
وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالسَّمْنُ بِالسَّمْنِ، وَالزَّيْتُ بِالزَّيْتِ،
وَالدِّينَارُ بِالدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ، لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمْ
".
قال أبو محمد: وَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ مَكْذُوبٌ لاَ تَحِلُّ رِوَايَتُهُ
إِلاَّ عَلَى بَيَانِ فَضِيحَتِهِ؛ لأََنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسٍ لاَ يُعْرَفُ لَهُ
سَمَاعٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجُبَيْرَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ
مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، وَإِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ
الْفَرْوِيُّ مَتْرُوكٌ وَيَزِيدَ بْنَ عِيَاضٍ، هُوَ ابْنُ جعدبة مَذْكُورٌ
بِالْكَذِبِ وَوَضْعِ الأَحَادِيثِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ
حُجَّةٌ فِي إيجَابِ عِلَّةٍ أَصْلاً، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ
ذِكْرِ الزَّيْتِ، وَالسَّمْنِ، وَالزَّبِيبِ، فَقَطْ. وَأَيْضًا: فَلَوْ صَحَّ
لَكَانَ الْمَالِكِيُّونَ مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ الدِّرْهَمَ
بِأَوْزَنَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْمَعْرُوفِ وَلَكَانَ الْحَنَفِيُّونَ مُخَالِفِينَ
لَهُ، لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ بِسِتِّ تَمَرَاتٍ، وَعَشْرَ
حَبَّاتِ بُرٍّ بِثَلاَثِينَ حَبَّةِ بُرٍّ وَكَذَلِكَ فِي الشَّعِيرِ،
وَالْمِلْحِ، وَالزَّبِيبِ، وَالْمِلْحِ، وَلاَ يَحِلُّ تَحْرِيمُ حَلاَلٍ خَوْفَ
الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، فَيَسْتَعْجِلُ مِنْ فِعْلِ ذَلِكَ الْمَعْصِيَةَ،
وَالْوُقُوعُ فِي الْبَاطِلِ خَوْفَ أَنْ يَقَعَ فِيهِ غَيْرُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ
أَنَّهُ كَرِهَ مُدَّيْ ذُرَةٍ بِمُدِّ حِنْطَةٍ نَسِيئَةً إبْرَاهِيمُ مَتْرُوكٌ
مُتَّهَمٌ وَهَذَا كَرَاهِيَةٌ لاَ تَحْرِيمٌ، وَلاَ يُدْرَى هَلْ كَرِهَ
الْكَيْلَ أَوْ الطَّعَامَ وَقَدْ ذَكَرْنَا كُلَّ قَوْلٍ رُوِيَ فِي هَذَا
الْبَابِ، عَنِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَبَيَّنَّا خِلاَفَهُمْ لَهَا، وَأَنَّهُمْ
قَالُوا فِي ذَلِكَ بِأَقْوَالٍ لاَ تُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ. وأعجب
شَيْءٍ مُجَاهَرَةُ مَنْ لاَ دِينَ لَهُ بِدَعْوَى الإِجْمَاعِ عَلَى وُقُوعِ
الرِّبَا فِيمَا عَدَا الأَصْنَافِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا وَهَذَا كَذِبٌ
مَفْضُوحٌ مِنْ قَرِيبٍ، وَاَللَّهِ مَا صَحَّ الإِجْمَاعُ فِي الأَصْنَافِ
الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فَكَيْفَ فِي غَيْرِهَا. أَوْ لَيْسَ ابْنُ مَسْعُودٍ،
وَابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولاَنِ: لاَ رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ وَعَلَيْهِ
كَانَ عَطَاءٌ، وَأَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفُقَهَاءُ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَدْ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ أَنَا
الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لاَ رِبَا فِيمَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ
وَالْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا
وَكِيعٌ أَنَا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ
قَالَ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يُسَلِّمَ مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ، وَمَا يُوزَنُ
فِيمَا يُوزَنُ، إنَّمَا هُوَ طَعَامٌ بِطَعَامٍ، وَهَذَا نَفْسُ قَوْلِنَا،
وَمُخَالِفٌ لِجَمِيعِ قَوْلِ هَؤُلاَءِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ
(8/487)
عُبَيْدِ اللَّهِ إبَاحَةُ بَيْعِ ذَهَبٍ بِفِضَّةٍ، يُقْبَضُ أَحَدُهُمَا وَيَتَأَخَّرُ قَبْضُ الآخَرِ إلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُسَمًّى، وَلاَ يُقَدِّرُونَ فِيمَا عَدَا السِّتَّةَ الأَصْنَافِ فِي الرِّبَا عَلَى كَلِمَةٍ، إِلاَّ، عَنْ سَبْعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخْتَلِفِينَ، كُلُّهُمْ مُخَالِفٌ لأََقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، لَيْسَ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ رِوَايَةٌ تُوَافِقُ أَقْوَالَ هَؤُلاَءِ صَحِيحَةٌ، وَلاَ سَقِيمَةٌ. وَعَنْ نَحْوِ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْ التَّابِعِينَ مُخْتَلِفِينَ أَيْضًا كَذَلِكَ مُخَالِفِينَ لأََقْوَالِهِمْ إِلاَّ إبْرَاهِيمُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ وَافَقَ قَوْلَهُ أَصْلَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَأَيْضًا: فَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا، عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَوَاهِيَةٌ لاَ تَصِحُّ، فَمَنْ يَجْعَلُ مِثْلَ هَذَا إجْمَاعًا إِلاَّ مِنْ لاَ دِينَ لَهُ، وَلاَ عَقْلَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَوَجَدْنَا لِبِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ قَوْلاً غَرِيبًا، وَهُوَ أَنَّ تَسْلِيمَ كُلِّ جِنْسٍ فِي غَيْرِ جِنْسِهِ جَائِزٌ كَالذَّهَبِ فِي الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ فِي الذَّهَبِ، وَالْقَمْحِ فِي الشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ فِي الْمِلْحِ، وَكُلِّ صِنْفٍ مِنْهَا فِي غَيْرِهِ، وَأَنَّ الرِّبَا لاَ يَقَعُ إِلاَّ فِيمَا بِيعَ بِجِنْسِهِ فَقَطْ. ثُمَّ لاَ نَدْرِي أَعَمَّ كُلَّ جِنْسٍ فِي الْعَالَمِ قِيَاسًا عَلَى الْمَنْصُوصَاتِ، وَهُوَ الأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ خَصَّ الْمَنْصُوصَاتِ فَقَطْ وَهَذَا قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِمَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلاَ وَجْهَ لِلأَشْتِغَالِ بِهِ.
(8/488)
اختلاف الفقهاء في علة الربا
وبيان فساد قياسهم في هذا الباب
...
1481- مَسْأَلَةٌ- قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذْ قَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ
كُلُّهَا فَالْوَاجِبُ أَنْ نَذْكُرَ الْبُرْهَانَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا
بِعَوْنِ اللَّهِ تَعَالَى رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ
سَعِيدٍ قَالَ: أَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ، أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَقُولُ: مَنْ
يَصْطَرِفُ الدَّرَاهِمَ فَقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ عِنْدَ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَرِنَا ذَهَبَك ثُمَّ جِئْنَا إذَا جَاءَ خَادِمُنَا
نُعْطِك وَرِقَك فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: كَلًّا، وَاَللَّهِ
لَتُعْطِيَنَّهُ وَرِقَةُ أَوْ لَتَرُدَّنَّ إلَيْهِ ذَهَبَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ
وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالشَّعِيرُ
بِالشَّعِيرِ رِبًا، إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا، إِلاَّ
هَاءَ وَهَاءَ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ أَنَا أَبُو الأَشْعَثِ، عَنْ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "
يَنْهَى، عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ،
وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ،
وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ، إِلاَّ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، فَمَنْ
زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ
رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ بِنَحْوِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ
أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ أَنَا
هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى أَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ
مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ
(8/488)
الصَّنْعَانِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ
بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "
الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْفِضَّةُ
بِالْفِضَّةِ تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ،
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ،
كَيْلاً بِكَيْلٍ فَمَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، وَلاَ بَأْسَ
بِبَيْعِ الشَّعِيرِ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ ".
قال أبو محمد: عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ أَنْصَارِيٌّ ثِقَةٌ مَعْرُوفٌ، وَأَبُو
الْخَلِيلِ هُوَ صَالِحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ ثِقَةٌ، وَمُسْلِمٌ الْمَكِّيُّ هُوَ
مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ الْخَيَّاطُ مَوْلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه ثِقَةٌ. وَقَدْ
رُوِّينَا هَذَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ صِحَاحٍ فَلاَ رِبَا إِلاَّ فِيمَا نَصَّ
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الْمَأْمُورُ بِالْبَيَانِ، وَمَا
عَدَا ذَلِكَ فَحَلاَلٌ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/489)
لا يحل أن يباع قمح بقمح إلا مثل
بمثل كيل بكيل يدا بيد وكذلك الشعير ولا التمر إلا كذلك ولا الملح أيضا إلا كذلك
...
1483 مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ قَمْحٌ بِقَمْحٍ إِلاَّ مِثْلاً
بِمِثْلٍ كَيْلاً بِكَيْلٍ يَدًا بِيَدٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ.وَلاَ يَحِلُّ أَنْ
يُبَاعَ شَعِيرٌ بِشَعِيرٍ إِلاَّ كَذَلِكَ. وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ تَمْرٌ
بِتَمْرٍ إِلاَّ كَذَلِكَ. وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُبَاعَ مِلْحٌ بِمِلْحٍ إِلاَّ
كَذَلِكَ، وَسَوَاءٌ مَعْدِنِيَّةٌ أَوْ مَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ مِنْ الْمَاءِ،
كُلُّ ذَلِكَ لاَ يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلاَّ كَمَا ذَكَرْنَا.
وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ الْقَمْحِ فَهِيَ كُلُّهَا قَمْحٌ الأَعْلَى، وَالأَدْنَى،
وَالْوَسَطُ: سَوَاءٌ فِيمَا قلنا، وَكَذَلِكَ أَقْسَامُ الشَّعِيرِ. وَكَذَلِكَ
أَقْسَامُ التَّمْرِ فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبْضُ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ رِبًا
حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ، سَوَاءٌ
تَأَخَّرَ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَالْكَثِيرُ وَالْقَلِيلُ مِنْ كُلِّ
مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ فِيمَا وَصَفْنَا. وَلاَ يَحِلُّ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا
مِنْ نَوْعِهِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَلاَ وَزْنًا بِكَيْلٍ، وَلاَ جُزَافًا
بِجُزَافٍ، وَلاَ جُزَافًا بِكَيْلٍ، وَلاَ جُزَافًا بِوَزْنٍ، لأََنَّ كُلَّ
هَذَا مُقْتَضَى كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي ذَكَرْنَا،
وَمَفْهُومُهُ وَمَوْضُوعُهُ فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ: جَائِزٌ أَنْ يُبَاعَ مِنْهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ
عَيْنِهِ بِمُعَيَّنٍ وَبِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَأَخَّرَ
التَّقَابُضُ، عَنْ وَقْتِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا
وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم-: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا يَزِيدُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: نُبِّئْت أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ قَامَ يَخْطُبُ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إنَّ الدِّرْهَمَ
بِالدِّرْهَمِ، وَالدِّينَارَ بِالدِّينَارِ، عَيْنٌ بِعَيْنٍ، سَوَاءً سَوَاءً،
مِثْلاً بِمِثْلٍ فَهَذَا عُمَرُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لاَ يُجِيزُ فِي
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِلاَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَيَرَى أَنَّهَا
تَتَعَيَّنُ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ:
فَخَالَفُوهُ.
(8/489)
جائز كل صنف مما ذكر بأصناف الآخر
منها متفاضلا ومتماثلا وجزافا وزنا وكيلا كيف شئنا إذا كان يدا بيد
...
1484- مسألة : وجاز بيع كل صنف مما ذكرنا بالأصناف الأخر منها , متفاضلا ومتماثلا
وجزافا , وزنا وكيلا كيفما شئت إذا كان يدا بيد.
ولا يجوز في ذلك التأخير
(8/489)
يجوز بيع الذهب بالفضة سواء في
ذلك الدراهم أو الدنانير أو بالحلي والنقار والدراهم بحلي الذهب وسبائكه
...
1485 –
مَسْأَلَةٌ- وَجَائِزٌ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ، سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ
الدَّنَانِيرُ بِالدَّرَاهِمِ، أَوْ بِالْحُلِيِّ، أَوْ بِالنِّقَارِ،
وَبِالدَّرَاهِمِ بِحُلِيِّ الذَّهَبِ وَسَبَائِكِهِ، وَتِبْرِهِ، وَالْحُلِيُّ
مِنْ الْفِضَّةِ بِحُلِيِّ الذَّهَبِ وَسَبَائِكِهِ،
وَسَبَائِكُ الذَّهَبِ وَتِبْرُهُ بِنِقَارِ الْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ
بُدَّ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، وَلاَ بُدَّ، مُتَفَاضِلَيْنِ وَمُتَمَاثِلَيْنِ،
وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَجُزَافًا بِجُزَافٍ، وَوَزْنًا بِجُزَافٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ
لاَ تَحَاشٍ شَيْئًا، وَلاَ يَجُوزُ التَّأْخِيرُ فِي ذَلِكَ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لاَ
فِي بَيْعٍ، وَلاَ فِي سَلَمٍ. وَيُبَاعُ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ سَوَاءٌ كَانَ
دَنَانِيرَ، أَوْ حُلِيًّا، أَوْ سَبَائِكَ، أَوْ تِبْرًا، وَزْنًا بِوَزْنٍ،
عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ، لاَ يَحِلُّ التَّفَاضُلُ فِي ذَلِكَ أَصْلاً،
وَلاَ التَّأْخِيرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لاَ بَيْعًا، وَلاَ سَلَمًا. وَتُبَاعُ
الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، دَرَاهِمَ أَوْ حُلِيًّا أَوْ نِقَارًا، وَزْنًا
بِوَزْنٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي ذَلِكَ
أَصْلاً، وَلاَ التَّأْخِيرُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، لاَ بَيْعًا، وَلاَ سَلَمًا. وَلاَ
تَجُوزُ بُرَادَةُ أَحَدِهِمَا مِثْلُهَا مِنْ نَوْعِهَا كَيْلاً أَصْلاً، لَكِنْ
بِوَزْنٍ، وَلاَ بُدَّ، وَلاَ نُبَالِي كَانَ أَحَدُ الذَّهَبَيْنِ أَجْوَدَ مِنْ
الآخَرِ بِطَبْعِهِ أَوْ مِثْلَهُ. وَكَذَلِكَ فِي الْفِضَّتَيْنِ؛ وَهَذَا
مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ مَا ذَكَرْنَا، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
وَإِلَّا بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، أَوْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، فَإِنَّ
ابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَمَنْ وَافَقَهُمَا: أَجَازُوا فِيهِمَا
التَّفَاضُلَ يَدًا بِيَدٍ وَإِلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيَّ:
أَجَازَا بَيْعَ كُلِّ ذَلِكَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَأَجَازَا تَأْخِيرَ الْقَبْضِ
مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ عُمَرَ قَبْلُ
هَذَا بِخِلاَفِ قَوْلِهِمْ وَإِلَّا أَنَّ مَالِكًا لاَ يُجِيزُ الْجُزَافَ فِي
الدَّنَانِيرِ، وَلاَ فِي الدَّرَاهِمِ، بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَيُجِيزُهُ فِي
الْمَصُوغِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالْمَصُوغِ مِنْ الآخَرِ، وَيُجِيزُ إعْطَاءَ
دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ وَزْنٍ مِنْهُ، عَلَى سَبِيلِ الْمُكَارَمَةِ.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ هَذَا، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، فَلاَ
حُجَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهَا، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، بَلْ هُوَ
خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا
مِنْ أَمْرِهِ عليه السلام أَنْ نَبِيعَ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْنَا
يَدًا بِيَدٍ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنَّهُ احْتَجَّ بِمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي
الْمِنْهَالِ قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي وَرِقًا بِنَسِيئَةٍ [فَجَاءَنِي
فَأَخْبَرَنِي] فَقُلْتُ: هَذَا لاَ يَصْلُحُ فَقَالَ: قَدْ وَاَللَّهِ بِعْتُهُ
فِي السُّوقِ وَمَا عَابَهُ عَلَيَّ أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ
فَسَأَلْتُ فَقَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه
وسلم-الْمَدِينَةَ وَنَحْنُ نَبِيعُ هَذَا الْبَيْعَ، فَقَالَ: مَا كَانَ يَدًا
بِيَدٍ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَهُوَ رِبًا ثُمَّ قَالَ لِي:
ائْتِ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَسَأَلْتُهُ
فَقَالَ: مِثْلَ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ
أَنَا سُفْيَانُ- هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ- عَنْ عَمْرٍو- -هُوَ ابْنُ دِينَارٍ-
عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ
يَقُولُ فِي حَدِيثٍ: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ لَهُ: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ:
(8/493)
أَخْبَرَنِي: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ . وَمِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنِي أَبُو مُعَاوِيَةَ -هُوَ مُحَمَّدُ
بْنُ خَازِمٍ الضَّرِيرُ-، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنِ
الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، لاَ رِبَا
فِي يَدٍ بِيَدٍ، وَالْمَاءِ مِنْ الْمَاءِ. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ
قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
حَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: سَأَلْت عَطَاءَ
بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ الصِّرْفِ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إنْ وَجَدْتَ مِائَةَ
دِرْهَمٍ بِدِرْهَمٍ نَقْدًا فَخُذْهُ.
قال أبو محمد : حَدِيثُ عُبَادَةَ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعُمَرَ، وَأَبِي
سَعِيدٍ، فِي أَنَّ الأَصْنَافَ السِّتَّةَ كُلُّ صِنْفٍ مِنْهَا بِصِنْفِهِ:
رِبًا إنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى وَزْنِ الآخَرِ: هُوَ زَائِدٌ
حُكْمًا عَلَى حَدِيثِ أُسَامَةَ، وَالْبَرَاءِ، وَزَيْدٍ وَالزِّيَادَةُ لاَ
يَحِلُّ تَرْكُهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/494)
1486- مَسْأَلَةٌ- وَجَائِزٌ
بَيْعُ الْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرِ، وَالْمِلْحِ بِالذَّهَبِ، أَوْ
بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ وَنَسِيئَةً
وَجَائِزٌ تَسْلِيمُ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ بِالأَصْنَافِ الَّتِي ذَكَرْنَا؛
لأََنَّ النَّصَّ جَاءَ بِإِبَاحَةِ كُلِّ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/494)
يجوز القرض في الأصناف المذكورة وفي
كل ما يمتلك ويحل إخراجه عن الملك ولا يدخل الربا فيه إلا في وجه واحد وبيانه
...
1487-مَسْأَلَةٌ- وَأَمَّا الْقَرْضُ فَجَائِزٌ فِي الأَصْنَافِ الَّتِي ذَكَرْنَا
وَغَيْرِهَا، وَفِي كُلِّ مَا يُتَمَلَّكُ، وَيَحِلُّ إخْرَاجُهُ، عَنِ الْمِلْكِ،
وَلاَ يَدْخُلُ الرِّبَا فِيهِ، إِلاَّ فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ فَقَطْ، وَهُوَ
اشْتِرَاطُ أَكْثَرَ مِمَّا أَقْرَضَ، أَوْ أَقَلَّ مِمَّا أَقْرَضَ، أَوْ
أَجْوَدَ مِمَّا أَقْرَضَ، أَوْ أَدْنَى مِمَّا أَقْرَضَ، وَهَذَا مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الأَصْنَافِ السِّتَّةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، كَمَا
أَوْرَدْنَا بِأَنَّهُ رِبًا وَهُوَ فِيمَا عَدَاهَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَيَجُوزُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَمُؤَخَّرًا
بِغَيْرِ ذِكْرِ أَجَلٍ، لَكِنْ حَالٌّ فِي الذِّمَّةِ مَتَى طَلَبَهُ صَاحِبُهُ
أَخَذَهُ. وقال مالك: لاَ يَأْخُذُهُ إِلاَّ بَعْدَ مُدَّةٍ يَنْتَفِعُ فِيهَا
الْمُسْتَقْرِضُ بِمَا اسْتَقْرَضَ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهِ
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ قَوْلُ
أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ حَدٌّ فَاسِدٌ؛ لأََنَّ
الأَنْتِفَاعَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي سَاعَةٍ فَمَا فَوْقَهَا. وَقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا}
وَالْقَرْضُ أَمَانَةٌ فَفُرِضَ أَدَاؤُهَا إلَى صَاحِبِهَا مَتَى طَلَبَهَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/494)
حكم ما إذا اختلط الذهب بالفضة
ومزج به أو أضيف إليه
...
1488- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ مَعَ الذَّهَبِ شَيْءٌ غَيْرَهُ أَيَّ شَيْءٍ
كَانَ مِنْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا: مَمْزُوجٌ بِهِ، أَوْ مُضَافٌ فِيهِ، أَوْ
مَجْمُوعٌ إلَيْهِ فِي دَنَانِيرَ، أَوْ فِي غَيْرِهَا:
لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ مَعَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلاَ دُونَهُ بِذَهَبٍ أَصْلاً،
لاَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهِ، وَلاَ بِأَقَلَّ، وَلاَ بِمِثْلِهِ، إِلاَّ حَتَّى
يَخْلُصُ الذَّهَبُ وَحْدَهُ خَالِصًا. وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الْفِضَّةِ
شَيْءٌ غَيْرُهَا: كَصُفْرٍ، أَوْ ذَهَبٍ، أَوْ غَيْرُهُمَا، مَمْزُوجٌ بِهَا،
أَوْ مُلْصَقٌ مَعَهَا، أَوْ مَجْمُوعٌ إلَيْهَا: لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهَا مَعَ
ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلاَ دُونَهُ بِفِضَّةٍ أَصْلاً دَرَاهِمَ
(8/494)
حكم ما إذا كان الذهب وشيء آخر
معه غير الفضة أو مركبا فيه
...
1489 مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ ذَهَبٌ وَشَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الْفِضَّةِ مَعَهُ
أَوْ مُرَكَّبًا فِيهِ جَازَ بَيْعُهُ كَمَا هُوَ مَعَ مَا هُوَ مَعَهُ وَدُونَهُ
بِالدَّرَاهِمِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً.
وَكَذَلِكَ الْفِضَّةُ مَعَهَا شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الذَّهَبِ أَوْ مُرَكَّبًا
فِيهَا، أَوْ هِيَ فِيهِ: جَازَ بَيْعُهَا مَعَ مَا هِيَ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ
بِالدَّنَانِيرِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً. وَكَذَلِكَ الْقَمْحُ
مَعَهُ تَمْرٌ أَوْ مِلْحٌ أَوْ شَيْءٌ آخَرُ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ مَعَ الآخَرِ
(8/500)
أَوْ دُونَهُ بِشَعِيرٍ يَدًا
بِيَدٍ، وَلاَ يَجُوزُ نَسِيئَةً. وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ مَعَهُ تَمْرٌ أَوْ
مِلْحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ وَمَا مَعَهُ أَوْ دُونَهُ بِقَمْحٍ
نَقْدًا، لاَ نَسِيئَةً وَكَذَلِكَ التَّمْرُ مَعَهُ شَعِيرٌ أَوْ مِلْحٌ أَوْ
غَيْرُ ذَلِكَ: فَجَائِزٌ بَيْعُهُ مَعَهُ أَوْ دُونَهُ بِقَمْحٍ نَقْدًا، لاَ
نَسِيئَةً. وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ مَعَهُ قَمْحٌ أَوْ شَعِيرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ:
فَجَائِزٌ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ نَقْدًا، لاَ بِنَسِيئَةٍ
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " فَإِذَا
اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا
بِيَدٍ " فَسَقَطَتْ الْمُوَازَنَةُ، وَالْمُكَايَلَةُ، وَالْمُمَاثَلَةُ، وَبَقِيَ
النَّقْدُ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ: أَنَّ أَبَاهُ اشْتَرَى مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
دِيبَاجَةً مُلْحَمَةً بِذَهَبٍ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ بِنِسَاءٍ
فَأَحْرَقَهَا فَأَخْرَجَ مِنْهَا قِيمَةَ عِشْرِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وَأَجَازَ
رَبِيعَةُ بَيْعَ سَيْفٍ مُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِذَهَبٍ إلَى أَجَلٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ: وَالْحَنَفِيُّونَ
فَخَالَفُوا عَمَلَ عَلِيٍّ وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي
الله عنهم.
(8/501)
إذا تبايع اثنان دراهم مغشوشة قد
ظهر الغش فيها بدراهم مغشوشة كذلك فهو جائز إذا تعاقدا البيع على أن الصفر الذي في
هذه بالفضة التي في تلك والفضة أيضا كذلك
...
1490-مَسْأَلَةٌ- وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ الْمَنْقُوشَةُ وَالدَّنَانِيرُ
الْمَغْشُوشَةُ فَإِنَّهُ إنْ تَبَايَعَ اثْنَانِ دَرَاهِمَ مَغْشُوشَةً قَدْ
ظَهَرَ الْغِشُّ فِيهَا بِدَرَاهِمَ مَغْشُوشَةٍ قَدْ ظَهَرَ الْغِشُّ فِيهَا:
فَهُوَ جَائِزٌ إذَا تَعَاقَدَا الْبَيْعَ، عَلَى أَنَّ الصُّفْرَ الَّذِي فِي
هَذِهِ بِالْفِضَّةِ الَّتِي فِي تِلْكَ، وَالْفِضَّةَ الَّتِي فِي هَذِهِ
بِالصُّفْرِ الَّذِي فِي تِلْكَ: فَهَذَا جَائِزٌ حَلاَلٌ،
سَوَاءٌ تَبَايَعَا ذَلِكَ مُتَفَاضِلاً، أَوْ مُتَمَاثِلاً، أَوْ جُزَافًا
بِمَعْلُومٍ، أَوْ جُزَافًا بِجُزَافٍ، لأََنَّ الصُّفْرَ بِالْفِضَّةِ حَلاَلٌ.
وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا دَنَانِيرَ مَغْشُوشَةً بِدَنَانِيرَ مَغْشُوشَةٍ قَدْ
ظَهَرَ الْغِشُّ فِي كِلَيْهِمَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، فَإِنْ تَبَايَعَا
ذَهَبَ هَذِهِ بِفِضَّةِ تِلْكَ وَذَهَبَ تِلْكَ بِفِضَّةِ هَذِهِ: فَهَذَا
أَيْضًا حَلاَلٌ مُتَمَاثِلاً، وَمُتَفَاضِلاً، وَجُزَافًا نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ
لأََنَّهُ ذَهَبٌ بِفِضَّةٍ، فَالتَّفَاضُلُ جَائِزٌ، وَالتَّنَاقُدُ فَرْضٌ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/501)
يجوز بيع القمح بدقيق القمح وسويق
القمح بخبز القمح ودقيقه بدقيقه وسويقه متفاضلا كل ذلك ومتماثلا وجزافا
...
1491- مَسْأَلَةٌ- وَجَائِزٌ بَيْعُ الْقَمْحِ بِدَقِيقِ الْقَمْحِ وَسَوِيقِ الْقَمْحِ
وَبِخُبْزِ الْقَمْحِ وَدَقِيقِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِهِ وَبِسَوِيقِهِ وَخُبْزِهِ،
وَسَوِيقِهِ بِسَوِيقِهِ وَبِخُبْزِهِ،
وَخُبْزِ الْقَمْحِ بِخُبْزِ الْقَمْحِ، مُتَفَاضِلاً كُلُّ ذَلِكَ،
وَمُتَمَاثِلاً، وَجُزَافًا وَالزَّيْتُونِ بِالزَّيْتِ وَالزَّيْتُونِ،
وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتِ، وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وَبِالْعَصِيرِ، وَبِخَلِّ
الْعِنَبِ بِالْخَلِّ، يَدًا بِيَدٍ وَأَنْ يُسَلَّمَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا
بَعْضُهُ فِي بَعْضِ. وَكَذَلِكَ دَقِيقُ الشَّعِيرِ بِالْقَمْحِ وَبِالشَّعِيرِ
وَبِدَقِيقِ الشَّعِيرِ وَبِخُبْزِهِ، وَالتِّينِ بِالتِّينِ، وَالزَّبِيبِ
بِالزَّبِيبِ، وَالأُُرْزِ بِالأُُرْزِ، كَيْفَ شِئْت مُتَفَاضِلاً،
وَمُتَمَاثِلاً وَيُسَلَّمُ
(8/501)
من كان له عند آخر دنانير أو
دراهم أو قمح أو شعير أوملح أو غير ذلك مما لا يقع فيه الربا فلا يحل له أن يأخذ منه
شيئا من غير ماله عنده أصلا
...
1492- مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ آخَرَ دَنَانِيرُ، أَوْ دَرَاهِمُ،
أَوْ قَمْحٌ، أَوْ شَعِيرٌ، أَوْ مِلْحٌ، أَوْ تَمْرٌ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، مِمَّا
لاَ يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا إمَّا مِنْ
بَيْعٍ، إمَّا مِنْ قَرْضٍ، أَوْ مِنْ سَلَمٍ، أَوْ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ كَانَ
ذَلِكَ لَهُ عِنْدَهُ حَالًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ حَالٍّ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَالِهِ عِنْدَهُ أَصْلاً.
فَإِنْ أَخَذَ دَنَانِيرَ، عَنْ دَرَاهِمَ، أَوْ دَرَاهِمَ، عَنْ دَنَانِيرَ، أَوْ
شَعِيرًا، عَنْ بُرٍّ، أَوْ دَرَاهِمَ، عَنْ عَرَضٍ، أَوْ نَوْعًا، عَنْ نَوْعٍ
لاَ تَحَاشَ شَيْئًا: فَهُوَ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا رِبًا مَحْضٌ، وَفِيمَا
لاَ يَقَعُ فِي الرِّبَا حَرَامٌ بَحْتٌ وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَكُلُّ
ذَلِكَ مَفْسُوخٌ مَرْدُودٌ أَبَدًا مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ، إِلاَّ
أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى الأَنْتِصَافِ أَلْبَتَّةَ فَيَأْخُذُ مَا أَمْكَنَهُ،
مِمَّا يَحِلُّ مِلْكُهُ، لاَ تَحَاشَ شَيْئًا، بِمِقْدَارِ حَقِّهِ، وَلاَ مَزِيدَ،
فَهَذَا حَلاَلٌ لَهُ.
برهان ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ تَحْرِيمِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه
وسلم- الذَّهَبَ، وَالْفِضَّةَ، وَالْبُرَّ، وَالتَّمْرَ، وَالشَّعِيرَ،
وَالْمِلْحَ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ، ثُمَّ قَالَ عليه السلام:
" فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا
كَانَ يَدًا بِيَدٍ " وَالْعَمَلُ الَّذِي وَصَفْنَا لَيْسَ يَدًا بِيَدٍ،
بَلْ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَعْدِنِهِ بَعْدُ،
فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِنَصِّ كَلاَمِهِ عليه السلام. وَأَيْضًا: فَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ أَنَا اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ:
"أَبْصَرَتْ عَيْنَايَ وَسَمِعَتْ أُذُنَايَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
يَقُولُ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ
بِالْوَرِقِ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ،
وَلاَ تَبِيعُوا شَيْئًا غَائِبًا مِنْهُ بِنَاجِزٍ، إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ "
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ هُوَ الْحَوْضِيُّ أَنَا
شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا
الْمِنْهَالِ قَالَ: سَأَلْت الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ، وَزَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ،
عَنِ الصَّرْفِ فَكِلاَهُمَا يَقُولُ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله
عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ دَيْنًا ".
وَذَهَبَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ،
وَأَصْحَابُنَا، إلَى جَوَازِ أَخْذِ الذَّهَبِ مِنْ الْوَرِق، وَالْوَرِقِ مِنْ
الذَّهَبِ وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ: بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ
أَصْبَغَ أَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ،
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبِيعُ الإِبِلَ
بِالدَّنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ
الدَّنَانِيرَ، وَآخُذُ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا
بِسِعْرِ يَوْمِهَا ".
(8/503)
قال أبو محمد: وَهَذَا خَبَرٌ لاَ
حُجَّةٌ فِيهِ، لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّ سِمَاكَ بْنَ حَرْبٍ ضَعِيفٌ يَقْبَلُ
التَّلْقِينَ شَهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ شُعْبَةُ وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُ:
حَدَّثَك فُلاَنٌ، عَنْ فُلاَنٍ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فِيمَ سُئِلَ عَنْهُ.
وَثَانِيهَا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ بِهَذَا السَّنَدِ بِبَيَانِ
غَيْرِ مَا ذَكَرُوا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا
قُتَيْبَةُ أَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَبِيعُ الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ أَوْ
الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: إذَا بَايَعْت صَاحِبَكَ فَلاَ تُفَارِقْهُ
وَبَيْنَكَ وَبَيْنَهُ لَبْسٌ وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَهُوَ كُلُّهُ خَبَرٌ
وَاحِدٌ. وَثَالِثُهَا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَهُمْ كَمَا يُرِيدُونَ لَكَانُوا
مُخَالِفِينَ لَهُ؛ لأََنَّ فِيهِ اشْتِرَاطَ أَخْذِهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا،
وَهُمْ يُجِيزُونَ أَخْذَهَا بِغَيْرِ سِعْرِ يَوْمِهَا، فَقَدْ اطَّرَحُوا مَا
يَحْتَجُّونَ بِهِ. وَمِمَّا يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ هَهُنَا أَنَّهُ قَدْ صَحَّ
النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَهَذَا أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْغَرَرِ؛
لأََنَّهُ بَيْعُ شَيْءٍ لاَ يَدْرِي أَخُلِقَ بَعْدُ أَمْ لَمْ يُخْلَقْ، وَلاَ
أَيُّ شَيْءٍ هُوَ وَالْبَيْعُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ
بِمِثْلِهَا، وَإِلَّا فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ،
وَالسَّلْمُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إلَى أَجَلٍ: فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا
الْعَمَلُ بَيْعًا أَوْ سَلَمًا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَيْضًا
فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا جَاءَ فِي الْبَيْعِ، فَمِنْ أَيْنَ أَجَازُوهُ
فِي الْقَرْضِ وَقَدْ فَرَّقَ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِهِ بَيْنَ الْقَرْضِ فِي
الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ وَاحْتَجُّوا مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ: بِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنْ سَعِيدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ، قَالَ: أَتَيْت ابْنَ عُمَرَ
أَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لِي: إذَا خَرَجَ خَازِنُنَا أَعْطَيْنَاك، فَلَمَّا خَرَجَ
بَعَثَهُ مَعِي إلَى السُّوقِ وَقَالَ: إذَا قَامَتْ عَلَى ثَمَنٍ فَإِنْ شَاءَ
أَخَذَهَا بِقِيمَتِهَا أَخَذَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ أَنَا
إسْمَاعِيلُ السُّدِّيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَهِيِّ، عَنْ يَسَارِ بْنِ
نُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى رَجُلٍ دَرَاهِمُ فَعَرَضَ عَلَيَّ دَنَانِيرَ
فَقُلْت: لاَ آخُذُهَا حَتَّى أَسْأَلَ عُمَرَ فَسَأَلْته فَقَالَ: ائْتِ بِهَا
الصَّيَارِفَةَ فَأَعْرِضْهَا، فَإِذَا قَامَتْ عَلَى سِعْرٍ، فَإِنْ شِئْت
فَخُذْهَا، وَإِنْ شِئْت فَخُذْ مِثْلَ دَرَاهِمِك وَصَحَّتْ إبَاحَةُ ذَلِكَ،
عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
بِاخْتِلاَفٍ عَنْهُ، وطَاوُوس وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَالْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمَّدٍ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَعَطَاءٍ.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدُهُمَا
غَائِبٌ وَالآخَرُ نَاجِزٌ هَذَا صَحِيحٌ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَوْفٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ اقْتِضَاءَ الذَّهَبِ مِنْ الْوَرِقِ، وَالْوَرِقِ مِنْ
الذَّهَبِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا الشَّيْبَانِيُّ هُوَ
أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عِكْرِمَةَ
(8/504)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
كَرِهَ اقْتِضَاءَ الذَّهَبِ مِنْ الْوَرِقِ مِنْ الذَّهَبِ وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ كِدَامٍ قَالَ:
حَلَفَ لِي مَعْنٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَجَدَ فِي كِتَابِ أَبِيهِ بِخَطِّهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ مَسْعُودٍ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ دَرَاهِمَ مَكَانَ دَنَانِيرَ أَوْ
دَنَانِيرَ مَكَانَ دَرَاهِمَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ
بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الْمِنْهَالِ
عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُ:
نَهَانَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي أَبَاهُ أَنْ نَبِيعَ الدَّيْنَ
بِالْعَيْنِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ
أَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ زَيْنَبَ
امْرَأَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ بَاعَتْ جَارِيَةً لَهَا إمَّا بِذَهَبٍ وَأَمَّا
بِفِضَّةٍ فَعُرِضَ عَلَيْهَا النَّوْعُ الآخَرُ فَسُئِلَ عُمَرُ فَقَالَ:
لِتَأْخُذْ النَّوْعَ الَّذِي بَاعَتْ بِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ أَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الطَّحَّانُ، عَنِ
الشَّيْبَانِيِّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ فِيمَنْ بَاعَ طَعَامًا بِدَرَاهِمَ، أَيَأْخُذُ بِالدَّرَاهِمِ طَعَامًا
فَقَالَ: لاَ، حَتَّى تَقْبِضَ دَرَاهِمَك وَلَمْ يَقُلْ ابْنُ عُمَرَ بِإِبَاحَةِ
ذَلِكَ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَلِيُّ
بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِيمَنْ أَقْرَضَ دَرَاهِمَ أَيَأْخُذُ بِثَمَنِهَا
طَعَامًا فَكَرِهَهُ وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا مُؤَمَّلُ
بْنُ إسْمَاعِيلَ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ اقْتِضَاءَ الدَّنَانِيرِ مِنْ
الدَّرَاهِمِ، وَالدَّرَاهِمِ مِنْ الدَّنَانِيرِ، وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنَا وَكِيعٌ أَنَا مُوسَى بْنُ
نَافِعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ الدَّنَانِيرَ
مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ أَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ، وَ، هُوَ ابْنُ عُبَيْدٍ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ: لاَ تَأْخُذْ الذَّهَبَ مِنْ الْوَرِقِ يَكُونُ لَك عَلَى
الرَّجُلِ، وَلاَ تَأْخُذَنَّ الْوَرِقَ مِنْ الذَّهَبِ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ
ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ هُوَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَوْفٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ لَك عِنْدَ آخَرَ قَرْضٌ دَرَاهِمُ فَتَأْخُذَ
مِنْهُ دَنَانِيرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ الأَعْلَى
بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ
فِيمَنْ كَانَتْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَرَاهِمُ فَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ
يَأْخُذَ بِقِيمَتِهَا دَنَانِيرَ فَكَرِهَهُ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ
أَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ هُوَ الْفَزَارِيّ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ
أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ ابْتَاعَ مِنْ
بُرْدٍ مَوْلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ نَاقَةً بِأَرْبَعَةِ دَنَانِيرَ
فَجَاءَ يَلْتَمِسُ حَقَّهُ فَقُلْت: عِنْدِي دَرَاهِمُ لَيْسَ عِنْدِي دَنَانِيرُ
فَقَالَ: حَتَّى أَسْتَأْمِرَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَاسْتَأْمَرَهُ فَقَالَ
لَهُ سَعِيدٌ: خُذْ مِنْهُ دَنَانِيرَ عَيْنًا، فَإِنْ أَبَى فَمَوْعِدُهُ
اللَّهُ، دَعْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنِ ابْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: بِعْت جَزُورًا بِدَرَاهِمَ
إلَى الْحَصَادِ، فَلَمَّا حَلَّ قَضَوْنِي
(8/505)
حِنْطَةً، وَشَعِيرًا، وَسَلْتًا، فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ: لاَ يَصْلُحُ، لاَ تَأْخُذْ إِلاَّ الدَّرَاهِمَ. فَهَؤُلاَءِ: عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَالنَّخَعِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ وَهَذَا مِمَّا تَرَكُوا فِيهِ الْقُرْآنَ فِي تَحْرِيمِهِ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ لِخَبَرٍ سَاقِطٍ مُضْطَرِبٍ وَقَوْلُنَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الأَنْتِصَافِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} قَالَ تَعَالَى {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ مَا أَمْكَنَ الْمَمْنُوعُ حَقُّهُ أَنْ يَنْتَصِفَ بِهِ، أَوْ بِأَنْ يُوَكِّلَ غَرِيمَهُ عَلَى بَيْعِ مَالِهِ عِنْدَهُ، وَبِأَنْ يَبْتَاعَ لَهُ مَا يُرِيدُ: فَهَذَا جَائِزٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/506)
استدراك مناقصات لأخصام ماذهب
إليه المصنف في مسألة الربا وبيانها مفصلة
...
1493- مَسْأَلَةٌ- وَاسْتَدْرَكْنَا مُنَاقَضَاتٍ لَهُمْ يُعَارِضُونَ بِهَا
أَنْ شَنَّعُوا عَلَيْنَا بِبَيْعِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِهِ وَدَقِيقِ غَيْره
مُتَفَاضِلاً، وَتَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا فِي الآخَرِ، وَكَذَلِكَ دَقِيقِ الْقَمْحِ
بِدَقِيقِ الْقَمْحِ، وَبِالْخُبْزِ وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ وَبِالزَّيْتِ،
وَاللَّبَنِ بِاللَّبَنِ، وَبِالْجُبْنِ وَالسَّمْنِ وَكُلِّ شَيْءٍ، مَا عَدَا
مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ مِنْ السُّنَّةِ. وَلاَ شُنْعَةَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ؛
لأََنَّنَا لَمْ نَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ حَرَّمْنَا مَا لَمْ
يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام، وَإِنَّمَا
الشَّنِيعُ فِيمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ
بَيْعُ الدَّقِيقِ مِنْ الْقَمْحِ بِالْقَمْحِ كَيْلاً بِكَيْلٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ
يَدًا بِيَدٍ، قَالَ: وَلاَ يَجُوزُ دَقِيقِ الْقَمْحِ بِدَقِيقِ الْقَمْحِ
كَيْلاً بِكَيْلٍ، لَكِنْ وَزْنًا بِوَزْنٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ.
قَالَ عَلِيٌّ فَإِنْ كَانَ دَقِيقُ الْقَمْحِ نَوْعًا وَاحِدًا مَعَ الْقَمْحِ
فَمَا يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ دَقِيقَ قَمْحٍ بِدَقِيقِ قَمْحٍ إِلاَّ كَيْلاً
بِكَيْلٍ كَمَا يَبِيعُ الدَّقِيقَ بِالْقَمْحِ؛ لأََنَّهُمَا قَمْحٌ مَعًا وَإِنْ
كَانَ دَقِيقُ الْقَمْحِ صِنْفًا غَيْرَ الْقَمْحِ، فَوَاجِبٌ أَنْ يُجِيزَهُ
بِالْقَمْحِ مُتَفَاضِلاً، وَأَجَازَ الْقَمْحَ بِسَوِيقِ الْقَمْحِ مُتَفَاضِلاً
فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ دَقِيقِ قَمْحٍ وَبَيْنَ سَوِيقِ قَمْحٍ بِقَمْحٍ؟ وأعجب
مِنْ هَذَا احْتِجَاجُهُمْ فِي ذَلِكَ: بِأَنَّ السَّوِيقَ دَخَلَتْهُ صَنْعَةٌ
.فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا؟ وَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ الْفَرْقُ بِأَنَّهُ
دَخَلَتْهُ صَنْعَةٌ؟ نَعَمْ، وَالدَّقِيقُ أَيْضًا دَخَلَتْهُ، صَنْعَةٌ، وَلاَ
فَرْقَ. وَقَالُوا أَيْضًا: إنَّمَا يُرَاعَى تَقَارُبُ الْمَنَافِعِ؟ .فَقُلْنَا:
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَكُمْ وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ لَكُمْ أَنْ
تُرَاعُوا تَقَارُبَ الْمَنَافِعِ وَهَلْ هِيَ إِلاَّ دَعْوَى بِلاَ برهان؟
وَقَوْلٌ لَمْ تُسْبَقُوا إلَيْهِ، وَتَعْلِيلٌ فَاسِدٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَنَافِعَ
فِي جَمِيعِ الْمَأْكُولاَتِ وَاحِدَةٌ لَسْنَا نَقُولُ: مُتَقَارِبَةً، بَلْ
شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ طَرْدُ الْجُوعِ، أَوْ التَّأَدُّمِ، أَوْ التَّفَكُّهُ،
أَوْ التَّدَاوِي، وَلاَ مَزِيدَ. وَمَنَعُوا مِنْ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ
بِالْيَابِسَةِ، وَأَجَازُوا الْحِنْطَةَ الْمَقْلِيَّةَ بِالْيَابِسَةِ
وَكِلْتَاهُمَا مُخْتَلِفَةٌ مَعَ الأُُخْرَى. وَمَنَعُوا مِنْ الدَّقِيقِ
بِالْعَجِينِ وَقَدْ دَخَلَتْ الْعَجِينَ صَنْعَةٌ. وَأَبَاحُوا الْقَمْحَ
بِالْخُبْزِ مِنْ الْقَمْحِ مُتَفَاضِلاً
(8/506)
وَمَنَعُوا مِنْ اللَّبَنِ
بِالسَّمْنِ جُمْلَةً نَعَمْ، وَمَنَعُوا مِنْ اللَّبَنِ بِالْجُبْنِ وَهَلْ
الْجُبْنُ مِنْ اللَّبَن إِلاَّ كَالْخُبْزِ مِنْ الْقَمْحِ وَمَنَعُوا مِنْ
بَيْعِ لَبَنِ شَاةٍ بِشَاةٍ لَبُونٍ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ لَبَنَ الآنَ فِي
ضَرْعِهَا؛ لأََنَّهُ قَدْ اُسْتُنْفِذَ بِالْحَلْبِ. وَأَجَازُوا بَيْعَ
النَّخْلِ بِالتَّمْرِ إذَا كَانَتْ لاَ تَمْرَ فِيهَا. وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ
اللَّبَنَ يَخْرُجُ مِنْ ضَرْعِ الشَّاةِ، وَأَنَّ السَّمْنَ يُعْمَلُ مِنْ
اللَّبَنِ .فَقُلْنَا: وَالتَّمْرُ يَخْرُجُ مِنْ النَّخْلِ، وَالْخُبْزُ يُعْمَلُ
مِنْ الْقَمْحِ. وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالْعَصِيرِ، وَأَجَازُوهُ
بِالْخَلِّ وَهَذِهِ عَجَائِبُ لاَ نَظِيرَ لَهَا، لَوْ تَقَصَّيْنَاهَا لاَ
تَسَعُ الأَمْرَ فِي ذَلِكَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ، وَهُوَ كُلُّهُ
كَمَا ذَكَرْنَا لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ، وَكَذَلِكَ لاَ
يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ الزَّيْتِ
بِالزَّيْتُونِ يَدًا بِيَدٍ مُتَفَاضِلاً وَمُتَمَاثِلاً. وَأَمَّا
الْحَنَفِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ أَبَاحُوا الرِّبَا الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ جِهَارًا
فَأَحَلُّوا بَيْعَ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ، وَحَرَّمُوا بَيْعَ رِطْلِ كَتَّانٍ
أَسْوَدَ أَخَرْشَ لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ لِقُلْفَةِ الْمَرَاكِبِ بِرِطْلِ كَتَّانٍ
أَبْيَضَ مِصْرِيٍّ أَمْلَسَ كَالْحَرِيرِ وَكَذَلِكَ حَرَّمُوا بَيْعَ رِطْلِ
قُطْنٍ طَيِّبٍ غَزْلِيٍّ بِرِطْلِ قُطْنٍ خَشِنٍ لاَ يَصْلُحُ إِلاَّ لِلْحَشْوِ،
وَقَالُوا: الْقُطْنُ كُلُّهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَالْكَتَّانُ كُلُّهُ صِنْفٌ
وَاحِدٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الثِّيَابُ الْمَعْمُولَةُ مِنْ الْقُطْنِ فَأَصْنَافٌ
مُخْتَلِفَةٌ يَجُوزُ فِي بَعْضِهَا بِبَعْضٍ التَّفَاضُلُ وَالنَّسِيئَةُ
فَأَجَازُوا بَيْعَ ثَوْبِ قُطْنٍ مَرْوِيٍّ خُرَاسَانِيٍّ بِثَوْبَيْ قُطْنٍ
مَرْوِيٍّ بَغْدَادِيٍّ نَقْدًا وَنَسِيئَةً قَالُوا: وَأَمَّا غَزْلُ الْقُطْنِ
فِي كُلِّ ذَلِكَ فَصِنْفٌ وَاحِدٌ لاَ يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، وَلاَ
النَّسِيئَةُ. قَالُوا: شَحْمُ بَطْنِ الْكَبْشِ صِنْفٌ، وَشَحْمُ ظَهْرِهِ
وَشَحْمُ سَائِرِ جَسَدِهِ صِنْفٌ آخَرُ، فَأَجَازُوا بَيْعَ رِطْلَيْنِ مِنْ
شَحْمِ بَطْنِهِ بِرِطْلٍ مِنْ شَحْمِ ظَهْرِهِ نَقْدًا. قَالُوا: وَأَلْيَةُ
الشَّاةِ صِنْفٌ، وَسَائِرُ لَحْمِهَا صِنْفٌ آخَرُ، فَجَائِزٌ بَيْعُ رِطْلٍ مِنْ
أَلْيَتِهَا بِرِطْلَيْنِ مِنْ سَائِرِ لَحْمِهَا. قَالُوا: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ
رِطْلٍ مِنْ لَحْمِ كَبْشٍ إِلاَّ بِرِطْلٍ مِنْ لَحْمِهِ، وَلاَ مَزِيدَ، وَزْنًا
بِوَزْنٍ نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ وَأَجَازُوهُ بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَحْمِ الثَّوْرِ
نَقْدًا، وَلاَ بُدَّ. وَأَمَّا لَحْمُ الإِوَزِّ، وَلَحْمُ الدَّجَاجِ، فَيَجُوزُ
مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رِطْلٌ بِرِطْلَيْنِ مِنْ نَوْعِهِ فَأَجَازُوا
رِطْلَ لَحْمِ دَجَاجٍ بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَحْمِ دَجَاجٍ نَقْدًا أَوْ
بِرِطْلَيْنِ مِنْ لَحْمِ الإِوَزِّ نَقْدًا وَنَسِيئَةً. وَقَالُوا: النَّسِيئَةُ
فِي كُلِّ مَا يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا مِنْ التَّمْرِ وَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ، إنَّمَا هِيَ مَا اُشْتُرِطَ فِيهِ الأَجَلُ فِي حِينِ
الْعَقْدِ، وَأَمَّا مَا تَأَخَّرَ قَبْضُهُ إلَى أَنْ تَفَرَّقَا وَلَمْ يَكُنْ
اُشْتُرِطَ فِيهِ التَّأْخِيرُ، فَلاَ يَضُرُّ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا،
إِلاَّ فِي الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ فَقَطْ، فَإِنْ تَأَخَّرَ الْقَبْضُ فِيهِمَا
رَبَا اُشْتُرِطَ أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا إجَازَتُهُ الرُّطَبَ بِالتَّمْرِ، وَمَنْعُهُ مِنْ
الدَّقِيقِ أَوْ السَّوِيقِ بِالْقَمْحِ جُمْلَةً، فَلَمْ يُجِزْهُ أَصْلاً،
فَلَوْ عَكَسَ قَوْلَهُ لاََصَابَ. وَهَذِهِ كُلُّهَا وَسَاوِسُ، وَسَخَافَاتٌ،
وَمُنَاقَضَاتٌ
(8/507)
لاَ دَلِيلَ عَلَيْهَا،
وَأَقْوَالٌ لاَ تُحْفَظُ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ رِطْلِ سَقَمُونْيَا
بِرِطْلَيْنِ مِنْ سَقَمُونْيَا؛ لأََنَّهَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْمَأْكُولاَتِ،
وَأَبَاحُوا وَزْنَ دِرْهَمِ زَعْفَرَانً بِوَزْنِ دِرْهَمَيْنِ مِنْهُ نَقْدًا
وَنَسِيئَةً؛ لأََنَّهُ لاَ يُؤْكَلُ عِنْدَهُمْ. وَلَمْ يُجِيزُوا بَيْعَ عَسَلٍ
مُشْتَارٍ بِشَمْعِهِ كَمَا هُوَ بِعَسَلٍ مُشْتَارٍ بِشَمْعِهِ كَمَا هُوَ
أَصْلاً، إِلاَّ حَتَّى يُصَفَّى كِلاَهُمَا وَأَجَازُوا بَيْعَ الْجَوْزِ
بِقِشْرِهِ بِالْجَوْزِ بِقِشْرِهِ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ إخْرَاجَ
الْعَسَلِ مِنْ شَمْعِهِ صَلاَحٌ لَهُ، وَإِخْرَاجَ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ مِنْ
قِشْرِهِ، وَنَزْعَ النَّوَى مِنْ التَّمْرِ فَسَادٌ لَهُ. .فَقُلْنَا: كَلًّا،
مَا الصَّلاَحُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ إِلاَّ كَالْفَسَادِ فِيمَا وَصَفْتُمْ، وَمَا
فِي ذَلِكَ صَلاَحٌ، وَلاَ فِي هَذَا فَسَادٌ، وَلَوْ كَانَ فَسَادًا لَمَا حَلَّ
أَصْلاً؛ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَاَللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ}
وَهَذِهِ أَيْضًا مُنَاقَضَاتٌ ظَاهِرَةٌ، وَأَقْوَالٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا
سَبَقَهُمْ إلَيْهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا
قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ يَدًا
بِيَدٍ، سَوَاءٌ كَانَ أَكْثَرَ مَا فِي الزَّيْتُونِ مِنْ الزَّيْتِ، أَوْ
مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ.
قال أبو محمد: وَالْحَقِيقَةُ الَّتِي تَشْهَدُ لَهَا اللُّغَةُ، وَالشَّرِيعَةُ،
وَالْحِسُّ، فَهُوَ أَنَّ الدَّقِيقَ لَيْسَ قَمْحًا، وَلاَ شَعِيرًا، لاَ فِي
اسْمِهِ، وَلاَ فِي صِفَتِهِ، وَلاَ فِي طَبِيعَتِهِ. فَهَذِهِ الدَّوَابُّ
تُطْعَمُ الدَّقِيقَ وَالْخُبْزَ فَلاَ يَضُرُّهَا بَلْ يَنْفَعُهَا، وَتُطْعَمُ
الْقَمْحَ فَيُهْلِكُهَا، وَالدَّبْسُ لَيْسَ تَمْرًا، لاَ فِي لُغَةٍ، وَلاَ فِي
شَرِيعَةٍ، وَلاَ فِي مُشَاهَدَةٍ. وَلاَ فِي اسْمِهِ، وَلاَ فِي صِفَاتِهِ.
وَالْمَاءُ لَيْسَ مِلْحًا؛ لأََنَّهُ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالْمَاءِ، وَلاَ
يَجُوزُ بِالْمِلْحِ. وَلَيْسَ تَوْلِيدُ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ
بِمُوجِبِ أَنَّ الْمُتَوَلِّدَ هُوَ الَّذِي عَنْهُ تُوُلِّدَ، فَنَحْنُ
خُلِقْنَا مِنْ تُرَابٍ، وَنُطْفَةٍ، وَمَاءٍ، وَلَسْنَا نُطْفَةً، وَلاَ
تُرَابًا، وَلاَ مَاءً. وَالْخَمْرُ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَصِيرِ وَهِيَ حَرَامٌ
وَالْعَصِيرُ حَلاَلٌ. وَاللَّبَنُ مُتَوَلِّدٌ، عَنِ الدَّمِ وَاللَّبَنُ حَلاَلٌ
وَالدَّمُ حَرَامٌ. وَالْعَذِرَةُ تَسْتَحِيلُ تُرَابًا حَلاَلاً طَيِّبًا.
وَالدَّجَاجَةُ تَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ فَيَصِيرَانِ فِيهَا لَحْمًا
حَلاَلاً طَيِّبًا. وَالْخَلُّ مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْخَمْرِ وَهُوَ حَلاَلٌ وَهِيَ
حَرَامٌ. وَأَمَّا حُلِيُّ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَهُمَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ
بِاسْمَيْهِمَا وَصِفَاتِهِمَا وَطَبِيعَتِهِمَا فِي اللُّغَةِ وَفِي الشَّرِيعَةِ
وَاحِدٌ {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} .
(8/508)
من باع ذهبا بذهب بيعا حلالا أو
فضة بفضة كذلك مسكوكا بمثله كان أو مصوغين أو مصوغا بمسكوك أو تبرا أو نقار فوجد
أحدهما بما اشترى من ذلك عيبا قبل أن يفترقا بأبدانهما فهو بالخيار
...
1494-مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ ذَهَبًا بِذَهَبٍ بَيْعًا حَلاَلاً، أَوْ فِضَّةً
بِفِضَّةٍ كَذَلِكَ، أَوْ فِضَّةً بِذَهَبٍ كَذَلِكَ، مَسْكُوكًا بِمِثْلِهِ أَوْ
مَصُوغَيْنِ، أَوْ مَصُوغًا بِمَسْكُوكٍ،
أَوْ تِبْرًا أَوْ نَقَّارًا، فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا بِمَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ
عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا، وَقَبْلَ أَنْ يُخَيِّرَ
أَحَدُهُمَا الآخَرَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ، وَإِنْ
شَاءَ اسْتَبْدَلَ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَتِمَّ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ بَعْدُ، فَإِنَّمَا
هُوَ مُسْتَأْنِفٌ لِبَيْعٍ، عَنْ تَرَاضٍ أَوْ تَارِكٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/508)
إن وجد العيب بعد التفرق أو بعد
التخيير فيفصل فيه
...
1495- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ وَجَدَ الْعَيْبَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ بِالأَبْدَانِ،
أَوْ بَعْدَ التَّخْيِيرِ وَاخْتَارَ الْمُخَيَّرُ إتْمَامَ الْبَيْعِ
فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِنْ خَلْطٍ وَجَدَهُ مِنْ غَيْرِ مَا اشْتَرَى، لَكِنْ
كَفِضَّةٍ أَوْ صُفْرٍ فِي ذَهَبٍ، أَوْ صُفْرٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي فِضَّةٍ،
فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا مَفْسُوخَةٌ، مَرْدُودَةٌ، كَثُرَتْ أَمْ قَلَّتْ، قَلَّ
ذَلِكَ الْخَلْطُ أَمْ كَثُرَ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى، وَلاَ
الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ الصَّفْقَةَ، فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي تَرَاضَى بِالْعَقْدِ
عَلَيْهِ وَقَدْ تَفَرَّقَا قَبْلَ صِحَّةِ الْبَيْعِ. وَلاَ يَجُوزُ فِيمَا
يَقَعُ فِيهِ الرِّبَا إِلاَّ صِحَّةُ الْبَيْعِ بِالتَّفَرُّقِ، وَلاَ خِيَارَ
فِي إمْضَائِهَا؛ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ نَصٌّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/509)
1496- مَسْأَلَةٌ- وَكَذَلِكَ
لَوْ اسْتَحَقَّ بَعْضُ مَا اشْتَرَى أَقَلُّهُ أَوْ أَكْثَرُهُ، أَوْ لَوْ
تَأَخَّرَ قَبْضُ شَيْءٍ مِمَّا تَبَايَعَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لأََنَّ الْعَقْدَ
لَمْ يَتِمَّ صَحِيحًا وَمَا لَمْ يَصِحَّ فَهُوَ فَاسِدٌ،
وَكُلُّ عَقْدٍ اخْتَلَطَ الْحَرَامُ فِيهِ بِالْحَلاَلِ فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ،
لأََنَّهُ لَمْ يُعْقَدْ صِحَّةُ الْحَلاَلِ مِنْهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ الْحَرَامِ،
وَكُلُّ مَا لاَ صِحَّةَ لَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ، فَلاَ صِحَّةَ
لَهُ، وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُلْزَمَ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ وَحْدَهُ. دُونَ
غَيْرِهِ.
(8/509)
إن كان العيب في نفس ما اشترى
ككسر أو كان الذهب ناقص القيمة بطبعه والفضة كذلك فيفصل فيه
...
1497- مَسْأَلَةٌ- فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي نَفْسِ مَا اشْتَرَى كَكَسْرٍ، أَوْ
كَانَ الذَّهَبُ نَاقِصَ الْقِيمَةِ بِطَبْعِهِ، وَالْفِضَّةُ كَذَلِكَ،
كَالذَّهَبِ الأَشْقَرِ وَالأَخْضَرِ بِطَبْعِهِ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ
السَّلاَمَةَ فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا مَفْسُوخَةٌ؛
لأََنَّهُ وَجَدَ غَيْرَ مَا اشْتَرَى، فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَالُ غَيْرِهِ مِمَّا
لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ بَيْعًا. وَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ السَّلاَمَةَ
فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْسَاكِ الصَّفْقَةِ كَمَا هِيَ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ
بِشَيْءٍ، وَأَمَّا فَسْخُهَا كُلِّهَا، وَلاَ بُدَّ؛ لأََنَّهُ اشْتَرَى
الْعَيْنَ، فَهُوَ عَقْدٌ صَحِيحٌ ثُمَّ وَجَدَ غَبْنًا، وَالْغَبْنُ إذَا
رَضِيَهُ الْبَائِعُ وَعَرَفَ قَدْرَهُ جَائِزٌ لاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ عَلَى مَا
قَدَّمْنَا قَبْلُ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ تَبْعِيضُ الصَّفْقَةِ؛ لأََنَّهُ لَمْ
يَتَرَاضَ الْبَيْعَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ عَلَى جَمِيعِهَا، فَلَيْسَ لَهُ
غَيْرُ مَا تَرَاضِيًا بِهِ مَعًا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْ
مَالِ غَيْرِهِ إِلاَّ مَا تَرَاضِيًا بِهِ مَعًا.
قال أبو محمد : وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ فِيهِ الْخَلْفُ وَالسَّلَفُ:
فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا حَفْصُ بْنُ
غِيَاثِ بْنِ الأَشْعَثِ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
فِيمَنْ يَشْتَرِي الدَّرَاهِمَ وَيَشْتَرِطُ إنْ كَانَ فِيهَا زَائِفٌ أَنْ
يَرُدَّهُ أَنَّهُ كَرِهَ الشَّرْطَ، وَقَالَ: ذَلِكَ لَهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ.
قَالَ عَلِيٌّ: ظَاهِرُ هَذَا رَدُّ الْبَيْعِ؛ لأََنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَدَّ
الزَّائِفِ وَحْدَهُ لَذَكَرَ بُطْلاَنَ مَا قَابَلَهُ، وَصِحَّةُ الْعَقْدِ فِي
سَائِرِ الصَّفْقَةِ، أَوْ لَذَكَرَ الأَسْتِدْلاَلَ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ ذَلِكَ
كُلَّهُ شَيْئًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ مَا لَمْ يَقُلْ فَقَوْلُ ابْنِ
عَبَّاسٍ هُوَ قَوْلُنَا. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا
هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى قَالَ: زَعَمَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
اشْتَرَى دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ فَأَخْطَئُوا فِيهَا بِدِرْهَمٍ سَتُّوقٍ
فَكَرِهَ أَنْ يَسْتَبْدِلَهُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ، وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ
الْحَاضِرِينَ
(8/509)
من الحلال المحض بيع مدين من تمر
أحدهما جيد غاية والآخر ردئ غاية بمدين من تمر أجود منهما أو أدنى إلخ
...
1498- مَسْأَلَةٌ- وَمِنْ الْحَلاَلِ الْمَحْضِ بَيْعُ مُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ
أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ غَايَةً، وَالآخَرُ رَدِيءٌ غَايَةً: بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ
أَجْوَدَ مِنْهُمَا، أَوْ أَدْنَى مِنْهُمَا، أَوْ دُونَ الْجَيِّدِ مِنْهُمَا،
وَفَوْقَ الرَّدِيءِ مِنْهُمَا، أَوْ مِثْلَ أَحَدِهِمَا، أَوْ بَعْضُهُمَا
جَيِّدٌ وَالْبَعْضُ رَدِيءٌ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ، وَفِي دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ،
وَقَمْحٍ بِقَمْحٍ، وَفِي شَعِيرٍ بِشَعِيرٍ، وَفِي مِلْحٍ بِمِلْحٍ، وَلاَ
فَرْقَ، لأَِبَاحَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- كُلِّ صِنْفٍ مِمَّا ذَكَرْنَا
بِصِنْفِهِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، فِي الْمُكَايَلَةِ، فِي الْقَمْحِ، وَالشَّعِيرِ،
وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ وَالْمُوَازَنَةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقَدْ
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا الْقَعْنَبِيُّ أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
بِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ: أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ، وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ حَدَّثَاهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الأَنْصَارِيِّ فَاسْتَعْمَلَهُ
عَلَى خَيْبَرَ فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم-: " أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟ قَالَ: لاَ، وَاَللَّهِ
يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنْ الْجَمْعِ،
فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: لاَ تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ
مِثْلاً بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا
وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ " فَأَبَاحَ عليه السلام نَصًّا: بَيْعَ الْجَنِيبِ
مِنْ التَّمْرِ وَهُوَ الْمُتَخَيَّرُ كُلُّهُ بِالْجَمْعِ مِنْ التَّمْرِ وَهُوَ
الَّذِي جَمَعَ جَيِّدًا وَرَدِيئًا وَوَسَطًا. مَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ
مُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ وَالآخَرُ رَدِيءٌ بِمُدَّيْنِ مِنْ
تَمْرٍ مُتَوَسِّطَيْنِ أَدْنَى مِنْ الْجَيِّدِ وَأَجْوَدَ مِنْ الرَّدِيءِ.
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَوْجَبَ
الْمُمَاثَلَةَ فِي التَّمْرِ بِالتَّمْرِ.
قال أبو محمد : لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا؛ لأََنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا فِي
جَوَازِ صَاعٍ بِصَاعِ تَمْرٍ رَدِيءٍ بِصَاعِ تَمْرٍ جَيِّدٍ وَلَيْسَ مِثْلَهُ
فَصَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- إنَّمَا أَرَادَ الْمُمَاثَلَةَ
فِي الْكَيْلِ أَوْ فِي الْوَزْنِ فَقَطْ وَهَذَا مَا لاَ خِلاَفَ فِيهِ مِنْ
أَحَدٍ. وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ صِحَاحٍ فِي الْجَنِيبِ بِالْجَمْعِ فِيهَا:
بِيعُوا الْجَمْعَ وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ الْجَنِيبِ وَهَذَا لاَ حُجَّةَ
لَهُمْ فِيهِ؛ لأََنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْنَا زَائِدٌ
(8/511)
عَلَى تِلْكَ الأَخْبَارِ
حُكْمًا، وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ زِيَادَةِ الْعَدْلِ. وَعُمْدَةُ حُجَّتِهِمْ
أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا رَضِيَ الْبَائِعُ هَهُنَا لِلْمُدَّيْنِ: اللَّذَيْنِ
أَحَدُهُمَا جَيِّدٌ وَالآخَرُ رَدِيءٌ، بِأَنْ يُعْطِيَ الْجَيِّدَ أَكْثَرَ مِنْ
مُدٍّ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ، وَأَنْ يُعْطِيَ الأَرْدَأَ بِأَقَلَّ مِنْ مُدٍّ مِنْ
الْمُتَوَسِّطِ: فَحَصَلَ التَّفَاضُلُ.
قال أبو محمد: وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالُوا،
وَحَتَّى لَوْ أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ لَكَانَ عَمَلُهُ مُخَالِفًا لأَِرَادَتِهِ،
فَحَصَلُوا عَلَى التَّكَهُّنِ، وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِي
الدِّينِ الْكَلاَمُ وَالْعَمَلُ، فَإِذَا جَاءَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى
وَرَسُولُهُ عليه السلام فَمَا نُبَالِي بِمَا فِي قُلُوبِهِمَا، قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " لَمْ أُبْعَثْ لأََشُقَّ، عَنْ قُلُوبِ
النَّاسِ " فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ عليه السلام: " الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ ". قلنا: نَعَمْ، وَلَكِنَّ مَنْ لَكُمْ بِأَنَّ هَذَيْنِ
نَوَيَا مَا ذَكَرْتُمْ، وَهَذَا مِنْكُمْ ظَنُّ سُوءٍ بِمُسْلِمٍ لَمْ
يُخْبِرْكُمْ بِذَلِكَ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي الظُّلْمِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ
تُفْسِدُوا صَفْقَةَ مُسْلِمٍ بِتَوَهُّمِكُمْ أَنَّهُ أَرَادَ الْبَاطِلَ، وَهُوَ
لَمْ يُخْبِرْكُمْ ذَلِكَ فَقَطْ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ ظَهَرَ مِنْ فِعْلِهِ
إِلاَّ الْحَلاَلُ الْمُطْلَقُ. وَيَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا إذَا رَأَيْتُمْ مَنْ
يَشْتَرِي تَمْرًا أَوْ تِينًا أَوْ عِنَبًا أَنْ تَفْسَخُوا صَفْقَتَهُ
وَتَقُولُوا لَهُ: إنَّمَا تَنْوِي فِيهِ عَمَلَ الْخَمْرِ مِنْهُ، وَمَنْ
اشْتَرَى ثَوْبًا أَنْ تَفْسَخُوهُ وَتَقُولُوا: إنَّمَا تُرِيدُ تَلْبَسُهُ فِي
الْمَعَاصِي. وَمَنْ اشْتَرَى سَيْفًا أَنْ تَفْسَخُوا وَتَقُولُوا: إنَّمَا
تُرِيدُ بِهِ قَتْلَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا هَوَسٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ، وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَبَيْنَ مَا أَفْسَدْتُمْ بِهِ الْمَسْأَلَةَ
الْمُتَقَدِّمَةَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ أَنَا أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ
بْنُ سِيرِينَ يَأْتِي بِالدَّرَاهِمِ السُّودِ الْجِيَادِ، وَبِالنُّفَايَةِ:
يَأْخُذُ بِوَزْنِهَا غَلَّةً. قَالَ عَلِيٌّ: السُّودُ أَجْوَدُ مِنْ الْغَلَّةِ،
وَالنُّفَايَةُ أَدْنَى مِنْ الْغَلَّةِ وَهَذَا نَفْسُ مَسْأَلَتِنَا.
(8/512)
من صارف آخر دنانير بدراهم فعجز
عن تمام مراده فاستقرض من مصارفه أو غيره ما أتم به الصرف فحسن
...
1499- مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ صَارَفَ آخَرَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِم فَعَجَزَ، عَنْ
تَمَامِ مُرَادِهِ فَاسْتَقْرَضَ مِنْ مَصَارِفِهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مَا
أَتَمَّ بِهِ صَرْفَهُ فَحَسَنٌ،
مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ شَرْطٍ فِي الصَّفْقَةِ؛ لأََنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ
هَذَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ.
(8/512)
من باع من آخر دنانير بدراهم فلما
تم البيع بينهما اشترى منه أمن غيره بتلك الدراهم دنانير تلك أو غيرها أقل أو أكثر
فكل ذلك حلا مالم يكن عن شرط
...
1500 –
مَسْأَلَةٌ- وَمَنْ بَاعَ مِنْ آخَرَ دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ فَلَمَّا تَمَّ
الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخَيُّرِ اشْتَرَى مِنْهُ، أَوْ
مِنْ غَيْرِهِ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ تِلْكَ، أَوْ غَيْرِهَا أَقَلَّ
أَوْ أَكْثَرَ فَكُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ مَا لَمْ يَكُنْ، عَنْ شَرْطٍ؛
لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَقْدٌ صَحِيحٌ، وَعَمَلٌ مَنْصُوصٌ عَلَى جَوَازِهِ،
وَأَمَّا الشَّرْطُ فَحَرَامٌ؛ لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
فَهُوَ بَاطِلٌ. وَمَنَعَ مِنْ هَذَا قَوْمٌ وَقَالُوا: إنَّهُ بَاعَ مِنْهُ
دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ مُتَفَاضِلَةً فَقُلْنَا: هَذَا كَذِبٌ، وَمَا فَعَلَ
قَطُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ هُمَا صَفْقَتَانِ، وَلَكِنْ أَخْبِرُونَا: هَلْ
لَهُ أَنْ يُصَارِفَهُ بَعْدَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ وَتِلْكَ
الدَّنَانِيرِ، عَنْ غَيْرِ شَرْطٍ؟ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ .فَقُلْنَا لَهُمْ:
فَأَجَزْتُمْ التَّفَاضُلَ وَالنَّسِيئَةَ مَعًا
(8/512)
التواعد في بيع الذهب بالذهب أو
الفضة بالفضة وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز
...
1501- مَسْأَلَةٌ: وَالتَّوَاعُدُ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ أَوْ
بِالْفِضَّةِ، وَفِي بَيْعِ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، وَفِي سَائِرِ الأَصْنَافِ
الأَرْبَعَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ جَائِزٌ تَبَايَعَا بَعْدَ ذَلِكَ، أَوْ لَمْ
يَتَبَايَعَا؛
لأََنَّ التَّوَاعُدَ لَيْسَ بَيْعًا. وَكَذَلِكَ الْمُسَاوَمَةُ أَيْضًا
جَائِزَةٌ تَبَايَعَا أَوْ لَمْ يَتَبَايَعَا لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَهْيٌ، عَنْ
شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَكُلُّ مَا حُرِّمَ عَلَيْنَا فَقَدْ فُصِّلَ بِاسْمِهِ،
قَالَ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَكُلُّ مَا لَمْ
يُفَصَّلُ لَنَا تَحْرِيمُهُ فَهُوَ حَلاَلٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، إذْ لَيْسَ فِي
الدِّينِ إِلاَّ فَرْضٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ حَلاَلٌ، فَالْفَرْضُ مَأْمُورٌ بِهِ
فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَالْحَرَامُ مُفَصَّلٌ بِاسْمِهِ فِي الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ، وَمَا عَدَا هَذَيْنِ فَلَيْسَ فَرْضًا، وَلاَ حَرَامًا فَهُوَ
بِالضَّرُورَةِ: حَلاَلٌ إذْ لَيْسَ هُنَالِكَ قِسْمٌ رَابِعٌ
(8/513)
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقِ.
(8/514)
لا يحل بدل دراهم بأوزان منها لا
بالمعروف ولا بغيره
...
1502–
مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَحِلُّ بَدَلُ دَرَاهِمَ بِأَوْزَنَ مِنْهَا لاَ
بِالْمَعْرُوفِ، وَلاَ بِغَيْرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ لاَ الْمَعْرُوفُ،
لأََنَّهُ خِلاَفُ مَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَنْ أَبِي
بَكْرٍ، وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا آنِفًا، عَنْ عُمَرَ
بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم .وَهُوَ قَوْلُ النَّاسِ، وَأَجَازَ
ذَلِكَ مَالِكٌ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ مُوَافِقًا قَبْلَهُ مِمَّنْ رَأَى الرِّبَا
فِي النَّقْدِ.
(8/514)
1503- مَسْأَلَةٌ- وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُ آنِيَةٍ ذَهَبٍ، وَلاَ فِضَّةٍ إِلاَّ بَعْدَ كَسْرِهَا
لِصِحَّةِ نَهْيِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي
"كِتَابِ الطَّهَارَةِ" فَلاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهَا فَإِذْ لاَ يَحِلُّ
تَمَلُّكُهَا فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُهَا؛ لأََنَّهَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/514)
يجوز أن يبتاع المرء نصف درهم
بعينه أونصف درهم بأعيانها أو نصف دينار كذلك
...
1504- مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ أَنْ يَبْتَاعَ الْمَرْءُ نِصْفَ دِرْهَمٍ
بِعَيْنِهِ، أَوْ نِصْفَ دَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا، أَوْ نِصْفَ دِينَارٍ
كَذَلِكَ، أَوْ نِصْفَ دَنَانِيرَ بِأَعْيَانِهَا مُشَاعًا:
يَبْتَاعُ الْفِضَّةَ بِالذَّهَبِ، وَالذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، وَيَتَّفِقَانِ
عَلَى إقْرَارِهَا عِنْدَ أَحَدِهِمَا أَوْ عِنْدَ أَجْنَبِيٍّ. وَلاَ يَجُوزُ فِي
ذَلِكَ ذَهَبٍ بِذَهَبٍ أَصْلاً، وَلاَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ أَصْلاً، لأََنَّهُ
يَصِيرُ عَيْنًا بِغَيْرِ عَيْنٍ، وَهَذَا لاَ يَحِلُّ إِلاَّ عَيْنًا بِعَيْنٍ
عَلَى مَا قَدَّمْنَا وَأَمَّا الذَّهَبُ بِالْفِضَّةِ مُشَاعًا، فَلَمْ يَأْتِ
بِالنَّهْيِ عَنْهُ نَصٌّ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.
(8/514)
1505- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعٌ بِدِينَارٍ إِلاَّ دِرْهَمًا؛ فَإِنْ وَقَعَ فَهُوَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ؛
لأََنَّهُ إخْرَاجٌ لَقِيمَةِ الدِّرْهَمِ مِنْ الدِّينَارِ، فَصَارَ اسْتِثْنَاءً
مَجْهُولاً، إذْ بَاعَ بِدِينَارٍ إِلاَّ قِيمَةَ دِرْهَمٍ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَتْ
قِيمَةُ الدِّرْهَمِ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا،
لأََنَّهُمَا شَرَطَا إخْرَاجَ الدِّرْهَمِ بِعَيْنِهِ مِنْ الدِّينَارِ، وَهَذَا
مُحَالٌ؛ لأََنَّهُ لَيْسَ هُوَ بَعْضٌ لِلدِّينَارِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ، فَهُوَ
بَاطِلٌ بِكُلِّ حَالٍ وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالنَّخَعِيِّ
وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَأَجَازَهُ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/514)
الربا في كل ما ذكر قبل بين العبد
وسيده كما هو بين الأجنبيين وبين المسلم والذمي وبين المسلم والحربي وبين الذميين
كما هو بين المسلمين ولا فرق
...
1506- مَسْأَلَةٌ: وَالرِّبَا فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بَيْنَ الْعَبْدِ
وَسَيِّدِهِ كَمَا هُوَ بَيْنَ الأَجْنَبِيَّيْنِ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ
وَالذِّمِّيِّ، وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ، وَبَيْنَ الذِّمِّيَّيْنِ
كَمَا هُوَ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ أَنَا بَكْرُ بْنُ حَمَّادٍ،
أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ أَبِي الْعَوَّامِ
الْبَصْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَبِيعُ مِنْ غِلْمَانِهِ
النَّخْلَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ: أَمَا عَلِمْت نَهْيَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ هَذَا؟
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، وَلَكِنْ لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ
سَيِّدِهِ رِبًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالنَّخَعِيِّ
وَالشَّعْبِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَالْحَسَنِ
بْنِ حَيٍّ، وَاللَّيْثِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَإِنَّمَا قَالَهُ
هَؤُلاَءِ عَلَى أَصْلِهِمْ الَّذِي قَدْ تَقَدَّمَ إفْسَادُنَا لَهُ مِنْ أَنَّ
الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ، وَذَكَرْنَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَرَى الْعَبْدَ
يَمْلِكُ، وَهَذَا جَابِرٌ قَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ
(8/514)
1507 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ
بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ كَانَا أَوْ مِنْ نَوْعَيْنِ
وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ
نَوْعَيْنِ مُتَفَاضِلاً، وَمُتَمَاثِلاً. وَجَائِزٌ تَسْلِيمُ اللَّحْمِ فِي
اللَّحْمِ كَذَلِكَ.
وَتَسْلِيمُ الْحَيَوَانِ فِي اللَّحْمِ، كَلَحْمِ كَبْشٍ بِلَحْمِ كَبْشٍ
مُتَفَاضِلاً وَمُتَمَاثِلاً، يَدًا بِيَدٍ، وَإِلَى أَجَلٍ وَكَذَلِكَ بِاللَّحْمِ
مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ أَيْضًا وَكَتَسْلِيمِ كَبْشٍ فِي أَرْطَالِ لَحْمِ كَبْشٍ
أَوْ غَيْرِهِ إلَى أَجَلٍ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ حَلاَلٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَقَالَ تَعَالَى {وَقَدْ
فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَا كُلُّهُ بَيْعٌ لَمْ يُفَصَّلْ
تَحْرِيمُهُ. وَأَمَّا اللَّحْمُ بِاللَّحْمِ فَلَمْ يَأْتِ نَهْيٌ عَنْهُ
أَصْلاً، لاَ صَحِيحٌ، وَلاَ سَقِيمٌ مِنْ أَثَرٍ. وَأَمَّا اللَّحْمُ
بِالْحَيَوَانِ فَجَاءَ فِيهِ
(8/515)
أَثَرٌ لاَ يَصِحُّ. وَهَذَا
كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِنَا. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ.
وَاخْتَلَفَ الْحَاضِرُونَ عَلَى فِرَقٍ: فَطَائِفَةٌ مَنَعَتْ مِنْ بَيْعِ
اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ جُمْلَةً، أَيَّ لَحْمٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا،
بِأَيِّ حَيَوَانٍ كَانَ لاَ تَحَاشَ شَيْئًا، حَتَّى مَنَعُوا مِنْ بَيْعِ
الْعَبْدِ بِاللَّحْمِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي
اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ فَرُوِيَ عَنْهُ: أَنْ يُجْمَعَ لُحُومُ الْحَيَوَانِ
كُلِّهَا طَائِرَةً وَوَحْشِيَّةً، وَالأَنْعَامِ، كُلِّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ لَحْمَ كُلِّ نَوْعٍ صِنْفٌ عَلَى حِيَالِهِ، وَلَمْ
يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِي أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ لَحْمٌ بِلَحْمٍ أَصْلاً حَتَّى
يَتَنَاهَى جَفَافُهُ وَيَبَسُهُ فَعَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لاَ يُبَاعُ قَدِيدُ
غَنَمٍ بِقَدِيدِ إبِلٍ، أَوْ بِقَدِيدِ دَجَاجٍ، أَوْ إوَزٍّ أَوْ مِثْلاً
بِمِثْلٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّهُ لاَ يُبَاعُ قَدِيدُ غَنَمٍ
بِقَدِيدِ غَنَمٍ، إِلاَّ يَدًا بِيَدٍ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَجَائِزٌ أَنْ يُبَاعَ
بِقَدِيدِ الْبَقَرِ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ. وقال أبو حنيفة: جَائِزٌ بَيْعُ
اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، جَائِزٌ كُلُّ ذَلِكَ، كَقَوْلِنَا
سَوَاءً بِسَوَاءٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: جَائِزٌ بَيْعُ لَحْمِ
شَاةٍ بِشَاةٍ حَيَّةً، إذَا كَانَ اللَّحْمُ أَكْثَرَ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ
الْحَيَّةِ، فَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ، وَأَجَازَ بَيْعَ
شَاةٍ بِبَقَرَةٍ حَيَّةً كَيْفَ شَاءُوا. وَأَجَازَ أَبُو حَنِيفَةَ،
وَأَصْحَابُهُ بَيْعَ لَحْمِ شَاةٍ بِلَحْمِ شَاةٍ مُتَمَاثِلاً نَقْدًا، وَلاَ
بُدَّ، وَكَذَلِكَ لَحْمُ كُلِّ صِنْفٍ بِلَحْمٍ مِنْ صِنْفِهِ وَأَبَاحُوا
التَّفَاضُلَ يَدًا بِيَدٍ فِي كُلِّ لَحْمٍ بِلَحْمٍ مِنْ غَيْرِ صِنْفِهِ،
وَالْبَقَرُ عِنْدَهُمْ صِنْفٌ، وَالْغَنَمُ صِنْفٌ آخَرُ، وَالإِبِلُ صِنْفٌ
ثَالِثٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَيَوَانٍ فِي صِنْفِهِ، إِلاَّ الْحِيتَانُ فَإِنَّهَا
كُلَّهَا عِنْدَهُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَإِلَّا لُحُومُ الطَّيْرِ، فَرَأَوْا بَيْعَ
بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلاً يَدًا بِيَدٍ، لاَ نَسِيئَةً، كَلَحْمِ دَجَاجٍ
بِلَحْمِ دَجَاجٍ، أَوْ بِلَحْمِ صَيْدٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَرَأَى شَحْمَ
الْبَطْنِ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ صِنْفًا غَيْرَ لَحْمِهِ، وَغَيْرِ شَحْمِ
ظَهْرِهِ. وَرَأَى الأَلْيَةَ صِنْفًا آخَرَ غَيْرَ اللَّحْمِ وَالشَّحْمِ.
وَهَذِهِ وَسَاوِسُ لاَ نَظِيرَ لَهَا، وَأَقْوَالٌ لاَ تُعْقَلُ، وَلاَ تُعْلَمُ،
عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.
وقال مالك: ذَوَاتُ الأَرْبَعِ كُلُّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ: الْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ،
وَالإِبِلُ، وَالأَرَانِبُ، وَالأَيَايِلُ، وَحُمُرُ الْوَحْشِ، وَكُلُّ ذِي
أَرْبَعٍ، فَلاَ يَحِلُّ لَحْمُ شَيْءٍ مِنْهَا بِحَيٍّ مِنْهَا فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ
لَحْمِ أَرْنَبٍ حَيٍّ بِلَحْمِ جَمَلٍ أَصْلاً، وَلاَ لَحْمِ جَمَلٍ بِلَحْمِ
كَبْشٍ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ ذَوَاتِ
الأَرْبَعِ. وَرَأَى الطَّيْرَ كُلَّهُ صِنْفًا وَاحِدًا: الدَّجَاجُ،
وَالْحَمَامُ، وَالنَّعَامُ، وَالإِوَزُّ، وَالْحَجَلُ، وَالْقَطَا، وَغَيْرُ
ذَلِكَ فَلَمْ يَجُزْ أَيْضًا لَحْمُ شَيْءٍ مِنْهَا بِحَيٍّ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ
مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ وَأَجَازَ فِي لَحْمِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ: التَّمَاثُلَ
يَدًا بِيَدٍ، وَمَنَعَ مِنْ التَّفَاضُلِ، فَلَمْ يُجِزْ التَّفَاضُلَ فِي لَحْمِ
دَجَاجٍ بِلَحْمِ حُبَارَى وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا. وَرَأَى
الْحِيتَانَ كُلَّهَا صِنْفًا وَاحِدًا كَذَلِكَ أَيْضًا. وَرَأَى الْجَرَادَ
صِنْفًا رَابِعًا عَلَى حِيَالِهِ، هَذَا وَهُوَ عِنْدَهُ صَيْدٌ مِنْ الطَّيْرِ
يُجْزِيهِ الْمُحَرَّمَ. وَحَرَّمَ الْقَدِيدَ النِّيءَ بِاللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ،
وَحَرَّمَهُمَا جَمِيعًا بِاللَّحْمِ النِّيءِ
(8/516)
الطَّرِيِّ، وَأَجَازَ كُلَّ
شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلاَثَةِ الأَصْنَافِ بِاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ مِنْ
صِنْفِهَا مُتَفَاضِلَةٍ وَمُتَمَاثِلَةٍ يَدًا بِيَدٍ، وَأَجَازَ اللَّحْمَ
الْمَطْبُوخَ بِعَسَلٍ بِاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ بِلَبَنٍ مُتَمَاثِلاً وَمَنَعَ
فِيهِ مِنْ التَّفَاضُلِ. وَأَجَازَ شَاةً مَذْبُوحَةً بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ عَلَى
التَّحَرِّي وَهَذَا ضِدُّ أَصْلِهِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ،
وَلاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهَا قَبْلَهُ وَلَوْ تَقَصَّيْنَا تَطْوِيلَهُمْ
هَهُنَا وَتَنَاقُضَهُ، لَطَالَ جِدًّا وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ لِمَنْ نَصَحَ
نَفْسَهُ.
قال أبو محمد : وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّونَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ " نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِاللَّحْمِ
". وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ النُّمَيْرِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأَيْلِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبْتَاعَ الْحَيُّ بِالْمَيِّتِ " قَالَ
الزُّهْرِيُّ: فَلاَ يَصْلُحُ بِشَاةٍ حَيَّةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَجُلاً أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنْ لَحْمِ بَعِيرٍ
بِشَاةٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: لاَ يَصْلُحُ هَذَا. وَصَحَّ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنْ لاَ يُبَاعَ حَيٌّ بِمَذْبُوحٍ، وَأَنَّهُ لاَ
يَجُوزُ بَعِيرٍ بِغَنَمٍ مَعْدُودَةٍ إنْ كَانَ يُرِيدُ الْبَعِيرَ لِيَنْحَرَهُ.
وَقَالَ: كَانَ مِنْ مَيْسِرِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ بَيْعُ اللَّحْمِ
بِالشَّاةِ. وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: أَدْرَكْت النَّاسَ يَنْهَوْنَ، عَنْ
بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ وَيَكْتُبُونَهُ فِي عُهُودِ الْعُمَّالِ فِي
زَمَنِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، وَهِشَامِ بْنِ إسْمَاعِيلَ وَذَكَرَهُ ابْنُ
أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَأَنَّهُمْ كَانُوا يُعَظِّمُونَ
ذَلِكَ، وَلاَ يَتَرَخَّصُونَ فِيهِ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْخَبَرُ فِي ذَلِكَ فَمُرْسَلٌ لَمْ يُسْنَدْ قَطُّ،
وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إنَّ الْمُرْسَلَ لاَ يَجُوزُ الأَخْذُ
بِهِ، ثُمَّ أَخَذَ هَهُنَا بِالْمُرْسَلِ. ثُمَّ عَجَبٌ آخَرُ مِنْ
الْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ، ثُمَّ خَالَفُوا هَذَا
الْمُرْسَلَ الَّذِي لَيْسَ فِي الْمَرَاسِيلِ أَقْوَى مِنْهُ يُعَظِّمُونَ هَذَا
وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ
الْمَالِكِيُّونَ: فَعَجَبٌ ثَالِثٌ؛ لأََنَّهُمْ احْتَجُّوا بِهَذَا الْخَبَرِ،
وَأَوْهَمُوا أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِهِ، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ؛ لأََنَّهُمْ
أَبَاحُوا لَحْمَ الطَّيْرِ بِالْغَنَمِ، وَهَذَا خِلاَفُ الْخَبَرِ وَإِنَّمَا
هُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ. وَقَدْ خَالَفَ مَالِكٌ أَيْضًا هَهُنَا
مَا رُوِيَ، عَنِ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَعَمَلِ الْوُلاَةِ بِالْمَدِينَةِ،
وَهَذَا يُعَظِّمُهُ جِدًّا إذَا وَافَقَ رَأْيَهُمْ وَاحْتَجُّوا بِخَبَرِ أَبِي
بَكْرٍ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى إبْرَاهِيمَ، وَأَوَّلُ مَنْ
أَمَرَ أَنْ لاَ تُؤْخَذَ رِوَايَتُهُ فَمَالِكٌ، ثُمَّ، عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى
التَّوْأَمَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ ضَعَّفَهُ فَمَالِكٌ فَيَا لِلَّهِ وَيَا
لِلْمُسْلِمِينَ إذَا رَوَى الثِّقَاتُ خَبَرًا يُخَالِفُ رَأْيَهُمْ تَحَيَّلُوا
بِالأَبَاطِيلِ فِي رَدِّهِ، وَإِذَا رَوَى مَنْ يَشْهَدُونَ
(8/517)
عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ مَا
يُوَافِقُهُمْ احْتَجُّوا بِهِ، فَأَيُّ دِينٍ يَبْقَى مَعَ هَذَا؟ فَإِنْ قَالَ
الشَّافِعِيُّونَ: مَرَاسِيلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ حُجَّةٌ بِخِلاَفِ
غَيْرِهِ قلنا لَهُمْ: السَّاعَةُ صَارَتْ حُجَّةً فَدُونَكُمْ مَا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنِ
ابْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ
-صلى الله عليه وسلم- أَنْ يُبَاعَ الْحَيَوَانُ بِالْمَفَاطِيمِ مِنْ الْغَنَمِ
فَقُولُوا بِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَلاَعَبْتُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ. وَقَدْ
رُوِيَتْ فِي هَذِهِ آثَارٌ أَيْضًا بِزِيَادَةٍ، فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ طَلْقٍ:
أَنَّ رَجُلاً نَحَرَ جَزُورًا فَجَعَلَ يَبِيعُ الْعُضْوَ بِالشَّاةِ،
وَبِالْقَلُوصِ، إلَى أَجَلٍ فَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ أَنَا إسْرَائِيلُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِصْمَةَ سَمِعْت ابْنَ
عَبَّاسٍ وَسُئِلَ عَمَّنْ اشْتَرَى عُضْوًا مِنْ جَزُورٍ قَدْ نُحِرَتْ بِرِجْلِ
عِنَاقٍ وَشُرِطَ عَلَى صَاحِبِهَا أَنْ يُرْضِعَهَا حَتَّى تُفْطَمَ فَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يَصْلُحُ.
قال أبو محمد: هَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ
اللَّحْمُ بِالشَّاةِ. فإن قيل: هَذَا، عَنْ رَجُلٍ قلنا: وَخَبَرُ أَبِي بَكْرٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي يَحْيَى وَلَيْسَ بِأَوْثَقَ مِمَّنْ سَكَتَ عَنْهُ كَائِنًا
مَنْ كَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: لاَ
بَأْسَ بِالشَّاةِ الْقَائِمَةِ بِالْمَذْبُوحَةِ.
(8/518)
من ابتاع شيئا أي شيء كان مما يحل
بيعه حاش القمح فلا يحل له أن يبيعه حتى يقبضه وتفسير القبض
...
1508- مسألة: ومن ابتاع شيئا أي شيء كان مما يحل بيعه, حاش القمح, فلا يحل له أن
يبيعه حتى يقبضه, وقبضه له: هو أن يطلق يده عليه بأن لا يحال بينه وبينه, فإن لم
يحل بينه وبينه مدة ما قلت أم كثرت ثم حيل بينه وبينه بغصب أو غيره: حل له بيعه;
لأنه قد قبضه, وله أن يهبه , وأن يؤاجر به, وأن يصدقه , وأن يقرضه , وأن يسلمه,
وأن يتصدق به قبل أن يقبضه, وقبل أن تطلق يده عليه. فإن ملك شيئا ما أي شيء كان
مما يحل بيعه بغير البيع , لكن بميراث أو هبة, أو قرض, أو صداق, أو صدقة, أو سلم,
أو أرش , أو غير ذلك: جاز له بيعه قبل أن يقبضه, وأن يتصرف فيه بالإصداق, والهبة ,
والصدقة, حاش القمح. وأما القمح: فإنه بأي وجه ملكه من: بيع , أو هبة , أو صدقة,
أو صداق, أو إجارة, أو أرش, أو سلم أو قرض, أو غير ذلك: فلا يحل له بيعه حتى
يقبضه, كما ذكرنا بأن لا يحال بينه وبينه. فإن كان اشترى القمح خاصة جزافا, فلا
يحل له بيعه حتى يقبضه كما ذكرنا , وحتى ينقله ولا بد عن موضعه الذي هو فيه إلى
مكان آخر قريب ملاصق أو بعيد. فإن كان اشترى القمح خاصة بكيل لم يحل له أن يبيعه
حتى يكتاله, فإذا اكتاله حل له بيعه وإن لم ينقله عن موضعه. ولا يحل له تصديق
البائع في كيله وحتى لو اكتاله البائع لنفسه بحضرته وهو يراه ويشاهده ولا بد من
(8/518)
أن يكتاله المشتري لنفسه , وجائز له في كل ما ذكرنا أن يهبه , وأن يصدقه , وأن يؤاجر به , وأن يصالح , وأن يتصدق به , وأن يقرضه قبل , أن يكتاله , وقبل أن ينقله جزافا اشتراه أو بكيل وليست هذه الأحكام في غير القمح أصلا . برهان ذلك : ما روينا من طريق قاسم بن أصبغ أنا أحمد بن زهير بن حرب نا أبي أنا حيان بن هلال أنا همام بن يحيى بن أبي كثير : أن يعلى بن حكيم حدثه : أن يوسف بن ماهك حدثه : أن حكيم بن حزام حدثه أنه قال: يا رسول الله , إني رجل أشتري هذه البيوع , فما يحل لي منها مما يحرم علي ؟ قال: " يا ابن أخي إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه ". فهذا عموم لكل بيع , ولكل ابتياع , وتخصيص لهما مما ليسا بيعا ولا ابتياعا , وجواب منه عليه السلام إذ سئل عما يحل مما يحرم. فإن قيل: فإن هذا الخبر مضطرب. لأنكم رويتموه من طريق خالد بن الحارث الهجيمي عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير , قال : حدثني رجل من إخواننا حدثني يوسف بن ماهك : أن عبد الله بن عصمة الجشمي حدثه : أن حكيم بن حزام حدثه نذكر هذا الخبر وعبد الله بن عصمة متروك؟ قلنا: نعم , إلا أن همام بن يحيى رواه كما أوردنا قبل عن يحيى بن أبي كثير فسمى ذلك الرجل من الذي لم يسمه هشام , وذكر أنه يعلى بن حكيم ويعلى ثقة وذكر فيه : أن يوسف سمعه من حكيم بن حزام وهذا صحيح فإذا سمعه من حكيم فلا يضره أن يسمعه أيضا من غير حكيم عن حكيم , فصار حديث خالد بن الحارث لغوا كان أو لم يكن بمنزلة واحدة . فإن قيل : فقد رويت من طريق مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه ". ومن طريق سفيان بن عيينة أنا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى يقبض فهو الطعام , قال ابن عباس برأيه : ولا أحسب كل شيء إلا مثله ؟ قلنا : نعم , هذان صحيحان : إلا أنهما بعض ما في حديث حكيم بن حزام فحديث حكيم بن حزام دخل فيه : الطعام وغير الطعام , فهو أعم , فلا يجوز تركه ; لأنه فيه حكما ليس في خبر ابن عباس , وابن عمر . فإن قيل : قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رويتم من طريق أحمد بن شعيب أخبرني زياد بن أيوب أنا هشيم أنا أبو بشر هو ابن أبي وحشية عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام قلت: يا رسول الله يسألني المرء البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاع له من السوق ؟ فقال عليه السلام: " لا تبتع ما ليس عندك ". قلنا : نعم , وبه نقول هو بين كما تسمع , إنما هو نهي عن بيع ما ليس في ملك كما في الخبر نصا , وإلا فكل ما يملكه المرء فهو عنده
(8/519)
ولو أنه بالهند يقول: عندي ضيعة
سرية, وعندي فرس فارة وسواء عندنا كان مغصوبا أو لم يكن, وهو عند صاحبه, أي في
ملكه وله. فإن قيل: فإنكم رويتم من طريق أبي داود أنا زهير بن حرب أنا إسماعيل هو
ابن علية عن أيوب السختياني حدثني عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه عن أبيه حتى ذكر
عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل
سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك " قلنا:
نعم, هذا صحيح, وبه نأخذ, ولا نعلم لعمرو بن شعيب حديثا مسندا إلا هذا وحده , وآخر
في الهبات رواه عن طاوس عن ابن عباس, وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع
من الرجوع في الهبات إلا الوالد فيما أعطى ولده وليس في هذا الخبر إلا الذي في
حديث حكيم بن حزام من النهي عن بيع ما ليس لك فقط وبالله تعالى التوفيق.
وممن قال بقولنا في هذا: ابن عباس كما أوردناه . وكما روينا من طريق عبد الرزاق عن
ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لا تبع بيعا حتى
تقبضه. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني قال عبد الرحمن بن عوف
والزبير لعمر: إنه تزيف علينا أوراق فنعطي الخبيث ونأخذ الطيب؟ قال: فلا تفعلوا,
ولكن انطلق إلى البقيع فبع ورقك بثوب أو عرض , فإذا قبضت وكان لك فبعه وذكر الخبر.
فهذا عمر يقول بذلك, ويبين أن القبض هو الذي يكون الشيء للمرء وقولنا في هذا كقول
الحسن , وابن شبرمة وذهب قوم إلى أن هذا الحكم إنما هو في الطعام فقط يعني أن لا
يباع قبل أن يقبض وذهب آخرون إلى أنه فيما يكال أو يوزن فقط: كما روينا من طريق
يحيى بن سعيد القطان أنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن
عثمان بن عفان: لا بأس إذا اشترى الرجل البيع أن يبيعه قبل أن يقبضه ما خلا الكيل
والوزن. ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أنه كان لا يرى بأسا
أن يبتاع الرجل بيعا لا يكال ولا يوزن أن يبيعه قبل أن يقبضه. ومن طريق عبد الرزاق
عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: لا بأس بأن يشتري شيئا لا يكال ولا يوزن بنقد
ثم يبيعه قبل أن يقبضه وهو قول الحكم وإبراهيم, وحماد بن أبي سليمان وذكره النخعي
عمن لقي. وقال عطاء: جائز بيع كل شيء قبل أن يقبض. وقال أبو حنيفة: كل ما ملك بعقد
ينتقض العقد بهلاكه, فلا يجوز بيعه قبل قبضه: كالبيع , والإجارة, إلا العقار:
فجائز بيعه قبل قبضه. قال: وكل ما ملك بعقد لا ينتقض العقد بهلاكه: فجائز بيعه قبل
قبضه كالصداق, والجعل, والخلع, ونحوه وهذا قول لا نعلمه
(8/520)
عن أحد قبله. وقال مالك : كل ما
يؤكل والماء: فلا يحل بيعه قبل أن يقبض وما عدا هذين فجائز بيعه قبل أن يقبض وقال
مرة أخرى: كل ما يؤكل فقط , وأما الماء: فبيعه جائز قبل قبضه وجعل في كلا قوليه:
زريعة الفجل الأبيض, وزريعة الجزر, وزريعة السلق: لا يباع شيء منها قبل القبض؟
فقلنا: هذا لا يأكله أحد أصلا, وهذا الذي أنكرتم على الشافعي في إدخاله السقمونيا
فيما يؤكل؟ فقالوا: إنه يخرج منها ما يؤكل؟ فقلنا: والشجر يخرج منها ما يؤكل
فامنعوا من بيعها قبل القبض, فانقطعوا وما نعلم قولهم هذا كله كما هو عن أحد
قبلهم. وخالف الحنفيون, والمالكيون ههنا كل قول روي عن الصحابة رضي الله عنهم وأما
الشافعي: فلم يجز بيع ما ملك ببيع, أو نكاح أو خلع, قبل القبض أصلا وهذا قول فاسد
بلا دليل. فإن قالوا: قسنا النكاح والخلع على البيع؟ قلنا: القياس كله باطل, ثم لو
صح لكان هذا منه عين الباطل, لأن النكاح يجوز بلا مهر يذكر أصلا, ولا يجوز البيع
بلا ثمن يذكر, والنكاح لم يملك بصداق رقبة شيء أصلا, والخلع كذلك, بخلاف البيع
فظهر فساد هذا القول وبالله تعالى التوفيق. أما حكم القمح: فالذي ذكرنا قبل هذا في
الكلام المتصل بهذا من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أما الذي نهى
عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى يقبض فهو الطعام, فهذا تخصيص للطعام
في البيع خاصة وعموم له بأي وجه ملك. فإن قيل: من أين خصصتم القمح بذلك دون سائر
الطعام؟ قلنا: لأن اسم الطعام في اللغة التي بها خاطبنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يطلق هذا إلا على القمح وحده, وإنما يطلق على غيره بإضافة. وقد قال تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ
لَهُمْ} فأراد عز وجل الذبائح لا ما يأكلون فإنهم يأكلون الميتة , والدم ,
والخنزير , ولم يحل لنا شيء من ذلك قط. وقال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ
مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} فذكر تعالى الطعم في الماء بإضافة , ولا يسمى الماء
طعاما. وقال لقيط بن معمر الإيادي جاهلي فصيح في شعر له مشهور:
لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه ... هم يكاد جواه يحطم الضلعا
فأضاف الطعم إلى النوم والنوم ليس طعاما بلا شك. وقد ذكرنا قول عبد الله بن معمر
وكان طعامنا يومئذ الشعير, فذكر الطعام في الشعير في إضافة لا بإطلاق. وقد ذكرنا
من طريق أبي سعيد الخدري قوله: كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدقة الفطر: صاعا من طعام, صاعا من شعير, صاعا من تمر, صاعا من أقط فلم يطلق
الطعام إلا على القمح وحده. لا على الشعير ولا غيره. وروينا من طريق الحجاج بن
المنهال أنا يزيد
(8/521)
بن إبراهيم أنا محمد بن سيرين
قال: عرض علي عبد الله بن عتبة بن مسعود زيتا له؟ فقلت له: إن أصحاب الزيت قلما
يستوفون حتى يبيعون, فقال: إنما سمي الطعام أي إنما أمر بالبيع بعد الاستيفاء في
الطعام فلم ير الزيت طعاما. وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عتبة بن مسعود: حجتان
في اللغة قاطعتان; لا سيما وعبد الله هذلي قبيلة مجاورة للحرم فلغتهم لغة قريش.
وممن قال بقولنا: إن الطعام بإطلاق إنما هو القمح وحده: أبو ثور وأما القمح يشترى
جزافا فلا يحل بيعه حتى يقبض وينقل عن موضعه: فلما رويناه من طريق البخاري أنا
إسحاق هو ابن راهويه أنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن سالم بن عبد الله
بن عمر عن أبيه رضي الله عنه قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم. ورويناه من طريق
مسلم أنا محمد بن عبد الله بن نمير أنا أبي أنا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن
عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اشترى طعاما فلا يبعه حتى
يستوفيه " قال وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه ومن طريق مسلم أنا أبو بكر بن أبي شيبة أنا
عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمرعن ابن عمر: أنهم كانوا
يضربون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في
مكانه حتى يحولوه .
قال أبو محمد : ولا يمكن أن يكون غيره عليه السلام يضرب المسلمين بالمدينة على
شريعة يؤمرون بها في الأسواق بغير علمه أصلا فصح أنه جرم كبير لا يرخص فيه. فإن
قيل: إن في بعض ما رويتم "حتى يؤووه إلى رحالهم" ؟ قلنا : نعم , وكل
مكان رحله إليه فهو رحل له إذا كان مباحا له أن يرحله إليه. فإن قيل: فقد رويتم
هذا الحديث عن مالك عن نافع عن ابن عمر فلم يذكر فيه الجزاف؟ قلنا: عبيد الله بن
عمر إن لم يكن فوق مالك, وإلا فليس هو دونه أصلا وقد رواه عن نافع فذكر فيه
الجزاف. ورواه الزهري عن سالم كما أوردنا فذكر فيه الجزاف وهو خبر واحد بلا شك.
وجمهور الرواة عن مالك لهذا الحديث في الموطأ وغيره ذكروا فيه عنه الجزاف, كما
ذكره عبيد الله عن نافع, والزهري عن سالم, وإنما أسقط ذكر الجزاف: القعنبي, ويحيى,
فقط فصح أنهما وهما فيه بلا شك; لأنه يتعين خبر واحد وبالله تعالى التوفيق. وإنما
كان يصح الأخذ برواية القعنبي, ويحيى, لو أمكن أن يكونا خبرين اثنين عن موطئين
مختلفين وقولنا ههنا هو قول الشافعي وأبي سليمان, ولم يقل به مالك, ولا نعلم
لمقلده ولا له حجة أصلا وبالله تعالى التوفيق.
(8/522)
وأما القمح يبتاعه المرء بكيل فلا يحل له بيعه حتى يكتاله لنفسه, ثم يكتاله الذي يبيع منه ولا بد سواء حضرا كلاهما كيله قبل ذلك أو لم يحضرا, فلما رويناه من طريق أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار أنا محمد بن عبد الرحيم أنا مسلم هو ابن إبراهيم أنا مخلد بن الحسين الأزدي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان , فيكون لصاحبه الزيادة وعليه النقصان ". ورويناه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة أنا شريك عن ابن أبي ليلى عن محمد بن بيان عن ابن عمر أنه سئل عمن اشترى الطعام وقد شهد كيله؟ قال: لا, حتى يجري فيه الصاعان. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا محمد بن فضيل عن مطرف هو ابن طريف قلت للشعبي: أكون شاهد الطعام وهو يكال فأشتريه, آخذه بكيله؟ فقال: مع كل صفقة كيلة ومن طريق ابن أبي شيبة أنا مروان عن زياد مولى آل سعد قلت لسعيد بن المسيب: رجل ابتاع طعاما فاكتاله, أيصلح لي أن اشتريه بكيل الرجل؟ قال: لا, حتى يكال بين يديك وصح عنه أنه قال فيه: هذا ربا. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا زيد بن الحباب عن سوادة بن حيان سمعت محمد بن سيرين سئل عن رجلين اشترى أحدهما طعاما والآخر معه؟ فقال: قد شهدت البيع والقبض؟ فقا : خذ مني ربحا وأعطنيه فقال: لا, حتى يجري فيه الصاعان, فتكون لك زيادته وعليك نقصانه. ومن طريق ابن أبي شيبة أنا وكيع عن عمر أبي حفص قال: سمعت الحسن البصري وسئل عمن اشترى طعاما ما وهو ينظر إلى كيله؟ قال: لا , حتى يكيله. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: في السنة التي مضت: إن من ابتاع طعاما أو ودكا كيلا أن يكتاله قبل أن يبيعه, فإذا باعه اكتيل منه أيضا إذا باعه كيلا وهو قول عطاء بن أبي رباح , وأبي حنيفة , والشافعي , وأحمد بن حنبل , وإسحاق , وأبي سليمان . وقال مالك: إذا بيع بالنقد فلا بأس بأن يصدق البائع في كيله ولا يكتاله ويكره ذلك في الدين وهذا قول لا نعلمه عن أحد قبله, وخالف فيه صاحبا لا يعرف له مخالف منهم , وخالف فيه جمهور العلماء, وما نعلم لقوله حجة أصلا, لا من نص قرآن, ولا سنة, ولا رواية سقيمة, ولا قياس, ولا رأي له وجه. فإن قيل: فقد رويتم من طريق أبي داود عن محمد بن عوف الطائي أنا أحمد بن خالد الوهبي أنا محمد بن إسحاق عن أبي الزناد عن عبيد بن حنين عن ابن عمر قال: ابتعت زيتا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل أعطاني به ربحا حسنا فأردت أن أضرب على يدي, فأخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك؟ فإن رسول الله
(8/523)
صلى الله عليه وسلم: " نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى تحوزها التجار إلى رحالهم " قلنا: هذا رواه أحمد بن خالد الوهبي وهو مجهول وبالله لو صح عندنا لسارعنا إلى الأخذ به نحمد الله على ما يسرنا له من ذلك كثيرا. وكل ما ذكرنا في هذه المسائل فمن فعل خلاف ذلك فسخ أبدا , فإن كان قد بلغه الخبر ضرب كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن عمر قال عليه السلام: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".
(8/524)
المجلد التاسع
كتاب البيوع
الشركة والاقالة والتولية كلها بيوع مبتدأة لا يجوز في شيء منها
...
1508 - مَسْأَلَةٌ: وَالشَّرِكَةُ، وَالإِقَالَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ: كُلُّهَا بُيُوعٌ
مُبْتَدَأَةٌ لاَ يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إِلاَّ مَا يَجُوزُ فِي سَائِرِ
الْبُيُوعِ لاَ تَحَاشَ، شَيْئًا
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِنَا فِي الشَّرِكَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ.
وَقَالُوا: "الإِقَالَةُ فَسْخُ بَيْعٍ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا" وَقَالَ
رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ: "كُلُّ مَا لاَ يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ قَبْلَ
الْقَبْضِ أَوْ قَبْلَ الأَكْتِيَالِ فَإِنَّهُ لاَ بَأْسَ فِيهِ بِالشَّرِكَةِ،
وَالتَّوْلِيَةِ، وَالإِقَالَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَقَبْلَ الأَكْتِيَالِ".
وَرُوِيَ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ فِي التَّوْلِيَةِ فَقَطْ. وَاحْتَجُّوا بِمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي
رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ حَدِيثًا مُسْتَفَاضًا فِي الْمَدِينَةِ: "مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا
فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَيَسْتَوْفِيَهُ، إِلاَّ أَنْ يُشْرِكَ فِيهِ
أَوْ يُوَلِّيَهُ أَوْ يَقْبَلَهُ".
وقال مالك: "إنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لاَ
بَأْسَ بِالشَّرِكَةِ، وَالإِقَالَةِ، وَالتَّوْلِيَةِ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ
يَعْنِي قَبْلَ الْقَبْضِ".
قال أبو محمد: "وَمَا نَعْلَمُ رُوِيَ هَذَا إِلاَّ، عَنْ رَبِيعَةَ، وَعَنْ
طَاوُوس فَقَطْ وَقَوْلُهُ، عَنِ الْحَسَنِ فِي التَّوْلِيَةِ قَدْ جَاءَ عَنْهُ
خِلاَفُهَ".
قَالَ عَلِيٌّ: "أَمَّا خَبَرُ رَبِيعَةَ فَمُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي
مُرْسَلٍ، وَلَوْ اسْتَنَدَ لَسَارَعْنَا إلَى الأَخْذِ بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ
اسْتِفَاضَتُهُ، عَنْ أَصْلٍ صَحِيحٍ لَكَانَ الزُّهْرِيُّ أَوْلَى بِأَنْ
يَعْرِفَ ذَلِكَ مِنْ رَبِيعَةَ، فَبَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْبَابِ بَوْنٌ بَعِيدٌ،
وَالزُّهْرِيُّ مُخَالِفٌ لَهُ فِي ذَلِكَ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
قَالَ: "التَّوْلِيَةُ بَيْعٌ فِي الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ
وبه إلى مَعْمَرٍ"، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ قَالَ: قَالَ ابْنُ
سِيرِينَ: "لاَ تَوْلِيَةَ حَتَّى يُقْبَضَ وَيُكَالَ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ
قَالَ: "سَأَلْت الْحَسَنَ، عَنِ الرَّجُلِ يَشْتَرِي الطَّعَامَ
فَيُوَلِّيهِ الرَّجُلَ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَلِّيَهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الشَّعْشَاعِ: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَبِرَأْيِك
تَقُولُهُ قَالَ: لاَ أَقُولُهُ بِرَأْيِي، وَلَكِنَّا أَخَذْنَاهُ، عَنْ
سَلَفِنَا، وَأَصْحَابِنَا".
قَالَ عَلِيٌّ: "سَلَفُ الْحَسَنِ هُمْ الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم،، أَدْرَكَ
مِنْهُمْ خَمْسَمِائَةِ صَاحِبٍ وَأَكْثَرَ، وَغَزَا مَعَ مِئِينَ مِنْهُمْ
وَأَصْحَابُهُ هُمْ أَكَابِرُ التَّابِعِينَ، فَلَوْ أَقْدَمَ امْرُؤٌ عَلَى
دَعْوَى الإِجْمَاعِ
(9/2)
هَهُنَا لَكَانَ أَصَحَّ مِنْ
الإِجْمَاعِ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ بِلاَ شَكٍّ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ زَكَرِيَّا
بْنِ أَبِي زَائِدَةَ. وَفِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، قَالَ زَكَرِيَّا: ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ فِطْرٌ: "عَنِ الْحَكَمِ، ثُمَّ اتَّفَقَ
الشَّعْبِيُّ، وَالْحَكَمُ عَلَى أَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ قَالَ سُفْيَانُ:
وَنَحْنُ نَقُولُ: "وَالشَّرِكَةُ بَيْعٌ، وَلاَ يُشْرِكُ حَتَّى يَقْبِضَ
فَهَؤُلاَءِ الصَّحَابَةُ، وَالتَّابِعُونَ كَمَا تَرَى".
قال أبو محمد: "الشَّرِكَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ، إنَّمَا هُوَ نَقْلُ مِلْكِ
الْمَرْءِ عَيْنًا مَا صَحَّ مِلْكُهُ لَهَا، أَوْ بَعْضَ عَيْنٍ مَا صَحَّ
مِلْكُهُ لَهَا إلَى مِلْكٍ غَيْرِهِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ
نَفْسُهُ، لَيْسَتْ هَذِهِ الصِّفَةُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ لِلْبَيْعِ، وَلاَ
يَكُونُ بَيْعٌ أَصْلاً إِلاَّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَصَحَّ أَنَّهُمَا بَيْعٌ
صَحِيحٌ، وَهُمْ لاَ يُخَالِفُونَنَا فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ فِيهِمَا إِلاَّ مَا
يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، إِلاَّ فِيمَا ذَكَرْنَا هَهُنَا فَقَطْ وَهَذَا تَخْصِيصٌ
بِلاَ برهان وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ: فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْمُرْسَلِ
وَنَقَضُوا هَهُنَا أَصْلَهُمْ، فَتَرَكُوا مُرْسَلَ رَبِيعَةَ الَّذِي
ذَكَرْنَاهُ وَمَا نَعْلَمُ الْمَالِكِيِّينَ احْتَجُّوا بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا
إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: الشَّرِكَةُ، وَالتَّوْلِيَةُ، وَالإِقَالَةُ
مَعْرُوفٌ.
فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا؟ وَالْبَيْعُ أَيْضًا مَعْرُوفٌ، وَمَا عَهِدَنَا
الْمَعْرُوفَ تُبَاحُ فِيهِ مُحَرَّمَاتٌ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَكَانَ مُنْكَرًا
لاَ مَعْرُوفًا. وَسَنَتَكَلَّمُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الإِقَالَةِ
إثْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَسْأَلَةٍ مُفْرَدَةٍ وَلاَ حَوْلَ، وَلاَ
قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ".
(9/3)
الدليل على مشروعية الاقاله
ومذاهب العلماء في ذلك
...
1509 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الإِقَالَةُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم الْحَضُّ عَلَيْهَا:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ أَنَا
حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَقَالَ
نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ" وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو سُلَيْمَانَ: "لَيْسَتْ بَيْعًا، إنَّمَا هِيَ فَسْخُ بَيْعٍ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: "هِيَ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ، وَقَبْلَ الْقَبْضِ
فَسْخُ بَيْعٍ.وَرُوِيَ، عَنْ مَالِكٍ: أَنَّهَا بَيْعٌ.
وَرُوِيَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا فَسْخُ بَيْعٍ: فأما تَقْسِيمُ أَبِي
يُوسُفَ فَدَعْوَى بِلاَ برهان، وَتَقْسِيمٌ بِلاَ دَلِيلٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا
فَهُوَ بَاطِلٌ" وَأَمَّا مَنْ قَالَ: "لَيْسَتْ بَيْعًا"،
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمَّاهَا
بِاسْمِ الإِقَالَةِ، وَاتَّبَعَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ
يُسَمِّهَا عليه السلام بَيْعًا، وَالتَّسْمِيَةُ فِي الدِّينِ لاَ تُؤْخَذُ
إِلاَّ عَنْهُ عليه السلام، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ تُسَمَّى بَيْعًا، لأََنَّهُ عليه
السلام لَمْ يُسَمِّهَا هَذَا الأَسْمَ. وَقَالُوا: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى
جَوَازِ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ، وَالْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ لاَ
يَجُوزُ.فَصَحَّ أَنَّهَا لَيْسَتْ بَيْعًا، مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ
هَاتَيْنِ.
قال أبو محمد: "احْتِجَاجُهُمْ بِالتَّسْمِيَةِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فَقَوْلُهُمْ حَقٌّ، إِلاَّ أَنَّنَا لاَ نُسَلِّمُ لَهُمْ أَنَّهُ عليه
السلام سَمَّى إقَالَةً: "فِعْلَ مَنْ بَاعَ مِنْ آخَرَ بَيْعًا ثُمَّ
اسْتَقَالَهُ فِيهِ، فَرَدَّ إلَيْهِ مَا ابْتَاعَ مِنْهُ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ مِنْهُ،
وَأَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُسَمِّ ذَلِكَ بَيْعًا، وَلاَ يَجِدُونَ هَذَا
أَبَدًا، لاَ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ".
(9/3)
وَلاَ سَقِيمَةٍ وهذا الخبر
الْمُرْسَلُ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ لَوْ شِئْنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ مِنْهُ بِأَنَّ
الإِقَالَةَ بَيْعٌ لَفَعَلْنَا لأََنَّهُ فِيهِ النَّهْيُ، عَنِ الْبَيْعِ قَبْلَ
الْقَبْضِ إِلاَّ مَنْ أَشْرَكَ، أَوْ وَلَّى، أَوْ أَقَالَ فَهَذَا ظَاهِرٌ
أَنَّهَا بُيُوعٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْبُيُوعِ.وَأَمَّا الْخَبَرُ
الصَّحِيحُ الَّذِي ذَكَرْنَا فَإِنَّمَا فِيهِ الْحَضُّ عَلَى الإِقَالَةِ
فَقَطْ، وَالإِقَالَةُ تَكُونُ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ، لَكِنْ فِي الْهِبَةِ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلاَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ الإِقَالَةَ لاَ تُسَمَّى بَيْعًا
وَلاَ لَهَا حُكْمُ الْبَيْعِ فَبَطَلَ مَا صَدَّرُوا بِهِ مِنْ هَذَا
الأَحْتِجَاجِ الصَّحِيحِ أَصْلَهُ الْمَوْضُوعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.وَأَمَّا
دَعْوَاهُمْ الإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ قَبْلَ
الْقَبْضِ فَبَاطِلٌ، وَإِقْدَامٌ عَلَى الدَّعْوَى عَلَى الأُُمَّةِ، وَمَا
وَقَعَ الإِجْمَاعُ قَطُّ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ، فَكَيْفَ عَلَى الإِقَالَةِ
فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، وَالْحَسَنِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ وطَاوُوس،
وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَخِي أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَةَ أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنْ أَخْذِ بَعْضِ السَّلَمِ،
وَالإِقَالَةِ فِي بَعْضِهِ، فَأَيْنَ الإِجْمَاعُ ؟فَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ
تُقِرُّوا جَمِيعَ الصَّحَابَةِ أَوَّلَهُمْ، عَنْ آخِرِهِمْ حَتَّى أَيْقَنُوا
بِأَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ؟ أَمْ تُقِرُّوا جَمِيعَ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ
مِنْ أَقْصَى خُرَاسَانَ إلَى الأَنْدَلُسِ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ كَذَلِكَ. ثُمَّ
لَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا وَهُوَ لاَ يَصِحُّ أَبَدًا فَمَا يَخْتَلِفُ مُسْلِمَانِ
فِي أَنَّ مِنْ الْجِنِّ قَوْمًا صَحِبُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَآمَنُوا بِهِ، وَمَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ كَافِرٌ، لِتَكْذِيبِهِ الْقُرْآنَ،
فَلأَُولَئِكَ الْجِنِّ مِنْ الْحَقِّ وَوُجُوبِ التَّعْظِيمِ مِنَّا، وَمِنْ
مَنْزِلَةِ الْعِلْمِ، وَالدِّينِ، مَا لِسَائِرِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم,
هَذَا مَا لاَ شَكَّ فِيهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ، فَمَنْ لَهُ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى
ذَلِكَ وَرَحِمَ اللَّهُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَلَقَدْ صَدَقَ إذْ يَقُولُ:
"مَنْ يَدَّعِي الإِجْمَاعَ فَقَدْ كَذَبَ، مَا يُدْرِيهِ لَعَلَّ النَّاسَ
اخْتَلَفُوا لَكِنْ لِيَقُلْ: لاَ أَعْلَمُ خِلاَفًا هَذِهِ أَخْبَارُ
الْمَرِيسِيِّ، وَالأَصَمِّ".
قال أبو محمد: "لاَ تَحِلُّ دَعْوَى الإِجْمَاعِ إِلاَّ فِي مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا: مَا تُيُقِّنَ أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، عَرَفُوهُ
بِنَقْلٍ صَحِيحٍ عَنْهُمْ وَأَقَرُّوا بِهِ وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ مَنْ
خَالَفَهُ كَافِرًا خَارِجًا، عَنِ الإِسْلاَمِ، كَشَهَادَةِ أَنْ لاَ إلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ،
وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَالإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ،
وَجُمْلَةِ الزَّكَاةِ، وَالطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ، وَمِنْ الْجَنَابَةِ،
وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالدَّمِ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذَا
الصِّنْفِ فَقَطْ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ الإِجْمَاعِ عَلَى
جَوَازِ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ لَكَانَ بَيْعًا مُسْتَثْنًى بِالإِجْمَاعِ
مِنْ جُمْلَةِ الْبُيُوعِ، فَكَيْفَ وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا
يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الإِقَالَةِ فِي السَّلَمِ".رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ
عَمْرِو
(9/4)
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إذَا أَسْلَفْت فِي شَيْءٍ إلَى أَجَلٍ فَسَمِّي
فَجَاءَ ذَلِكَ الأَجَلُ وَلَمْ تَجِدْ الَّذِي أَسْلَفْت فِيهِ: فَخُذْ عَرَضًا
بِأَنْقَصَ، وَلاَ تَرْبَحْ مَرَّتَيْنِ وَلَمْ يُفْتِ بِالإِقَالَةِ".
قَالَ عَلِيٌّ: "وَلاَ تَجُوزُ الإِقَالَةُ فِي السَّلَمِ، لأََنَّهُ بَيْعُ
مَا لَيْسَ عِنْدَكَ، وَبَيْعُ غَرَرٍ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَبَيْعٌ
مَجْهُولٌ لاَ يَدْرِي أَيَّمَا فِي الْعَالَمِ هُوَ وَهَذَا هُوَ أَكْلُ الْمَالِ
بِالْبَاطِلِ، إذْ لَمْ يَأْتِ بِجَوَازِهِ نَصٌّ فَيَسْتَثْنِيهِ مِنْ جُمْلَةِ
هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّمَا الْحُكْمُ فِيمَنْ لَمْ يَجِدْ مَا أَسَلَفَ
فِيهِ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُوجَدَ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْهُ قِصَاصًا وَمُعَاقَبَةً
مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَتَرَاضَيَا بِهِ: قِيمَةَ مَا وَجَبَ لَهُ عِنْدَهُ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} وَحَرِيمَةُ الْمَالِ
حُرْمَةٌ مُحَرَّمَةٌ يَجِبُ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْهَا، فَإِنْ أَرَادَ الإِحْسَانَ
إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ عِنْدَهُ، أَوْ يَأْخُذَ
بَعْضَ مَا لَهُ عِنْدَهُ، أَوْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا شَاءَ مِنْهُ وَيَتَصَدَّقَ
بِهِ عَلَيْهِ، كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ فِي الْمُفْلِسِ إذْ قَالَ:
"تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ" ثُمَّ قَالَ عليه السلام: "خُذُوا مَا
وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ
" فِي التَّفْلِيسِ " وَفِي " الْجَوَائِحِ " مِنْ كِتَابِنَا
هَذَا".
قال أبو محمد: "فَإِذَا بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ فَلِنَقُلْ عَلَى
تَصْحِيحِ قَوْلِنَا بِعَوْنِ اللَّه تَعَالَى، فَنَقُولُ وَبِهِ تَعَالَى
نَتَأَيَّدُ: إنَّ الإِقَالَةَ لَوْ كَانَتْ فَسْخُ بَيْعٍ لَمَا جَازَتْ إِلاَّ
بِرَدِّ عَيْنِ الثَّمَنِ نَفْسِهِ لاَ بِغَيْرِهِ، وَلاَ بُدَّ لَهُ كَمَا قَالَ
ابْنُ سِيرِينَ، كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ
أَنَا الرَّبِيعُ بْنُ حَبِيبٍ: "كُنَّا نَخْتَلِفُ إلَى السَّوَادِ فِي
الطَّعَامِ وَهُوَ أَكْدَاسٌ قَدْ حُصِدَ فَنَشْتَرِيهِ مِنْهُمْ الْكُرَّ بِكَذَا
وَكَذَا، وَنَنْقُدُ أَمْوَالَنَا، فَإِذَا أَذِنَ لَهُمْ الْعُمَّالُ فِي
الدِّرَاسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَفِي لَنَا بِمَا سُمِّيَ لَنَا، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَزْعُمُ أَنَّهُ نَقَصَ طَعَامُهُ فَيَطْلُبُ إلَيْنَا أَنْ نَرْتَجِعَ بِقَدْرِ
مَا نَقَصَ رُءُوسُ أَمْوَالِنَا"، فَسَأَلْت الْحَسَنَ، عَنْ ذَلِكَ؟
فَكَرِهَهُ إِلاَّ أَنْ يُسْتَوْفَى مَا سُمِّيَ لَنَا، أَوْ نَرْتَجِعَ
أَمْوَالَنَا كُلَّهَا، وَسَأَلْت ابْنَ سِيرِينَ؟ فَقَالَ: "إنْ كَانَتْ
دَرَاهِمُك بِأَعْيَانِهَا فَلاَ بَأْسَ"، وَسَأَلْت عَطَاءً فَقَالَ:
"مَا أَرَاك إِلاَّ قَدْ رَفَقْت وَأَحْسَنْت إلَيْهِ".
قال أبو محمد: "هَذِهِ صِفَةُ الْفَسْخِ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَقُولُ: إنَّ
الْبَيْعَ عَقْدٌ صَحِيحٌ بِالْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ، وَالإِجْمَاعِ
الْمُتَيَقَّنِ الْمَقْطُوعِ بِهِ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ عَلَى أَدِيمِ الأَرْضِ
كَانَ أَوْ هُوَ كَائِنٌ فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ بِالْيَقِينِ لاَ بِالدَّعَاوَى
الْكَاذِبَةِ، فَلاَ يَحِلُّ فَسْخُ عَقْدٍ صَحَّحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ،
وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِنَصٍّ آخَرَ، وَلاَ نَصَّ
فِي جَوَازِ فَسْخِهِ مُطَارَفَةً بِتَرَاضِيهِمَا، إِلاَّ فِيمَا جَاءَ نَصٌّ
بِفَسْخِهِ، كَالشُّفْعَةِ، وَمَا فِيهِ الْخِيَارُ بِالنَّصِّ، فَإِذْ ذَلِكَ
كَذَالِك، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَنْ أَجَازَ الْفَسْخَ نَصٌّ أَصْلاً فَقَدْ
صَحَّ: أَنَّ الإِقَالَةَ بَيْعٌ مِنْ الْبُيُوعِ بِتَرَاضِيهِمَا، يَجُوزُ فِيهَا
مَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ، وَيَحْرُمُ فِيهَا مَا يَحْرُمُ فِي الْبُيُوعِ.
وَمَنْ رَأَى أَنَّ الإِقَالَةَ فَسْخُ بَيْعٍ لَزِمَهُ أَنْ
(9/5)
لاَ يُجِيزَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، لأََنَّ الزِّيَادَةَ إذْ لَمْ تَكُنْ بَيْعًا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.وَأَمَّا مَنْ رَآهَا بَيْعًا فَإِنَّهُ يُجِيزُهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعِ أَوَّلاً، وَبِأَقَلَّ، وَبِغَيْرِ مَا وَقَعَ بِهِ الْبَيْعُ، وَحَالًّا وَفِي الذِّمَّةِ، وَإِلَى أَجَلٍ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الأَجَلُ"، وَبِهَذَا نَأْخُذُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/6)
1510 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُ دَيْنٍ يَكُونُ لأَِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ، لاَ بِنَقْدٍ، وَلاَ بِدَيْنٍ،
لاَ بِعَيْنٍ وَلاَ بِعَرَضٍ، كَانَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ مُقِرًّا بِهِ أَوْ لَمْ
يَكُنْ: كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِي ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَ
الْحَلاَلَ: أَنْ يَبْتَاعَ فِي ذِمَّتِهِ مِمَّنْ شَاءَ مَا شَاءَ، مِمَّا
يَجُوزُ بَيْعُهُ، ثُمَّ إذَا تَمَّ الْبَيْعُ بِالتَّفَرُّقِ أَوْ التَّخَيُّرِ،
ثُمَّ يُحِيلُهُ بِالثَّمَنِ عَلَى الَّذِي لَهُ عِنْدَهُ الدَّيْنُ، فَهَذَا
حَسَنٌ.
برهان ذَلِكَ أَنَّهُ بَيْعٌ مَجْهُولٌ، وَمَا لاَ يَدْرِي عَيْنَهُ، وَهَذَا هُوَ
أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ َهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ قَالَ: "سُئِلَ
الشَّعْبِيُّ عَمَّنْ اشْتَرَى صَكًّا فِيهِ ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ بِثَوْبٍ قَالَ:
لاَ يَصْلُحُ، قَالَ وَكِيعٌ: وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: هُوَ غَرَرٌ. وقال مالك: إنْ كَانَ
مُقِرًّا بِمَا عَلَيْهِ جَازَ بَيْعُهُ بِعَرَضٍ نَقْدًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
مُقِرًّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ
لأََنَّهُ شِرَاءُ خُصُومَةٍ".
قال علي: "وهذا لاَ شَيْءَ، لأََنَّهُ وَإِنْ أَقَرَّ الْيَوْمَ فَيُمْكِنُ
أَنْ يُنْكِرَ غَدًا، فَيَرْجِعُ الأَمْرُ إلَى الْبَيِّنَةِ بِإِقْرَارِهِ،
فَيَحْصُلُ عَلَى شِرَاءِ خُصُومَةٍ، وَلاَ فَرْقَ.وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لَهُ
بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا الأَسْلَمِيُّ
أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالشُّفْعَةِ
فِي الدَّيْنِ وَهُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الدَّيْنُ عَلَى رَجُلٍ فَيَبِيعُهُ
فَيَكُونُ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَحَقَّ بِهِ". قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ:
وَحَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ قَضَى فِي مُكَاتَبٍ اشْتَرَى مَا عَلَيْهِ بِعَرَضٍ فَجَعَلَ
الْمُكَاتَبَ أَوْلَى بِنَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: مَنْ ابْتَاعَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ فَصَاحِبُ الدَّيْنِ أَوْلَى
إذَا أَدَّى مِثْلَ الَّذِي أَدَّى صَاحِبُهُ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ عَمَّنْ لَهُ دَيْنٌ فَابْتَاعَ بِهِ غُلاَمًا
قَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ".
قال أبو محمد: "حَدِيثَا عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مُرْسَلاَنِ:
أَحَدُهُمَا: عَنِ الأَسْلَمِيِّ وَهُوَ إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ
مَتْرُوكٌ مُتَّهَمٌ. وَالآخَرُ أَيْضًا: عَمَّنْ لَمْ يُسَمَّ، وَلاَ حُجَّةَ فِي
أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا مِمَّا تَرَكَ فِيهِ
الشَّافِعِيُّونَ صَاحِبًا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْهُمْ. وَلاَ حُجَّةَ
لِلْمَالِكِيِّينَ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ، وَلاَ فِي خَبَرِ جَابِرٍ،
لأََنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ بِإِقْرَارٍ دُونَ بَيِّنَةٍ
فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِعُمُومِ الْخَبَرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".
(9/6)
1511 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمَاءِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لاَ فِي سَاقِيَةٍ، وَلاَ مِنْ نَهْرٍ
(9/6)
1512 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُ الْخَمْرِ، لاَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ لِكَافِرٍ، وَلاَ بَيْعُ الْخَنَازِيرِ
كَذَلِكَ، وَلاَ شُعُورِهَا، وَلاَ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلاَ بَيْعُ صَلِيبٍ، وَلاَ
صَنَمٍ، وَلاَ مَيْتَةٍ، وَلاَ دَمٍ إِلاَّ الْمِسْكَ وَحْدَهُ فَهُوَ حَلاَلٌ
بَيْعُهُ وَمِلْكُهُ، فَمَنْ بَاعَ مِنْ الْمُحَرَّمِ الَّذِي ذَكَرْنَا شَيْئًا
فُسِخَ أَبَدًا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
مُعَاوِيَةَ [، عَنِ الأَعْمَشِ ]، عَنْ مُسْلِمٍ هُوَ أَبُو الضُّحَى، عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم إلَى الْمَسْجِدِ فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ" .وبه
إلى مُسْلِمٍ: أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ أَنَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ الْفَتْحِ
وَهُوَ بِمَكَّةَ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ
الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَرَأَيْتَ شَحْمَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ،
وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ قَالَ: لاَ، هُوَ
حَرَامٌ، قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ
شُحُومَهَا أَجْمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ".
قال أبو محمد: "مَوَّهَ قَوْمٌ بِهَذَا الْخَبَرِ فِي تَصْحِيحِ الْقِيَاسِ،
وَلَيْسَ فِيهِ لِلْقِيَاسِ أَثَرٌ، لَكِنْ فِيهِ: أَنَّ الأَوَامِرَ عَلَى
الْعُمُومِ، لأََنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ
الشُّحُومَ عَلَى الْيَهُودِ فَاسْتَحَلُّوا بَيْعَهَا، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الإِنْكَارِ، إذْ خَصُّوا التَّحْرِيمَ وَلَمْ يَحْمِلُوهُ
عَلَى عُمُومِهِ. فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّهُ مَتَى حُرِّمَ شَيْءٌ فَحَرَامٌ
مِلْكُهُ، وَبَيْعُهُ، وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ، وَأَكْلُهُ عَلَى عُمُومِ
تَحْرِيمِهِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ نَصٌّ بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
فَيُوقَفُ عِنْدَهُ. وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْخِنْزِيرَ، وَالْخَمْرَ
وَالْمَيْتَةَ، وَالدَّمَ، فَحَرَّمَ مِلْكَ كُلِّ ذَلِكَ، وَشُرْبَهُ،
وَالأَنْتِفَاعَ بِهِ، وَبَيْعَهُ. وَقَدْ أَوْجَبَ
(9/8)
للَّهُ تَعَالَى دِينَ
الإِسْلاَمِ عَلَى كُلِّ إنْسٍ وَجِنٍّ.وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ
الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} فَوَجَبَ
الْحُكْمُ عَلَى الْيَهُودِ، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس: بِحُكْمِ الإِسْلاَمِ،
أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا. وَمَنْ أَجَازَ لَهُمْ بَيْعَ الْخَمْرِ ظَاهِرًا
وَشِرَاءَهَا كَذَلِكَ، وَتَمَلُّكَهَا عَلاَنِيَةً، وَتَمَلُّكَ الْخَنَازِيرِ
كَذَلِكَ، لأََنَّهُمْ مِنْ دِينِهِمْ بِزَعْمِهِ، وَصَدَّقَهُمْ فِي ذَلِكَ:
لَزِمَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمْ أَنْ يُقِيمُوا شَرَائِعَهُمْ فِي بَيْعِ مَنْ زَنَى
مِنْ النَّصَارَى الأَحْرَارِ، وَخِصَاءِ الْقِسِّيسِ إذَا زَنَى، وَقَتْلِ مَنْ
يَرَوْنَ قَتْلَهُ وَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ.وقال أبو
حنيفة: "إذَا أَمَرَ الْمُسْلِمُ نَصْرَانِيًّا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ
خَمْرًا: جَازَ ذَلِكَ وَهَذِهِ مِنْ شُنْعِهِ الَّتِي نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
مِثْلِهَا.وَأَمَّا الْمِسْكُ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم التَّطَيُّبُ بِالْمِسْكِ وَتَفْضِيلُهُ عَلَى الطِّيبِ وَأَيْضًا فَقَدْ
سَقَطَ عَنْهُ اسْمُ الدَّمِ وَصِفَاتِهِ وَحْدَهُ، فَلَيْسَ دَمًا، وَالأَحْكَامُ
إنَّمَا هِيَ عَلَى الأَسْمَاءِ، وَالأَسْمَاءُ إنَّمَا هِيَ عَلَى الصِّفَاتِ،
وَالْحُدُودِ".
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَنَا
عُمَرُ الْمُكْتِبُ أَنَا حِزَامٌ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ زَكَا أَوْ زَكَّارٍ
قَالَ: "نَظَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إلَى زُرَارَةَ فَقَالَ: مَا
هَذِهِ الْقَرْيَةُ قَالُوا: قَرْيَةٌ تُدْعَى زُرَارَةَ يُلْحَمُ فِيهَا،
وَيُبَاعُ فِيهَا الْخَمْرُ قَالَ: أَيْنَ الطَّرِيقُ إلَيْهَا قَالُوا: بَابُ
الْجِسْرِ، قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَأْخُذُ لَك سَفِينَةً قَالَ:
لاَ، تِلْكَ شَجَرَةٌ، وَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِي الشَّجَرَةِ، انْطَلِقُوا بِنَا
إلَى بَابِ الْجِسْرِ، فَقَامَ يَمْشِي حَتَّى أَتَاهَا، فَقَالَ عَلَيَّ
بِالنِّيرَانِ أَضْرِمُوهَا فِيهَا، فَاحْتَرَقَتْ".وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَمَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيّ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ شُبَيْلٍ، عَنْ أَبِي
عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ: "بَلَغَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَنَّ
رَجُلاً مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ أَثْرَى فِي تِجَارَةِ الْخَمْرِ، فَكَتَبَ: أَنْ
اكْسِرُوا كُلَّ شَيْءٍ قَدَرْتُمْ لَهُ عَلَيْهِ، وَسَيِّرُوا كُلَّ مَاشِيَةٍ
لَهُ، وَلاَ يُؤْوِيَنَّ أَحَدٌ لَهُ شَيْئًا. فَهَذَا حُكْمُ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ،
بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِيمَنْ بَاعَ الْخَمْرَ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ فَخَالَفُوهُمَا".
(9/9)
ولا يحل بيع كلب أصلا لاكلب صيد
ولا كلب ماشية
...
1513 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ كَلْبٍ أَصْلاً، لاَ كَلْبَ صَيْدٍ،
وَلاَ كَلْبَ مَاشِيَةٍ، وَلاَ غَيْرَهُمَا فَإِنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَلَمْ
يَجِدْ مَنْ يُعْطِيه إيَّاهُ فَلَهُ ابْتِيَاعُهُ، وَهُوَ حَلاَلٌ لِلْمُشْتَرِي
حَرَامٌ عَلَى الْبَائِعِ يَنْتَزِعُ مِنْهُ الثَّمَنَ مَتَى قَدَرَ عَلَيْهِ،
كَالرِّشْوَةِ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ، وَفِدَاءِ الأَسِيرِ، وَمُصَانَعَةِ
الظَّالِمِ، وَلاَ فَرْقَ.، وَلاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُ كَلْبٍ أَصْلاً، إِلاَّ لِمَاشِيَةٍ،
أَوْ لِصَيْدٍ، أَوْ لِزَرْعٍ، أَوْ لِحَائِطٍ وَاسْمُ الْحَائِطِ يَقَعُ عَلَى
الْبُسْتَانِ وَجِدَارِ الدَّارِ فَقَطْ. وَلاَ يَحِلُّ أَيْضًا: قَتْلُ
الْكِلاَبِ، فَمَنْ قَتَلَهَا ضَمِنَهَا بِمِثْلِهَا، أَوْ بِمَا يَتَرَاضَيَانِ
عَلَيْهِ عِوَضًا مِنْهُ، إِلاَّ الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، أَوْ الأَسْوَدَ
(9/9)
ذَا النُّقْطَتَيْنِ أَيْنَمَا
كَانَتْ النُّقْطَتَانِ مِنْهُ فَإِنْ عَظُمَتَا حَتَّى لاَ تُسَمَّيَا فِي
اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ نُقْطَتَيْنِ، لَكِنْ تُسَمَّى لَمْعَتَيْنِ: لَمْ
يَجُزْ قَتْلُهُ، فَلاَ يَحِلُّ مِلْكُهُ أَصْلاً لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا،
وَقَتْلُهُ وَاجِبٌ حَيْثُ وُجِدَ.
برهان ذَلِك مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ
الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ
قَارِظٍ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ حَدَّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ
وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ" فَهَذَانِ
صَاحِبَانِ فِي نَسَقٍ.وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي
مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى،
عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ"
وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجَابِرٍ وَأَبِي جُحَيْفَةَ
فَهَذَا نَقْلٌ تَوَاتَرَ لاَ يَسَعُ تَرْكُهُ، وَلاَ يَحِلُّ
خِلاَفُهُ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ أَحْمَدَ بْنِ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: "أَرْبَعٌ مِنْ السُّحْتِ، ضِرَابُ
الْفَحْلِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ".
وَرُوِّينَاهُ، عَنْ جَابِرٍ أَيْضًا وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ
حَبْتَرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهُ ثَمَنُ الْكَلْبِ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ
وَثَمَنُ الْخَمْرِ حَرَامٌ وَأَقَلُّ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلَ ابْنِ
عَبَّاسٍ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ، عَنْ
أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: "أَخْبَثُ الْكَسْبِ كَسْبُ الزَّمَّارَةِ،
وَثَمَنُ الْكَلْبِ. الزَّمَارَةُ" الزَّانِيَةُ، سَمِعْت أَبَا عُبَيْدَةَ
يَقُولُ ذَلِكَ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ
مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي فَرْوَةَ سَمِعْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ
بْنَ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ: "مَا أُبَالِي ثَمَنَ كَلْبٍ أَكَلْتُ، أَوْ
ثَمَنَ خِنْزِيرٍ".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
إدْرِيسَ، عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْت الْحَكَمَ، وَحَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ
يَكْرَهَانِ ثَمَنَ الْكَلْبِ، وَلاَ يَصِحُّ خِلاَفُهُمَا، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَبِي ثَوْرٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَخَالَفَ الْحَنَفِيُّونَ السُّنَنَ فِي ذَلِكَ:
"وَأَبَاحُوا بَيْعَ الْكِلاَبِ، وَأَكْلَ أَثْمَانِهَا". وَاحْتَجُّوا
فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، قَالَ:
"أَخْبَرَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الْمِصِّيصِيُّ،
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم نَهَى، " عَنْ ثَمَنِ السِّنَّوْرِ وَالْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ
صَيْدٍ" وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
(9/10)
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ: "ثَمَنُ الْكَلْبِ سُحْتٌ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ" وَمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ عَمَّنْ أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،
عَنْ أَبِي بَكْرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثٌ
هُنَّ سُحْتٌ: حُلْوَانُ الْكَاهِنِ، وَمَهْرُ الزَّانِيَةِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ اaْعَقُورِ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ الشِّمْرِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ضُمَيْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ ثَمَنِ
الْكَلْبِ الْعَقُورِ" .
قال أبو محمد: "أَمَّا حَدِيثَا ابْنِ وَهْبٍ هَذَانِ فَأَسْقَطُ مِنْ أَنْ
يُشْتَغَلَ بِهِمَا إِلاَّ جَاهِلٌ بِالْحَدِيثِ، أَوْ مُكَابِرٌ يَعْلَمُ
الْحَقَّ فَيُولِيَهُ ظَهْرَهُ، لأََنَّ حُسَيْنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي غَايَةِ
السُّقُوطِ وَالأَطِّرَاحِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَالآخَرَ مُنْقَطِعٌ
فِي مَوْضِعَيْنِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا حُجَّةٌ،
لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا إِلاَّ النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ
فَقَطْ وَهَذَا حَقٌّ، وَلَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ ثَمَنِ مَا سِوَاهُ مِنْ
الْكِلاَبِ وَجَاءَتْ الآثَارُ الْمُتَوَاتِرَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا بِزِيَادَةٍ
عَلَى هَذَيْنِ لاَ يَحِلُّ تَرْكُهَا".
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ لأََنَّ فِيهِ
يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ، وَالْمُثَنَّى بْنَ الصَّبَّاحِ، وَهُمَا ضَعِيفَانِ
جِدًّا قَدْ شَهِدَ مَالِكٌ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ بِالْكَذِبِ، وَجَرَحَهُ
أَحْمَدُ وَأَمَّا الْمُثَنَّى فَجَرَّحَهُ بِضَعْفِ الْحَدِيثِ أَحْمَدُ،
وَتَرَكَهُ يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً
عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ اسْتِثْنَاءَ كَلْبِ الصَّيْدِ فَقَطْ،
وَهُمْ يُبِيحُونَ مَا حُرِّمَ فِيهِ مِنْ ثَمَنِ كَلْبِ الزَّرْعِ، وَكَلْبِ
الْمَاشِيَةِ وَسَائِرِ الْكِلاَبِ فَهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهِ وَأَمَّا
حَدِيثُ جَابِرٍ: فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْهُ، وَلَمْ
يَسْمَعْهُ مِنْهُ بِإِقْرَارِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ، حَدَّثَنِي
يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ
أَحْمَدَ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى الْحَلْوَانِيُّ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: "إنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ دَفَعَ
إلَيَّ كِتَابَيْنِ، فَقُلْت فِي نَفْسِي: لَوْ سَأَلْته أَسْمَعُ هَذَا كُلَّهُ
مِنْ جَابِرٍ فَرَجَعْت إلَيْهِ فَقُلْت: هَذَا كُلُّهُ سَمِعْته مِنْ جَابِرٍ
فَقَالَ: مِنْهُ مَا سَمِعْته، وَمِنْهُ مَا حَدَّثْت عَنْهُ، فَقُلْت لَهُ:
أَعْلِمْ لِي عَلَى مَا سَمِعْتَ فَأَعْلَمَ لِي عَلَى هَذَا الَّذِي
عِنْدِي".
قال أبو محمد: "فَكُلُّ حَدِيثٍ لَمْ يَقُلْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ
سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ، أَوْ حَدَّثَهُ بِهِ جَابِرٌ أَوْ لَمْ يَرْوِهِ اللَّيْثُ
عَنْهُ"،عَنْ جَابِرٍ فَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ بِإِقْرَارِهِ. وَهَذَا
الْحَدِيثُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ، وَلاَ
هُوَ مِمَّا عِنْدَ اللَّيْثِ فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ جَابِرٍ،
فَحَصَلَ مُنْقَطِعًا. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ ثَمَنِ شَيْءٍ مِنْ الْكِلاَبِ غَيْرَ كَلْبِ الصَّيْدِ،
وَالنَّهْيِ عَنْ ثَمَنِ سَائِرِهَا وَهُمْ يُبِيحُونَ أَثْمَانَ سَائِرِ
الْكِلاَبِ الْمُتَّخَذَةِ لِغَيْرِ الصَّيْدِ: فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا
بِهِ مِنْ الآثَارِ.وَأَمَّا النَّظَرُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: "كَانَ
النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِهَا حِينَ الأَمْرِ بِقَتْلِهَا، فَلَمَّا حُرِّمَ قَتْلُهَا
وَأُبِيحَ اتِّخَاذُ بَعْضِهَا انْتَسَخَ النَّهْيُ عَنْ ثَمَنِ مَا أُبِيحَ
اتِّخَاذُهُ مِنْهَا".
(9/11)
قال أبو محمد: "هَذَا كَذِبٌ
بَحْتٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى رَسُولِهِ عليه السلام، لأََنَّهُ
إخْبَارٌ بِالْبَاطِلِ، وَبِمَا لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ نَصٌّ، وَدَعْوَى بِلاَ
برهان، وَلَيْسَ نَسْخُ شَيْءٍ بِمُوجِبِ نَسْخِ شَيْءٍ آخَرَ، وَلَيْسَ إبَاحَةُ
اتِّخَاذِ شَيْءٍ بِمُبِيحٍ لِبَيْعِهِ، فَهَؤُلاَءِ هُمْ الْقَوْمُ الْمُبِيحُونَ
اتِّخَاذَ دُودِ الْقَزِّ، وَنَحْلِ الْعَسَلِ، وَلاَ يُحِلُّونَ ثَمَنَهُمَا
إضْلاَلاً وَخِلاَفًا لِلْحَقِّ، وَاِتِّخَاذُ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ حِلٌّ،
وَلاَ يَحِلُّ بِيَعُهُنَّ: فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الأَحْتِجَاجِ".
وَقَالُوا: "حُرِّمَ ثَمَنُ الْكَلْبِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ، فَلَمَّا
نُسِخَ تَحْرِيمُ كَسْبِ الْحَجَّامِ نُسِخَ تَحْرِيمُ ثَمَنِ الْكَلْبِ".
قال أبو محمد: "وَهَذَا كَذِبٌ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ، وَكَلاَمٌ فَاسِدٌ،
وَدَعْوَى بِلاَ برهان. وَيَلْزَمُهُمْ أَيْضًا أَنْ يُنْسَخَ أَيْضًا تَحْرِيمُ
مَهْرِ الزَّانِيَةِ، لأََنَّهُ ذُكِرَ مَعَهُمَا، ثُمَّ مَنْ لَهُمْ بِنَسْخِ
تَحْرِيمِ كَسْبِ الْحَجَّامِ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
فَوَضَحَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً، وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الآثَارَ
الْمُتَوَاتِرَةَ، وَصَاحِبَيْنِ لاَ يَصِحُّ خِلاَفُهُمَا"، عَنْ أَحَدٍ
مِنْ الصَّحَابَةِ فَإِنْ ذَكَرُوا قَضَاءَ عُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو بِقِيمَةِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ قلنا: " لَيْسَ هَذَا خِلاَفًا،
لأََنَّهُ لَيْسَ بَيْعًا، وَلاَ ثَمَنًا، إنَّمَا هُوَ قِصَاصُ مَالٍ، عَنْ
فَسَادِ مَالٍ فَقَطْ، وَلاَ ثَمَنَ لِمَيِّتٍ أَصْلاً".وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، وَأَبِي الْمُهَزِّمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
أَنَّهُمَا كَرِهَا ثَمَنَ الْكَلْبِ إِلاَّ كَلْبَ صَيْدٍ، وَكَرِهَا ثَمَنَ
الْهِرِّ وَأَبُو الْمُهَزِّمِ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَدْ خَالَفُوهُمَا فِي ثَمَنِ
الْهِرِّ كَمَا تَرَى. وَقَدْ رُوِّينَا إبَاحَةَ ثَمَنِ الْكَلْبِ، عَنْ عَطَاءٍ،
وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَرَبِيعَةَ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ إبَاحَةَ ثَمَنِ كَلْبِ
الصَّيْدِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا مَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَنْسَوْا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فَمَا لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَتَحِلُّ هِبَتُهُ
فَإِمْسَاكُ مَنْ عِنْدَهُ مِنْهُ فَضْلٌ، عَنْ حَاجَتِهِ ذَلِكَ: الْفَضْلُ
عَمَّنْ هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ ظُلْمٌ لَهُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمْهُ، وَلاَ
يُسْلِمْهُ" وَالظُّلْمُ وَاجِبٌ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا اتِّخَاذُهَا: فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ
الْكِلاَبِ ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ، عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: عَلَيْكُمْ
بِالأَسْوَدِ الْبَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ". وَمِنْ
طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا يَزِيدُ
بْنُ زُرَيْعٍ أَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَوْلاَ أَنَّ الْكِلاَبَ أُمَّةٌ مِنْ الأُُمَمِ لاََمَرْتُ بِقَتْلِهَا،
فَاقْتُلُوا مِنْهَا الأَسْوَدَ الْبَهِيمَ، وَأَيُّمَا قَوْمٍ اتَّخَذُوا كَلْبًا
لَيْسَ بِكَلْبِ حَرْثٍ، أَوْ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، فَإِنَّهُ يُنْقَصُ مِنْ
أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
(9/12)
حَدَّثَنَا حَرْمَلَةُ حَدَّثَنَا
ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ، وَلاَ مَاشِيَةٍ
وَلاَ أَرْضٍ، فَإِنَّهُ يُنْقَصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ"
وَتَدْخُلُ الدَّارُ فِي جُمْلَةِ الأَرْضِ، لأََنَّهَا أَرْضٌ. فَهَذِهِ
الأَحَادِيثُ فِيهَا نَصُّ مَاقلنا. وَقَدْ رُوِّينَا،عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ أُمِرْنَا بِقَتْلِ الْكَلْبِ الأَسْوَدِ،
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِي " كِتَابِ الصَّيْدِ " مِنْ
دِيوَانِنَا هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/13)
1514 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُ الْهِرِّ فَمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ لأََذَى الْفَأْرِ فَوَاجِبٌ وَعَلَى
مَنْ عِنْدَهُ مِنْهَا فَضْلٌ ، عَنْ حَاجَتِهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْهَا مَا
يَدْفَعُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الضَّرَرَ: كَمَا
قلنا فِيمَنْ اُضْطُرَّ إلَى الْكَلْبِ، وَلاَ فَرْقَ.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ
شَبِيبٍ قَالَ: ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ثَمَنِ
الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ؟ فَقَالَ: زَجَرَ، عَنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم.
قال أبو محمد: "الزَّجْرُ أَشَدُّ النَّهْيِ".وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ
بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ
كَرِهَ ثَمَنَ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ. فَهَذِهِ فُتْيَا جَابِرٍ لِمَا رُوِيَ،
وَلاَ نَعْرِفُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس، وَمُجَاهِدٍ
أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنَّ يُسْتَمْتَعَ بِمُسُوكِ السَّنَانِيرِ، وَأَثْمَانِهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ،
عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس، وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا كَرِهَا بَيْعَ الْهِرِّ،
وَثَمَنَهُ، وَأَكْلَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا.
وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ لاَ عِلْمَ لَهُ، وَلاَ وَرَعَ يَزْجُرُهُ، عَنِ الْكَذِبِ:
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ: رَوَيَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم إبَاحَةَ ثَمَنِ الْهِرِّ.
قال أبو محمد: "وَهَذَا لاَ نَعْلَمُهُ أَصْلاً مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ
تُعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ النَّقْلِ، وَأَمَّا صَحِيحَةٍ فَنَقْطَعُ بِكَذِبِ مَنْ
ادَّعَى ذَلِكَ جُمْلَةً.وَأَمَّا الْوَضْعُ فِي الْحَدِيثِ فَبَاقٍ مَا دَامَ
إبْلِيسُ وَأَتْبَاعُهُ فِي الأَرْضِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَهُمْ لَمَا كَانَ لَهُمْ
فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ كَانَ يَكُونُ مُوَافِقًا لِمَعْهُودِ الأَصْلِ بِلاَ
شَكٍّ وَلاَ مِرْيَةَ فِي أَنَّ حِينَ زَجْرِهِ عليه السلام، عَنْ ثَمَنِهِ
بَطَلَتْ الإِبَاحَةُ السَّالِفَةُ، وَنُسِخَتْ بِيَقِينٍ لاَ مَجَالَ لِلشَّكِّ
فِيهِ، فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمَنْسُوخَ قَدْ عَادَ فَقَدْ كَذَبَ وَافْتَرَى
وَأَفِكَ وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَحَاشَ لِلَّهِ أَنْ يَعُودَ مَا
نَسَخَ، ثُمَّ لاَ يَأْتِي بَيَانٌ بِذَلِكَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةُ اللَّهِ
تَعَالَى فِيمَا نَسَخَ وَفِيمَا بَقِيَ عَلَى الْمَأْمُورِينَ بِذَلِكَ مِنْ
عِبَادِهِ. هَيْهَاتَ دِينُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ
وَأَحْرَزُ. وَقَالَ الْمُبِيحُونَ لَهُ: لَمَّا صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ
دُخُولِ الْهِرِّ، وَالْكَلْبِ الْمُبَاحِ اتِّخَاذُهُ فِي
(9/13)
الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ،
وَالْمِلْكِ: جَازَ بَيْعُهُمَا".
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا جَاهَرُوا فِيهِ بِالْبَاطِلِ، وَبِخِلاَفِ
أُصُولِهِمْ أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ دَعْوَى بِلاَ
برهان ثُمَّ إنَّهُمْ يُجِيزُونَ دُخُولَ النَّحْلِ. وَدُودِ الْحَرِيرِ فِي
الْمِيرَاثِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْكَلْبِ عِنْدَهُمْ، وَلاَ يُجِيزُونَ
بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيُجِيزُونَ الْوَصِيَّةَ بِمَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ
مِنْ ثَمَرِ النَّخْلِ وَغَيْرِهَا، وَيُدْخِلُونَهُ فِي الْمِيرَاثِ وَلاَ
يُجِيزُونَ بَيْعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَظَهَرَ تَخَاذُلُهُمْ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/14)
ولا يحل البيع على ان تربحني
للديناردرهما
...
1515 - مَسْأَلَةٌ : وَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ عَلَى أَنْ تُرْبِحَنِي لِلدِّينَارِ
دِرْهَمًا، وَلاَ عَلَى أَنِّي أَرْبَحُ مَعَك فِيهِ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا،
فَإِنْ وَقَعَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا فَلَوْ تَعَاقَدَا الْبَيْعَ دُونَ هَذَا
الشَّرْطِ، لَكِنْ أَخْبَرَهُ الْبَائِعُ بِأَنَّهُ اشْتَرَى السِّلْعَةَ بِكَذَا
وَكَذَا، وَأَنَّهُ لاَ يَرْبَحُ مَعَهُ فِيهَا إِلاَّ كَذَا وَكَذَا فَقَدْ
وَقَعَ الْبَيْعُ صَحِيحًا، فَإِنْ وَجَدَهُ قَدْ كَذَبَ فِيمَا قَالَ لَمْ
يَضُرَّ ذَلِكَ الْبَيْعَ شَيْئًا، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ أَصْلاً، إِلاَّ
مِنْ عَيْبٍ فِيهِ أَوْ غَبْنٍ ظَاهِرٍ كَسَائِرِ الْبُيُوعِ، وَالْكَاذِبُ آثِمٌ
فِي كَذِبِهِ فَقَطْ.
برهان ذَلِكَ: أَنَّ الْبَيْعَ عَلَى أَنْ تُرْبِحَنِي كَذَا شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَالْعَقْدُ بِهِ بَاطِلٌ وَأَيْضًا
فَإِنَّهُ بَيْعٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، لأََنَّهُمَا إنَّمَا تَعَاقَدَا الْبَيْعَ
عَلَى أَنَّهُ يَرْبَحُ مَعَهُ لِلدِّينَارِ دِرْهَمًا، فَإِنْ كَانَ شِرَاؤُهُ
دِينَارًا غَيْرَ رُبُعٍ كَانَ الشِّرَاءُ بِذَلِكَ، وَالرِّبْحُ دِرْهَمًا غَيْرَ
رُبُعِ دِرْهَمٍ فَهَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ لاَ يَدْرِي مِقْدَارَهُ. فَإِذَا سَلِمَ
الْبَيْعُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ فَقَدْ وَقَعَ صَحِيحًا كَمَا أَمَرَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَكِذْبَةُ الْبَائِعِ مَعْصِيَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لَيْسَتْ مَعْقُودًا
عَلَيْهَا الْبَيْعُ، لَكِنْ كَزِنَاهُ لَوْ زَنَى، أَوْ شُرْبِهِ لَوْ شَرِبَ
الْخَمْرَ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ
الأَعْلَى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ
بَيْعَ " ده دوازده " مَعْنَاهُ أُرْبِحُك لِلْعَشَرَةِ اثْنَيْ عَشَرَ
وَهُوَ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ:
هُوَ رِبًا وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالاَ جَمِيعًا: أَنَا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: بَيْعُ " ده دوازده " رِبًا. وَقَالَ
عِكْرِمَةُ: هُوَ حَرَامٌ وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَكَرِهَهُ مَسْرُوقٌ وَقَالَ:
بَلْ أَشْتَرِيهِ بِكَذَا أَوْ أَبِيعُهُ بِكَذَا.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ أَجَازَهُ إذَا لَمْ يَأْخُذْ
لِلنَّفَقَةِ رِبْحًا. وَأَجَازَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٌ وَقَالَ ابْنُ
سِيرِينَ: لاَ بَأْسَ " ده دوازده " وَتُحْسَبُ النَّفَقَةُ عَلَى
الثِّيَابِ. وَلِمَنْ أَجَازَهُ تَطْوِيلٌ كَثِيرٌ فِيمَنْ ابْتَاعَ نَسِيئَةً،
وَبَاعَ نَقْدًا، وَفِيمَنْ اشْتَرَى فِي نَفَاقٍ، وَبَاعَ فِي كَسَادٍ، وَمَا يُحْسَبُ
كِرَاءِ الشَّدِّ وَالطَّيِّ، وَالصَّبَّاغِ، وَالْقَصَّارَةِ، وَمَا أُطْعِمَ
الْحُرْفَا، وَأُجْرَةِ السِّمْسَارِ، وَإِذَا ادَّعَى غَلَطًا، وَإِذَا انْكَشَفَ
أَنَّهُ كَذِبٌ وَكُلُّهُ رَأْيٌ فَاسِدٌ. لَكِنْ نَقُولُ: مَنْ اُمْتُحِنَ
بِالتِّجَارَةِ فِي بَلَدٍ لاَ ابْتِيَاعَ فِيهِ
(9/14)
إِلاَّ هَكَذَا فَلْيَقُلْ: قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا، وَبِحَسَبِ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَقُولُ: ابْتَعْته بِكَذَا، وَلاَ يَحْسِبُ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً، ثُمَّ يَقُولُ: لَكِنِّي لاَ أَبِيعُهُ عَلَى شِرَائِي، تُرِيدُ أَخْذَهُ مِنِّي بَيْعًا بِكَذَا وَكَذَا، وَإِلَّا فَدَعْ فَهَذَا بَيْعٌ صَحِيحٌ لاَ دَاخِلَةَ فِيهِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: "مَرَّ رَجُلٌ بِقَوْمٍ فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ثَوْبٌ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ بِكَمْ ابْتَعْتَهُ فَأَجَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: كَذَبْتَ وَفِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْتُهُ بِكَذَا وَكَذَا بِدُونِ مَا كَانَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقْ بِالْفَضْلِ" وَهُمْ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ، وَهَذَا مُرْسَلٌ قَدْ خَالَفُوهُ، لأََنَّهُ لَمْ يَرُدَّ بَيْعَهُ، وَلاَ حَطَّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ.
(9/15)
1516 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ عَلَى الرَّقْمِ، وَلاَ أَنْ يُغْرِ أَحَدًا بِمَا يُرَقِّمُ عَلَى سِلْعَتِهِ، لَكِنْ يُسَوِّمُ وَيُبَيِّنُ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَطْلُبُ عَلَى قِيمَةِ مَا يَبِيعُ، وَيَقُولُ: إنْ طَابَتْ نَفْسُك بِهَذَا، وَإِلَّا فَدَعْ .
(9/15)
1517 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، مِثْلُ: أَبِيعُك سِلْعَتِي بِدِينَارَيْنِ عَلَى أَنْ
تُعْطِيَنِي بِالدِّينَارَيْنِ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا. أَوْ كَمَنْ ابْتَاعَ
سِلْعَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ دَنَانِيرَ كُلَّ دِينَارٍ
بِعَدَدٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَمِثْلُ: أَبِيعُك سِلْعَتِي هَذِهِ بِدِينَارَيْنِ
نَقْدًا أَوْ بِثَلاَثَةٍ نَسِيئَةً. وَمِثْلِ أَبِيعُك سِلْعَتِي هَذِهِ بِكَذَا
وَكَذَا عَلَى أَنْ تَبِيعَنِي سِلْعَتَك هَذِهِ بِكَذَا وَكَذَا. فَهَذَا كُلُّهُ
حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا مَحْكُومٌ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ،
عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: " نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ" .
وَرُوِّينَا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ أَنَّهُمَا كَرِهَا
ذَلِكَ وَمَا نَعْلَمُ لِلْمَالِكِيِّينَ حُجَّةً إِلاَّ أَنَّهُمْ قَالُوا:
الْبَيْعَةُ الأُُولَى لَغْوٌ فَهَذَا الأَحْتِجَاجُ أَفْسَدُ مِنْ الْقَوْلِ
الَّذِي احْتَجُّوا لَهُ بِهِ، وَأَفْقَرُ إلَى حُجَّةٍ، لأََنَّهُ دَعْوَى
مُجَرَّدَةٌ، عَلَى أَنَّهُمْ أَتَوْا بِعَظَائِمَ طَرْدًا مِنْهُمْ لِهَذَا
الأَصْلِ الْفَاسِدِ: فَأَجَازُوا بَيْعَ هَذِهِ السِّلْعَةِ بِخِنْزِيرٍ، أَوْ
بِقِسْطِ خَمْرٍ، عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا بِالْخِنْزِيرِ، أَوْ الْخَمْرِ:
دِينَارَيْنِ وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ تَمْلاَُ الْفَمَ، وَيَكْفِي ذِكْرُهَا، عَنْ
تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَمَا الدَّيَّانَةُ كُلُّهَا إِلاَّ
بِأَسْمَائِهَا وَأَعْمَالِهَا، لاَ بِأَحَدِ الأَمْرَيْنِ دُونَ الآخَرِ.
وَنَحْنُ نَجِدُ الْمُسْتَقْرِضَ يَقُولُ: أَقْرِضْنِي دِينَارَيْنِ عَلَى أَنْ
أَرُدَّ لَك دِينَارَيْنِ إلَى شَهْرٍ لَكَانَ قَوْلاً حَسَنًا، وَعَمَلاً
صَحِيحًا، فَلَوْ قَالَ لَهُ يَعْنِي دِينَارَيْنِ بِدِينَارَيْنِ إلَى شَهْرٍ
لَكَانَ قَوْلاً خَبِيثًا، وَعَمَلاً فَاسِدًا، حَرَامًا، وَالْعَمَلُ وَاحِدٌ
وَالصِّفَةُ وَاحِدَةٌ وَمَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ اللَّفْظُ. وَلَوْ قَالَ
امْرُؤٌ لأَخَرَ: أَبِحْنِي وَطْءَ ابْنَتِك بِدِينَارٍ مَا شِئْت فَقَالَ لَهُ:
نَعَمْ لَكَانَ قَوْلاً حَرَامًا: وَزِنًا مُجَرَّدًا، فَلَوْ قَالَ لَهُ:
زَوِّجْنِيهَا بِدِينَارٍ، لَكَانَ قَوْلاً صَحِيحًا، وَعَمَلاً صَحِيحًا،
وَالصِّفَةُ وَاحِدَةٌ، وَالْعَمَلُ
(9/15)
1518 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ
صَفْقَةٍ جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلاَلاً فَهِيَ بَاطِلٌ كُلُّهَا، لاَ يَصِحُّ
مِنْهَا شَيْءٌ مِثْلُ: أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمَبِيعِ مَغْصُوبًا، أَوْ لاَ
يَحِلُّ مِلْكُهُ، أَوْ عَقْدًا فَاسِدًا وَسَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ الصَّفْقَةِ،
أَوْ أَكْثَرَهَا، أَوْ أَدْنَاهَا، أَوْ أَعْلاَهَا، أَوْ أَوْسَطَهَاوقال مالك:
إنْ كَانَ ذَلِكَ وَجْهَ الصَّفْقَةِ بَطَلَتْ كُلُّهَا وَإِنْ كَانَ شَيْئًا
يَسِيرًا بَطَلَ الْحَرَامُ، وَصَحَّ الْحَلاَلُ.
قال علي: "وهذا قَوْلٌ فَاسِدٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ، لاَ مِنْ
قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ،
وَلاَ قِيَاسٍ. وَمِنْ الْعَجَائِبِ احْتِجَاجُهُمْ لِذَلِكَ بِأَنْ قَالُوا: إنَّ
وَجْهَ الصَّفْقَةِ هُوَ الْمُرَادُ وَالْمَقْصُودُ".فَقُلْنَا لَهُمْ:
فَكَانَ مَاذَا وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ بِذَلِكَ مَا ذَكَرْتُمْ وَمَا هُوَ إِلاَّ
قَوْلُكُمْ احْتَجَجْتُمْ لَهُ بِقَوْلِكُمْ، فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ. وَقَالَ
آخَرُونَ: يَصِحُّ الْحَلاَلُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَيَبْطُلُ الْحَرَامُ قَلَّ أَوْ
كَثُرَ.
قال أبو محمد: "فَوَجَدْنَا هَذَا الْقَوْلَ يُبْطِلُهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَهَذَانِ لَمْ يَتَرَاضَيَا بِبَعْضِ
الصَّفْقَةِ دُونَ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا تَرَاضَيَا بِجَمِيعِهَا، فَمَنْ
أَلْزَمَهُمَا بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ أَلْزَمَهُمَا
(9/16)
مَا لَمْ يَتَرَاضَيَا بِهِ حِينَ الْعَقْدِ، فَخَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَحَكَمَ بِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ حَرَامٌ بِالْقُرْآنِ، فَإِنْ تَرَاضَيَا الآنَ بِذَلِكَ لَمْ نَمْنَعْهُمَا، وَلَكِنْ بِعَقْدٍ مُجَرَّدٍ بِرِضَاهُمَا مَعًا، لأََنَّ الْعَقْدَ الأَوَّلَ لَمْ يَقَعْ هَكَذَا.وَأَيْضًا: فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ تِلْكَ الصَّفْقَةِ لَمْ يَتَعَاقَدَا صِحَّتَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ الْبَاطِلِ الَّذِي لاَ صِحَّةَ لَهُ، وَكُلُّ مَا لاَ صِحَّةَ لَهُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ أَبَدًا فَلاَ صِحَّةَ لَهُ أَبَدًا وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/17)
1519 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُ الْحُرِّ . برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ،
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مَرْحُومٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: "ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ
أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ
اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ" .
قَالَ عَلِيٌّ: "وَفِي هَذَا خِلاَفٌ قَدِيمٌ وَحَدِيثٌ، نُورِدُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ مَا يَسَّرَ لأَِيرَادِهِ، لِيَعْلَمَ مُدَّعِي
الإِجْمَاعِ فِيمَا هُوَ أَخْفَى مِنْ هَذَا أَنَّهُ كَاذِبٌ" رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مَهْدِيٍّ وَمُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ،
حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى وَقَالَ مُعَاذٌ: نَا أَبِي ثُمَّ اتَّفَقَ
هِشَامٌ، وَهَمَّامٌ، كِلاَهُمَا: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بُرَيْدَةَ: أَنَّ رَجُلاً بَاعَ نَفْسَهُ، فَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
بِأَنَّهُ عَبْدٌ كَمَا أَقَرَّ نَفْسَهُ، وَجَعَلَ ثَمَنَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ هَذَا لَفْظُ هَمَّامٍ وَأَمَّا لَفْظُ هِشَامٍ فَإِنَّهُ أَقَرَّ
لِرَجُلٍ حَتَّى بَاعَهُ، وَاتَّفَقَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ
فِي كِلاَ اللَّفْظَيْنِ، وَلاَ بُدَّ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ
عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: إذَا أَقَرَّ عَلَى
نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ فَهُوَ عَبْدٌ.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ فِيمَنْ سَاقَ إلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً حُرًّا فَقَالَ إبْرَاهِيمُ:
هُوَ رَهْنٌ بِمَا جَعَلَ فِيهِ حَتَّى يَفْتَكَّ نَفْسَهُ. وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ
أَوْفَى قَاضِي الْبَصْرَةِ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّهُ بَاعَ حُرًّا فِي دَيْنٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ وَهِيَ قَوْلَةٌ غَرِيبَةٌ
لاَ يَعْرِفُهَا مِنْ أَصْحَابِهِ إِلاَّ مَنْ تَبَحَّرَ فِي الْحَدِيثِ
وَالآثَارِ.
قال علي: "هذا قَضَاءُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله
عنهم،، وَلاَ يَعْتَرِضُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ مُعْتَرِضٌ، فَإِنْ شَنَّعُوا
هَذَا قلنا: يَا هَؤُلاَءِ لاَ عَلَيْكُمْ، وَاَللَّهِ لَقَدْ قُلْتُمْ بِأَشْنَعَ
مِنْ هَذَا وَأَشَدَّ وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَفْسِهَا". أَلَيْسَ الْحَنَفِيُّونَ
يَقُولُونَ: إنْ ارْتَدَّ الْحَسَنِيُّ، أَوْ الْحُسَيْنِيُّ، أَوْ الْعَبَّاسِيُّ
أَوْ الْمَنَافِيُّ، أَوْ الْقُرَشِيُّ، فَلَحِقَ بِأَرْضِ الْحَرْبِ فَإِنْ
وُلِدَ وَلَدُهُ يُسْتَرَقُّونَ، وَإِنْ أَسْلَمُوا كَانُوا عَبِيدًا وَأَنَّ
الْقُرَشِيَّةَ إنْ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ سُبِيَتْ
وَأُرِقَّتْ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً تُبَاحُ
(9/17)
وَيُسْتَحَلُّ فَرْجُهَا بِمِلْكِ
الْيَمِينِ، وَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ تُرِكَتْ عَلَى كُفْرِهَا، وَجَازَ أَنْ
يَسْتَرِقَّهَا الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ أَوَ لَيْسَ ابْنُ الْقَاسِمِ
صَاحِبَ مَالِكٍ يَقُولُ: "إنْ تَذَمَّمَ أَهْلُ الْحَرْبِ وَفِي أَيْدِيهِمْ
أَسْرَى مُسْلِمُونَ، وَمُسْلِمَاتٌ أَحْرَارٌ، وَحَرَائِرُ، فَإِنَّهُمْ
يُقَرُّونَ عَبِيدًا لَهُمْ وَأَمَّا يَتَمَلَّكُونَهُمْ وَيَتَبَايَعُونَهُمْ
فَأُفٍّ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَتُفٍّ"، فَأَيُّهُمَا أَشْنَعُ مِمَّا
لَمْ يُقَلِّدُوا فِيهِ عُمَرَ، وَعَلِيًّا رضي الله عنهما؟.
قال أبو محمد: "كُلُّ مَنْ صَارَ حُرًّا بِعِتْقٍ، أَوْ بِأَنْ كَانَ ابْنَ
حُرٍّ مِنْ أَمَةٍ لَهُ، أَوْ بِأَنْ حَمَلَتْ بِهِ حُرَّةٌ، أَوْ بِأَنْ
أُعْتِقَتْ أَمَةٌ وَهِيَ حَامِلٌ بِهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِهِ الْمُعْتِقُ، فَإِنَّ
الْحُرِّيَّةَ قَدْ حَصَلَتْ لَهُ، فَلاَ تَبْطُلُ عَلَيْهِ، وَلاَ عَمَّنْ
تَنَاسَلَ مِنْهُ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ مِنْ الْوِلاَدَةِ
الَّتِي ذَكَرْنَا أَبَدًا، لاَ بِأَنْ يَرْتَدَّ، وَلاَ بِأَنْ تَرْتَدَّ، وَلاَ
بِأَنْ يُسْبَى، وَلاَ بِأَنْ يَرْتَدَّ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ وَإِنْ بَعُدَ، أَوْ
جَدَّتُهُ وَإِنْ بَعُدَتْ، وَلاَ بِلَحَاقِ بِأَرْضِ الْحَرْبِ مِنْ أَحَدِ
أَجْدَادِهِ، أَوْ جَدَّاتِهِ أَوْ مِنْهُ أَوْ مِنْهَا: وَلاَ بِإِقْرَارِهِ
بِالرِّقِّ، وَلاَ بِدَيْنٍ، وَلاَ بِبَيْعِهِ نَفْسِهِ، وَلاَ بِوَجْهٍ مِنْ
الْوُجُوهِ أَبَدًا لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَقَدْ
جَاءَ أَثَرٌ بِأَنَّ الْحُرَّ كَانَ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ فِي صَدْرِ
الإِسْلاَمِ إلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/18)
ولا يحل بيع أمة من سيدها
...
1520 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ أَمَةٍ حَمَلَتْ مِنْ سَيِّدِهَا، لِمَا
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ
سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَعِيدٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيِّ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ
الْجَزَرِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "لَمَّا وَلَدَتْ
مَارِيَةُ إبْرَاهِيمَ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا" وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحُ السَّنَدِ وَالْحُجَّةُ
بِهِ قَائِمَةٌ.
فإن قيل: "الثَّابِتُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلُ بِجَوَازِ بَيْعِ
أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ، وهذا الخبر مِنْ رِوَايَتِهِ، فَمَا كَانَ لِيَتْرُكَ مَا
رُوِيَ إِلاَّ لِضَعْفِهِ عِنْدَهُ، وَلِمَا هُوَ أَقْوَى عِنْدَهُ" قلنا:
لَسْنَا نُعَارَضُ مَعْشَرَ الظَّاهِرِيِّينَ بِهَذَا الْغُثَاءِ مِنْ الْقَوْلِ،
وَلاَ يَعْتَرِضُ بِهَذَا عَلَيْنَا إِلاَّ ضِعَافُ الْعَقْلِ، لأََنَّ الْحُجَّةَ
عِنْدَنَا فِي الرِّوَايَةِ، لاَ فِي الرَّأْيِ، يُعَارِضُ بِهَذَا مَنْ
يَتَعَلَّقُ بِهِ إذَا عُورِضَ بِالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ. وَهُوَ مُخَالِفٌ لَهَا
مِنْ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، الَّذِينَ لاَ يُبَالُونَ
بِالتَّنَاقُضِ فِي ذَلِكَ، مَرَّةً هَكَذَا وَمَرَّةً هَكَذَا، وَاَلَّذِينَ لاَ
يُبَالُونَ بِأَنْ يَدَّعُوا هَهُنَا الإِجْمَاعَ ثُمَّ لاَ يُبَالُونَ بِأَنْ
يَجْعَلُوا: ابْنَ مَسْعُودٍ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، مُخَالِفِينَ لِلإِجْمَاعِ فَهَذِهِ صِفَةُ عِلْمِهِمْ
بِالسُّنَنِ، وَهَذَا مِقْدَارُ عِلْمِهِمْ بِالإِجْمَاعِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
قال أبو محمد: "إذَا وَقَعَ مَنِيُّ السَّيِّدِ فِي فَرْجِ أَمَتِهِ
فَأَمْرُهَا مُتَرَقَّبٌ، فَإِنْ بَقِيَ حَتَّى يَصِيرَ خَلْقًا يَتَبَيَّنُ
أَنَّهُ وَلَدٌ فَهِيَ حَرَامٌ بَيْعُهَا مِنْ حِينِ سُقُوطِ الْمَنِيِّ فِي
فَرْجِهَا وَيُفْسَخُ بَيْعُهَا إنْ بِيعَتْ
(9/18)
وَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ خَلْقًا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَلَدٌ، فَلَمْ يَحْرُمْ بَيْعُهَا قَطُّ. وبرهان صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ الْمَنْعُ مِنْ الْبَيْعِ فِي الْحَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَكَانَ بَيْعُهَا حَلاَلاً، لَوْ كَانَ بَيْعُهَا حَلاَلاً لَحَلَّ فَرْجُهَا لِمُشْتَرِيهَا قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ الْمَنِيُّ وَلَدًا وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ الْمَذْكُورِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَيِّتِ إثْرَ كَوْنِ مَنِيِّهِ فِي فَرْجِ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ مُتَرَقِّبٌ أَيْضًا، فَإِنْ وُلِدَ حَيًّا عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ مِيرَاثُهُ بِمَوْتِ أَبِيهِ، وَإِنْ وُلِدَ مَيِّتًا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ قَطُّ مِيرَاثٌ، إذْ لَوْ كَانَ غَيْرَ هَذَا لَمَا حَدَثَ لَهُ حَقٌّ فِي مِيرَاثٍ قَدْ اسْتَحَقَّهُ غَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/19)
1521 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُ الْهَوَاءِ أَصْلاً، كَمَنْ بَاعَ مَا عَلَى سَقْفِهِ وَجُدْرَانِهِ
لِلْبِنَاءِ عَلَى ذَلِكَ، فَهَذَا بَاطِلٌ مَرْدُودٌ أَبَدًا، لأََنَّ الْهَوَاءَ
لاَ يَسْتَقِرُّ فَيُضْبَطُ بِمِلْكٍ أَبَدًا، وَإِنَّمَا هُوَ مُتَمَوِّجٌ يَمْضِي
مِنْهُ شَيْءٌ وَيَأْتِي آخَرُ أَبَدًا، فَكَانَ يَكُونُ بَيْعُهُ أَكْلَ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ، لأََنَّهُ بَاعَ مَا لاَ يَمْلِكُ، وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى
إمْسَاكِهِ، فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ، وَبَيْعُ مَا لاَ يَمْلِكُ، وَبَيْعُ
مَجْهُولٍ. فإن قيل: إنَّمَا بِيعَ الْمَكَانُ لاَ الْهَوَاءُ
قلنا: لَيْسَ هُنَاكَ مَكَانٌ أَصْلاً غَيْرَ الْهَوَاءِ، فَلَوْ كَانَ مَا
قُلْتُمْ لَكَانَ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا أَصْلاً، لأََنَّهُ عَدَمٌ فَهُوَ أَكْلُ
مَالٍ بِالْبَاطِلِ حَقًّا. فإن قيل: إنَّمَا بَاعَ سَطْحَ سَقْفِهِ وَجُدْرَانِهِ
قلنا: هَذَا بَاطِلٌ وَهُوَ أَيْضًا شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
فَهُوَ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ شَرَطَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ شَيْئًا مِنْ سَقْفِهِ،
وَلاَ مِنْ رُءُوسِ جُدْرَانِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ
بِإِبَاحَتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا
الْقَوْلَ، عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ
الْقِسْمَةِ " وَأَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ
شَيْئًا وَيَمْلِكُ غَيْرُهُ الْعُلُوَّ الَّذِي عَلَيْهِ وَمَنْ بَاعَ سَقْفَهُ
فَقَطْ فَحَلاَلٌ، وَيُؤْخَذُ الْمُشْتَرِي بِإِزَالَةِ مَا اشْتَرَى، عَنْ مَكَان
مِلْكُهُ لِغَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/19)
ولا يجوز بيع من لا يعقل لسكر أو
لجنون
...
1522 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَنْ لاَ يَعْقِلُ لِسُكْرٍ، أَوْ جُنُونٍ،
وَلاَ يَلْزَمُهُمَا، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} . فَشَهِدَ عَزّ وَجَلَّ
بِأَنَّ السَّكْرَانَ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ، وَالْبَيْعُ قَوْلٌ، أَوْ مَا
يَقُومُ مَقَامَ الْقَوْلِ: مِمَّنْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْقَوْلِ مِمَّنْ بِهِ
آفَةٌ مِنْ الْخَرَسِ أَوْ بِفَمِهِ آفَةٌ، فَمَنْ لاَ يَدْرِي مَا يَقُولُ فَلَمْ
يَبِعْ شَيْئًا، وَلاَ ابْتَاعَ شَيْئًا وَأَجَازَهُ قَوْمٌ، وَلاَ نَعْلَمُ
لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً أَكْثَرَ مِنْ أَنْ قَالُوا: هُوَ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى
وَعَزَّ وَجَلَّ وَأَدْخَلَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ.فَقُلْنَا نَعَمْ، وَحَقُّهُ
عَلَى ذَلِكَ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا، وَالنَّارُ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ أَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُوجِبِ إلْزَامِهِ حُكْمًا
زَائِدًا لَمْ يُلْزِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ، وَهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي
سَكْرَانَ عَرْبَدَ فَوَقَعَ فَانْكَسَرَتْ سَاقُهُ، فَإِنَّ لَهُ مِنْ
الرُّخْصَةِ فِي الصَّلاَةِ قَاعِدًا كَاَلَّذِي أَصَابَهُ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ فَرْقَ. وَكَذَلِكَ التَّيَمُّمُ إذَا جُرِحَ جِرَاحَاتٍ
(9/19)
1523- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، إِلاَّ فِيمَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ ضَرُورَةً،
كَطَعَامٍ لأََكْلِهِ وَثَوْبٍ يَطْرُدُ بِهِ، عَنْ نَفْسِهِ الْبَرْدَ
وَالْحَرَّ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى إذَا أَغْفَلَهُ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ
وَضَيَّعُوهُ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرْنَا،
فَإِذَا ضَيَّعَهُ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ فَاشْتَرَى مَا ذَكَرْنَا بِحَقِّهِ، فَقَدْ
وَافَقَ الْوَاجِبَ، وَعَلَى أَهْلِ مَحَلَّتِهِ إمْضَاؤُهُ، فَلاَ يَحِلُّ
لأََحَدٍ رَدُّ الْحَقِّ وَتَكُونُ مُبَايَعَتُهُ حِينَئِذٍ إنْ كَانَ جَائِزَ
الأَمْرِ هُوَ الَّذِي عَقَدَ ذَلِكَ الْعَقْدَ عَلَيْهِ، فَهُوَ عَقْدٌ صَحِيحٌ،
فَإِنْ كَانَ أَيْضًا غَيْرَ جَائِزِ الأَمْرِ فَهُوَ كَمَا ذَكَرْنَا عَمَلٌ
وَافَقَ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فَلاَ يَجُوزُ رَدُّهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا بَيْعُ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِ ذَلِكَ
الآخَرِ، وَابْتِيَاعُهُ لَهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ نَافِذٌ جَائِزٌ، لأََنَّ يَدَهُ
وَعَقْدَهُ إنَّمَا هُمَا يَدُ الآمِرِ وَعَقْدُهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/20)
1524 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ نِصْفِ هَذِهِ الدَّارِ، وَلاَ هَذَا الثَّوْبِ أَوْ هَذِهِ الأَرْضِ، أَوْ هَذِهِ الْخَشَبَةِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَكَذَلِكَ ثُلُثُهَا أَوْ رُبُعُهَا أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، فَلَوْ عُلِمَ مُنْتَهَى كُلِّ ذَلِكَ جَازَ، لأََنَّهُ مَا لَمْ يُعْلَمْ بَيْعُ مَجْهُولٍ، وَبَيْعُ الْمَجْهُولِ لاَ يَجُوزُ، لأََنَّ التَّرَاضِيَ لاَ يَقَعُ عَلَى مَجْهُولٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/20)
ولا يجوز بيع دار أو بيت أو أرض
لا طريق لها
...
1525 - مَسْأَلَةٌ: لاَ يَجُوزُ بَيْعُ دَارٍ أَوْ بَيْتٍ أَوْ أَرْضٍ لاَ طَرِيقَ
إلَيْهَا لأََنَّهُ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ طَرِيقًا
لَمْ يَبِعْهُ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُتَّصِلاً بِمَالِ الْمُشْتَرِي جَازَ ذَلِكَ
الْبَيْعُ، لأََنَّهُ يَصِلُ إلَى مَا اشْتَرَى فَلاَ تَضْيِيعَ، فَلَوْ
اُسْتُحِقَّ مَالُ الْمُشْتَرِي بَطَلَ هَذَا الشِّرَاءُ، لأََنَّهُ وَقَعَ
فَاسِدًا إذَا كَانَ لاَ طَرِيقَ لَهُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ.
(9/20)
1526 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ جُمْلَةٍ مَجْهُولَةِ الْقَدْرِ عَلَى أَنَّ كُلَّ صَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ رَطْلٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ ذِرَاعٍ مِنْهَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ كُلَّ أَصْلٍ مِنْهَا، أَوْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِكَذَا وَكَذَا وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ الْمَقَادِيرِ وَالأَعْدَادِ، فَإِنْ عَلِمَا جَمِيعًا مِقْدَارَ مَا فِيهَا مِنْ الْعَدَدِ، أَوْ الْكَيْلِ، أَوْ الْوَزْنِ أَوْ الذَّرْعِ، وَعَلِمَا قَدْرَ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ: جَازَ ذَلِكَ، فَإِنْ بِيعَتْ الْجُمْلَةُ
(9/20)
ولا يحلا بيع الولاء لا هبته
...
1527 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْوَلاَءِ، وَلاَ هِبَتُهُ : لِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمَالِكٍ،
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، كُلِّهِمْ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ
الْوَلاَءِ وَهِبَتِهِ" . وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الأُُمَّةُ فِي هَذَا،
وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " فِي الْعِتْقِ " مِنْ
دِيوَانِنَا هَذَا، وَلاَ حَوْلَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ
الْعَظِيمِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(9/21)
1528 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْبَيْعِ، وَهُوَ مَرْدُودٌ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ عَفَا لأَُمَّتِي، عَنِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ تَرَاضٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، إِلاَّ بَيْعًا أَوْجَبَهُ النَّصُّ، كَالْبَيْعِ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَهُوَ غَائِبٌ، أَوْ مُمْتَنِعٌ مِنْ الإِنْصَافِ، لأََنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِنْصَافِ ذِي الْحَقِّ قِبَلَهُ، وَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ. وَبِمَنْعِهِ مِنْ الْمَطْلِ الَّذِي هُوَ الظُّلْمُ، وَإِذْ لاَ سَبِيلَ إلَى مَنْعِهِ مِنْ الظُّلْمِ إِلاَّ بِبَيْعِ بَعْضِ مَالِهِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ
(9/21)
1529 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا
الْمُضْطَرُّ إلَى الْبَيْعِ، كَمَنْ جَاعَ وَخَشِيَ الْمَوْتَ فَبَاعَ فِيمَا
يُحْيِي بِهِ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ، وَكَمَنْ لَزِمَهُ فِدَاءُ نَفْسِهِ أَوْ
حَمِيمِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ أَوْ كَمَنْ أَكْرَهَهُ ظَالِمٌ عَلَى غُرْمِ
مَالِهِ بِالضَّغْطِ وَلَمْ يُكْرِهْهُ عَلَى الْبَيْعِ، لَكِنْ أَلْزَمَهُ
الْمَالَ فَقَطْ، فَبَاعَ فِي أَدَاءِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ
فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا صَالِحُ بْنُ رُسْتُمَ، حَدَّثَنَا شَيْخٌ
مِنْ بَنِي تَمِيمٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيٌّ، أَوْ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: "
سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ يَعَضُّ الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي
يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ، قَالَ: ، {تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}
يَنْهَدُ الأَشْرَارُ، وَيُسْتَذَلُّ الأَخْيَارُ، وَيُبَايِعُ الْمُضْطَرُّونَ
وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْمُضْطَرِّ،
وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُطْعَمَ" به
إلى هُشَيْمٍ، عَنْ كَوْثَرَ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، قَالَ: بَلَغَنِي،
عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ حَدَّثَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ بَعْدَ زَمَانِكُمْ هَذَا زَمَانًا عَضُوضًا يَعَضُّ
الْمُوسِرُ عَلَى مَا فِي يَدَيْهِ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ" , قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {وما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ} َيَنْهَدُ شِرَارُ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى يُبَايِعُونَ كُلَّ
مُضْطَرٍّ، أَلاَ إنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّينَ حَرَامٌ، الْمُسْلِمُ أَخُو
الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يَخُونُهُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ
فَعُدْ بِهِ عَلَى أَخِيكَ، وَلاَ تَزِدْهُ هَلاَكًا إلَى هَلاَكِهِ.
قال أبو محمد: لَوْ اسْتَنَدَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ لَقُلْنَا بِهِمَا
مُسَارِعِينَ، لَكِنَّهُمَا مُرْسَلاَنِ، وَلاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي الدِّينِ
بِالْمُرْسَلِ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مِنْ رَدِّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ بِرِوَايَةِ
شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَيَقُولُ: الْمُرْسَلُ كَالْمُسْنَدِ مِنْ
الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ أَنْ يَقُولَ: "ِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ
شَيْخٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، وَشَيْخٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ", وَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ أَمْكَنُ وَأَوْضَحُ، ثُمَّ هِيَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَعَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ
مُضْطَرِبُونَ.
قال أبو محمد: "َإِذَا لَمْ يَصِحَّ هَذَانِ الْخَبَرَانِ فَلْنَطْلُبْ هَذَا
الْحُكْمَ مِنْ غَيْرِهِمَا: فَوَجَدْنَا كُلَّ مَنْ يَبْتَاعُ قُوتَ نَفْسِهِ
وَأَهْلِهِ لِلأَكْلِ وَاللِّبَاسِ فَإِنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى ابْتِيَاعِهِ بِلاَ
شَكٍّ", فَلَوْ بَطَلَ ابْتِيَاعُ هَذَا الْمُضْطَرِّ لَبَطَلَ بَيْعُ كُلِّ
مَنْ لاَ يُصِيبُ الْقُوتَ مِنْ ضَيْعَتِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَبِضَرُورَةِ
النَّقْلِ مِنْ الْكَوَافِّ وَقَدْ ابْتَاعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
أَصْوُعًا مِنْ شَعِيرٍ لِقُوتِ أَهْلِهِ، وَمَاتَ عليه السلام وَدِرْعُهُ
مَرْهُونَةٌ فِي ثَمَنِهَا فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَ الْمُضْطَرِّ إلَى قُوتِهِ
وَقُوتِ أَهْلِهِ، وَبَيْعَهُ مَا يَبْتَاعُ بِهِ الْقُوتَ
(9/22)
بَيْعٌ صَحِيحٌ لاَزِمٌ، فَهُوَ أَيْضًا بَيْعُ تَرَاضٍ لَمْ يُجْبِرْهُ أَحَدٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ صَحِيحٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَنْ بَاعَ فِي إنْقَاذِ نَفْسِهِ، أَوْ حَمِيمِهِ، مِنْ يَدِ كَافِرٍ أَوْ ظُلْمِ ظَالِمٍ: فَوَجَدْنَا الْكَافِرَ وَالظَّالِمَ لَمْ يُكْرِهَا فَادِيَ الأَسِيرِ، وَلاَ الأَسِيرَ، وَلاَ الْمَضْغُوطَ عَلَى بَيْعِ مَا بَاعُوا فِي اسْتِنْقَاذِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مَنْ يَسْعَوْنَ لأَسْتِنْقَاذِهِ وَإِنَّمَا أَكْرَهُوهُمْ عَلَى إعْطَاءِ الْمَالِ فَقَطْ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَتَوْهُمَا بِمَالٍ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ مِنْ غَيْرِ الْبَيْعِ مَا أَلْزَمُوهُمَا الْبَيْعَ فَصَحَّ أَنَّهُ بَيْعُ تَرَاضٍ. وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ طُلِبَ بِبَاطِلٍ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يُغَيِّرَ الْمُنْكَرَ الَّذِي نَزَلَ بِهِ لاَ أَنْ يُعْطِيَ مَالَهُ بِالْبَاطِلِ فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَهُ صَحِيحٌ لاَزِمٌ لَهُ، وَأَنَّ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي لاَ يَلْزَمُهُ، فَهُوَ بَاقٍ فِي مِلْكِهِ كَمَا كَانَ يَقْضِي لَهُ بِهِ مَتَى قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَأْخُذُهُ مِنْ الظَّالِمِ، وَمِنْ الْحَرْبِيِّ الْكَافِرِ، مَتَى أَمْكَنَهُ أَوْ مَتَى وَجَدَهُ فِي مَغْنَمٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ، مِنْ يَدِ مَنْ وَجَدَهُ فِي يَدِهِ، مِنْ مُسْلِمٍ، أَوْ ذِمِّيٍّ، أَوْ مِنْ يَدِ ذَلِكَ الْكَافِرِ، لَوْ تَذَمَّمَ، أَوْ أَسْلَمَ أَبَدًا هَذَا إذَا وَجَدَ ذَلِكَ الْمَالَ بِعَيْنِهِ، لأََنَّهُ مَالُهُ كَمَا كَانَ، وَلاَ يُطْلَبُ الْكَافِرُ بِغَيْرِهِ بَدَلاً مِنْهُ، لأََنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ أَوْ تَذَمَّمَ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِمَا سَلَفَ مِنْ ظُلْمٍ أَوْ قَتْلٍ.وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الظَّالِمُ فَيَتْبَعُهُ بِهِ أَبَدًا، أَوْ بِمِثْلِهِ، أَوْ قِيمَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ خَارِجِيًّا أَوْ مُحَارِبًا، أَوْ بَاغِيًا، أَوْ سُلْطَانًا، أَوْ مُتَغَلِّبًا، لأََنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُّوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
(9/23)
1530 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْحَيَوَانِ إِلاَّ لِمَنْفَعَةٍ، إمَّا لأََكْلٍ، وَأَمَّا لِرُكُوبٍ، وَأَمَّا لِصَيْدٍ وَأَمَّا لِدَوَاءٍ . فَإِنْ كَانَ لاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ، وَلاَ مِلْكُهُ، لأََنَّهُ إضَاعَةُ مَالٍ مِنْ الْمُبْتَاعِ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ مِنْ الْبَائِعِ. فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، أَوْ لِغَيْرِهِ جَازَ بَيْعُهُ، لأََنَّهُ بَيْعٌ، عَنْ تَرَاضٍ، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَلَيْسَ إضَاعَةَ مَالٍ، وَلاَ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/23)
1531 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَصِحُّ
الْبَيْعُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ مُسَمًّى، كَمَنْ بَاعَ بِمَا يَبْلُغُ فِي السُّوقِ،
أَوْ بِمَا اشْتَرَى فُلاَنٌ، أَوْ بِالْقِيمَةِ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ،
لأََنَّهُ بَيْعُ غَرَرٍ، وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، لأََنَّهُ لَمْ يَصِحَّ
فِيهِ التَّرَاضِي، وَلاَ يَكُونُ التَّرَاضِي إِلاَّ بِمَعْلُومِ الْمِقْدَارِ،
وَقَدْ يَرْضَى، لأََنَّهُ يَظُنُّ أَنَّهُ يَبْلُغُ ثَمَنًا مَا فَإِنْ بَلَغَ
أَكْثَرَ لَمْ يَرْضَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ بَلَغَ أَقَلَّ لَمْ يَرْضَ
الْبَائِعُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: مَنْ بَاعَ بِالرِّبْحِ،
أَوْ بِالْكَعْبَةِ، أَوْ بِلاَ ثَمَنٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ،
فَإِنْ بَاعَ بِالْمَيْتَةِ، أَوْ بِالدَّمِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا. وَلاَ يَجُوزُ
عِتْقُهُ لَهُ وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ بَائِعِهِ فَإِنْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ لَمْ
يُسَمِّيَاهُ، أَوْ بَاعَهُ بِخَمْرٍ، أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَبَضَهُ بِإِذْنِ
بَائِعِهِ فَأَعْتَقَهُ: جَازَ عِتْقُهُ لَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: مَا فِي الْجُنُونِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا الْكَلاَمِ وَنَعُوذُ
بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ. فَإِنْ قَالَ: إنَّ
(9/23)
1532 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُ النَّرْدِ، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ
مَيْسَرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ
" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ
فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ" فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فَمِلْكُهَا حَرَامٌ،
وَبَيْعُهَا حَرَامٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ يَلْعَبُ بِالنَّرْدِ
ضَرَبَهُ وَكَسَرَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا بَلَغَهَا أَنَّ أَهْلَ بَيْتٍ فِي دَارِهَا كَانُوا
سُكَّانًا فِيهَا أَنَّ عِنْدَهُمْ نَرْدًا فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِمْ لَئِنْ لَمْ
تُخْرِجُوهَا لاَُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ دَارِي وَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِمْ.
(9/24)
ولا يحل أن يبيع اثنان سلعتين
متميزيتن
...
1533 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَبِيعَ اثْنَانِ سِلْعَتَيْنِ
مُتَمَيِّزَتَيْنِ لَهُمَا لَيْسَا فِيهِمَا شَرِيكَيْنِ مِنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ
بِثَمَنٍ وَاحِدٍ، لأََنَّ هَذَا بَيْعٌ بِالْقِيمَةِ، وَلاَ يَدْرِي كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَقَعُ لِسِلْعَتِهِ حِينَ الْعَقْدِ فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ،
وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَمَّا بَيْعُ الشَّرِيكَيْنِ، أَوْ الشُّرَكَاءِ
مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَكْثَرَ أَوْ ابْتِيَاعُ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، مِنْ
وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ شَرِيكَيْنِ: فَحَلاَلٌ، لأََنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهَا مَعْلُومَةُ الثَّمَنِ، مَحْدُودَتُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(9/24)
1534 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فِي بَلَدٍ تَجْرِي فِيهِ سِكَكٌ كَثِيرَةٌ شَتَّى، فَلاَ يَحِلُّ الْبَيْعُ إِلاَّ بِبَيَانٍ مِنْ أَيِّ سِكَّةٍ يَكُونُ الثَّمَنُ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنَا ذَلِكَ: فَهُوَ بَيْعٌ مَفْسُوخٌ، مَرْدُودٌ، لأََنَّهُ وَقَعَ، عَنْ غَيْرِ تَرَاضٍ بِالثَّمَنِ، وَهُوَ أَيْضًا بَيْعُ غَرَرٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/24)
1535 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ، وَلاَ خِدْمَةُ الْمُدَبَّرِ، وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَأَجَازَ مَالِكٌ كِلاَ
الأَمْرَيْنِ: أَمَّا الْمُدَبَّرُ فَمِنْ نَفْسِهِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ
فَمِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِهِ، وَأَجَازَ بَيْعَهُمَا جُمْلَةً: الزُّهْرِيُّ،
وَابْنُ الْمُسَيِّبِ.
وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ سِيرِينَ، لأََنَّ
كِتَابَةَ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا تَجِبُ بِالنُّجُومِ، وَلاَ تَجِبُ قَبْلَ ذَلِكَ،
فَمَنْ بَاعَهَا فَقَدْ بَاعَ مَا لاَ يَمْلِكُ بَعْدُ، وَلاَ يَدْرِي أَيَجِبُ
لَهُ أَمْ لاَ وَأَيْضًا: فَلَيْسَتْ عَيْنًا مُعَيَّنَةً، فَلاَ يَدْرِي
الْبَائِعُ أَيَّ شَيْءٍ بَاعَ مِنْ نَوْعِ مَا بَاعَ، وَلاَ يَدْرِي الْمُشْتَرِي
مَا اشْتَرَى فَهُوَ بَيْعُ غَرَرٍ، وَمَجْهُولُ الْعَيْنِ، وَأَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ. فإن قيل: فَقَدْ رُوِيَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَهَا
قلنا: وَكَمْ قِصَّةٍ رُوِيَتْ، عَنْ جَابِرٍ خَالَفْتُمُوهَا: مِنْهَا: قَوْلُهُ
الَّذِي قَدْ أَوْرَدْنَا أَنْ لاَ يُبَاعَ شَيْءٌ اُشْتُرِيَ كَائِنًا مَا كَانَ
إِلاَّ حَتَّى يُقْبَضَ وَقَوْلُهُ: الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ، وَقَوْلُهُ: لاَ
يُحْرِمُ أَحَدٌ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِالْحَجِّ وَقَوْلُهُ: لاَ يَجُوزُ
ثَمَنُ الْهِرِّ. وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِمَّا لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِي ذَلِكَ، فَالآنَ صَارَ حُجَّةً وَهُنَالِكَ
لاَ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
(9/24)
1536 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ السَّمْنِ الْمَائِعِ يَقَعُ فِيهِ الْفَأْرُ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَرْقِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الطَّهَارَةِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَفِي " كِتَابِ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَمَا يَحْرُمُ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. فَإِنْ كَانَ جَامِدًا أَوْ وَقَعَ فِيهِ مَيْتَةٌ غَيْرُ الْفَأْرِ أَوْ نَجَاسَةٌ فَلَمْ تُغَيِّرْ لَوْنَهُ، وَلاَ طَعْمَهُ، وَلاَ رِيحَهُ، أَوْ وَقَعَ الْفَأْرُ الْمَيِّتُ أَوْ الْحَيُّ، أَوْ أَيُّ نَجَاسَةٍ، أَوْ أَيُّ مَيْتَةٍ كَانَتْ فِي مَائِعٍ غَيْرِ السَّمْنِ، فَلَمْ تُغَيِّرْ طَعْمًا، وَلاَ لَوْنًا، وَلاَ رِيحًا فَبَيْعُهُ حَلاَلٌ، وَأَكْلُهُ حَلاَلٌ، لأََنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى: {وماكَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ فِي الْكُتُبِ الْمَذْكُورَةِ، فَإِنْ تَغَيَّرَ طَعْمُهُ أَوْ لَوْنُهُ أَوْ رِيحُهُ: جَازَ بَيْعُهُ أَيْضًا، كَمَا يُبَاعُ الثَّوْبُ النَّجِسُ. وَقَد قلنا: إنَّ الطَّاهِرَ لاَ يُنَجَّسُ بِمُلاَقَاتِهِ النَّجِسَ وَلَوْ أَمْكَنَنَا أَنْ نَفْصِلَهُ مِنْ الْحَرَامِ لَحَلَّ أَكْلُهُ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ الأَنْتِفَاعِ بِهِ فِي غَيْرِ الأَكْلِ نَصٌّ فَهُوَ مُبَاحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، يَعْنِي مَا تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ مِنْ الْمَائِعَاتِ الَّتِي حَلَّتْهَا النَّجَاسَاتُ، لأََنَّهُ إنَّمَا يُبَاعُ الشَّيْءُ الَّذِي حَلَّتْهُ النَّجَاسَةُ لاَ النَّجَاسَةُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/25)
1537 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ الصُّوَرِ إِلاَّ لِلَعِبِ الصَّبَايَا فَقَطْ، فَإِنَّ اتِّخَاذَهَا لَهُنَّ حَلاَلٌ حَسَنٌ وَمَا جَازَ مِلْكُهُ جَازَ بَيْعُهُ إِلاَّ أَنْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} .وَكَذَلِكَ لاَ يَحِلُّ اتِّخَاذُ الصُّوَرِ إِلاَّ مَا كَانَ رَقْمًا فِي ثَوْبٍ لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَدْخُلُ الْمَلاَئِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ، وَلاَ صُورَةٌ" .وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي طَلْحَةَ يَعُودُهُ قَالَ: فَوَجَدَ عِنْدَهُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فَأَمَرَ أَبُو طَلْحَةَ بِنَزْعِ نَمَطٍ كَانَ تَحْتَهُ فَقَالَ لَهُ سَهْلٌ: لِمَ نَزَعْتَهُ؟ قَالَ: لأََنَّ فِيهِ
(9/25)
1538 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
الْبَيْعُ مُذْ تَزُولُ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلَى مِقْدَارِ تَمَامِ
الْخُطْبَتَيْنِ وَالصَّلاَةِ، لاَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ لِكَافِرٍ، وَلاَ
لأَمْرَأَةٍ، وَلاَ لِمَرِيضٍ، وَأَمَّا مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ فَإِلَى أَنْ
تَتِمَّ صَلاَتُهُمْ لِلْجُمُعَةِ، وَكُلُّ بَيْعٍ وَقَعَ فِي الْوَقْتِ
الْمَذْكُورِ فَهُوَ مَفْسُوخٌ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَجَازَ الْبَيْعَ فِي
الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ: الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَمَّا النِّكَاحُ،
وَالسَّلَمُ وَالإِجَارَةُ، وَسَائِرُ الْعُقُودِ فَجَائِزَةٌ كُلُّهَا فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ لِكُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَلَمْ
يُجِزْهَا مَالِكٌ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ
اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ
اللَّهِ} فَهُمَا أَمْرَانِ مُفْتَرَضَانِ السَّعْيُ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَتَرْكُ الْبَيْعِ فَإِذَا سَقَطَ أَحَدُهُمَا بِنَصٍّ وَرَدَ فِيهِ
كَالْمَرِيضِ، وَالْخَائِفِ وَالْمَرْأَةِ، وَالْمَعْذُورِ، لَمْ يَسْقُطْ
الآخَرُ، إذْ لَمْ يُوجِبْ سُقُوطَهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ وَجَبَ إلْزَامُ
الْكُفَّارِ كَذَلِكَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وَأَمَّا إدْخَالُ مَالِكٍ
النِّكَاحَ، وَالإِجَارَةَ فِي ذَلِكَ، فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ، لأََنَّ اللَّهَ
تَعَالَى إنَّمَا نَهَى، عَنِ الْبَيْعِ، وَلَوْ أَرَادَ النَّهْيَ عَنِ
النِّكَاحِ، وَالإِجَارَةِ لَمَا عَجَزَ، عَنْ ذَلِكَ، وَلاَ كَتَمْنَا
(9/26)
مَا أَلْزَمَنَا وَمَا كَانَ
رَبُّكَ نَسِيًّا وَتَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَحِلُّ. وَلَوْ كَانَ
الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً، لأََنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ
الْقَائِلِينَ بِهِ إنَّمَا هُوَ أَنْ يُقَاسَ الشَّيْءُ عَلَى نَظِيرِهِ،
وَلَيْسَ الْبَيْعُ نَظِيرَ النِّكَاحِ، لأََنَّهُ يَجُوزُ بِلاَ ذِكْرِ مَهْرٍ.
وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ، وَالْمُتَنَاكِحَانِ لاَ
يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، وَلاَ فِي النِّكَاحِ نَقْلُ مِلْكٍ، وَالْبَيْعُ
نَقْلُ مِلْكٍ وَأَمَّا الإِجَارَةُ فَإِنَّمَا هِيَ مُعَاوَضَةٌ فِي مَنَافِعَ
لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ، وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَمْ
يُخْلَقْ بَعْدُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْحُرُّ نَفْسَهُ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ
أَنْ يَبِيعَ نَفْسَهُ، فَلاَ شَبَهَ بَيْنَ الإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ وَبَيْنَ
الْبَيْعِ. فَإِنْ عَلَّلَ النَّهْيَ، عَنِ الْبَيْعِ بِمَا يُشَاغِلُ، عَنِ
السَّعْيِ: صَارَ إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَلَزِمَهُ أَنْ
يُجِيزَ مِنْ الْبَيْعِ مَا لاَ تَشَاغَلَ مِنْهُ، عَنِ السَّعْيِ، وَلاَ قِيَاسَ
عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إِلاَّ عَلَى عِلَّةٍ، فَإِنْ لَمْ يُعَلِّلْ بَطَلَ
الْقِيَاسُ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِي هَذَا الْقَوْلِ وَأَمَّا إجَازَةُ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ: "الْبَيْعَ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ
فَخِلاَفٌ لأََمْرِ اللَّهِ تَعَالَى"، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً
أَصْلاً أَكْثَرَ مِنْ أَنْ قَالُوا: "إنَّمَا نَهَى، عَنِ التَّشَاغُلِ،
عَنِ السَّعْيِ إلَى الصَّلاَةِ فَقَطْ، وَلَوْ أَنَّ امْرَأً بَاعَ فِي
الصَّلاَةِ لَصَحَّ الْبَيْعُ".
قال أبو محمد: "وَهَذَانِ فَاسِدَانِ مِنْ الْقَوْلِ جِدًّا أَمَّا
قَوْلُهُمْ: إنَّمَا أَرَادَ اللَّهُ بِذَلِكَ التَّشَاغُلَ، عَنِ السَّعْيِ
فَقَطْ، فَعَظِيمٌ مِنْ الْقَوْلِ جِدًّا، لَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَخْبَرَهُمْ
بِذَلِكَ وَهُمْ يَسْمَعُونَ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى
اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. وَلَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مَا قَالُوا
لَمَا نَهَانَا"، عَنِ الْبَيْعِ مُطْلَقًا، وَلاَ عَجَزَ، عَنْ بَيَانِ
مُرَادِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا هَهُنَا ضَرُورَةٌ تُوجِبُ فَهْمَ هَذَا، وَلاَ
نَصٌّ، فَهُوَ بَاطِلٌ مَحْضٌ، وَدَعْوَى كَاذِبَةٌ بِلاَ برهان.وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ: لَوْ بَاعَ فِي الصَّلاَةِ لَجَازَ الْبَيْعُ: فَتَمْوِيهٌ بَارِدٌ،
لأََنَّ الْمُصَلِّيَ بِأَوَّلِ أَخْذِهِ فِي الْكَلاَمِ فِي الْمُسَاوَمَةِ
بَطَلَتْ صَلاَتُهُ فَصَارَ غَيْرَ مُصَلٍّ فَظَهَرَ فَسَادُ احْتِجَاجِهِمْ
جُمْلَة فَإِنْ قَالُوا: "هَذَا نَدْبٌ قلنا: مَا دَلِيلُكُمْ عَلَى
ذَلِكَ"، وَكَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى افْعَلْ، فَيَقُولُونَ:
"مَعْنَاهُ لاَ تَفْعَلْ إنْ شِئْت أَمْ كَيْفَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لاَ
تَفْعَلْ"، فَيَقُولُونَ: "مَعْنَاهُ: افْعَلْ إنْ شِئْت وَهَذَا
إبْطَالُ الْحَقَائِقِ، وَنَفْسُ الْمَعْصِيَةِ، وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ،عَنْ
مَوَاضِعِهِ" فَإِنْ قَالُوا: "قَدْ وَجَدْنَا أَوَامِرَ وَنَوَاهِيَ
مَعْنَاهَا": النَّدْبُ قلنا: نَعَمْ بِنَصٍّ آخَرَ بَيَّنَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ
وَجَدْنَا آيَاتٍ مَنْسُوخَاتٍ بِنَصٍّ آخَرَ وَلَمْ يَجِبْ بِذَلِكَ حَمْلُ آيَةٍ
عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَلاَ عَلَى أَنَّهَا نَدْبٌ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
فَقَدْ أَبْطَلَ مَا شَاءَ بِلاَ دَلِيلٍ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ
إِسْحَاقَ الْقَاضِي حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ هُوَ
الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
لاَ يَصْلُحُ الْبَيْعُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يُنَادَى لِلصَّلاَةِ، فَإِذَا
قُضِيَتْ فَاشْتَرِ وَبِعْ، وَلاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ.
وَعَنْ
(9/27)
حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ فَسَخَ بَيْعًا وَقَعَ بَيْنَ نِسَاءٍ وَبَيْنَ عَطَّارٍ بَعْدَ النِّدَاءِ لِلْجُمُعَةِ.
(9/28)
1539- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِ الصَّلاَةِ إِلاَّ مِقْدَارَ الدُّخُولِ فِي الصَّلاَةِ بِالتَّكْبِيرِ وَهُوَ لَمْ يُصَلِّ بَعْدُ، وَهُوَ ذَاكِرٌ لِلصَّلاَةِ، عَارِفٌ بِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْتِ، فَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلَهُ حِينَئِذٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ: بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ الْبَيْعُ وَغَيْرُهُ، مَأْمُورٌ بِالدُّخُولِ فِي الصَّلاَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِذَلِكَ: جَازَ كُلُّ مَا عَمِلَ فِيهِ، لأََنَّ وَقْتَ الصَّلاَةِ لِلنَّاسِي مُمْتَدٌّ أَبَدًا.وَأَمَّا مَنْ سَهَا فَسَلَّمَ قَبْلَ تَمَامِ صَلاَتِهِ فَمَا أَنْفَذَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَمَرْدُودٌ كُلُّهُ، لأََنَّهُ قَدْ عَرَفَ النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ مَا دَامَ فِي صَلاَتِهِ، وَهُوَ فِي صَلاَتِهِ، لَكِنْ عُفِيَ لَهُ، عَنِ النِّسْيَانِ، فَهُوَ إنَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ بَاعَ وَلَمْ يَبِعْ لأََنَّهُ غَيَّرَ الْبَيْعَ الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، فَإِذًا هُوَ غَيْرُ جَائِزٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/28)
ولا يحل أن يجبر أحدا على أن يبيع
مع شريكه لا ما ينقسم ولا مالا ينقسم
...
1540 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مَعَ
شَرِيكِهِ لاَ مَا يَنْقَسِمُ، وَلاَ مَا لاَ يَنْقَسِمُ، وَلاَ عَلَى أَنْ
يُقَاوِمَهُ فَيَبِيعَ أَحَدُهُمَا مِنْ الآخَرِ، لَكِنْ مَا شَاءَ مِنْ
الشَّرِيكَيْنِ أَوْ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ: فَلَهُ ذَلِكَ، وَمَنْ
أَبَى لَمْ يُجْبَرْ، فَإِنْ أَجْبَرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَاكِمٌ أَوْ غَيْرُهُ:
فُسِخَ حُكْمُهُ أَبَدًا وَحُكِمَ فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَمَنْ
أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِ حَقِّهِ فَلَمْ يَرْضَ فَلاَ يَجُوزُ عَلَيْهِ، لأََنَّهُ
خِلاَفُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ حَيْثُ
أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَالشُّفْعَةِ، وَعَلَى
الْغَائِبِ، وَعَلَى الصَّغِيرِ، وَعَلَى الظَّالِمِ وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ
بِإِجْبَارِ الشَّرِيكِ عَلَى الْبَيْعِ مَعَ شَرِيكِهِ بِخَبَرٍ رُوِيَ فِيهِ
"لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ" وَهَذَا خَبَرٌ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ، إنَّمَا
جَاءَ مُرْسَلاً، أَوْ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى وَهُوَ
مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لأََنَّ أَعْظَمَ
الضِّرَارِ وَالضَّرَرِ هُوَ الَّذِي فَعَلُوهُ مِنْ إجْبَارِهِمْ إنْسَانًا عَلَى
بَيْعِ مَالِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَبِغَيْرِ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ أَنْ يُرَاعَى رِضَا
أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ بِإِسْخَاطِ شَرِيكِهِ فِي مَالِهِ نَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ
الْجَوْرُ وَالظُّلْمُ الصُّرَاحُ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُجَابَ أَحَدُ
الشَّرِيكَيْنِ إلَى قَوْلِهِ: لاَ بُدَّ أَنْ يَبِيعَ شَرِيكِي مَعِي
لأََسْتَجْزِلَ الثَّمَنَ فِي حِصَّتِي، وَبَيْنَ أَنْ يُجَابَ الآخَرُ إلَى
قَوْلِهِ: لاَ بُدَّ أَنْ يُمْنَعَ شَرِيكِي مَعَ بَيْعِ حِصَّتِهِ، لأََنَّ فِي
ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَيَّ فِي حِصَّتِي، وَكِلاَ الأَمْرَيْنِ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ،
لَكِنَّ الْحَقَّ أَنَّ كِلَيْهِمَا مُمَكَّنٌ مِنْ حِصَّتِهِ، مَنْ شَاءَ بَاعَ
حِصَّتَهُ وَمَنْ شَاءَ أَمْسَكَ حِصَّتَهُ. وَقَدْ مَوَّهُوا فِي ذَلِكَ بِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنِ ابْنِ
(9/28)
ولا يجوز بيع ما غنمه المسلم من
دار الحرب
...
1541 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ مَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ
الْحَرْبِ لأََهْلِ الذِّمَّةِ لاَ مِنْ رَقِيقٍ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ
قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ
الْجِهَادِ ".وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ،
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ أُمِّ مُوسَى قَالَتْ: أَتَى عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ بِآنِيَةٍ مُخَوَّصَةٍ بِالذَّهَبِ مِنْ آنِيَةِ الْعَجَمِ
فَأَرَادَ أَنْ يَكْسِرَهَا وَيُقَسِّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ نَاسٌ
مِنْ الدَّهَاقِينَ: إنْ كَسَرْت هَذِهِ كَسَرْت ثَمَنَهَا، وَنَحْنُ نُغْلِي لَك
بِهَا فَقَالَ عَلِيٌّ: لَمْ أَكُنْ لأََرُدَّ لَكُمْ مِلْكًا نَزَعَهُ اللَّهُ
مِنْكُمْ، فَكَسَرَهَا وَقَسَّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ.
قال أبو محمد: هَذَا مِنْ الصَّغَارِ، وَكُلُّ صَغَارٍ فَوَاجِبٌ حَمْلُهُ
عَلَيْهِمْ وَأَمَّا الرَّقِيقُ: فَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الدُّعَاءَ
إلَى الإِسْلاَمِ وَاجِبٌ بِكُلِّ حَالٍ، وَمِنْ الأَسْبَابِ الْمُعِينَةِ عَلَى
الإِسْلاَمِ كَوْنُ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَةِ فِي مِلْكِ الْمُسْلِمِ، وَمِنْ
الأَسْبَابِ الْمُبْعِدَةِ، عَنِ الإِسْلاَمِ كَوْنُهُمَا عِنْدَ كَافِرٍ يُقَوِّي
بَصَائِرَهُمَا فِي الْكُفْرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/29)
ولا يحل بيع ممن يوقن أنه يعصى
الله
...
1542- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِمَّنْ يُوقَنُ أَنَّهُ يَعْصِي
اللَّهَ بِهِ أَوْ فِيهِ، وَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا. كَبَيْعِ كُلِّ شَيْءٍ
يُنْبَذُ أَوْ يُعْصَرُ مِمَّنْ يُوقَنُ بِهَا أَنَّهُ يَعْمَلُهُ خَمْرًا. وَكَبَيْعِ
الدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ مِمَّنْ يُوقَنُ أَنَّهُ يُدَلِّسُ بِهَا. وَكَبَيْعِ
الْغِلْمَانِ مِمَّنْ يُوقَنُ أَنَّهُ يَفْسُقُ بِهِمْ أَوْ يُخْصِيهِمْ.
وَكَبَيْعِ الْمَمْلُوكِ
(9/29)
ومن باع شيئا جزافا يعلم كيله أو
وزنه
...
1543 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ شَيْئًا جُزَافًا كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ أَوْ
زَرْعُهُ أَوْ عَدَدُهُ، وَلَمْ يَعْرِفْ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ
لاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ، عَنْ هَذَا الْبَيْعِ نَهْيٌ فِي
نَصٍّ أَصْلاً، وَلاَ فِيهِ غِشٌّ، وَلاَ خَدِيعَةٌ وَمَنَعَ مِنْهُ: طَاوُوس،
وَمَالِكٌ وَأَجَازَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: "وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ كَيْلَهُ أَوْ وَزْنَهُ،
أَوْ زَرْعَهُ أَوْ عَدَدَهُ، وَلاَ يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ
مَنْ نَسَجَ الثَّوْبَ، وَلِمَنْ كَانَ، وَمَتَى نُسِجَ، وَأَيْنَ أُصِيبَ هَذَا
الْبُرُّ، وَهَذَا التَّمْرُ وَلاَ يَعْلَمُ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ،
وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مُخْطِئٌ وَقَائِلٌ بِلاَ دَلِيلٍ". وَاحْتَجُّوا
فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ: قَالَ
ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ "لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَبِيعَ طَعَامًا جُزَافًا قَدْ
عَلِمَ كَيْلَهُ حَتَّى يَعْلَمَ صَاحِبُهُ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ فَاحِشُ
الأَنْقِطَاعِ" . ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْمَالِكِيِّينَ،
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْمُرْسَلِ إِلاَّ الطَّعَامُ فَقَطْ. فَإِنْ قَالُوا:
"قِسْنَا عَلَى الطَّعَامِ غَيْرَ الطَّعَامِ قلنا: فَهَلاَّ قِسْتُمْ عَلَى
الطَّعَامِ غَيْرَ الطَّعَامِ فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ حَتَّى يُقْبَضَ فَإِنْ
قَالُوا: لَمْ يَأْتِ النَّصُّ إِلاَّ فِي الطَّعَامِ.قلنا: وَلَيْسَ فِي هَذَا
الْخَبَرِ إِلاَّ الطَّعَامُ فأما اتَّبِعُوا النَّصَّيْنِ مَعًا دُونَ
الْقِيَاسِ، وَأَمَّا قِيسُوا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَمَا عَدَا هَذَا فَبَاطِلٌ
مُتَيَقَّنٌ، فَكَيْفَ وَالنَّصُّ قَدْ جَاءَ بِالنَّهْيِ، عَنِ الْبَيْعِ فِي
كُلِّ مَا اُبْتِيعَ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ فَخَالَفُوهُ" وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/30)
1544 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ
الْحِيتَانِ - الْكِبَارِ أَوْ الصِّغَارِ - أَوْ الأُُتْرُجِّ - الْكِبَارِ أَوْ
الصِّغَارِ - أَوْ الدُّلَّاعِ، أَوْ الثِّيَابِ، أَوْ الْخَشَبِ، أَوْ
الْحَيَوَانِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ جُزَافًا: حَلَالٌ لَا كَرَاهِيَةَ فِيهِ،
وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكِبَارِ مِنْ الْحِيتَانِ، وَالْخَشَبِ،
وَأَجَازَهُ فِي الصِّغَارِ - وَهَذَا بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ -:
أَوَّلُهَا أَنَّهُ خِلَافُ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ - تَعَالَى -:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} . وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ
مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَا بَيْعٌ حَلَالٌ وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلٌ
بِتَحْرِيمِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ فَاسِدٌ، إذْ لَمْ يَجِدْ الْكَبِيرَ الَّذِي
مُنِعَ بِهِ مِنْ بَيْعِ الْجُزَافِ مِنْ الصَّغِيرِ الَّذِي أَبَاحَهُ بِهِ -
وَهَذَا رَدِيءٌ جِدًّا، لِأَنَّهُ حَرَّمَ وَحَلَّلَ، ثُمَّ لَمْ يُبَيِّنْ مَا
الْحَرَامُ فَيَجْتَنِبُهُ مَنْ يَبِيعُهُ، وَمَا الْحَلَالُ فَيَأْتِيهِ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ
(9/30)
1545 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ
أَلْبَانِ النِّسَاءِ جَائِزٌ.وَكَذَلِكَ الشُّعُورُ، وَبَيْعُ الْعَذِرَةِ
وَالزِّبْلِ لِلتَّزْبِيلِ، وَبَيْعُ الْبَوْلِ لِلصَّبَّاغِ : جَائِزٌ وَقَدْ
مَنَعَ قَوْمٌ مِنْ بَيْعِ كُلِّ هَذَا.
قال أبو محمد: "لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحْلُبَ لَبَنَهَا
فِي إنَاءٍ وَتُعْطِيَهُ لِمَنْ يَسْقِيهِ صَبِيًّا، وَهَذَا تَمْلِيكٌ مِنْهَا
لَهُ، وَكُلُّ مَا صَحَّ مِلْكُهُ وَانْتِقَالُ الإِمْلاَكِ فِيهِ حَلَّ
بَيْعُهُ"، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إِلاَّ
مَا جَاءَ فِيهِ نَصٌّ بِخِلاَفِ هَذَا وَأَمَّا الشُّعُورُ، وَالْعَذِرَةُ،
وَالْبَوْلُ: فَكُلُّ ذَلِكَ يُطْرَحُ، وَلاَ يُمْنَعُ مِنْهُ أَحَدٌ: هَذَا
عَمَلُ جَمِيعِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَإِذَا تُمُلِّكَ لأََحَدٍ جَازَ بَيْعُهُ كَمَا
ذَكَرْنَا.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ
يَسْتَمْتِعَ بِشُعُورِ النَّاسِ، كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَهُ.
(9/31)
1546 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ النَّحْلِ، وَدُودِ الْحَرِيرِ، وَالضَّبِّ، وَالضَّبُعِ: جَائِزٌ حَسَنٌ: أَمَّا الضَّبُّ وَالضَّبُعُ: فَحَلاَلٌ أَكْلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَصَيْدٌ مِنْ الصَّيُودِ، وَمَا جَازَ تَمَلُّكُهُ جَازَ بَيْعُهُ كَمَا قَدَّمْنَا. وَأَمَّا النَّحْلُ، وَدُودُ الْحَرِيرِ: فَلَهُمَا مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ، وَهُمَا مَمْلُوكَانِ: فَبَيْعُهُمَا جَائِزٌ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ وَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً أَصْلاً، وَلاَ أَحَدًا سَبَقَهُ إلَى الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ النَّحْلِ، وَدُودِ الْقَزِّ وَأَمَّا مَا عَسَّلَتْ النَّحْلُ فِي غَيْرِ خَلاَيَا مَالِكِهَا: فَهُوَ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ، لأََنَّهُ لَيْسَ بَعْضَهَا، وَلاَ مُتَوَلِّدًا مِنْهَا كَالْبَيْضِ، وَالْوَلَدِ، وَاللَّبَنِ، وَالصُّوفِ، لَكِنَّهُ كَسْبٌ لَهَا، كَصَيْدِ الْجَارِحِ، وَهُمَا غَيْرُ النَّحْلِ وَالْجَارِحِ: فَهُوَ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهِ وَأَمَّا مَا وَضَعَتْ فِي خَلاَيَا صَاحِبِهَا فَلَهُ، لأََنَّهُ لِذَلِكَ وَضَعَ الْخَلاَيَا، فَمَا صَارَ فِيهَا فَهُوَ لَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ وَضَعَ حِبَالَةً لِلصَّيْدِ، أَوْ قُلَّةً لِلْمَاءِ، أَوْ حَظِيرًا لِلسَّمَكِ فَكُلُّ مَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ لَهُ، لأََنَّهُ قَدْ تَمَلَّكَهُ بِوَضْعِ مَا ذَكَرْنَا لَهُ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/31)
1547 - مَسْأَلَةٌ: وَابْتِيَاعُ الْحَرِيرِ جَائِزٌ، وَقَالَ بِالْمَنْعِ مِنْهُ بَعْضُ السَّلَفِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس أَنَّهُ كَرِهَ التِّجَارَةَ فِي الشَّابِرِيِّ الرَّقِيقِ، وَالْحَرِيرِ وَلُبْسَهُ. جَاءَ فِي ذَلِكَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ
(9/31)
وابتياع ولد الزنا والزانية حلالا
...
1548 - مَسْأَلَةٌ: وَابْتِيَاعُ وَلَدِ الزِّنَى، وَالزَّانِيَةِ حَلاَلٌ
.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ
سُلَيْمَانَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "وَلَدُ الزِّنَى لاَ
تَبِعْهُ، وَلاَ تَشْتَرِهِ، وَلاَ تَأْكُلْ ثَمَنَهُ".قَالَ عَلِيٌّ:
"لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَقَدْ أَمَرَ عليه الصلاة والسلام بِبَيْعِ الأَمَةِ
الْمَحْدُودَةِ فِي الزِّنَى ثَلاَثَ مَرَّاتٍ إذَا زَنَتْ الرَّابِعَةَ".
(9/32)
1549 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ
جُلُودِ الْمَيْتَاتِ كُلِّهَا حَلاَلٌ إذَا دُبِغَتْ، وَكَذَلِكَ جِلْدُ
الْخِنْزِيرِ وَأَمَّا شَعْرُهُ وَعَظْمُهُ فَلاَ. وَلاَ يَحِلُّ عِظَامُ
الْمَيْتَةِ أَصْلاً وَمَنَعَ مَالِكٌ مِنْ بَيْعِ جُلُودِهَا وَإِنْ دُبِغَتْ وَأَبَاحَهُ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَبَاحَ مَالِكٌ بَيْعَ صُوفِ الْمَيْتَةِ
وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"هَلَّا أَخَذُوا إهَابَهَا فَدَبَغُوهُ فَانْتَفَعُوا بِهِ قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ إنَّهَا حَرُمَ أَكْلُهَا" وَقَدْ
ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِي " كِتَابِ الطَّهَارَةِ " مِنْ
دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. فَأَمَرَ عليه السلام بِأَنْ
يُنْتَفَعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ بَعْدَ الدِّبَاغِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ أَكْلَهَا
حَرَامٌ، وَالْبَيْعُ مَنْفَعَةٌ بِلاَ شَكٍّ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي التَّحْلِيلِ،
وَخَارِجٌ، عَنِ التَّحْرِيمِ إذْ لَمْ يُفَصَّلْ تَحْرِيمُهُ، قَالَ تَعَالَى:
{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أَمَّا الْخِنْزِيرُ: فَحَرَامٌ
كُلُّهُ، حَاشَا طَهَارَةَ جِلْدِهِ بِالدِّبَاغِ فَقَطْ. وَمِنْ عَجَائِبِ
احْتِجَاجِ الْمَالِكِيِّينَ هَهُنَا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْجِلْدَ يَمُوتُ،
وَكَذَلِكَ الرِّيشُ تُسْقِيهِ الْمَيْتَةُ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ فَلاَ
يَمُوتُ فَلَوْ عُكِسَ قَوْلُهُمْ، فَقِيلَ لَهُمْ: بَلْ الْجُلُودُ لاَ تَمُوتُ
وَكَذَلِكَ الرِّيشُ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالشَّعْرُ فَتُسْقِيهِ الْمَيْتَةُ
بِأَيِّ شَيْءٍ كَانُوا يَنْفَصِلُونَ، وَهَلْ هِيَ إِلاَّ دَعْوَى كَدَعْوَى
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ
أَبِي سُلَيْمَانَ لاَ بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ، وَأَبَاحَ الأَنْتِفَاعَ
بِعَظْمِ الْفِيلِ وَبَيْعَهُ: طَاوُوس، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ وَمَنَعَ مِنْهُ الشَّافِعِيُّ، وَغَيْرُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(9/32)
وبيع المكاتب قيل أن يودى شيئا من
كتابته
...
1550 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا مِنْ
كِتَابَتِهِ جَائِزٌ، وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ بِذَلِكَ، فَإِنْ أَدَّى مِنْهَا
شَيْئًا حَرُمَ بَيْعُ مَا قَابَلَ مِنْهُ مَا أَدَّى، وَجَازَ بَيْعُ مَا قَابَلَ
مِنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ، وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ فِيمَا بِيعَ مِنْهُ، وَبَقِيَ
مَا قَابَلَ مِنْهُ مَا أَدَّى حُرًّا مِثْلُ أَنْ يَكُونَ أَدَّى عُشْرَ
كِتَابَتِهِ، فَإِنَّ عُشْرَهُ حُرٌّ وَيَجُوزُ بَيْعُ تِسْعَةِ أَعْشَارِهِ،
وَهَكَذَا فِي كُلِّ جُزْءٍ كَثُرَ أَوْ قَلَّ وَهَذَا مَكَانٌ اخْتَلَفَ
(9/32)
1551 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ
الْمُدَبَّرِ، وَالْمُدَبَّرَةِ، حَلاَلٌ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلِغَيْرِ دَيْنٍ
لاَ كَرَاهَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ بِالْبَيْعِ،
كَمَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ بِبَيْعِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَلاَ فَرْقَ وَهُوَ
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.وقال أحمد: "يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ
كَمَا قلنا، وَلاَ تُبَاعُ الْمُدَبَّرَةُ. وَهَذَا تَفْرِيقٌ لاَبرهان عَلَى
صِحَّتِهِ"، وقال مالك: "لاَ يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ، وَلاَ
الْمُدَبَّرَةُ إِلاَّ فِي الدَّيْنِ فَقَطْ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ قَبْلَ
التَّدْبِيرِ بِيعَا فِيهِ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِمَا، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ
بَعْدَ التَّدْبِيرِ لَمْ يُبَاعَا فِيهِ فِي حَيَاةِ الْمُدَبِّر، وَبِيعَا فِيهِ
بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثَ الْمُدَبَّرُ، وَلاَ دَيْنَ
هُنَالِكَ أُعْتِقَ مِنْهُ مَا يَحْمِلُ الثُّلُثَ وَرَقَّ" سَائِرُهُ.
قَالَ: فَإِنْ بِيعَ فِي الْحَيَاةِ بِغَيْرِ دَيْنٍ فَأَعْتَقَهُ الَّذِي
اشْتَرَاهُ نَفَذَ الْبَيْعُ وَجَازَ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ
التَّنَاقُضِ، وَلَئِنْ كَانَ بَيْعُهُ حَرَامًا فَمَا يَحِلُّ بَيْعُهُ لاَ فِي
دَيْنٍ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ أُعْتِقَ أَوْ لَمْ يُعْتَقْ كَمَا لاَ تُبَاعُ أُمُّ
الْوَلَدِ، وَلاَ يَنْفُذُ بَيْعُهَا وَإِنْ أُعْتِقَتْ وَلَئِنْ كَانَ بَيْعُهُ
حَلاَلاً فَمَا يَحْرُمُ مَتَى شَاءَ سَيِّدُهُ بَيْعَهُ. وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
فِي هَذَا التَّقْسِيمِ حُجَّةً لاَ مِنْ نَصٍّ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ،
وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ.وقال أبو حنيفة: "لاَ
يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ لاَ فِي دَيْنٍ، وَلاَ فِي غَيْرِ دَيْنٍ لاَ فِي
الْحَيَاةِ، وَلاَ بَعْدَ الْمَوْتِ" وَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ لَمْ
يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ اسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَقَالَ زُفَرُ:
"هُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَأُمِّ الْوَلَدِ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
حُجَّةً أَصْلاً، وَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَأَجَازُوا بَيْعَهُ فِي
مَوَاضِعَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فَلَمْ يَفُوا بِالْعُقُودِ وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ
فَاسْتَسْعُوهُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَلَمْ يَفُوا بِالْعُقُودِ".
قال أبو محمد: "وَاحْتَجُّوا بِأَشْيَاءَ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى مِنْهَا" خَبَرٌ رَوَاهُ عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ مُوسَى
بْنِ زَكَرِيَّا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ
ثِقَةٌ، عَنْ عَمِّهِ عُبَيْدَةَ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْمُدَبَّرُ لاَ
يُبَاعُ وَلاَ يُشْتَرَى وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ" وَهَذَا خَبَرٌ
مَوْضُوعٌ، لأََنَّ عَبْدَ الْبَاقِي رَاوِي
(9/35)
كُلِّ بَلِيَّةٍ، وَقَدْ تُرِكَ
حَدِيثُهُ، إذْ ظَهَرَ فِيهِ الْبَلاَءُ. ثُمَّ سَائِرُ مَنْ رَوَاهُ إلَى
أَيُّوبَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، كُلُّهُمْ مَجْهُولُونَ، وَعَمْرُو
بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ إنْ كَانَ هُوَ السِّنْجَارِيَّ فَهُوَ ضَعِيفٌ وَإِنْ
كَانَ غَيْرَهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمَالِكِيُّونَ قَدْ
خَالَفُوهُ. وَقَدْ أَجَازَ الْحَنَفِيُّونَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ فِي بَعْضِ
الأَحْوَالِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ
أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَ الآخَرُ نَصِيبَهُ: فَإِنَّ عَلَى الَّذِي دَبَّرَ
نَصِيبَهُ أَنْ يَضْمَنَ قِيمَةَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ الَّذِي أَعْتَقَ حِصَّتَهُ
وَهَذَا بَيْعٌ لِلْمُدَبَّرِ فَقَدْ خَالَفُوا هَذَا الْخَبَرَ الْمَوْضُوعَ مَعَ
احْتِجَاجِهِمْ بِهِ. وَإِنَّ الْعَجَبَ لَيَكْثُرُ مِمَّنْ يَرُدُّ حَدِيثَ
بَيْعِ الْمُكَاتَبِ، وَحَدِيثَ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثَ النَّهْيِ، عَنْ بَيْعِ
الْكَلْبِ، مَعَ صِحَّةِ أَسَانِيدِهَا وَانْتِشَارِهَا ثُمَّ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ
الْكَذِبَةِ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ
بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ
خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ ثُمَّ لَوْ
صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْحَنَفِيِّينَ وَالْمَالِكِيِّينَ، أَنَّهُمْ لاَ
يَرَوْنَ بَيْعَ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ: مَا لَهُمْ أَثَرٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا.
وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَقُولُ فِي أَوْلاَدِ الْمُدَبَّرَةِ: إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا مَا
نَرَاهُمْ إِلاَّ أَحْرَارًا، وَوَلَدُهَا كَذَلِكَ مِنْهَا فَكَأَنَّهُ عُضْوٌ
مِنْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ، قَالاَ جَمِيعًا: إنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا فِي الأَعْرَابِ، فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عُمَرُ فَبَعَثَ
فِي طَلَبِ الْجَارِيَةِ فَلَمْ يَجِدْهَا، فَأَرْسَلَ إلَى عَائِشَةَ فَأَخَذَ
الثَّمَنَ فَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً فَجَعَلَهَا مَكَانَهَا عَلَى تَدْبِيرِهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ،
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا
بِهِ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،، وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ.
أَمَّا خَبَرُ عُمَرَ: فَسَاقِطٌ، لأََنَّ الزُّهْرِيَّ، وَرَبِيعَةَ، لَمْ
يُولَدَا إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بِخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً وَزِيَادَةً،
فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَأَيْضًا فَفِيهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ
ضَعِيفٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ لِوُجُوه
أَوَّلُهَا أَنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ خَالَفَتْهُ فِي ذَلِكَ، فَلَيْسَ
قَوْلُهُ حُجَّةً عَلَيْهَا، وَلاَ أَوْلَى مِنْ قَوْلِهَا، وَهَذَا تَنَازُعٌ،
فَالْوَاجِبُ عِنْدَ التَّنَازُعِ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ،
وَهُمَا يُبِيحَانِ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ وَالثَّانِي أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ،
لأََنَّ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ أَخَذَ الثَّمَنَ فَابْتَاعَ بِهِ جَارِيَةً
فَجَعَلَهَا مُدَبَّرَةً مَكَانَهَا وَيُعِيذُ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ
هَذَا الْحُكْمِ الْفَاسِدِ، الظَّاهِرِ الْعَوَارِ، إذْ يَحْرُمُ بَيْعُ
مَمْلُوكَةٍ مِنْ أَجْلِ مَمْلُوكَةٍ أُخْرَى بِيعَتْ لاَ يَحِلُّ بَيْعُهَا.
وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا مَنْ بَاعَ حُرًّا أَنْ يَبْتَاعَ بِالثَّمَنِ عَبْدًا
فَيُعْتِقَهُ مَكَانَهُ، وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
وَكَيْفَ إنْ ذَهَبَ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ تُوجَدْ بِهِ رَقَبَةٌ أَوْ وُجِدَتْ
بِهِ رِقَابٌ أَوْ وُجِدَتْ الْمَبِيعَةُ بَعْدَ أَنْ جُعِلَتْ هَذِهِ الأُُخْرَى
مُدَبَّرَةً مَكَانَهَا، وَلَعَلَّ هَذِهِ تَمُوتُ مَمْلُوكَةً، فَكَيْفَ
(9/36)
الْعَمَلُ أَوْ لَعَلَّهَا
تَعِيشُ وَتَمُوتُ الْمَبِيعَةُ مَمْلُوكَةً فَكَيْفَ الْعَمَلُ فِي هَذَا
التَّخْلِيطِ حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِقَوْلِ عُمَرَ.
وَأَمَّا خَبَرُ جَابِرٍ: فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا
هُوَ تَمْوِيهٌ مِنْهُمْ مُجَرَّدٌ لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ الْمَنْعُ مِنْ بَيْعِ
الْمُدَبَّرَةِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا فِيهِ حُكْمُ وَلَدِهَا إنْ عَتَقَتْ هِيَ
فَقَطْ. وَلَوْ كَانَ لَهُمْ حَيَاءٌ مَا مَوَّهُوا فِي الدِّينِ بِمِثْلِ هَذَا،
فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ، عَنْ جَابِرٍ خِلاَفُ قَوْلِهِمْ كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا
يُرَقُّونَ بِرِقِّهَا، وَيُعْتَقُونَ بِعِتْقِهَا". وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ،
عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَعَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،
وَغَيْرِهِمْ مِثْلَ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَهَذَا جَابِرٌ يَرَى إرْقَاقَ
الْمُدَبَّرَةِ فإن قيل: "هَذَا مُرْسَلٌ" قلنا: "بِالْمُرْسَلِ
احْتَجَجْتُمْ عَلَيْنَا فَخُذُوهُ أَوْ فَلاَ تَحْتَجُّوا بِهِ".وَأَمَّا
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَإِنَّمَا فِيهِ الْكَرَاهَةُ فَقَطْ وَقَدْ صَحَّ عَنِ
ابْنِ عُمَرَ بَيَانُ جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ، كَمَا رُوِّينَا بِأَصَحِّ
سَنَدٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ
يَقُولُ: لاَ يَطَأُ الرَّجُلُ وَلِيدَةً إِلاَّ وَلِيدَةً إنْ شَاءَ بَاعَهَا،
وَإِنْ شَاءَ وَهَبَهَا، وَإِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا مَا شَاءَ.وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ
نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَبَّرَ جَارِيَتَيْنِ لَهُ، فَكَانَ
يَطَؤُهُمَا حَتَّى وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ مِنْ ابْنِ عُمَرَ
عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرَةِ. فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا عَلَى جَوَازِ
وَطْئِهَا كَذَبُوا، لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ
مُدَبَّرَتَهُ، قَالَ مَعْمَرٌ: فَقُلْت لَهُ: "لِمَ تَكْرَهُهُ"
فَقَالَ: لِقَوْلِ عُمَرَ: "لاَ تَقْرَبْهَا وَفِيهَا شَرْطٌ لأََحَدٍ".
فَظَهَرَ فَسَادُ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،،
وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ حُجَّةٌ فِي شَيْءٍ جَاءَ عَنْهُمْ، وَمَوَّهُوا مِنْ
طَرِيقِ النَّظَرِ بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا فَرَّقَ بَيْنَ اسْمِ الْمُدَبَّرِ،
وَاسْمِ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ، وَجَبَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا.
قال أبو محمد: "وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَ برهان، وَلَيْسَ
كُلُّ اسْمَيْنِ اخْتَلَفَا وَجَبَ أَنْ يَخْتَلِفَ مَعْنَاهُمَا وَحُكْمُهُمَا
إذَا وُجِدَا فِي اللُّغَةِ مُتَّفِقِي الْمَعْنَى: فَإِنَّ " الْمُحَرَّرَ،
وَالْمُعْتَقَ " اسْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، "
وَالزَّكَاةُ، وَالصَّدَقَةُ " كَذَلِكَ، " وَالزَّوَاجُ، وَالنِّكَاحُ
" كَذَلِكَ، وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا. وَحَتَّى لَوْ صَحَّ لَهُمْ هَذَا
الْحُكْمُ الْفَاسِدُ لَكَانَ الْوَاجِبُ إذَا جَاءَ فِيهِمَا نَصٌّ أَنْ يُوقَفَ
عِنْدَهُ وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِي اخْتِلاَفِ الأَسْمَيْنِ مَا يُوجِبُ أَنْ
يُبَاعَ أَحَدُهُمَا،وَلاَ يُبَاعَ الآخَرُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ اسْمُ: الْفَرَسِ
وَالْعَبْدِ، وَكِلاَهُمَا يُبَاعُ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ أَصْلاً وَمِنْ الْبُرْهَانِ
عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَالْمُدَبَّرَةِ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْله تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا
حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَصَحَّ أَنَّ بَيْعَ كُلِّ مُتَمَلَّكٍ جَائِزٌ إِلاَّ مَا
فَصَّلَ لَنَا تَحْرِيمَ بَيْعِهِ، وَلَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَ بَيْعِ
الْمُدَبَّرِ، وَالْمُدَبَّرَةِ
(9/37)
فَبَيْعُهُمَا حَلاَلٌ. وَمِنْ
السُّنَّةِ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاعَ الْمُدَبَّرَ" .وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ
أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: دَبَّرَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ
غُلاَمًا لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "مَنْ يَبْتَاعُهُ مِنِّي فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ
بْنِ كَعْبٍ" قَالَ جَابِرٌ: غُلاَمٌ قِبْطِيًّا مَاتَ عَامَ أَوَّلَ فِي
إمَارَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ
وَأَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جَابِرٍ: فَهَذَا
أَثَرٌ مَشْهُورٌ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ بِنَقْلِ التَّوَاتُرِ وَأَمْرٌ كَانَ
بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، كُلُّهُمْ مُسَلِّمٌ رَاضٍ، فَلَوْ
ادَّعَى الْمُسْلِمُ هَهُنَا الإِجْمَاعَ لَمَا أَبْعَدَ، لاَ كَدَعَاوِيهِمْ
الْكَاذِبَةِ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْكَذِبِ: بَيْعٌ فِي دَيْنٍ، وَإِلَّا
فَلأََيِّ وَجْهٍ بِيعَ.فَقُلْنَا: "كَذَبْتُمْ وَأَفَكْتُمْ، وَإِنَّمَا
بِيعَ"، لأََنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمُدَبِّرِهِ مَالٌ غَيْرُهُ، فَلِهَذَا
بَاعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.وَأَمَّا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ
فَبَيْعُهُ مُبَاحٌ لاَ وَاجِبٌ كَسَائِرِ مَنْ تَمَلَّكَ.وَمِنْ طَرِيقِ
النَّظَرِ أَنَّهُ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ قَبْل
أَنْ يُدَبَّرَ، فَمَنْ مَنَعَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ يُدَبَّرَ فَقَدْ أَبْطَلَ
وَادَّعَى مَا لاَ برهان لَهُ بِهِ.وَمِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ الَّذِي لَوْ صَحَّ
الْقِيَاسُ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَصَحَّ مِنْ هَذَا وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَقَ
بِصِفَةٍ لاَ يَدْرِي أَيُدْرِكُهَا الْمُعْتَقُ بِهَا أَمْ لاَ وَالْمُوصَى
بِعِتْقِهِ: لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ مَجِيءِ تِلْكَ
الصِّفَةِ، وَالْمُدَبَّرُ مُوصًى بِعِتْقِهِ، كِلاَهُمَا مِنْ الثُّلُثِ
فَوَاجِبٌ إنْ صَحَّ الْقِيَاسُ أَنْ يُبَاعَ الْمُدَبَّرُ كَمَا يُبَاعُ
الآخَرَانِ، وَلَكِنْ لاَ النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ، وَلاَ الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ.
وَمِمَّنْ صَحَّ عَنْهُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ،
عَنْ جَدَّتِهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ، بَاعَتْ مُدَبَّرَةً لَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَمُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ، قَالاَ جَمِيعًا: الْمُدَبَّرُ وَصِيَّةٌ.وبه إلى مَعْمَرٍ،عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، قَالَ: "سَأَلَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنِ
الْمُدَبَّرِ كَيْفَ كَانَ قَوْلُ أَبِي فِيهِ، أَيَبِيعُهُ صَاحِبُهُ"
فَقُلْت: "كَانَ أَبِي يَقُولُ: يَبِيعُهُ إنْ احْتَاجَ فَقَالَ ابْنُ
الْمُنْكَدِرِ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ".وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ طَاوُوس لاَ
يَرَى بَأْسًا أَنْ يَعُودَ الرَّجُلُ فِي عَتَاقَتِهِ قَالَ عَمْرٌو: يَعْنِي
التَّدْبِيرَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ،عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "الْمُدَبَّرُ وَصِيَّةٌ يَرْجِعُ فِيهِ إذَا
شَاءَ".وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ سَمِعْت
عَطَاءً يَقُولُ: يُعَادُ فِي الْمُدَبَّرِ، وَفِي كُلِّ وَصِيَّةٍ وَقَدْ
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، وَعَطَاءٍ: كَرَاهِيَةَ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ،
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ يَبِيعُهُ الْجَرِيءُ، وَيَرَعُ عَنْهُ الْوَرِعُ.
(9/38)
قال أبو محمد: "بَلْ يَبِيعُهُ الْوَرِعُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَقِفُ عَنْهُ الْجَاهِلُ وَتَاللَّهِ مَا تُخَافُ تَبِعَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْرٍ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فِي كِتَابِهِ، وَلاَ فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بَلْ نَخَافُ التَّبِعَةَ مِنْهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي تَحْرِيمِنَا مَا لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ، أَوْ فِي تَوَقُّفِنَا فِيهِ خَوْفَ أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا. قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وَبَيْعُ الْمُدَبَّرِ مِمَّا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَلاَ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَى فِيهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ".
(9/39)
1552 مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ وَلَدِ
الْمُدَبَّرَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا حَمَلَتْ بِهِ قَبْلَ التَّدْبِيرِ أَوْ
بَعْدَهُ حَلاَل ٌ وَبَيْعُ مَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ قَبْلَ أَنْ تُكَاتَبَ
وَبَعْدَ أَنْ كُوتِبَتْ مَا لَمْ تُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهَا: حَلاَلٌ.
وَبَيْعُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ
وَلَدٍ: حَلاَلٌ. هَذَا كُلُّهُ لاَ خِلاَفَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ، إِلاَّ مَا
حَمَلَتْ بِهِ الْمُدَبَّرَةُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ.وَأَمَّا مَا وَلَدَتْ أُمُّ
الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بَعْدَ أَنْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ: فَحَرَامٌ
بَيْعُهُ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ أُمِّهِ. وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
حُكْمَ مَا حَمَلَتْ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ بَعْدَ أَنْ تُؤَدِّيَ شَيْئًا مِنْ
كِتَابَتِهَا فِي " كِتَابِ الْمُكَاتَبِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ حَوْلَ، وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ الَّتِي تَحْمِلُ بِهِ بَعْدَ
التَّدْبِيرِ: هُوَ أَنَّهُ وَلَدُ أَمَةٍ جَائِزٌ بَيْعُهَا، فَهُوَ عَبْدٌ،
لأََنَّ وَلَدَ الأَمَةِ عَبْدٌ.
وَرُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِنَا هَذَا، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ:
أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: أَوْلاَدُ الْمُدَبَّرَةِ لاَ عِتْقَ
لَهُمْ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: وَابْنِ
عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعَطَاءٍ،
كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، قَالَ: أَوْلاَدُ الْمُدَبَّرَةِ
عَبِيدٌ، وَأَمَّا مَا حَمَلَتْ بِهِ ثُمَّ أَدْرَكَهَا الْعِتْقُ قَبْلَ أَنْ
تَضَعَهُ فَهُوَ حُرٌّ مَعَهَا مَا لَمْ يَسْتَثْنِهِ السَّيِّدُ لِمَا ذَكَرْنَا
قَبْلُ: مِنْ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَهَا فَهُوَ تَبَعٌ لَهَا.وَاحْتَجَّ
الْمُخَالِفُونَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَةِ
أُمِّهِمْ بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ، وَجَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ
وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدٍ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ
الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ.
قال أبو محمد: "لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَقَدْ ذَكَرْنَا خِلاَفَهُمْ لِطَوَائِفَ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ
لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، كَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ عُثْمَانَ، وَصُهَيْبٍ،
وَتَمِيمٍ الدَّارِيِّ مِنْ أَنَّ الْبَيْعَ لِدَارٍ وَاشْتِرَاطَ سُكْنَاهَا
مُدَّةَ عُمُرِ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ
مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا.وَأَمَّا وَلَدُ أُمِّ
الْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ.
وَأَمَّا مَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ فَلاَ يَحِلُّ
بَيْعُهُمْ، لأََنَّهَا حَرَامٌ بَيْعُهَا وَهُوَ إذَا حَمَلَتْ بِهِ بَعْضُهَا:
فَحَرَامٌ بَيْعُهُ، وَمَا حَرُمَ بَيْعُهُ بِيَقِينٍ فَلاَ يَحِلُّ بَعْدَ ذَلِكَ
إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي
(9/39)
جَوَازِ بَيْعِهِ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِ لَهَا.فَإِنْ ذَكَرُوا " كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا " فَهُوَ لَيْسَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ ثُمَّ هُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا فِي وَلَدِ الْمُعْتَقَةِ بِصِفَةٍ، وَوَلَدُ الْمُعْتَقَةِ إلَى أَجَلٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/40)
1553 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمُعْتَقِ إلَى أَجَلٍ، أَوْ بِصِفَةٍ : حَلاَلٌ مَا لَمْ يَجِبْ لَهُ الْعِتْقُ بِحُلُولِ تِلْكَ الصِّفَةِ، كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ غَدًا، فَلَهُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يُصْبِحْ الْغَدُ، أَوْ كَمَنْ قَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ إذَا أَفَاقَ مَرِيضِي: فَلَهُ بَيْعُهُ مَا لَمْ يُفِقْ مَرِيضُهُ، لأََنَّهُ عَبْدٌ مَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِتْقَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِمْ.وقال مالك: "كَذَلِكَ فِي الْمُعْتَقِ بِصِفَةٍ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ وَيُمْكِنُ أَنْ لاَ تَكُونَ، وَلَمْ يَقُلْهُ فِي الْمُعْتَقِ إلَى أَجَلٍ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ.فَقُلْنَا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا إِلاَّ أَنَّهُ حَتَّى الآنَ لَمْ يَكُنْ بَعْدُ، وَلاَ دَلِيلَ لَهُمْ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ أَصْلاً، وَإِنَّمَا هُوَ دَعْوَى وَاحْتِجَاجٌ لِقَوْلِهِمْ بِقَوْلِهِمْ".
(9/40)
وجائز لمن أتى السوق من أهله ومن
غير أهله
...
1554 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِمَنْ أَتَى السُّوقَ مِنْ أَهْلِهِ، أَوْ مِنْ
غَيْرِ أَهْلِهِ، أَنْ يَبِيعَ سِلْعَتَهُ بِأَقَلَّ مِنْ سِعْرِهَا فِي السُّوقِ،
وَبِأَكْثَرَ، وَلاَ اعْتِرَاضَ لأََهْلِ السُّوقِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلاَ
لِلسُّلْطَانِ وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَلَّ مِنْ
سِعْرِهَا، وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَكْثَرَ.
قال علي: "وهذا عَجَبٌ جِدًّا أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ التَّرْخِيصِ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ، وَيُبِيحُونَ لَهُ التَّغْلِيَةَ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ وَمَا
نَعْلَمُ قَوْلَهُمْ هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ مَالِكٍ. ثُمَّ زَادُوا فِي
الْعَجَبِ وَاحْتَجُّوا بِاَلَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ يُونُسَ
بْنِ يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ عُمَرَ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ
أَبِي بَلْتَعَةَ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ
إمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، وَأَمَّا أَنْ تَرْفَعَ، عَنْ سُوقِنَا".
قال علي: "هذا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ
حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالثَّانِي
أَنَّهُمْ كَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ كَإِجْبَارِهِ بَنِي عَمٍّ عَلَى
النَّفَقَةِ عَلَى ابْنِ عَمِّهِمْ وَكَعِتْقِهِ كُلَّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ إذَا
مَلَكَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ، لأََنَّ
سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عُمَرَ إِلاَّ نَعْيَهُ
النُّعْمَانَ بْنَ مُقْرِنٍ فَقَطْ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا
قَدْ أَخْطَئُوا فِيهِ عَلَى عُمَرَ، فَتَأَوَّلُوهُ بِمَا لاَ يَجُوزُ،
وَإِنَّمَا أَرَادَ عُمَرُ بِذَلِكَ لَوْ صَحَّ عَنْهُ بِقَوْلِهِ إمَّا أَنْ
تَزِيدَ فِي السِّعْرِ، يُرِيدُ أَنْ تَبِيعَ مِنْ الْمَكَايِيلِ أَكْثَرَ مِمَّا
تَبِيعُ بِهَذَا الثَّمَنِ، وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ هَذَا الَّذِي لاَ يَجُوزُ
أَنْ يُظَنَّ بِعُمَرَ غَيْرُهُ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ، عَنْ عُمَرَ مُبَيَّنًا
كَمَا رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ
ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ قَالَ: وَجَدَ عُمَرُ حَاطِبَ بْنَ
أَبِي بَلْتَعَةَ يَبِيعُ الزَّبِيبَ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ: كَيْفَ تَبِيعُ يَا
حَاطِبٌ فَقَالَ: مُدَّيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: تَبْتَاعُونَ بِأَبْوَابِنَا،
وَأَفْنِيَتِنَا
(9/40)
ومن ابتاع سلعة في السوق فلا يحل
أن يحكم عليه بشر كفيها
...
1555 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً فِي السُّوقِ فَلاَ يَحِلُّ أَنْ
يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِأَنْ يُشْرِكُهُ فِيهَا أَهْلُ تِلْكَ السُّوقِ، وَهِيَ لِمُشْتَرِيهَا
خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُ النَّاسِ.وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: "يُجْبَرُ عَلَى
أَنْ يُشْرِكُوهُ فِيهَا وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ غَيْرَهُمْ وَهُوَ ظُلْمٌ
ظَاهِرٌ، وَيُبْطِلُهُ" قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَلَمْ يَتَرَاضَ الْبَائِعُ إِلاَّ مَعَ هَذَا
الْمُبْتَاعِ لاَ مَعَ غَيْرِهِ، فَالْحُكْمُ بِهِ لِغَيْرِهِ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. بَلْ
قَدْ جَاءَ، عَنْ عُمَرَ الْحُكْمُ عَلَى أَهْلِ السُّوقِ بِهَذَا فِي غَيْرِهِمْ
لاَ لَهُمْ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ
جُنْدُبٍ قَالَ: "قَدِمَ الْمَدِينَةَ طَعَامٌ فَخَرَجَ أَهْلُ السُّوقِ إلَيْهِ
فَابْتَاعُوهُ، فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ: أَفِي سُوقِنَا هَذَا تَتَّجِرُونَ
أَشْرِكُوا النَّاسَ، أَوْ اُخْرُجُوا فَاشْتَرُوا ثُمَّ ائْتُوا فَبِيعُوا".
قال علي: "وهذا الَّذِي حَكَمَ بِهِ الْمَالِكِيُّونَ أَعْظَمُ الضَّرَرِ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ، لأََنَّ أَهْلَ الصِّنَاعَةِ مِنْ السُّوقِ يَتَوَاطَئُونَ
عَلَى إمَاتَةِ السِّلْعَةِ الَّتِي يَبِيعُهَا الْجَالِبُ أَوْ الْمُضْطَرُّ،
وَيَتَّفِقُونَ عَلَى أَنْ لاَ يَزِيدُوا فِيهَا، وَيَتْرُكُوا وَاحِدًا مِنْهُمْ
يَسُومُهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْمُضْطَرُّ عَلَى حُكْمِهِ، ثُمَّ يَقْتَسِمُونَهَا
بَيْنَهُمْ، وَهَذَا وَاجِبٌ مَنْعُهُمْ مِنْهُ، لأََنَّهُ غِشٌّ، وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا" .
(9/41)
ولا يجوز البيع بالبراءة من كل
عيب ولا على أن لا يقوم على العيب
...
1556 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ،
وَلاَ عَلَى أَنْ لاَ يُقَوَّمَ عَلَيَّ بِعَيْبٍ وَالْبَيْعُ هَكَذَا فَاسِدٌ
مَفْسُوخٌ أَبَدًا، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى جَوَازِ الْبَيْعِ
بِالْبَرَاءَةِ، وَلَمْ يَرَ لِلْمُشْتَرِي الْقِيَامَ بِعَيْبٍ أَصْلاً عَلِمَهُ
الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَذَهَبَ سُفْيَانُ، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ،
وَأَبُو سُلَيْمَانَ: إلَى أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ
الْعُيُوبِ عَلِمَهُ الْبَائِعُ أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ
إلَى أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ بِذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْعُيُوبِ إِلاَّ فِي
الْحَيَوَانِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ يَبْرَأُ بِهِ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ عُيُوبِ
الْحَيَوَانِ الْمَبِيعِ، وَلاَ يَبْرَأُ مِمَّا عَلِمَهُ مِنْ عُيُوبِهِ
فَكَتَمَهُ. وَلِمَالِكٍ ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ: "أَحَدُهَا وَهُوَ الَّذِي
ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْمُجْتَمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ حَرْفًا حَرْفًا وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْمُوَطَّأِ.وَالثَّانِي
أَنَّهُ لاَ يَبْرَأُ بِذَلِكَ إِلاَّ فِي الرَّقِيقِ خَاصَّةً، فَيَبْرَأُ مِمَّا
لَمْ يَعْلَمْ وَلاَ يَبْرَأُ مِمَّا عَلِمَ
(9/41)
1557 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمَصَاحِفِ جَائِزٌ وَكَذَلِكَ جَمِيعُ كُتُبِ الْعُلُومِ عَرَبِيُّهَا وَعَجَمِيُّهَا
(9/44)
لأََنَّ الَّذِي يُبَاعُ إنَّمَا
هُوَ الرَّقُّ أَوْ الْكَاغَدُ أَوْ الْقِرْطَاسُ وَالْمِدَادُ، وَالأَدِيمُ إنْ
كَانَتْ مُجَلَّدَةً وَحِلْيَةً إنْ كَانَتْ عَلَيْهَا فَقَطْ وَأَمَّا الْعِلْمُ
فَلاَ يُبَاعُ، لأََنَّهُ لَيْسَ جِسْمًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي سُلَيْمَانَ.وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ الطَّحَّانُ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ إيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: "كَانَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَكْرَهُونَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ،
وَتَعْلِيمَ الصِّبْيَانِ بِالأَرْشِ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ
عَجْلاَنَ هُوَ الأَفْطَسُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ
عُمَرَ: وَدِدْت أَنِّي قَدْ رَأَيْت أَنَّ الأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِ
الْمَصَاحِفِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا هَمَّامُ بْنُ
يَحْيَى أَنَا قَتَادَةُ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى الْحَرَشِيِّ، عَنْ
مُطَرِّفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: شَهِدْت فَتْحَ تُسْتَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ فَأَصَبْنَا دَانْيَالَ بِالسُّوسِ وَمَعَهُ رَبْعَةٌ فِيهَا
كِتَابٌ، وَمَعَنَا أَجِيرٌ نَصْرَانِيٌّ فَقَالَ: تَبِيعُونِي هَذِهِ الرَّبْعَةَ
وَمَا فِيهَا قَالُوا: إنْ كَانَ فِيهَا ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ أَوْ كِتَابُ اللَّهِ
لَمْ نَبِعْك قَالَ: فَإِنَّ الَّذِي فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى، فَكَرِهُوا
بَيْعَهُ، قَالَ: " فَبِعْنَاهُ الرَّبْعَةَ بِدِرْهَمَيْنِ، وَوَهَبْنَا
لَهُ الْكِتَابَ"، قَالَ قَتَادَةُ: "فَمِنْ ثَمَّ كُرِهَ بَيْعُ
الْمَصَاحِفِ، لأََنَّ الأَشْعَرِيَّ وَالصَّحَابَةَ كَرِهُوا بَيْعَ ذَلِكَ
الْكِتَابِ".
قال أبو محمد: "إنَّمَا كَرِهُوا الْبَيْعَ نَفْسَهُ لَيْسَ مِنْ أَجْلِ
أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ نَصْرَانِيًّا، أَلاَ تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ وَهَبُوهُ
لَهُ بِلاَ ثَمَنٍ".وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى سَأَلْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ،
وَمَسْرُوقًا، وَشُرَيْحًا، عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَقَالُوا: "لاَ
نَأْخُذُ لِكِتَابِ اللَّهِ ثَمَنًا.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ"،
عَنْ سُفْيَانَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ ذَكَرَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ فِي الْمَصَاحِفِ: "اشْتَرِهَا، وَلاَ تَبِعْهَا". وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي
الْمَصَاحِفِ: "اشْتَرِهَا، وَلاَ تَبِعْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ،
عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَرِهَ شِرَاءَ الْمَصَاحِفِ وَبَيْعَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قُلْت لِعَلْقَمَةَ: أَبِيعُ مُصْحَفًا قَالَ:
"لاَ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ:
لَحْسُ الدُّبُرِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ.وَمِنْ طَرِيقِ
الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ
مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "لاَ
يُورَثُ الْمُصْحَفُ": هُوَ لأََهْلِ الْبَيْتِ الْقُرَّاءِ مِنْهُمْ.وَمِنْ
طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَنَا خَالِدٌ
هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ
قَالَ:
(9/45)
كَانَ يَكْرَهُ بَيْعَ
الْمَصَاحِفِ وَابْتِيَاعَهَا". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
أَخْبَرَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ وَابْتِيَاعَهَا،
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ أَنَا مَهْدُ بْنُ مَيْمُونٍ
سَأَلْت مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ، عَنْ كُتَّابِ الْمَصَاحِفِ بِالأَجْرِ فَقَالَ:
"كَرِهَ كُتَّابَهَا وَاسْتِكْتَابَهَا وَبَيْعَهَا
وَشِرَاءَهَا".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ
عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ سَالِمٍ هُوَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
قَالَ: "بِئْسَ التِّجَارَةُ بَيْعُ الْمَصَاحِفِ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، وَشُعْبَةَ، قَالَ
سَعِيدٌ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ
أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ثُمَّ اتَّفَقَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ،
وَابْنُ جُبَيْرٍ قَالاَ جَمِيعًا: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ، وَلاَ تَبِعْهَا. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: اشْتَرِ، وَلاَ تَبِعْ يَعْنِي الْمَصَاحِفَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَفَّانَ أَنَا هَمَّامٌ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: سَأَلْت أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ قَالَ: اشْتَرِهَا، وَلاَ تَبِعْهَا وَهُوَ
قَوْلُ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: سَأَلْت الزُّهْرِيَّ،
عَنْ بَيْعِ الْمَصَاحِفِ فَكَرِهَهُ.وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا إسْرَائِيلُ،
عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ قَالَ: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ، وَلاَ
تَبِعْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ
أَنَّهُ كَرِهَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ حَتَّى
أَرْخَصَ لَهُ، فَهَؤُلاَءِ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، وَكُلُّ مَنْ مَعَهُ مِنْ
صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَابْنِ مَسْعُودٍ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، وَجَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ، وَابْنِ عُمَرَ: سِتَّةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِأَسْمَائِهِمْ،
ثُمَّ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ بِإِطْلاَقٍ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ. وَمِنْ
التَّابِعِينَ الْمُسَمَّيْنَ: مَسْرُوقٌ، وَشُرَيْحٌ، وَمُطَرِّفُ بْنُ مَالِكٍ،
وَعَلْقَمَةُ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَعَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ، وَابْنُ سِيرِينَ،
وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَسَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَقَتَادَةُ،
وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالْحَسَنُ، كُلُّهُمْ يَنْهَى، عَنْ بَيْعِ
الْمَصَاحِفِ وَلاَ يَرَاهُ سِوَى مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ مِنْ الْجُمْهُورِ
مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّ وَمَا نَعْلَمُهُ رَوَى إبَاحَةَ بَيْعِهَا إِلاَّ، عَنِ
الْحَسَنِ، وَالشَّعْبِيِّ بِاخْتِلاَفٍ عَنْهُمَا، وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ،
وَأَثَرَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
حَبِيبٍ، عَنْ طَلْقِ بْنِ السَّمْحِ، عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عَمْرٍو
الأَيْلِيِّ قَالَ: كَانَ ابْنُ مُصَبِّحٍ يَكْتُبُ الْمَصَاحِفَ فِي زَمَانِ
عُثْمَانَ وَيَبِيعُهَا، وَلاَ يُنْكَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَالآخَرُ أَيْضًا: مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَدَنِيِّ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ عِيَاضٍ عَنْ بُكَيْرٍ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَهَا يَتَّخِذُهَا مَتْجَرًا، وَلاَ
يَرَى بَأْسًا بِمَا عَمِلَتْ يَدَاهُ
(9/46)
مِنْهَا أَنْ يَبِيعَهُ. ابْنُ حَبِيبٍ سَاقِطٌ، وَابْنُ مُصَبِّحٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أَبِي الزُّبَيْرِ. وَطَلْقُ بْنُ السَّمْحِ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَنْ هُمْ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عَمْرٍو سَاقِطٌ وَلَمْ يُدْرِكْ عُثْمَانَ، وَبُكَيْر بْنُ مِسْمَارٍ ضَعِيفٌ ثُمَّ هُمَا مُخَالِفَانِ لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مُصَبِّحٍ: أَنَّ عُثْمَانَ عَرَفَ بِذَلِكَ، وَلاَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ عَرَفَ بِذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَتَّخِذَ بَيْعَهَا مَتْجَرًا. فَأَيْنَ الْمَالِكِيُّونَ، وَالْحَنَفِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ الْمُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ، وَالْمُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ وَافَقُوا هَهُنَا كِلاَ الأَمْرَيْنِ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ، قَوْلُهُمْ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ الَّذِي لَمْ يَصِحَّ عَنْهَا أَبْلَغَنِي زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ فِي ابْتِيَاعِهِ عَبْدًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَيْعِهِ إيَّاهُ مِنْ الَّتِي بَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا، وَقَدْ خَالَفَهَا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَالُوا: "مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ.، وَلَمْ يَقُولُوا هَهُنَا فِيمَا صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِمَّا لَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفُهُ مِنْ إبَاحَةِ قَطْعِ الأَيْدِي فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ جُمْلَةً فَهَلاَّ قَالُوا: "مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ"، وَلَكِنْ هَهُنَا يَلُوحُ تَنَاقُضُهُمْ فِي كُلِّ مَا تَحْكُمُوا بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى السَّلاَمَةِ.وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَثُرَ الْقَائِلُونَ بِهِ أَمْ قَلُّوا كَائِنًا مَنْ كَانَ الْقَائِلُ، لاَ نَتَكَهَّنُ فَنَقُولُ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَنَنْسُبُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ جِهَارًا. وَالْحُجَّةُ كُلُّهَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَبَيْعُ الْمَصَاحِفِ كُلِّهَا حَلاَلٌ، إذْ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَلَوْ فَصَّلَ تَحْرِيمَهُ لَحَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَقُومَ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى عِبَادِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/47)
1558 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ
سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى حَالَّةً، أَوْ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَرِيبًا أَوْ
بَعِيدًا فَلَهُ أَنْ يَبْتَاعَ تِلْكَ السِّلْعَةَ مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ
بِثَمَنٍ مِثْلِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ مِنْهُ، وَبِأَكْثَرَ مِنْهُ، وَبِأَقَلَّ
حَالًّا وَإِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَقْرَبَ مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ إلَيْهِ،
أَوْ أَبْعَدَ وَمِثْلَهُ، كُلُّ ذَلِكَ حَلاَلٌ لاَ كَرَاهِيَةَ فِي شَيْءٍ
مِنْهُ، مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ، عَنْ شَرْطٍ مَذْكُورٍ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ،
فَإِنْ كَانَ، عَنْ شَرْطٍ فَهُوَ حَرَامٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا مَحْكُومٌ فِيهِ
بِحُكْمِ الْغَصْبِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِهِمَا.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَوْله
تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَانِ بَيْعَانِ
فَهُمَا حَلاَلاَنِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَأْتِ تَفْصِيلُ تَحْرِيمِهِمَا
فِي كِتَابٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا
كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فَلَيْسَا بِحَرَامٍ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ ذَلِكَ
فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ"
(9/47)
وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى
أَنَّ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَا وَقَبَضَ السِّلْعَةَ ثُمَّ بَاعَهَا
مِنْ الْبَائِعِ لَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ
قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ هُوَ الثَّمَنَ الَّذِي كَانَ اشْتَرَاهَا هُوَ بِهِ:
فَالْبَيْعُ الثَّانِي بَاطِلٌ فَإِنْ بَاعَهَا مِنْ الَّذِي كَانَ ابْتَاعَهَا
مِنْهُ بِدَنَانِيرَ، وَكَانَ هُوَ قَدْ اشْتَرَاهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ ابْتَاعَهَا
بِدَنَانِيرَ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهَا بِدَرَاهِمَ فَإِنْ كَانَ قِيمَةُ
الثَّمَنِ الثَّانِي أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الثَّمَنِ الأَوَّلِ فَإِنَّهُ لاَ
يَجُوزُ. فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ بَاعَهَا
مِنْ الَّذِي ابْتَاعَهَا هُوَ مِنْهُ بِسِلْعَةٍ جَازَ ذَلِكَ كَانَ ثَمَنُهَا
أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ أَوْ أَكْثَرَ. فَإِنْ
ابْتَاعَهَا فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا بِثَمَنٍ ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهَا
مِنْهُ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهَا بِهِ مِنْهُ فَهُوَ
جَائِزٌ. قَالَ: "وَكُلُّ مَا يَحْرُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى
الْبَائِعِ الأَوَّلِ فَهُوَ يَحْرُمُ عَلَى شَرِيكِهِ فِي التِّجَارَةِ الَّتِي
تِلْكَ السِّلْعَةُ مِنْهَا"، وَعَلَى وَكِيلِهِ، وَعَلَى مُدَبَّرِهِ،
وَعَلَى مُكَاتَبِهِ، وَعَلَى عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ, وقال
مالك: "مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى،
ثُمَّ ابْتَاعَهَا هُوَ مِنْ الَّذِي ابْتَاعَهَا مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
الثَّمَنِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الأَجَلِ لَمْ يَجُزْ. فَإِنْ ابْتَاعَ سِلْعَةً
لَيْسَتْ طَعَامًا، وَلاَ شَرَابًا بِثَمَنٍ مُسَمًّى ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ
الَّذِي كَانَ بَاعَهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ
ذَلِكَ الثَّمَنِ أَوْ بِأَكْثَرَ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مِنْ
أَهْلِ الْعَيْنَةِ وَقَدْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ فَإِنْ ابْتَاعَ
سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُسَمًّى إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَبِيعَهَا مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ،
أَوْ بِسِلْعَةٍ تُسَاوِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا، أَوْ إلَى
أَجَلٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ أَوْ مِثْلِهِ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ
ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ الَّذِي بَاعَهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ
مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ نَقْدًا، أَوْ إلَى أَجَلٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ،
أَوْ مِثْلِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ بَائِعِهَا مِنْهُ بِثَمَنٍ
أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الأَجَلِ، وَلاَ
بِسِلْعَةٍ تُسَاوِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ
الأَجَلِ".
قال أبو محمد: "احْتَجَّ أَهْلُ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ بِمَا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ امْرَأَتِهِ، وَمِنْ طَرِيقِ
يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أُمِّهِ الْعَالِيَةَ بِنْتِ أَيْفَعَ بْنِ
شُرَحْبِيلَ، ثُمَّ اتَّفَقَا عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمِّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَقَالَتْ أُمُّ وَلَدِ
زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: "إنِّي بِعْت غُلاَمًا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ
بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً إلَى الْعَطَاءِ وَاشْتَرَيْتُهُ
بِسِتِّمِائَةٍ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّك قَدْ أَبْطَلْت
جِهَادَك مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ بِئْسَمَا
اشْتَرَيْت وَبِئْسَمَا شَرَيْت قَالَتْ: أَرَأَيْت إنْ لَمْ آخُذْ إِلاَّ رَأْسَ
مَالِي قَالَتْ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ فَقَالُوا: مِثْلُ هَذَا الْوَعِيدِ لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ، وَلاَ فِيمَا
سَبِيلُهُ الأَجْتِهَادُ فَصَحَّ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ". وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا سُفْيَانُ
(9/48)
الثَّوْرِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ
التَّيْمِيِّ، عَنْ حَيَّانَ بْنِ عُمَيْرٍ الْقَيْسِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي
الرَّجُلِ يَبِيعُ الْجَرِيرَةَ إلَى رَجُلٍ فَكَرِهَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا يَعْنِي
بِدُونِ مَا بَاعَهَا. وَقَالُوا: "هِيَ دَرَاهِمُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا"
وَقَالُوا: "هَذَانِ أَرَادَا الرِّبَا فَتَحَيَّلاَ لَهُ بِهَذَا الْبَيْعِ
مَا لَهُمْ شَيْءٌ شَغَبُوا بِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ".
فأما خَبَرُ امْرَأَةِ أَبِي إِسْحَاقَ فَفَاسِدٌ جِدًّا، لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا
أَنَّ امْرَأَةَ أَبِي إِسْحَاقَ مَجْهُولَةُ الْحَالِ، لَمْ يَرْوِ عَنْهَا
أَحَدٌ غَيْرُ زَوْجِهَا، وَوَلَدُهَا يُونُسُ، عَلَى أَنَّ يُونُسَ قَدْ
ضَعَّفَهُ شُعْبَةُ بِأَقْبَحِ التَّضْعِيفِ وَضَعَّفَهُ يَحْيَى الْقَطَّانُ،
وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جِدًّا، وَقَالَ فِيهِ شُعْبَةُ: أَمَا قَالَ لَكُمْ:
حَدَّثَنَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ مُدَلِّسٌ،
وَأَنَّ امْرَأَةَ أَبِي إِسْحَاقَ لَمْ تَسْمَعْهُ مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ عَنْهَا زَوْجُهَا، وَلاَ وَلَدُهَا: أَنَّهَا
سَمِعَتْ سُؤَالَ الْمَرْأَةِ لأَُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ جَوَابَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ لَهَا، إنَّمَا فِي حَدِيثِهَا دَخَلْت عَلَى أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، أَنَا، وَأُمُّ وَلَدٍ لِزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، فَسَأَلَتْهَا
أُمُّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ وَهَذَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ السُّؤَالُ
فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِهِ، فَوَجَدْنَا مَا
حَدَّثَنَاهُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الأَنْصَارِيُّ أَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ اللَّخْمِيُّ
أَخْبَرَنَا ابْنُ مُفَرِّجٍ الْقَاضِي أَنَا الْحَسَنُ بْنُ مَرْوَانَ
الْقَيْسَرَانِيُّ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُعَاوِيَةَ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ امْرَأَةِ أَبِي السَّفَرِ أَنَّهَا بَاعَتْ مِنْ زَيْدِ بْنِ
أَرْقَمَ خَادِمًا لَهَا بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ، فَاحْتَاجَ
فَابْتَاعَتْهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَأَلَتْ عَائِشَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: "بِئْسَ مَا شَرَيْت وَبِئْسَ مَا اشْتَرَيْت
مِرَارًا"، أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ جِهَادُهُ
إنْ لَمْ يَتُبْ قَالَتْ: "فَإِنْ لَمْ آخُذْ إِلاَّ رَأْسَ مَالِي قَالَتْ
عَائِشَةُ: فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا
سَلَفَ", وَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ امْرَأَتِهِ قَالَتْ:
"سَمِعْت امْرَأَةَ أَبِي السَّفَرِ تَقُولُ: سَأَلْت عَائِشَةَ أُمَّ
الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْت: بِعْت زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ خَادِمًا إلَى الْعَطَاءِ
بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَابْتَعْتهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ
فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ بِئْسَ مَا شَرَيْت أَوْ بِئْسَ مَا اشْتَرَيْت
أَبْلِغِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يَتُوبَ قَالَتْ: أَفَرَأَيْت إنْ أَخَذْت
رَأْسَ مَالِي قَالَتْ: "لاَ بَأْسَ فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ
فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ" فَبَيَّنَ سُفْيَانُ الدَّفِينَةَ الَّتِي فِي
هَذَا الْحَدِيثِ وَأَنَّهَا لَمْ تَسْمَعْهُ امْرَأَةُ أَبِي إِسْحَاقَ مِنْ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا رَوَتْهُ، عَنْ امْرَأَةِ أَبِي السَّفَرِ،
وَهِيَ الَّتِي بَاعَتْ مِنْ زَيْدٍ، وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِزَيْدٍ، وَهِيَ فِي
الْجَهَالَةِ أَشَدُّ وَأَقْوَى مِنْ امْرَأَةِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَصَارَتْ
مَجْهُولَةً عَنْ أَشَدَّ مِنْهَا جَهَالَةً وَنَكِرَةً فَبَطَلَ جُمْلَةً
وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَلَيْسَ بَيْنَ يُونُسَ، وَبَيْنَ سُفْيَانَ
نِسْبَةٌ فِي الثِّقَةِ وَالْحِفْظِ، فَالرِّوَايَةُ مَا رَوَى سُفْيَانُ.
وَالثَّالِثُ أَنَّ مِنْ الْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ عَلَى كَذِبِ هَذَا الْخَبَرِ
وَوَضْعِهِ، وَأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا أَصْلاً: مَا فِيهِ
مِمَّا نُسِبَ إلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنَّهَا قَالَتْ: أَبْلِغِي زَيْدَ
بْنَ أَرْقَمَ أَنَّهُ قَدْ
(9/49)
أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ وَزَيْدٌ لَمْ يَفُتْهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا غَزْوَتَانِ فَقَطْ بَدْرٌ، وَأُحُدٌ فَقَطْ، وَشَهِدَ مَعَهُ عليه السلام سَائِرَ غَزَوَاتِهِ، وَأَنْفَقَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، وَشَهِدَ بَيْعَةَ الرَّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَنَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وَشَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بِالصِّدْقِ وَبِالْجَنَّةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وَنَصَّ الْقُرْآنُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَضِيَ عَنْهُ وَعَنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَوَاَللَّهِ مَا يُبْطِلُ هَذَا كُلَّهُ ذَنْبٌ مِنْ الذُّنُوبِ غَيْرُ الرِّدَّةِ، عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَطْ، وَقَدْ أَعَاذَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِرِضَاهُ عَنْهُ، وَأَعَاذَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ تَقُولَ هَذَا الْبَاطِلَ. وَالرَّابِعُ أَنَّهُ يُوَضِّحُ كَذِبَ هَذَا الْخَبَرِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ زَيْدًا أَتَى أَعْظَمَ الذُّنُوبِ مِنْ الرِّبَا الْمُصَرَّحِ وَهُوَ لاَ يَدْرِي أَنَّهُ حَرَامٌ لَكَانَ مَأْجُورًا فِي ذَلِكَ أَجْرًا وَاحِدًا غَيْرَ آثِمٍ، وَلَكَانَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا لأَبْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه فِي إبَاحَةِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ جِهَارًا يَدًا بِيَدٍ، وَمَا لِطَلْحَةَ رضي الله عنه إذْ أَخَذَ دَنَانِيرَ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ ثُمَّ أَخَّرَهُ بِالدَّرَاهِمِ فِي صَرْفِهَا إلَى مَجِيءِ خَازِنِهِ مِنْ الْغَابَةِ بِحَضْرَةِ عُمَرَ رضي الله عنه: فَمَا زَادَ عُمَرُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ تَعْلِيمِهِ، وَلاَ زَادَ أَبُو سَعِيدٍ عَلَى لِقَاءِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَعْلِيمِهِ. وَمَا أَبْطَلَ عُمَرُ. وَلاَ أَبُو سَعِيدٍ بِذَلِكَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً مِنْ عَمَلِ طَلْحَةَ. وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكِلاَ الْوَجْهَيْنِ بِالنَّصِّ الثَّابِتِ رِبًا صُرَاحٌ، وَلاَ شَيْءَ فِي الرِّبَا فَوْقَهُ. فَكَيْفَ يُظَنُّ بِأُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إبْطَالُ جِهَادِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي شَيْءٍ عَمِلَهُ مُجْتَهِدًا، لاَ نَصَّ فِي الْعَالَمِ يُوجَدُ خِلاَفُهُ، لاَ صَحِيحٌ، وَلاَ مِنْ طَرِيقٍ وَاهِيَةٍ هَذَا وَاَللَّهِ الْكَذِبُ الْمَحْضُ الْمَقْطُوعُ بِهِ، فَلْيَتُبْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَنْ يُحَرِّمُ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. فَهَذِهِ بَرَاهِينُ أَرْبَعَةٌ فِي بُطْلاَنِ هَذَا الْخَبَرِ، وَأَنَّهُ خُرَافَةٌ مَكْذُوبَةٌ ثم نقول: "إنَّهُ لَوْ صَحَّ صِحَّةَ الشَّمْسِ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا أَنَّهُ قَوْلٌ مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ"، وَمَا قَوْلُهَا بِأَوْلَى مِنْ قَوْلِ زَيْدٍ وَإِنْ كَانَتْ أَفْضَلَ مِنْهُ إذَا تَنَازَعَا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وَلَمْ يَأْمُرْنَا بِالرَّدِّ إلَى أَحَدٍ دُونَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالثَّانِي أَنْ نَقُولَ لَهُمْ كَمْ قَوْلَةٍ رَدَدْتُمُوهَا لأَُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدَّعَاوَى الْفَاسِدَةِ كَبَيْعِهَا الْمُدَبَّرَةَ وَإِبَاحَتِهَا الأَشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، فَاطَّرَحْتُمْ حُكْمَهَا وَتَعَلَّقْتُمْ بِمُخَالَفَةِ عُمَرَ لَهَا فِي الْمُدَبَّرَةِ وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ مَنْ قَدَّمَ ثِقْلَهُ مِنْ مِنًى قَبْلَ أَنْ يَنْفِرَ فَلاَ حَجَّ لَهُ، وَالأَشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ، فَأَطْرَحْتُمْ قَوْلَ عُمَرَ، وَلَمْ تَقُولُوا: "مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَنَّهُ تَوْقِيفٌ وَخَالَفْتُمُوهُ" لِقَوْلِ ابْنِهِ: لاَ أَعْرِفُ الأَشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ، فَمَرَّةً يَكُونُ قَوْلُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ حُجَّةً، وَمَرَّةً لاَ يُشْتَغَلُ بِهِ، وَمَرَّةً تَكُونُ عَائِشَةُ حُجَّةً عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، وَعُمَرُ حُجَّةً عَلَى عَائِشَةَ، وَابْنُ عُمَرَ حُجَّةً عَلَى عُمَرَ، وَغَيْرُ ابْنِ عُمَرَ حُجَّةً عَلَى ابْنِ عُمَرَ وَهَذَا هُوَ التَّلاَعُبُ بِالدِّينِ وَبِالْحَقَائِقِ
(9/50)
وَالثَّالِثُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
قَدْ صَحَّ عَنْهُ مَا أَوْرَدْنَاهُ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا مِنْ
قَوْلِهِ: وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت الأَيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ
فَهَلاَّ قُلْتُمْ مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ كَمَا قُلْتُمْ هَهُنَا
وَالرَّابِعُ أَنَّ مِنْ الضَّلاَلِ الْعَظِيمِ أَنْ يُظَنَّ أَنَّ عِنْدَهَا، رضي
الله عنها، فِي هَذَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَثَرًا ثُمَّ
تَكْتُمُهُ فَلاَ تَرْوِيهِ لأََحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى حَاشَا لَهَا
مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَنْ تَكْتُمَ مَا عِنْدَهَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
فَمَا حَصَلُوا إِلاَّ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فِي تَقْوِيلِهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ قَطُّ، إذْ لَوْ قَالَهُ لَكَانَ مَحْفُوظًا
بِحِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى بَلَغَ إلَى أُمَّتِهِ، وَالْكَذِبِ عَلَى أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ. وَالْخَامِسُ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ الْبَيْعَ إلَى الْعَطَاءِ
بِقَوْلِهَا بِئْسَ مَا شَرَيْت وَالْمَالِكِيُّونَ يُبِيحُونَهُ بِمِثْلِ هَذَا،
وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا نِصْفُ كَلاَمِهَا حُجَّةٌ وَنِصْفُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ
وَالسَّادِسُ أَنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ
خَدِيجِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أُمِّ
مَحَبَّةَ خَتَنَةِ أَبِي السَّفَرِ أَنَّهَا نَذَرَتْ مَشْيًا إلَى مَكَّةَ
فَعَجَزَتْ فَقَالَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ لَكِ ابْنَةٌ تَمْشِي عَنْكِ؟
قَالَتْ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهَا أَعْظَمُ فِي نَفْسِهَا مِنْ ذَلِكَ. فَإِنْ
كَانَتْ هَذِهِ الطَّرِيقُ لاَ حُجَّةَ فِيهَا فَهِيَ تِلْكَ نَفْسُهَا أَوْ
مِثْلُهَا، بَلْ قَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، عَنْ أُمِّ
مَحَبَّةَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَبَرُ حُجَّةً فَهَذَا حُجَّةٌ،
وَإِلَّا فَقَدْ حَصَلَ التَّنَاقُضُ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الأَحْتِجَاجِ
جُمْلَةً وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ: فَهُوَ رَأْيٌ مِنْهُ، وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ
عُمَرَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ
لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "ذُكِرَ لأَبْنِ عُمَرَ رَجُلٌ بَاعَ سَرْجًا
بِنَقْدٍ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ بِدُونِ مَا بَاعَهُ قَبْلَ أَنْ
يَنْتَقِد"َ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "لَعَلَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْ
غَيْرِهِ بَاعَهُ بِدُونِ ذَلِكَ وَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا", وَكَمْ قِصَّةٍ
لأَبْنِ عَبَّاسٍ خَالَفُوهُ فِيهَا كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا آنِفًا فَسَقَطَ
تَعَلُّقُهُمْ بِابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ
قَالَ لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الشَّيْءَ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ يَبِيعَهُ مِنْ
الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ إذَا قَاصَصَهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهَا دَرَاهِمُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا
فَعَجَبٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ جِدًّا، وَقَدْ قُلْت لِبَعْضِهِمْ: مَا تَقُولُونَ
فِيمَنْ بَاعَ سِلْعَةً إلَى أَجَلٍ بِدِينَارٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا بِنَقْدٍ
بِدِينَارَيْنِ؟ فَقَالَ: حَلاَلٌ فَقُلْت لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ
يَكُونَ إذَا بَاعَهُ بِدِينَارَيْنِ وَاشْتَرَاهُ بِدِينَارٍ رِبًا وَدِينَارًا
بِدِينَارَيْنِ، وَلَمْ يَجِبْ إذَا بَاعَهُ بِدِينَارٍ إلَى أَجَلٍ وَاشْتَرَاهُ
بِدِينَارَيْنِ أَنْ يَكُونَ رِبًا وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ، وَهَلْ فِي
الْهَوَسِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَبِيعَ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو دِينَارًا
بِدِينَارَيْنِ فَيَكُونَ رِبًا، وَيَبِيعَ مِنْهُ دِينَارَيْنِ بِدِينَارٍ فَلاَ
يَكُونُ رِبًا، لَيْتَ شِعْرِي فِي أَيِّ دِينٍ وَجَدْتُمْ هَذَا أَمْ فِي أَيِّ
عَقْلٍ فَمَا أَتَى بِفَرْقٍ، وَلاَ يَأْتُونَ بِهِ أَبَدًا.وَأَمَا قَوْلُهُمْ:
إنَّهُمَا أَرَادَا الرِّبَا كَمَا ذَكَرْنَا فَتَحَيَّلاَ بِهَذَا
(9/51)
الْعَمَلِ فَجَوَابُهُمْ
أَنَّهُمَا إنْ كَانَا أَرَادَا الرِّبَا كَمَا ذَكَرْتُمْ فَتَحَيَّلاَ بِهَذَا
الْعَمَلِ، فَبَارَكَ اللَّهُ فِيهِمَا، فَقَدْ أَحْسَنَا مَا شَاءَا إذْ هَرَبَا
مِنْ الرِّبَا الْحَرَامِ إلَى الْبَيْعِ الْحَلاَلِ، وَفَرَّا مِنْ مَعْصِيَةِ
اللَّهِ تَعَالَى إلَى مَا أَحَلَّ، وَلَقَدْ أَسَاءَ مَا شَاءَ مَنْ أَنْكَرَ
هَذَا عَلَيْهِمَا، وَأَثِمَ مَرَّتَيْنِ لأَِنْكَارِهِ إحْسَانَهُمَا، ثُمَّ
لِظَنِّهِ بِهِمَا مَا لَعَلَّهُمَا لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِمَا، وَقَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ" .
وَأَمَّا أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَدْ
ذَكَرْنَا طَرَفًا يَسِيرًا مِنْ تَقْسِيمِهِمَا، وَكُلُّ مَنْ تَأَمَّلَهُ يَرَى
أَنَّهَا تَقَاسِيمُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَالتَّنَاقُضِ. كَتَفْرِيقِ أَبِي
حَنِيفَةَ بَيْنَ ابْتِيَاعِهِ بِسِلْعَةٍ وَبَيْنَ ابْتِيَاعِهِ بِدَنَانِيرَ،
وَفِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ إنَّمَا بَاعَ بِدَرَاهِمَ وَكَتَحْرِيمِهِ ذَلِكَ
عَلَى وَكِيلِهِ وَشَرِيكِهِ وَكَتَفْرِيقِ مَالِكٍ بَيْنَ ابْتِيَاعِهِ
بِأَكْثَرَ مِمَّا كَانَ بَاعَهَا بِهِ فَيَرَاهُ حَلاَلاً، وَبَيْنَ ابْتِيَاعِهِ
بِأَقَلَّ فَيَرَاهُ حَرَامًا، وَهَذِهِ عَجَائِبُ بِلاَ دَلِيلٍ كَمَا تَرَى
ثُمَّ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْهَمَ أَنَّهُ أَخَذَ بِخَبَرِ عَائِشَةَ، رضي الله
عنها، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ، لأََنَّهُ يَرَى ذَلِكَ فِيمَنْ بَاعَ بِثَمَنٍ
حَالٍّ مَا لَمْ يَنْتَقِدْ جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَلَيْسَ هَذَا فِي خَبَرِ
عَائِشَةَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/52)
1559 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ دُورِ مَكَّةَ أَعَزَّهَا اللَّهُ تَعَالَى وَابْتِيَاعُهَا حَلاَلٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْحَجِّ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.
(9/52)
وبيع الأعمى أو ابتاعياعه بالصفة
جائز
...
1560 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الأَعْمَى، أَوْ ابْتِيَاعُهُ بِالصِّفَةِ جَائِزٌ
كَالصَّحِيحِ، وَلاَ فَرْقَ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ
بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/52)
1561- مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْعَبْدِ، وَابْتِيَاعُهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ جَائِزٌ، مَا لَمْ يَنْتَزِعْ سَيِّدُهُ مَالَهُ فَإِنْ انْتَزَعَهُ فَهُوَ حِينَئِذٍ مَالُ السَّيِّدِ، لاَ يَحِلُّ لِلْعَبْدِ التَّصَرُّفُ فِيهِ، برهان ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} فَلَمْ يَخُصَّ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَلَوْ كَانَ بَيْعُ الْعَبْدِ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ حَرَامًا لَفَصَّلَهُ، عَزَّ وَجَلَّ، لَنَا، وَلَمَا أَلْجَأَنَا فِيهِ إلَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ وَالآرَاءِ الْمُدَبَّرَةِ. فَإِذْ لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فَصَحَّ أَنَّهُ حَلاَلٌ غَيْرُ حَرَامٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الزَّكَاةِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَغَيْرِهِ صِحَّةَ مِلْكِ الْعَبْدِ لِمَالِهِ، وَأَمَّا انْتِزَاعُ السَّيِّدِ مَالَ الْعَبْدِ فَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَعْطَى الْحَجَّامَ أَجْرَهُ وَسَأَلَ، عَنْ ضَرِيبَتِهِ فَأَمَرَ مَوَالِيَهِ أَنْ يُخَفِّفُوا عَنْهُ مِنْهَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [ قَالَ ] "حَجَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لِبَنِي بَيَاضَةَ فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجْرَهُ وَكَلَّمَ سَيِّدَهُ فَخَفَّفَ عَنْهُ مِنْ ضَرِيبَتِهِ" فَصَحَّ أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ لأََنَّهُ عليه السلام أَعْطَاهُ أَجْرَهُ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا أَعْطَاهُ مَا لَيْسَ لَهُ وَصَحَّ أَنَّ لِلسَّيِّدِ أَخْذَهُ بِأَمْرِهِ عليه السلام بِأَنْ يُخَفِّفَ
(9/52)
1562 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الْمَرْأَةِ مُذْ تَبْلُغُ الْبِكْرِ ذَاتِ الأَُبِ، وَغَيْرِ ذَاتِ الأَُبِ وَالثَّيِّبِ ذَاتِ الزَّوْجِ وَاَلَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا جَائِزٌ، وَابْتِيَاعُهَا كَذَلِكَ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي " كِتَابِ الْحَجْرِ " مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ.
(9/54)
ومن مالك معدنا له جاز بيعه
...
1563 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَلَكَ مَعْدِنًا لَهُ جَازَ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ مَالٌ
مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ مَعْدِنَ ذَهَبٍ لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ بِذَهَبٍ،
لِأَنَّهُ ذَهَبٌ بِأَكْثَرَ مِنْهُ، إذْ الذَّهَبُ مَخْلُوقٌ فِي مَعْدِنِهِ
كَمَا هُوَ هُوَ، جَائِزٌ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ [ وَبِغَيْرِ الْفِضَّةِ ]
نَقْدًا وَإِلَى أَجَلٍ وَحَالًّا فِي الذِّمَّةِ، فَإِنْ كَانَ مَعْدِنَ فِضَّةٍ
جَازَ بَيْعُهُ بِفِضَّةٍ أَوْ بِذَهَبٍ نَقْدًا، أَوْ فِي الذِّمَّةِ، وَإِلَى
أَجَلٍ، لِأَنَّهُ لَا فِضَّةَ هُنَالِكَ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِيلُ تُرَابُهُ
بِالطَّبْخِ فِضَّةً. وَمَنْ خَالَفَنَا فِي هَذَا فَقَدْ أَجَازَ بَيْعَ
النَّخْلِ لَا ثَمَرَ فِيهَا بِالتَّمْرِ نَقْدًا وَحَالًّا فِي الذِّمَّةِ
وَنَسِيئَةً، وَالتَّمْرُ يَخْرُجُ مِنْهَا وَكَذَلِكَ أَبَاحَ بَيْعَ الأَُرْضِ بِالْبُرِّ،
وَكُلُّ هَذَا سَوَاءٌ - وَبِاَللَّهِ - تَعَالَى - التَّوْفِيقُ.
(9/54)
1564 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ
الْكَلاَِ جَائِزٌ فِي أَرْضٍ وَبَعْدَ قَلْعِهِ، لأََنَّهُ مَالٌ مِنْ مَالِ
صَاحِبِ الأَرْضِ وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ مَالِ الْمَرْءِ فَهُوَ مِنْ
مَالِهِ، كَالْوَلَدِ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالثَّمَرِ، وَالنَّبَاتِ وَاللَّبَنِ
وَالصُّوفِ. وَغَيْرِ ذَلِكَ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِتَحْرِيمِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا،
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وقال أبو حنيفة: "لاَ يَحِلُّ
بَيْعُ الْكَلاَِ إِلاَّ بَعْدَ قَلْعِهِ".قَالَ عَلِيٌّ: وَمَا نَعْلَمُ
لِهَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً أَصْلاً وَإِنَّمَا هُوَ تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ، وَدَعْوَى
سَاقِطَةٌ فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حُرَيْزِ بْنِ
عُثْمَانَ أَنَا أَبُو خِدَاشٍ " أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ غَزَوَاتٍ فَسَمِعَهُ يَقُولُ: الْمُسْلِمُونَ
شُرَكَاءُ فِي ثَلاَثٍ الْمَاءُ وَالْكَلاَُ وَالنَّارُ" وَرَوَاهُ أَيْضًا
حُرَيْزُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ حِبَّانَ بْنِ زَيْدٍ الشَّرْعَبِيِّ وَهُوَ أَبُو
خِدَاشٍ نَفْسُهُ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَرْنٍ وَمِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ
أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْجُرَيْرِيُّ قَالَ لِي وَهْبُ بْنُ
مُنَبِّهٍ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا السُّحْتَ بَيْعَ
الشَّجَرِ وَإِجَارَةَ الأَمَةِ الْمُسَافِحَةِ وَثَمَنَ الْخَمْرِ" وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ أَنَا
أَبِي كَهْمَسٍ، عَنْ سَيَّارِ بْنِ مَنْظُورٍ الْفَزَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
بُهَيْسَةَ، عَنْ أَبِيهَا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَا الَّذِي لاَ
يَحِلُّ بَيْعُهُ فَأَجَابَهُ: الْمَاءُ، وَالْمِلْحُ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ لاَ شَيْءَ أَبُو خِدَاشٍ هُوَ حِبَّانُ بْنُ زَيْدٍ
الشَّرْعَبِيُّ نَفْسُهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ
الْحَنَفِيِّينَ، لأََنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَاءِ
أَوْلَى بِهِ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ النَّارِ فَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ,وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ
(9/54)
1565 - مَسْأَلَةٌ: وَبَيْعُ الشِّطْرَنْجِ، وَالْمَزَامِيرِ، وَالْعِيدَانِ، وَالْمَعَازِفِ، وَالطَّنَابِيرِ: حَلاَلٌ كُلُّهُ، وَمَنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ضَمِنَهُ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صُورَةً مُصَوَّرَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَى كَاسِرِهَا، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، لأََنَّهَا مَالٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهَا.وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَابْتِيَاعُهُنَّ. قَالَ تَعَالَى: { خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِتَحْرِيمِ بَيْعِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ َرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ الضَّمَانَ عَلَى مَنْ كَسَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ بِآثَارٍ لاَ تَصِحُّ، أَوْ يَصِحُّ بَعْضُهَا، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا، وَهِيَ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ،عَنْ أَبِي سَلاَمٍ،عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الأَزْرَقِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى لله عليه وسلم: كُلُّ شَيْءٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَبَاطِلٌ، إِلاَّ رَمْيَ الرَّجُلِ بِقَوْسِهِ، أَوْ تَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ، أَوْ مُلاَعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ، فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ" عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ الأَزْرَقِ مَجْهُولٌ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَا أَبُو سَلاَمٍ الدِّمَشْقِيُّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ لِي عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لَهْوُ الْمُؤْمِنِ إِلاَّ ثَلاَثٌ .. ثُمَّ ذَكَرَهُ. خَالِدُ
(9/55)
بْنُ زَيْدٍ مَجْهُولٌ.وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا سَعِيدٌ، أَخْبَرَنَا ابْنُ حَفْصٍ أَنَا مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحِيمِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ رَأَيْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرَ بْنَ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَر: " أَمَا سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ لَعِبٌ، لاَ يَكُونُ أَرْبَعَةً: مُلاَعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمَشْيُ الرَّجُلِ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَعْلِيمُ الرَّجُلِ السِّبَاحَةَ" هَذَا حَدِيثٌ مَغْشُوشٌ مُدَلَّسٌ دُلْسَةَ سُوءٍ، لأََنَّ الزُّهْرِيَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ لَيْسَ هُوَ ابْنَ شِهَابٍ، لَكِنَّهُ رَجُلٌ زُهْرِيٌّ مَجْهُولٌ اسْمُهُ عَبْدُ الرَّحِيمِ. رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ الْحَرَّانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، هُوَ خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَهُوَ خَالُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ: رَأَيْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرَ بْنَ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيَّيْنِ يَرْمِيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ لَهْوٌ وَلَعِبٌ، إِلاَّ أَرْبَعَةً: مُلاَعَبَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَتَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ، وَمَشْيُهُ بَيْنَ الْغَرَضَيْنِ، وَتَعْلِيمُ الرَّجُلِ السِّبَاحَةَ" فَسَقَطَ هَذَا الْخَبَرُ.وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيم أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ أَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْتٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ رَأَيْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَجَابِرَ بْنَ عُبَيْدٍ، فَذَكَرَهُ، وَفِيهِ "كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ لَغْوٌ وَسَهْو"ٌ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ أَنَّهُ سَهْوٌ وَلَغْوٌ وَلَيْسَ فِيهِ تَحْرِيمٌ َرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْعَبَّاسِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدُّورِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْعَبْدِيِّ أَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي رَزِينٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْمُغَنِّيَةَ وَبَيْعَهَا وَثَمَنَهَا وَتَعْلِيمَهَا وَالأَسْتِمَاعَ إلَيْهَا" فِيهِ: لَيْثٌ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي رَزِينٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ أَخِيهِ، وَمَا أَدْرَاك مَا عَنْ أَخِيهِ هُوَ مَا يُعْرَفُ وَقَدْ سُمِّيَ، فَكَيْفَ أَخُوهُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ أَنَا أَبُو أَحْمَدَ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ سَهْلٍ الْمَرْوَزِيُّ أَنَا لاَحِقُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَقْدِسِيُّ قَدِمَ مَرْوَ أَنَا أَبُو الْمُرَجَّى ضِرَارُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عُمَيْرٍ الْقَاضِي الْجِيلاَنِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ الْحِمْصِيُّ أَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا عَمِلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلاَءُ فَذَكَرَ مِنْهُنَّ وَاِتَّخَذُوا الْقَيْنَاتِ، وَالْمِعْزَفَ فَلْيَتَوَقَّعُوا عِنْدَ ذَلِكَ رِيحًا حَمْرَاءَ، وَمَسْخًا وَخَسْفًا" لاَحِقُ بْنُ الْحُسَيْنِ. وَضِرَارُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالْحِمْصِيُّ مَجْهُولُونَ. وَفَرَجُ
(9/56)
بْنُ فَضَالَةَ حِمْصِيٌّ
مَتْرُوكٌ، تَرَكَهُ يَحْيَى، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ
أَصْبَغَ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ النَّيْسَابُورِيُّ أَنَا أَبُو
عُبَيْدَةَ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَا أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي
هَاشِمٍ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ
بْنُ الْعَلاَءِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ كَيْسَانَ مَوْلَى
مُعَاوِيَةَ أَنَا مُعَاوِيَةُ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم عَنْ تِسْعٍ وَأَنَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُنَّ الآنَ فَذَكَرَ فِيهِنَّ:
الْغِنَاءَ، وَالنَّوْحَ" مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ ضَعِيفٌ. وَكَيْسَانُ مَجْهُولٌ.وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنَا سَلاَمُ بْنُ
مِسْكِينٍ، عَنْ شَيْخٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ: "سَمِعْت
ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
إنَّ الْغِنَاءَ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ" عَنْ شَيْخٍ عَجَبٌ
جِدًّا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ أَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا زَيْدُ بْنُ
الْحُبَابِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ أَنَا حَاتِمُ بْنُ حُرَيْثٍ،عَنْ
مَالِكِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ
حَدَّثَنِي أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم يَقُولُ: "يَشْرَبُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا
بِغَيْرِ اسْمِهَا يُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ وَالْقَيْنَاتِ
يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ" مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ ضَعِيفٌ،
وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ الْوَعِيدَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْمَعَازِفِ،
كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اتِّخَاذِ الْقَيْنَاتِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى
اسْتِحْلاَلِهِمْ الْخَمْرَ بِغَيْرِ اسْمِهَا وَالدِّيَانَةُ لاَ تُؤْخَذُ
بِالظَّنِّ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْحَضْرَمِيُّ الْقَاضِي أَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْخَلَّاصِ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ
بْنِ شَعْبَانَ الْمِصْرِيُّ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَعِيدٍ
أَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْغِمْرِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ بِحِمْصَ، وَيَزِيدُ بْنُ
عَبْدِ الصَّمَدِ أَنَا عُبَيْدُ بْنُ هِشَامٍ الْحَلَبِيُّ، هُوَ ابْنُ نُعَيْمٍ
أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَال: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:: "مَنْ جَلَسَ إلَى قَيْنَةٍ فَسَمِعَ مِنْهَا
صَبَّ اللَّهُ فِي أُذُنَيْهِ الآنُكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" هَذَا حَدِيثٌ
مَوْضُوعٌ مُرَكَّبٌ، فَضِيحَةٌ مَا عُرِفَ قَطُّ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ، وَلاَ مِنْ
رِوَايَةِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَلاَ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَلاَ مِنْ جِهَةِ
ابْنِ الْمُبَارَكِ وَكُلُّ مَنْ دُونَ ابْنِ الْمُبَارَكِ إلَى ابْنِ شَعْبَانَ
مَجْهُولُونَ. وَابْنُ شَعْبَانَ فِي الْمَالِكِيِّينَ نَظِيرُ عَبْدِ الْبَاقِي
بْنِ قَانِعٍ فِي الْحَنَفِيِّينَ، قَدْ تَأَمَّلْنَا حَدِيثَهُمَا فَوَجَدْنَا
فِيهِ الْبَلاَءَ الْبَيِّنَ، وَالْكَذِبَ الْبَحْتَ، وَالْوَضْعَ اللَّائِحَ،
وَعَظِيمَ الْفَضَائِحِ، فإما تَغَيَّرَ ذِكْرُهُمَا، أَوْ اخْتَلَطَتْ
كُتُبُهُمَا وَإمَّا تَعَمَّدَا الرِّوَايَةَ، عَنْ كُلِّ مَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ
مِنْ كَذَّابٍ، وَمُغَفَّلٍ يَقْبَلُ التَّلْقِينَ.
وَأَمَّا الثَّالِثَةُ وَهُوَ ثَالِثَةُ الأَثَافِي: أَنْ يَكُونَ الْبَلاَءُ مِنْ
قِبَلِهِمَا وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ، وَالصِّدْقَ وَصَوَابَ
الأَخْتِيَارِ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ شَعْبَانَ قَالَ: رَوَى هَاشِمُ بْنُ نَاصِحٍ،
عَنْ عُمَرَ بْنِ مُوسَى عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ
فَلاَ تُصَلُّوا عَلَيْهِ . هَاشِمٌ، وَعُمَرُ: مَجْهُولاَنِ، وَمَكْحُولٌ لَمْ
يَلْقَ عَائِشَةَ", وَحَدِيثٌ لاَ نَدْرِي لَهُ طَرِيقًا، إنَّمَا
(9/57)
ذَكَرُوهُ هَكَذَا مُطْلَقًا،
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: " نَهَى، عَنْ صَوْتَيْنِ مَلْعُونَيْنِ صَوْتِ
نَائِحَةٍ، وَصَوْتِ مُغَنِّيَةٍ" وَهَذَا لاَ شَيْءَ.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُطَرِّحِ بْنِ يَزِيدَ
أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زَحْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ،
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"لاَ يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ، وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ وَثَمَنُهُنَّ
حَرَامٌ وَقَدْ نَزَلَ تَصْدِيقُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: {وَمِنْ النَّاسِ
مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ
عِلْمٍ} الآيَةَ، وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا رَفَعَ رَجُلٌ قَطُّ عَقِيرَةَ
صَوْتِهِ بِغِنَاءٍ إِلاَّ ارْتَدَفَهُ شَيْطَانَانِ يَضْرِبَانِهِ عَلَى صَدْرِهِ
وَظَهْرِهِ حَتَّى يَسْكُتَ" إسْمَاعِيلُ ضَعِيفٌ، وَمُطَرِّحٌ مَجْهُولٌ،
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زُحَرَ ضَعِيفٌ، وَالْقَاسِمُ ضَعِيفٌ، وَعَلِيُّ بْنُ
يَزِيدَ دِمَشْقِيٌّ مُطَّرَحٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الأُُوَيْسِيِّ،
عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَحِلُّ تَعْلِيمُ الْمُغَنِّيَاتِ، وَلاَ
شِرَاؤُهُنَّ، وَلاَ بَيْعُهُنَّ، وَلاَ اتِّخَاذُهُنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ
وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي
لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وَاَلَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ مَا رَفَعَ رَجُلٌ عَقِيرَتَهُ بِالْغِنَاءِ إِلاَّ ارْتَدَفَهُ
شَيْطَانَانِ يَضْرِبَانِ بِأَرْجُلِهِمَا صَدْرَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى
يَسْكُتَ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ أَيْضًا، أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ مُوسَى
بْنِ أَعْيَنَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ تَعْلِيمَ
الْمُغَنِّيَاتِ وَشِرَاءَهُنَّ، وَبَيْعَهُنَّ، وَأَكْلَ أَثْمَانِهِنَّ"
أَمَّا الأَوَّلُ: فَعَبْدُ الْمَلِكِ هَالِكٌ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ
ضَعِيفٌ، وَعَلِيُّ بْنُ يَزِيدَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ وَالثَّانِي: عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْقَاسِمِ
أَيْضًا، وَمُوسَى بْنُ أَعْيَنَ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الأُُوَيْسِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِي إبِلٌ، أَفَأَحْدُو فِيهَا قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: أَفَأُغَنِّي فِيهَا قَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُغَنِّيَ أُذُنَاهُ
بِيَدِ شَيْطَانٍ يُرْغِمُهُ حَتَّى يَسْكُتَ. هَذَا عَبْدُ الْمَلِكِ،
وَالْعُمَرِيُّ الصَّغِيرُ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ
أَنَا أَبُو دَاوُد هُوَ سُلَيْمُ بْنُ سَالِمٍ بَصْرِيٌّ أَنَا حَسَّانُ بْنُ
أَبِي سِنَانٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "يُمْسَخُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ
قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْهَدُونَ أَنْ لاَ إلَهَ
إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ قَالَ: نَعَمْ، وَيُصَلُّونَ،
وَيَصُومُونَ، وَيَحُجُّونَ قَالُوا: فَمَا بَالُهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ :
اتَّخَذُوا الْمَعَازِفَ وَالْقَيْنَاتِ، وَالدُّفُوفَ، وَيَشْرَبُونَ هَذِهِ
الأَشْرِبَةَ فَبَاتُوا عَلَى لَهْوِهِمْ، وَشَرَابِهِمْ، فَأَصْبَحُوا قِرَدَةً
وَخَنَازِيرَ" هَذَا عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ، وَلَمْ يُدْرَ مَنْ هُوَ
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَيْضًا أَنَا الْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ
(9/58)
أَنَا فَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:: " تَبِيتُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى لَهْوٍ وَلَعِبٍ، وَأَكْلٍ وَشُرْبٍ، فَيُصْبِحُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، يَكُونُ فِيهَا خَسْفٌ، وَقَذْفٌ، وَيُبْعَثُ عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَائِهِمْ رِيحٌ فَتَنْسِفُهُمْ، كَمَا نَسَفَتْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِاسْتِحْلاَلِهِمْ الْحَرَامَ، وَلُبْسِهِمْ الْحَرِيرَ، وَضَرْبِهِمْ الدُّفُوفَ، وَاِتِّخَاذِهِمْ الْقِيَانَ" وَالْحَارِثُ بْنُ نَبْهَانَ لاَ يُكْتَبُ حَدِيثُهُ. وَفَرْقَدٌ السَّبَخِيُّ ضَعِيفٌ، نَعَمْ: وَسُلَيْمُ بْنُ سَالِمٍ، وَحَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عَمْرٍو: لاَ أَعْرِفُهُمْ فَسَقَطَ هَذَانِ الْخَبَرَانِ بِيَقِينٍ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمَرَنِي بِمَحْوِ الْمَعَازِفِ، وَالْمَزَامِيرِ، وَالأَوْثَانِ، وَالصُّلُبِ لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ، وَلاَ شِرَاؤُهُنَّ، وَلاَ تَعْلِيمُهُنَّ، وَلاَ التِّجَارَةُ بِهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ" نَعْنِي الضَّوَارِبَ الْقَاسِمُ ضَعِيفٌ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ: أَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلاَبِيُّ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غُنْمٍ الأَشْعَرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَوَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ، وَالْخَمْرَ، وَالْمَعَازِفَ وَهَذَا مُنْقَطِعٌ لَمْ يَتَّصِلْ مَا بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَصَدَقَةَ بْنِ خَالِدٍ، وَلاَ يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ أَبَدًا، وَكُلُّ مَا فِيهِ فَمَوْضُوعٌ، وَوَاللَّهِ لَوْ أُسْنِدَ جَمِيعُهُ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُ فَأَكْثَرَ مِنْ طَرِيقِ الثِّقَاتِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَا تَرَدَّدْنَا فِي الأَخْذِ بِهِ. وَلَوْ كَانَ مَا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ حَقًّا مِنْ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُنَّ لَوَجَبَ أَنْ يُحَدَّ مَنْ وَطِئَهُنَّ بِالشِّرَاءِ، وَأَنْ لاَ يَلْحَقَ بِهِ وَلَدُهُ مِنْهَا. ثُمَّ لَيْسَ فِيهَا تَحْرِيمُ مِلْكِهِنَّ، وَقَدْ تَكُونُ أَشْيَاءُ يَحْرُمُ بَيْعُهَا وَيَحِلُّ مِلْكُهَا وَتَمْلِيكُهَا كَالْمَاءِ، وَالْهِرِّ، وَالْكَلْبِ. هَذَا كُلُّ مَا حَضَرَنَا ذِكْرُهُ مِمَّا أُضِيفَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا عَمَّنْ دُونَهُ عليه السلام: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ صَخْرٍ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهْنِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الآيَةَ، فَقَالَ: الْغِنَاءُ، وَاَلَّذِي لاَ إلَهَ غَيْرُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ، قَالَ: الْغِنَاءُ، وَشِرَاءُ الْمُغَنِّيَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الآيَةِ، قَالَ: الْغِنَاءُ، وَنَحْوُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْكُوفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
(9/59)
قَالَ: الدُّفُّ حَرَامٌ،
وَالْمَعَازِفُ حَرَامٌ: وَالْمِزْمَارُ حَرَامٌ، وَالْكُوبَةُ حَرَامٌ وَمِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا أَبُو وَكِيعٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يَأْخُذُونَ بِأَفْوَاهِ السِّكَكِ
يَخْرِقُونَ الدُّفُوفَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا وَكِيعٌ، عَنْ
سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} قَالَ: الْغِنَاءُ
وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانُ، عَنْ
إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فِي هَذِهِ
الآيَةِ، قَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ.
قال أبو محمد: "لاَ حُجَّةَ فِي هَذَا كُلِّهِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ
لاَ حُجَّةَ لأََحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالثَّانِي
أَنَّهُ قَدْ خَالَفَ غَيْرَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ نَصَّ الآيَةِ يُبْطِلُ احْتِجَاجَهُمْ بِهَا"، لأََنَّ
فِيهَا { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
مُهِينٌ} وَهَذِهِ صِفَةٌ مَنْ فَعَلَهَا كَانَ كَافِرًا، بِلاَ خِلاَفٍ، إذَا
اتَّخَذَ سَبِيلَ اللَّهِ تَعَالَى هُزُوًا. وَلَوْ أَنَّ امْرَأً اشْتَرَى
مُصْحَفًا لِيُضِلَّ بِهِ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَتَّخِذُهَا هُزُوًا لَكَانَ
كَافِرًا، فَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا ذَمَّ قَطُّ، عَزَّ
وَجَلَّ، مَنْ اشْتَرَى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيَلْتَهِيَ بِهِ وَيُرَوِّحَ
نَفْسَهُ، لاَ لِيُضِلَّ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ
بِقَوْلِ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَغَلَ عَامِدًا، عَنِ
الصَّلاَةِ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ بِقِرَاءَةِ السُّنَنِ، أَوْ بِحَدِيثٍ
يَتَحَدَّثُ بِهِ أَوْ يَنْظُرُ فِي مَالِهِ، أَوْ بِغِنَاءٍ، أَوْ بِغَيْرِ
ذَلِكَ، فَهُوَ فَاسِقٌ، عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ لَمْ يُضَيِّعْ شَيْئًا
مِنْ الْفَرَائِضِ اشْتِغَالاً بِمَا ذَكَرْنَا فَهُوَ مُحْسِنٌ. وَاحْتَجُّوا
فَقَالُوا: مِنْ الْحَقِّ الْغِنَاءُ أَمْ مِنْ غَيْرِ الْحَقِّ وَلاَ سَبِيلَ
إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ فَقَالُوا: وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَاذَا
بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} فَجَوَابُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّمَا
الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ نَوَى"
بِاسْتِمَاعِ الْغِنَاءِ عَوْنًا عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ
فَاسِقٌ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ غَيْرُ الْغِنَاءِ، وَمَنْ نَوَى بِهِ تَرْوِيحَ
نَفْسِهِ لِيَقْوَى بِذَلِكَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَيُنَشِّطَ
نَفْسَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْبِرِّ فَهُوَ مُطِيعٌ مُحْسِنٌ، وَفِعْلُهُ هَذَا مِنْ
الْحَقِّ، وَمَنْ لَمْ يَنْوِ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً فَهُوَ لَغْوٌ مَعْفُوٌّ
عَنْهُ كَخُرُوجِ الإِنْسَانِ إلَى بُسْتَانِهِ مُتَنَزِّهًا، وَقُعُودِهِ عَلَى
بَابِ دَارِهِ مُتَفَرِّجًا وَصِبَاغِهِ ثَوْبَهُ لاَزَوَرْدِيًّا أَوْ أَخْضَرَ
أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَدِّ سَاقِهِ وَقَبْضِهَا وَسَائِرِ أَفْعَالِهِ فَبَطَلَ
كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ بُطْلاَنًا مُتَيَقَّنًا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ،
وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شُبْهَةً غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
(9/60)
وَأَمَّا الشِّطْرَنْجُ:
فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيِّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ لَعِبَ
بِالْمَيْسِرِ يَعْنِي النَّرْدَ وَالشِّطْرَنْجَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي مِثْلَ
الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِالْقَيْحِ وَدَمِ الْخِنْزِيرِ ثُمَّ يُصَلِّي أَفَنَقُولُ:
يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاَتَهُ" ؟ هَذَا مُرْسَلٌ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ سَاقِطٌ،
وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ ضَعِيفٌ.
وهذا الخبر حُجَّةٌ عَلَى الْمَالِكِيِّينَ. وَالْحَنَفِيِّينَ، الْقَائِلِينَ
بِالْمُرْسَلِ، لأََنَّهُمْ يَلْزَمُهُمْ الأَخْذُ بِهِ فَيَنْقُضُونَ الْوُضُوءَ
بِلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ، فَإِنْ تَرَكُوهُ تَنَاقَضُوا وَتَلاَعَبُواَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى. وَعَلِيُّ بْنُ
مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ حَبَّةَ بْنِ سَلَمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشِّطْرَنْجُ مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ
بِهَا، وَالنَّاظِرُ إلَيْهَا كَآكِلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ. ابْنُ حَبِيبٍ لاَ
شَيْءَ، وَأَسَدٌ ضَعِيفٌ، وَحَبَّةُ بْنُ سَلَمٍ مَجْهُولٌ، وَهُوَ
مُنْقَطِعٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنَا الْجُذَامِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي
رَوَّادٍ، عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
إنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَاحِبُ الشَّاهِ الَّذِي
يَقُولُ: قَتَلْتُهُ، وَاَللَّهِ أَهْلَكْتُهُ، وَاَللَّهِ اسْتَأْصَلْتُهُ،
وَاَللَّهِ إفْكًا وَزُورًا وَكَذِبًا عَلَى اللَّهِ" عَبْدُ الْمَلِكِ لاَ
شَيْءَ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ. وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ عَمَّنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ حَبِيبٍ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ
الْفَرَجِ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ،
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لاََنْ أَعْبُدَ وَثَنًا
مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْعَبَ بِالشِّطْرَنْجِ
هَذَا كَذِبٌ بَحْتٌ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَقُولَ صَاحِبٌ إنَّ عِبَادَةَ
الأَوْثَانِ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى يَعْدِلُهَا شَيْءٌ مِنْ الذُّنُوبِ
فَكَيْفَ أَنْ يَكُونَ الْكُفْرُ أَخَفَّ مِنْهَا وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ لاَ
شَيْءَ وَأَبُو قَبِيلٍ غَيْرُ مَذْكُورٍ بِالْعَدَالَةِ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
حَبِيبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، وَأَسَدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ رِجَالِهِمَا:
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَرَّ بِرِجَالٍ يَلْعَبُونَ بِشِطْرَنْجٍ
فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ لاََنْ
يُمْسِكَ أَحَدُكُمْ جَمْرَةً حَتَّى تُطْفَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا،
لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةً لَضَرَبْت بِهَا وُجُوهَكُمْ ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ
فَحُبِسُوا. هَذَا مُنْقَطِعٌ، وَفِيهِ ابْنُ حَبِيبٍ مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا
غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا. وَالْجَوَابُ، عَنْ قَوْلِهِمْ أَهُوَ مِنْ الْحَقِّ أَمْ
مِنْ الْبَاطِلِ كَجَوَابِنَا فِي الْغِنَاءِ، وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: "فَلَمَّا لَمْ يَأْتِ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ عَنْ
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم تَفْصِيلٌ بِتَحْرِيمِ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا
صَحَّ أَنَّهُ كُلُّهُ حَلاَلٌ مُطْلَقٌ" فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ
وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ
حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
"أَنَّ أَبَا بَكْرٍ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ
وَتَضْرِبَانِ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُسَجًّى بِثَوْبِهِ،
فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ، فَكَشَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَجْهَهُ وَقَالَ: دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ"
وَبِهِ
(9/61)
أَيْضًا إلَى عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، هُوَ أَبُو الأَسْوَدِ
حَدَّثَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
" قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدِي
جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ
وَحَوَّلَ وَجْهَهُ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ لِي:
أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: دَعْهُمَا" فإن قيل: "قَدْ
رَوَيْتُمْ هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ "، عَنْ عَائِشَةَ وَقَالَ فِيهِ: "وَلَيْسَتَا
بِمُغَنِّيَتَيْنِ "قلنا: "نَعَمْ"، وَلَكِنَّهَا قَدْ قَالَتْ:
"إنَّهُمَا كَانَتَا تُغَنِّيَانِ فَالْغِنَاءُ مِنْهُمَا قَدْ صَحّ"َ،
وَقَوْلُهَا " لَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ " أَيْ لَيْسَتَا
بِمُحْسِنَتَيْنِ. وَهَذَا كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ فِيهِ إنَّمَا الْحُجَّةُ فِي
إنْكَارِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي بَكْرٍ قَوْلَهُ: أَمِزْمَارُ
الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ أَنَّهُ مُبَاحٌ
مُطْلَقٌ، لاَ كَرَاهِيَةَ فِيهِ، وَأَنَّ مَنْ أَنْكَرَهُ فَقَدْ أَخْطَأَ بِلاَ
شَكٍّ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُدَانِيُّ
أَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ أَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "سَمِعَ
ابْنُ عُمَرَ مِزْمَارًا فَوَضَعَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ، وَنَأَى"،
عَنِ الطَّرِيقِ وَقَالَ لِي: "يَا نَافِعُ هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا"
قُلْتُ: " لاَ، فَرَفَعَ أُصْبُعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ" وَقَالَ:
"كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا وَصَنَعَ
مِثْلَ هَذَا".
قال أبو محمد: "هَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ بِصِحَّةِ هَذِهِ
الأَسَانِيدِ، وَلَوْ كَانَ الْمِزْمَارُ حَرَامًا سَمَاعُهُ لَمَا أَبَاحَ عليه
السلام لأَبْنِ عُمَرَ سَمَاعَهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ حَرَامًا
سَمَاعُهُ لَمَا أَبَاحَ لِنَافِعٍ سَمَاعَهُ، وَلاََمَرَ عليه السلام بِكَسْرِهِ
وَبِالسُّكُوتِ عَنْهُ، فَمَا فَعَلَ عليه السلام شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا
تَجَنَّبَ عليه السلام سَمَاعَهُ كَتَجَنُّبِهِ أَكْثَرَ الْمُبَاحِ مِنْ أَكْثَرِ
أُمُورِ الدُّنْيَا، كَتَجَنُّبِهِ الأَكْلَ مُتَّكِئًا، وَأَنْ يَبِيتَ عِنْدَهُ
دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ، وَأَنْ يُعَلِّقَ السُّتُرَ عَلَى سَهْوَةٍ فِي الْبَيْتِ
وَالسُّتُرُ الْمُوَشَّى فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ".وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ أَنَا زُهَيْرُ بْنُ
حَرْبٍ أَنَا جَرِيرٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: جَاءَ حَبَشٌ يَزْفِنُونَ فِي يَوْمِ عِيدٍ فِي
الْمَسْجِدِ فَدَعَانِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى وَضَعْتُ رَأْسِي
عَلَى مَنْكِبِهِ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إلَى لَعِبِهِمْ حَتَّى كُنْتُ أَنَا
الَّتِي انْصَرَفْتُ، عَنِ النَّظَرِلارُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ
الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ رَأَى أَبَا مَسْعُودٍ الْبَدْرِيَّ، وَقَرَظَةَ بْنَ
كَعْبٍ، وَثَابِتَ بْنَ يَزِيدَ وَهُمْ فِي عُرْسٍ وَعِنْدَهُمْ غِنَاءٌ فَقُلْت
لَهُمْ: هَذَا وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا:
إنَّهُ رَخَّصَ لَنَا فِي الْغِنَاءِ فِي الْعُرْسِ، وَالْبُكَاءِ عَلَى
الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ نَوْحٍ لَيْسَ فِيهِ النَّهْيُ، عَنِ الْغِنَاءِ فِي
غَيْرِ الْعُرْسِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَا أَيُّوبُ
السِّخْتِيَانِيُّ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، وَسَلَمَةُ، هُوَ ابْنُ كُهَيْلٍ
دَخَلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي حَدِيثِ بَعْضٍ، كُلِّهِمْ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ
(9/62)
أَنَّ رَجُلاً قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِجِوَارٍ فَأَتَى إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَعَرَضَهُنَّ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ جَارِيَةً مِنْهُنَّ فَأَحْدَتْ، قَالَ أَيُّوبُ: "ِالدُّفِّ", وَقَالَ هِشَامٌ: "ِالْعُود"، حَتَّى ظَنَّ ابْنُ عُمَرَ أَنَّهُ قَدْ نَظَرَ إلَى ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: "َسْبُك سَائِرَ الْيَوْمِ مِنْ مَزْمُورِ الشَّيْطَانِ", فَسَاوَمَهُ، ثُمَّ جَاءَ الرَّجُلُ إلَى ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: "يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنِّي غُبِنْتُ بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ", فَأَتَى ابْنُ عُمَرَ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَقَالَ لَهُ: إنَّهُ غُبِنَ بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فإما أَنْ تُعْطِيَهَا إيَّاهُ، وَأَمَّا أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ بَيْعَهُ، فَقَالَ: بَلْ نُعْطِيهَا إيَّاهُ َهَذَا ابْنُ عُمَرَ قَدْ سَمِعَ الْغِنَاءَ وَسَعَى فِي بَيْعِ الْمُغَنِّيَةِ، وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ لاَ تِلْكَ الْمُلَفَّقَاتُ الْمَوْضُوعَةُ َمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ أَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ النَّهْدِيِّ قَالَ: مَرَّ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِقَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ فَلَمْ يُنْكِرْ إِلاَّ التَّمَاثِيلَ فَقَطْ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ لاَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ الْمَكْذُوبَةُ الَّتِي رَوَاهَا مَنْ لاَ خَيْرَ فِيهِ.فإن قيل: قَدْ رَوَى: أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالْغِرْبَالِ قلنا: هَذَا سَاقِطٌ، لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ أَصْبَغَ، عَنِ السَّبِيعِيِّ، عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ سَاقِطٌ، وَالسَّبِيعِيُّ مَجْهُولٌ، ثُمَّ هُوَ مُنْقَطِعٌ.فإن قيل: الدُّفُّ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ قلنا: هَذَا الْبَاطِلُ: وَرُوِّينَا مِنْ أَصَحِّ طَرِيقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: أَنَّ أَصْحَابَ ابْنِ مَسْعُودٍ كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ الْجَوَارِي فِي الْمَدِينَةِ مَعَهُنَّ الدُّفُوفُ فَيُشَقِّقُونَهَا. وَقَدْ جَاءَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَا يُحْسِنَانِ اللَّعِبَ بِالشِّطْرَنْجِ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ كَانَ يُغَنِّي بِالْعُودِ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/63)
1566 - مَسْأَلَةٌ: وَالْبَيْعُ فِي الْمَسْجِدِ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ جَائِزٌ لاَ يُرَدُّ، وَالْبَيْعُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ جَائِزٌ. وَابْتِيَاعُ الْمَرْءِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ جَائِزٌ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَقَدْ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ لاَ تَصِحُّ: رَوَى الرَّبِيعُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ وَكُلُّهُمْ مَجْهُولُونَ عَنْ عَلِيٍّ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ السَّوْمِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ .وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ، هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّحَلُّقِ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ الصَّلاَةِ، وَعَنِ الْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسْجِدِ هَذِهِ صَحِيفَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ابْتَاعَ مِنْ غَيْرِهِ بَيْعًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ فَأَرْبَحَ فِيهِ فَبَاعَهُ وَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ
(9/63)
عَلَى أَرَامِلِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ قَالَ: لاَ أَشْتَرِي بَعْدَهَا شَيْئًا إِلاَّ وَعِنْدِي ثَمَنُهُ سِمَاكٌ، وَشَرِيكٌ ضَعِيفَانِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَنْشُدُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَهُ لاَ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ يَبِيعُ فَقُولُوا لَهُ: لاَ أَرْبَحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ" لَيْسَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ الْبَيْعِ، وَلَكِنَّهَا كَرَاهِيَةٌ.
(9/64)
1567 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحُكْرَةُ الْمُضِرَّةُ بِالنَّاسِ حَرَامٌ سَوَاءٌ فِي الأَبْتِيَاعِ أَوْ فِي إمْسَاكِ مَا ابْتَاعَ وَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمُحْتَكِرُ فِي وَقْتِ رَخَاءٍ لَيْسَ آثِمًا، بَلْ هُوَ مُحْسِنٌ، لأََنَّ الْجُلَّابَ إذَا أَسْرَعُوا الْبَيْعَ أَكْثَرُوا الْجَلْبَ، وَإِذَا بَارَتْ سِلْعَتُهُمْ وَلَمْ يَجِدُوا لَهَا مُبْتَاعًا تَرَكُوا الْجَلْبَ، فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فإن قيل: فَإِنَّكُمْ تُصَحِّحُونَ الْحَدِيثَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ . قلنا: نَعَمْ، وَلَكِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْبِسُ، نَفَقَةَ أَهْلِهِ سَنَةً، ثُمَّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ مِنْ ثَمَرِهِ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ" فَهَذَا النَّبِيُّ عليه السلام قَدْ احْتَبَسَ قُوتَ أَهْلِهِ سَنَةً، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ أَكْثَرَفَصَحَّ أَنَّ إمْسَاكَ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ مُبَاحٌ، وَالشِّرَاءُ مُبَاحٌ وَالْمَذْكُورُ بِالذَّمِّ هُوَ غَيْرُ الْمُبَاحِ بِلاَ شَكٍّ، فَهَذَا الأَحْتِكَارُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَكُلُّ احْتِكَارٍ فَإِنَّهُ إمْسَاكٌ وَالأَحْتِكَارُ مَذْمُومٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إمْسَاكٍ مَذْمُومًا، بَلْ هُوَ مُبَاحٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ بِالْمَنْعِ مِنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ الْمَذْمُومُ حِينَئِذٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ رُوِّينَا حَدِيثًا مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ أَصْبَغَ بْنِ زَيْدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَدْ بَرِئَ مِنْ اللَّهِ وَبَرِئَ اللَّهُ مِنْهُ. وَهَذَا لاَ يَصِحُّ، لأََنَّ أَصْبَغَ بْنَ زَيْدٍ، وَكَثِيرَ بْنَ مُرَّةَ مَجْهُولاَنِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ
(9/64)
لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ
أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَكَمِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَحْرَقَ طَعَامًا
اُحْتُكِرَ بِمِائَةِ أَلْفٍ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا حُمَيْدُ
بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرُّؤَاسِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَالَ
حُبَيْشٌ أَحْرَقَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيَادِرَ بِالسَّوَادِ كُنْت
احْتَكَرْتهَا، لَوْ تَرَكَهَا لَرَبِحْت فِيهَا مِثْلَ عَطَاءِ الْكُوفَةِ
الْبَيَادِرُ أَنَادِرُ الطَّعَامِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، وَيَلْزَمُ مَنْ شَنَّعَ بِمِثْلِ
هَذَا أَنْ يَأْخُذَ بِهِ.
(9/65)
وان كان التجار االمسلمون اذا
دخلوا أرض الحرب ...
...
1568 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ التُّجَّارُ الْمُسْلِمُونَ إذَا دَخَلُوا أَرْضَ
الْحَرْبِ أُذِلُّوا بِهَا وَجَرَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْكُفَّارِ ،
فَالتِّجَارَةُ إلَى أَرْضِ الْحَرْبِ حَرَامٌ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ،
وَإِلَّا فَنَكْرَهُهَا فَقَطْ، وَالْبَيْعُ مِنْهُمْ جَائِزٌ إِلاَّ مَا
يَتَقَوَّوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ دَوَابَّ أَوْ سِلاَحٍ أَوْ حَدِيدٍ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَصْلاً،
قَالَ تَعَالَى: {فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ
الأَعْلَوْنَ} فَالدُّخُولُ إلَيْهِمْ بِحَيْثُ تَجْرِي عَلَى الدَّاخِلِ أَحْكَامُهُمْ
وَهَنٌ وَانْسِفَالٌ وَدُعَاءٌ إلَى السَّلْمِ وَهَذَا كُلُّهُ مُحَرَّمٌ، وَقَالَ
تَعَالَى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَتَقْوِيَتُهُمْ
بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ حَرَامٌ،
وَيُنَكَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَيُبَالَغُ فِي طُولِ حَبْسِهِ.
(9/65)
1569 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً عَلَى السَّلاَمَةِ مِنْ الْعُيُوبِ فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً فَهِيَ صَفْقَةٌ مَفْسُوخَةٌ كُلُّهَا، لاَ خِيَارَ لَهُ فِي إمْسَاكِهَا إِلاَّ بِأَنْ يُجَدِّدَا فِيهَا بَيْعًا آخَرَ بِتَرَاضٍ مِنْهُمَا، لأََنَّ الْمَعِيبَ بِلاَ شَكٍّ غَيْرُ السَّالِمِ، وَهُوَ إنَّمَا اشْتَرَى سَالِمًا فَأُعْطِيَ مَعِيبًا، فَاَلَّذِي أُعْطِيَ غَيْرُ الَّذِي اشْتَرَى فَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَا لَمْ يَشْتَرِ، لأََنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَقَدْ ذَكَرْنَا كَلاَمًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/65)
1570 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ السَّلاَمَةَ، وَلاَ بُيِّنَ لَهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَ عَيْبًا فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إمْسَاكٍ أَوْ رَدٍّ، فَإِنْ أَمْسَكَ فَلاَ شَيْءَ لَهُ، لأََنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِعَيْنِ مَا اشْتَرَى فَلَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ رِضَاهُ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ جَمِيعَ الصَّفْقَةِ، لأََنَّهُ وَجَدَ خَدِيعَةً وَغِشًّا وَغَبْنًا وَالْغِشُّ، وَالْخَدِيعَةُ: حَرَامَانِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مَا اشْتَرَى، وَيَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، لأََنَّهُ إنَّمَا لَهُ تَرْكُ الرِّضَا بِمَا غُبِنَ فِيهِ فَقَطْ، وَلأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ حَقًّا فِي مَالِ الْبَائِعِ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، بَلْ مَالُهُ عَلَيْهِ حَرَامٌ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ لَهُ رَدُّ الْبَعْضِ، لأََنَّ نَفْسَ الْمُعَامِلِ لَهُ لَمْ تَطِبْ لَهُ بِبَعْضِ مَا بَاعَ مِنْهُ دُونَ بَعْضٍ، وَلاَ يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ إِلاَّ بِتَرَاضٍ، أَوْ بِنَصٍّ يُوجِبُ إحْلاَلَهُ لِغَيْرِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَعِيبُ وَجْهَ
(9/65)
1571- مَسْأَلَةٌ: هَذَا حُكْمُ
كُلِّ مَعِيبٍ حَاشَا الْمُصَرَّاةَ فَقَطْ ، فَإِنَّ حُكْمَهَا أَنَّ مَنْ
اشْتَرَى مُصَرَّاةً وَهِيَ مَا كَانَ يُحْلَبُ مِنْ إنَاثِ الْحَيَوَانِ، وَهُوَ
يَظُنُّهَا لَبُونًا فَوَجَدَهَا قَدْ رُبِطَ ضَرْعُهَا حَتَّى اجْتَمَعَ
اللَّبَنُ، فَلَمَّا حَلَبَهَا افْتَضَحَ لَهُ الأَمْرُ: فَلَهُ الْخِيَارُ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ
رَدَّهَا وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، وَلاَ بُدَّ. وَسَوَاءٌ كَانَتْ
الْمُصَرَّاةُ وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ أَوْ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ لاَ يَرُدُّ
فِي كُلِّ ذَلِكَ إِلاَّ صَاعًا وَاحِدًا مِنْ تَمْرٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ
اشْتَرَاهَا بِكَثِيرٍ أَوْ بِقَلِيلٍ، وَلَوْ بِعُشْرِ صَاعِ تَمْرٍ. فَإِنْ
كَانَ اللَّبَنُ الَّذِي فِي ضَرْعِهَا يَوْمَ اشْتَرَاهَا حَاضِرًا رَدَّهُ كَمَا
هُوَ حَلِيبًا أَوْ حَامِضًا فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ رَدَّ مَعَهَا
لَبَنًا مِثْلَهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَخَضَهُ أَوْ عَقَدَهُ رَدَّهُ، فَإِنْ
نَقَصَ عَنْ قِيمَتِهِ لَبَنًا رَدَّ مَا بَيْنَ النَّقْصِ وَالتَّمَامِ،
لأََنَّهُ لَبَنُ الْبَائِعِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا حَدَثَ مِنْ اللَّبَنِ
فِي كَوْنِهَا عِنْدَهُ، لأََنَّهُ حَدَثَ فِي مَالِهِ فَهُوَ لَهُ. فَإِنْ
رَدَّهَا بِعَيْبٍ آخَرَ غَيْرِ التَّصْرِيَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ رَدُّ التَّمْرِ
وَلاَ شَيْءٍ غَيْرِ اللَّبَنِ الَّذِي كَانَ فِي ضَرْعِهَا إذَا اشْتَرَاهَا،
فَإِنْ انْقَضَتْ الثَّلاَثَةُ الأَيَّامُ، وَلَمْ يَرُدَّهَا بَعْدُ لَزِمَتْهُ،
وَبَطَلَ خِيَارُهُ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ آخَرَ غَيْرِ التَّصْرِيَةِ. وَإِنَّمَا
سُمِّيَتْ مُصَرَّاةً، لأََنَّ التَّصْرِيَةَ هِيَ الْجَمْعُ وَهَذِهِ جُمِعَ
لَبَنُهَا وَهِيَ أَيْضًا الْمُحَفَّلَةُ، لأََنَّهُ قَدْ حُفِّلَ لَبَنُهَا فِي
ضَرْعِهَا.
برهان ذَلِكَ: مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ
السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْت أَبَا هُرَيْرَةَ
يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ ابْتَاعَ
مُحَفَّلَةً أَوْ مُصَرَّاةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إنْ شَاءَ
أَنْ يُمْسِكَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَرُدَّهَا رَدَّهَا وَصَاعًا
مِنْ تَمْرٍ لاَ سَمْرَاءَ" السَّمْرَاءُ الْبُرُّ فَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ
يَقْتَضِي كُلَّ مَا قُلْنَاهُ وَهُوَ الزَّائِدُ عَلَى سَائِرِ الأَخْبَارِ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، ثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ، حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنِي زِيَادٌ
قَالَ: إنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ اشْتَرَى غَنَمًا مُصَرَّاةً فَاحْتَلَبَهَا فَإِنْ رَضِيَهَا
أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا فَفِي حَلْبَتِهَا صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ" .
قال أبو محمد: رُوِّينَا خَبَرَ الْمُصَرَّاةِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سِيرِينَ،
وَثَابِتٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ كَمَا أَوْرَدْنَا وَمِنْ
طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، وَمُوسَى بْنُ يَسَارٍ وَأَبِي صَالِحٍ
السَّمَّانِ وَهَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَالأَعْرَجِ، وَمُجَاهِدٍ، وَأَبِي
إِسْحَاقَ، وَيَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُذَيْنَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَرَوَاهُ عَنْ هَؤُلاَءِ: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَدَاوُد بْنُ قَيْسٍ،
وَسُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، وَمَعْمَرٌ، وَأَيُّوبُ، وَحَبِيبُ بْنُ
الشَّهِيدِ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، وَمَالِكٌ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ
(9/66)
1572 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ فَاتَ الْمَعِيبُ بِمَوْتٍ، أَوْ بَيْعٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ إيلاَدٍ أَوْ تَلَفٍ ، فَلِلْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعِ: الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ، لأََنَّهُ إذَا لَمْ يَرْهَنْ وَأَخَذَ الْعَيْبَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْغَبْنِ فَمَالُهُ حَرَامٌ عَلَى آخِذِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى رَدِّ الصَّفْقَةِ، فَالْوَاجِبُ الرُّجُوعُ بِمَا لَمْ يَرْضَ بِبَدَلِهِ مِنْ مَالِهِ, وَكَذَلِكَ مَنْ غُبِنَ فِي بَيْعِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْغَبْنِ، وَلاَ بُدَّ, وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى زَرِيعَةً فَزَرَعَهَا فَلَمْ تَنْبُتْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا بَيْنَ قِيمَتِهَا كَمَا هِيَ رَدِيئَةٌ وَبَيْنَ قِيمَتِهَا نَابِتَةٌ، لأََنَّهَا قَدْ تَلِفَتْ عَيْنُهَا، فَإِنَّمَا لَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ الْغَبْنِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا نَابِتَةٌ فَالصَّفْقَةُ
(9/70)
فَاسِدَةٌ وَيَرُدُّ مِثْلَهَا أَوْ قِيمَتَهَا إنْ لَمْ تُوجَدْ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/71)
فا باعه فرد عليه لم يكن له أن
يرد هو لكن يرجع ..
...
1573 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَاعَهُ فَرُدَّ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
يَرُدَّهُ، لَكِنْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ فَقَطْ، لأََنَّهُ قَدْ بَطَلَ
مَا كَانَ لَهُ مِنْ الرَّدِّ بِخُرُوجِ الْمَعِيبِ، عَنْ مِلْكِهِ، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَلَمْ يَجِبْ
لَهُ إِلاَّ قِيمَةُ الْغَبْنِ فَقَطْ، وَمَا سَقَطَ حُكْمُهُ بِبُرْهَانٍ فَلاَ
يَرْجِعُ إِلاَّ بِنَصٍّ يُوجِبُ رُجُوعَهُ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/71)
فان مات الذى له الرد قبل أن يلفظ
بالردو
...
1574 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَهُ الرَّدُّ قَبْلَ أَنْ يَلْفِظَ
بِالرَّدِّ، وَبِأَنَّهُ لاَ يَرْضَى: فَقَدْ لَزِمَتْ الصَّفْقَةُ وَرَثَتَهُ،
لأََنَّ الْخِيَارَ لاَ يُورَثُ، إذْ لَيْسَ مَالاً، وَلأََنَّهُ قَدْ رَضِيَ
بِالْعَقْدِ، فَهُوَ عَلَى الرِّضَا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ،
فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ ذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} .
(9/71)
فان مات الذى يجب عليه به الرد هو
ما حط من الثمن الذى اشترى به
...
1575 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ مَاتَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ كَانَ
لِوَاجِدِ الْعَيْبِ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ عَلَى الْوَرَثَةِ، لأََنَّ لَهُ
الرِّضَا أَوْ الرَّدَّ، فَلاَ يُبْطِلُهُ مَوْتُ الْغَابِنِ، وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/71)
والعيب الذى يجب به الرد هو هو ما
حط من الثمن الذى اشترى به أو باع به
...
1576 - مَسْأَلَةٌ: وَالْعَيْبُ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ: هُوَ مَا حَطَّ
مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ أَوْ بَاعَ بِهِ مَالاً يَتَغَابَنُ
النَّاسُ بِمِثْلِهِ ، لأََنَّ هَذَا هُوَ الْغَبْنُ، لاَ غَبْنَ غَيْرُهُ. فَإِنْ
كَانَ اشْتَرَى الشَّيْءَ بِثَمَنٍ هُوَ قِيمَتُهُ مَعِيبًا، أَوْ بَاعَهُ
بِثَمَنٍ هُوَ قِيمَتُهُ مَعِيبًا وَهُوَ لاَ يَدْرِي الْعَيْبَ ثُمَّ وَجَدَ
الْعَيْبَ فَلاَ رَدَّ لَهُ، لأََنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَيْبًا. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ:
"لَهُ الرَّدُّ" وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، لأََنَّهُ ظُلْمٌ لِلْبَائِعِ،
وَعِنَايَةٌ وَمُحَابَاةٌ لِلْمُشْتَرِي بِلاَ برهان، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ
سُنَّةٍ.
(9/71)
1577 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ كَانَ قَدْ اشْتَرَى بِثَمَنٍ ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ كَانَ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ حِينَ اشْتَرَاهُ إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ غَلاَ حَتَّى صَارَ لاَ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ شَيْئًا، أَوْ زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ أَوْ بَعْدَ أَنْ عَلِمَ بِهِ، فَلَهُ الرَّدُّ فِي كُلِّ ذَلِكَ، لأََنَّهُ حِينَ الْعَقْدِ وَقَعَ عَلَيْهِ غَبْنٌ فَلَهُ أَنْ لاَ يَرْضَى بِالْغَبْنِ إذَا عَلِمَهُ، وَلاَ يُوجِبُ سُقُوطَ مَا لَهُ مِنْ الْخِيَارِ لِمَا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/71)
1578 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ بِدَرَاهِمَ أَوْ بِدَنَانِيرَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ إلَى أَجَلٍ، أَوْ سَلَمٍ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ فَلَمَّا قَبَضَ الثَّمَنَ، أَوْ مَا سَلَّمَ فِيهِ وَجَدَ عَيْبًا أَوْ اسْتَحَقَّ مَا أَخَذَ أَوْ بَعْضَهُ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ الأَسْتِبْدَالُ فَقَطْ، لأََنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَيْنٌ مُعَيَّنَةٌ، إنَّمَا لَهُ صِفَةٌ، فَاَلَّذِي أُعْطِيَ هُوَ غَيْرُ حَقِّهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مَا لَيْسَ لَهُ، وَأَنْ يَطْلُبَ مَا لَهُ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/71)
1579 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَكَّلَ وَكِيلاً لِيَبْتَاعَ لَهُ شَيْئًا سَمَّاهُ، فَابْتَاعَهُ لَهُ بِغَبْنٍ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، أَوْ وَجَدَهُ مَعِيبًا عَيْبًا يَحُطُّ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ: فَلَهُ مِنْ الرَّدِّ، أَوْ الإِمْسَاكِ، أَوْ الأَسْتِبْدَالِ، أَوْ مِنْ فَسْخِ الصَّفْقَةِ كَاَلَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ سَوَاءً سَوَاءً، لأََنَّ يَدَ وَكِيلِهِ هِيَ يَدُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/71)
1580 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ هَلْ الْعَيْبُ حَادِثٌ أَمْ كَانَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَيْسَ عَلَى الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَمِينُ : بِاَللَّهِ مَا بِعْته إيَّاهُ وَأَنَا أَدْرِي فِيهِ هَذَا الْعَيْبَ وَيَبْرَأُ، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةُ عَدْلٍ بِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ أَقْدَمُ مِنْ أَمَدِ التَّبَايُعِ فَيُرَدُّ، لأََنَّ الصَّفْقَةَ بَيْعٌ، وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، فَلاَ يَجُوزُ نَقْضُهُ بِالدَّعَاوَى وَلاَ بِالظُّنُونِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/72)
1581 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى مِنْ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ سِلْعَةً وَاحِدَةً صَفْقَةً وَاحِدَةً فَوَجَدَ عَيْبًا لَهُ أَنْ يَرُدَّ حِصَّةَ مَنْ شَاءَ وَيَتَمَسَّكَ بِحِصَّةِ مَنْ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْجَمِيعَ إنْ شَاءَ، أَوْ يُمْسِكَ الْكُلَّ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُحِقَّتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمْ لَمْ يَنْفَسِخْ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الآخَرِ، لأََنَّ بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ مِنْهُمْ حِصَّتَهُ عَقْدٌ غَيْرُ عَقْدِ الآخَرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
(9/72)
1582 - مَسْأَلَةٌ: وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى اثْنَانِ فَصَاعِدًا سِلْعَةً مِنْ وَاحِدٍ فَوَجَدَا عَيْبًا فَأَيُّهُمَا شَاءَ أَنْ يَرُدَّ رَدَّ، وَأَيُّهُمَا شَاءَ أَنْ يُمْسِكَ أَمْسَكَ، لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ صَفْقَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَفْقَةِ الآخَرِ فَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُحِقَّ الثَّمَنُ الَّذِي دَفَعَهُ أَحَدُهُمَا، وَكَانَ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ، وَلاَ يَنْفَسِخُ بِذَلِكَ عَقْدُ الآخَرِ فِي حِصَّتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/72)
1583 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ
اشْتَرَى سِلْعَةً فَوَجَدَ بِهَا عَيْبًا وَقَدْ كَانَ حَدَثَ عِنْدَهُ فِيهَا
عَيْبٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ مِنْ فِعْلِهِ، أَوْ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ
فَلَهُ الرَّدُّ، كَمَا قلنا، أَوْ الإِمْسَاكُ، وَلاَ يَرُدُّ مِنْ أَجْلِ مَا
حَدَثَ عِنْدَهُ شَيْئًا، وَلاَ مِنْ أَجْلِ مَا أَحْدَثَ هُوَ فِيهِ شَيْئًا،
لأََنَّهُ فِي مِلْكِهِ وَحَقِّهِ لَمْ يَتَعَدَّ، وَلاَ ظَلَمَ فِيهِ أَحَدًا،
وَالْغَبْنُ قَدْ تَقَدَّمَ، فَلَهُ مَا قَدْ وَجَبَ لَهُ مِنْ رَدِّ الْغَبْنِ
الَّذِي ظُلِمَ فِيهِ، وَلأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ غَرَامَةً
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
.
(9/72)
1584 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً، أَوْ دَابَّةً، أَوْ ثَوْبًا، أَوْ دَارًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَوَطِئَ الْجَارِيَةَ أَوْ افْتَضَّهَا إنْ كَانَتْ بِكْرًا، أَوْ زَوَّجَهَا فَحَمَلَتْ أَوْ لَمْ تَحْمِلْ، أَوْ لَبِسَ الثَّوْبَ، وَأَنْضَى الدَّابَّةَ وَسَكَنَ الدَّارَ، وَاسْتَعْمَلَ مَا اشْتَرَى وَاسْتَغَلَّهُ، وَطَالَ اسْتِعْمَالُهُ الْمَذْكُورُ أَوْ قَلَّ، ثُمَّ وَجَدَ عَيْبًا، فَلَهُ الرَّدُّ كَمَا ذَكَرْنَا أَوْ الإِمْسَاكُ. وَلاَ يَرُدُّ مَعَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ أَجْلِ اسْتِعْمَالِهِ لِذَلِكَ، لأََنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مَالِ نَفْسِهِ، وَفِي مَتَاعِهِ بِمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} فَمَنْ لَمْ يَلُمْهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبَاحَ لَهُ فِعْلَهُ ذَلِكَ فَهُوَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ مُحْسِنٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} وَإِغْرَامُ الْمَالِ سَبِيلٌ مُسَبَّلَةٌ عَلَى مَنْ كُلِّفَهَا، وَقَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ كَسَائِرِ وَاجِدِي الْغَبْنِ فِي أَنَّ لَهُ الرِّضَا، أَوْ الرَّدَّ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
(9/72)
1585 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ
اطَّلَعَ فِيمَا اشْتَرَى عَلَى عَيْبٍ يَجِبُ بِهِ الرَّدُّ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ
سَاعَةَ يَجِدُ الْعَيْبَ وَلَهُ أَنْ يُمْسِكَ ثُمَّ يَرُدَّهُ مَتَى شَاءَ طَالَ
ذَلِكَ الأَمَدُ أَمْ قَرُبَ. وَلاَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ الرَّدِّ
تَصَرُّفُهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ بِالْوَطْءِ، وَالأَسْتِخْدَامِ،
وَالرُّكُوبِ، وَاللِّبَاسِ، وَالسُّكْنَى، وَلاَ مُعَانَاتِهِ إزَالَةَ
الْعَيْبِ، وَلاَ عَرْضِهِ إيَّاهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ الْعَيْبِ،
وَلاَ تَعْرِيضِهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِلْبَيْعِ. وَلاَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ لَهُ
مِنْ الرَّدِّ إِلاَّ أَحَدُ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ لاَ سَادِسَ لَهَا، وَهِيَ
نُطْقُهُ بِالرِّضَا بِإِمْسَاكِهِ، أَوْ خُرُوجُهُ كُلُّهُ، أَوْ بَعْضُهُ، عَنْ
مِلْكِهِ، أَوْ إيلاَدُ الأَمَةِ، أَوْ مَوْتُهُ، أَوْ ذَهَابُ عَيْنِ الشَّيْءِ
أَوْ بَعْضِهَا بِمَوْتٍ أَوْ غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ، وَغَيْرِهِ,
وَمَنْ ادَّعَى سُقُوطَ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ الرَّدِّ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا
قَبْلُ فَقَدْ ادَّعَى مَا لاَ برهان لَهُ بِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ.
وبرهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: "هُوَ أَنَّ الرَّدَّ قَدْ وَجَبَ لَهُ
بِاتِّفَاقٍ مِنَّا وَمِنْ مُخَالِفِينَا"، وَبِمَا أَوْرَدْنَا مِنْ
بَرَاهِينِ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ فِي تَحْرِيمِ الْغِشِّ وَإِيجَابِ
النَّصِيحَةِ. فَهُوَ عَلَى مَا وَجَبَ لَهُ، لاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْهُ
إِلاَّ نَصٌّ، أَوْ إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ، وَلاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِهِمَا
هَهُنَا، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ رِضًا وَأَمَّا سُقُوطُ
الرَّدِّ بِالرِّضَا أَوْ بِخُرُوجِ الشَّيْءِ أَوْ بَعْضِهِ، عَنِ الْمِلْكِ أَوْ
بِذَهَابِ بَعْضِ عَيْنِهِ أَوْ كُلِّهِ أَوْ بِمَوْتِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا
الْبُرْهَانَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ فِي ذَهَابِ عَيْنِهِ أَوْ بَعْضِهَا مُمْتَنِعٌ
مِنْهُ الرَّدُّ لِمَا اشْتَرَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وَأَمَّا الإِيلاَدُ فَقَدْ ذَكَرْنَا
الْبُرْهَانَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ تَمْلِيكِ الْمَرْءِ أُمَّ وَلَدِهِ
غَيْرَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/73)
1586 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا فَوَجَدَ فِي عُمْقِهِ عَيْبًا، كَبَيْضٍ، أَوْ قِثَّاءٍ، أَوْ قَرْعٍ، أَوْ خَشَبٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ: فَلَهُ الرَّدُّ، أَوْ الإِمْسَاكُ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَوْ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ، إِلاَّ بِكَسْرِهِ أَوْ شَقِّهِ، لأََنَّ الْغَبْنَ لاَ يَجُوزُ، وَلاَ يَحِلُّ، إِلاَّ بِرِضَا الْمَغْبُونِ وَمَعْرِفَتِهِ بِقَدْرِ الْغَبْنِ، وَطِيبِ نَفْسِهِ بِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَالْبَائِعُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْصِدْ الْغِشَّ فَقَدْ حَصَلَ بِيَدِهِ مَالُ أَخِيهِ بِغَيْرِ رِضًا مِنْهُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَلاَ يُمْكِنُ وُجُودُ الرِّضَا إِلاَّ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِمَا يَرْضَى بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
(9/73)
1587 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً، فَبُيِّنَ لَهُ بِعَيْبِ الإِبَاقِ أَوْ الصَّرْعِ، فَرَضِيَهُ فَقَدْ لَزِمَهُ، وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بِشَيْءٍ عَرَفَ مُدَّةَ الإِبَاقِ، وَصِفَةَ الصَّرْعِ أَوْ لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ ذَلِكَ، لأََنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الإِبَاقِ إبَاقٌ. وَجَمِيعَ أَنْوَاعِ الصَّرْعِ صَرْعٌ، وَقَدْ رَضِيَ بِجُمْلَةِ إطْلاَقِ ذَلِكَ. فَلَوْ قُلِّلَ لَهُ الأَمْرُ فَوَجَدَ خِلاَفَ مَا بُيِّنَ لَهُ بَطَلَتْ الصَّفْقَةُ، لأََنَّهُ غَيْرُ مَا اشْتَرَى وَلَوْ وَجَدَ زِيَادَةً عَلَى مَا بُيِّنَ لَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي رَدٍّ أَوْ إمْسَاكٍ، لأََنَّهُ عَيْبٌ لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/73)
1588 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اشْتَرَى عِدْلاً عَلَى أَنَّ فِيهِ عَدَدًا مُسَمًّى مِنْ الثِّيَابِ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَطْلاً مِنْ سَمْنٍ أَوْ عَسَلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُوزَنُ، أَوْ كَذَا وَكَذَا تُفَّاحَةً، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ، أَوْ كَذَا وَكَذَا مُدًّا مِمَّا يُكَالُ أَوْ اشْتَرَى صُبْرَةً عَلَى أَنَّ فِيهَا كَذَا وَكَذَا قَفِيزًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ شَيْئًا عَلَى أَنَّ فِيهِ كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا، فَوَجَدَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا مَفْسُوخَةٌ أَبَدًا، لأََنَّهُ أَخَذَ غَيْرَ مَا اشْتَرَى فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ لاَ بِتِجَارَةٍ، عَنْ تَرَاضٍ. وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ سَلِيمِ الْحِسِّ أَنَّ الْعِدْلَ الَّذِي فِيهِ خَمْسُونَ ثَوْبًا لَيْسَ هُوَ الْعِدْلَ الَّذِي فِيهِ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ ثَوْبًا، وَلاَ هُوَ أَيْضًا الْعِدْلَ الَّذِي فِيهِ وَاحِدٌ وَخَمْسُونَ ثَوْبًا، وَهَكَذَا أَيْضًا فِي سَائِرِ الأَعْدَادِ، وَالأَوْزَانِ. وَالأَكْيَالِ، وَالذَّرْعِ. فَلَوْ لَمْ يَقَعْ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَى ذَلِكَ لَكِنَّ الْمَعْهُودَ وَالْمَعْرُوفَ أَنَّ فِي تِلْكَ الأَعْدَالِ عَدَدًا مَعْرُوفًا، وَكَذَلِكَ تِلْكَ الصُّبْرَةُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَكِيلاَتِ، وَالْمَوْزُونَاتِ، وَالْمَذْرُوعَاتِ، وَالْمَعْدُودَاتِ، أَوْ وَصَفَهُ الْبَائِعُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، إِلاَّ أَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ مَا وَجَدَ مِنْ النَّقْصِ يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ مَا لاَ يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ بِمِثْلِهِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدٍّ أَوْ إمْسَاكٍ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ مَا وَجَدَ مِنْ الزِّيَادَةِ يَزِيدُ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَ بِهِ الْبَائِعُ زِيَادَةً لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِهَا، فَالْبَائِعُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ رَدٍّ أَوْ رِضًا، لأََنَّ كِلاَ الأَمْرَيْنِ غَبْنٌ لأََحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَالْغَبْنُ لاَ يَحِلُّ إِلاَّ بِرِضَا الْمَغْبُونِ وَمَعْرِفَتِهِ بِقَدْرِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، لاَ تِجَارَةٌ، عَنْ تَرَاضٍ، ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِالْحِيَاطَةِ وَالنَّظَرِ لَهُ مِنْ الآخَرِ، وَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَهُوَ مُبْطِلٌ مُتَحَكِّمٌ بِلاَ برهان، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(9/74)
1589- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ لِمُعَامِلِهِ: هَذِهِ دَرَاهِمُك أَوْ دَنَانِيرُك وَجَدْت فِيهَا هَذَا الرَّدِيءَ، أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: هَذِهِ سِلْعَتُك وَجَدْت فِيهَا عَيْبًا فَقَالَ الآخَرُ: ، مَا أُمَيِّزُهَا، وَلاَ أَدْرِي أَنَّهَا دَرَاهِمِي، أَوْ دَنَانِيرِي، أَوْ سِلْعَتِي أَمْ لاَ فَإِنْ كَانَتْ لِلَّذِي يَذْكُرُ وُجُودَ الْعَيْبِ وَالرَّدِيءِ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهَا تِلْكَ قُضِيَ لَهُ وَإِلَّا فَعَلَى الَّذِي يَقُولُ: لاَ أَدْرِي، الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، وَيَبْرَأُ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمُدَّعِي هَهُنَا هُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَخْذَ شَيْءٍ مِنْ الآخَرِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يُنْكِرُ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ وَالثَّمَنُ بِيَدِ الْمُشْتَرِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، لأََنَّهُ مُدَّعًى عَلَيْهِ خُرُوجَ مَا بِيَدِهِ، عَنْ يَدِهِ.
(9/74)
ومن رد بعيب وقد اغتل الوالد
...
1590 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ رَدَّ بِعَيْبٍ وَقَدْ اغْتَلَّ الْوَلَدَ،
وَاللَّبَنَ، وَالثَّمَرَةَ، وَالْخَرَاجَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فَلَهُ الرَّدُّ،
وَلاَ يَرُدُّ شَيْئًا مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، لأََنَّهُ حَدَثَ فِي مَالِهِ وَفِي
مِلْكِهِ، وَلَيْسَ مِمَّا وَقَعَ عَلَيْهِ الشِّرَاءُ، فَلاَ حَقَّ لِلْمَرْدُودِ
عَلَيْهِ فِيهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ
(9/74)
1591 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ لأَخَرَ عِنْدَهُ حَقٌّ مِنْ بَيْعٍ أَوْ سَلَمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ ذَرْعٍ ، فَالْوَزْنُ وَالْكَيْلُ وَالذَّرْعُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ. وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ أَوْ شَيْءٌ بِصِفَةٍ مِنْ سَلَمٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ إجَارَةٍ، أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَالتَّقْلِيبُ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ أَيْضًا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ أَنْ يُوفِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَنْ هُوَ لَهُ عَلَيْهِ وَحَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَمَنْ كَانَ حَقُّهُ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا أَوْ ذَرْعًا أَوْ عَدَدًا مَوْصُوفًا بِطِيبٍ، أَوْ بِصِفَةٍ مَا فَعَلَيْهِ إحْضَارُ مَا عَلَيْهِ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ وَلاَ شَيْءَ عَلَى الَّذِي لَهُ الْحَقُّ، إنَّمَا الْحَقُّ لَهُ، وَلاَ حَقَّ عَلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}
(9/81)
وَقَالَ تَعَالَى: {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} قلنا: نَعَمْ، هَذَا هُوَ قَوْلُنَا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ عَلَى الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْحَقُّ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى إخْسَارِ ذِي الْحَقِّ، وَعَلَى التَّطْفِيفِ، وَلَيْسَ فِي إخْبَارِهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَكْتَالُونَ لأََنْفُسِهِمْ، وَأَنَّ الَّذِي لَهُمْ عَلَيْهِ الْحَقُّ لاَ يَكِيلُ لَهُمْ، لأََنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا ذَكَرَ اسْتِيفَاءَهُمْ مَا لَهُمْ مِنْ الْكَيْلِ فَقَطْ، وَالأَسْتِيفَاءُ يَكُونُ بِكَيْلِ كَائِلٍ مَا، فَلاَ مُتَعَلِّقَ لَهُمْ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ وَصَحَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ هُوَ يَكِيلُ وَيَزِنُ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ، عَنِ الإِخْسَارِ.
(9/82)
1592 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ
اشْتَرَى أَرْضًا فَهِيَ لَهُ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ قَائِمٍ، أَوْ
شَجَرٍ نَابِتٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ اشْتَرَى دَارًا فَبِنَاؤُهَا كُلُّهُ لَهُ،
وَكُلُّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا فِيهَا مِنْ بَابٍ أَوْ دَرَجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
وَهَذَا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ، وَمَا زَالَ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ الدُّورَ
وَالأَرْضِينَ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا لاَ
يَخْلُو يَوْمٌ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ بَيْعُ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ هَكَذَا، وَلاَ
يَكُونُ لَهُ مَا كَانَ مَوْضُوعًا فِيهَا غَيْرَ مَبْنِيٍّ، كَأَبْوَابٍ،
وَسُلَّمٍ، وَدَرَجٍ، وَآجُرٍّ، وَرُخَامٍ، وَخَشَبٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،، وَلاَ
يَكُونُ لَهُ الزَّرْعُ الَّذِي يُقْلَعُ، وَلاَ يَنْبُتُ، بَلْ هُوَ لِبَائِعِهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَمَنْ ابْتَاعَ أَنْقَاضًا، أَوْ شَجَرًا،
دُونَ الأَرْضِ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُقْلَعُ، وَلاَ بُدَّ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
1593 - مَسْأَلَةٌ: وَفَرْضٌ عَلَى التُّجَّارِ أَنْ يَتَصَدَّقُوا فِي خِلاَلِ
بَيْعِهِمْ وَشِرَائِهِمْ بِمَا طَابَتْ بِهِ نُفُوسُهُمْ: لِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ
الْمِصِّيصِيُّ، عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ قَيْسِ
بْنِ أَبِي غَرْزَةَ قَالَ: " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا
مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّهُ يَشْهَدُ بَيْعَكُمْ الْحَلِفُ، وَاللَّغْوُ: شُوبُوهُ
بِالصَّدَقَةِ" وَأَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْفَرْضِ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ، عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وَقَوْلُهُ عليه السلام:
"شُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ" يَقْتَضِي الْمُدَاوَمَةَ وَالتَّكْرَارَ فِي
مَوْضُوعِ اللُّغَةِ، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق.
(9/72)
كتاب الشفعة
الشفعة واجبة في كل جزء بيع مشاعا غير مقسوم
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الشُّفْعَةِ
1594 - مَسْأَلَةٌ: الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ جُزْءٍ بِيعَ مُشَاعًا غَيْرَ
مَقْسُومٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ مِمَّا
يَنْقَسِمُ، وَمِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ: مِنْ أَرْضٍ، أَوْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ،
فَأَكْثَرَ، أَوْ عَبْدٍ، أَوْ ثَوْبٍ، أَوْ أَمَةٍ، أَوْ مِنْ سَيْفٍ، أَوْ مِنْ
طَعَامٍ، أَوْ مِنْ حَيَوَانٍ، أَوْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ بِيعَ لاَ يَحِلُّ لِمَنْ
لَهُ ذَلِكَ الْجُزْءُ
(9/82)
أَنْ يَبِيعَهُ حَتَّى يَعْرِضَهُ
عَلَى شَرِيكِهِ أَوْ شُرَكَائِهِ فِيهِ، فَإِنْ أَرَادَ مَنْ يُشْرِكُهُ فِيهِ
الأَخْذَ لَهُ بِمَا أَعْطَى فِيهِ غَيْرُهُ فَالشَّرِيكُ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ
لَمْ يُرِدْ أَنْ يَأْخُذَ فَقَطْ سَقَطَ حَقُّهُ، وَلاَ قِيَامَ لَهُ بَعْدَ
ذَلِكَ إذَا بَاعَهُ مِمَّنْ بَاعَهُ. فَإِنْ لَمْ يَعْرِضْ عَلَيْهِ كَمَا
ذَكَرْنَا حَتَّى بَاعَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْ يُشْرِكُهُ فِيهِ فَمَنْ يُشْرِكُهُ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ أَنْ يُمْضِيَ ذَلِكَ الْبَيْعَ وَبَيْنَ أَنْ يُبْطِلَهُ وَيَأْخُذَ
ذَلِكَ الْجُزْءَ لِنَفْسِهِ بِمَا بِيعَ بِهِ.
وَهَا هُنَا خِلاَفٌ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ
الْمُشَاعِ أَمْ لاَ وَالثَّانِي هَلْ يَكُونُ فِي بَيْعِهِ شُفْعَةٌ أَمْ لاَ؟
وَالثَّالِث الأَشْيَاءُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الشُّفْعَةُ, وَالرَّابِعُ إنْ
عَرَضَ الْبَائِعُ عَلَى مَنْ يُشْرِكُهُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَ فَأَبَى شَرِيكُهُ
مِنْ الأَخْذِ هَلْ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِذَلِكَ أَمْ لاَ؟ فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ يَعْلَى وَهُوَ تَابِعِيٌّ قَاضِي الْبَصْرَةِ: "لاَ يَجُوزُ بَيْعُ
الْمُشَاعِ" رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ أَنَا
أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ قَالَ: "رُفِعَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ
يَعْلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ رَجُلٌ بَاعَ نَصِيبًا لَهُ غَيْرَ مَقْسُومٍ فَلَمْ
يُجِزْهُ، فَذَكَرَ لِمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَرَآهُ غَيْرَ جَائِزٍ",
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: "لاَ بَأْسَ بِالشَّرِيكَيْنِ يَكُونُ
بَيْنَهُمَا الْمَتَاعُ أَوْ الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يُكَالُ، وَلاَ يُوزَنُ أَنْ
يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يُقَاسِمَهُ", وَقَالَ الْحَسَنُ: "لاَ يَبِعْ
مِنْهُ، وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ حَتَّى يُقَاسِمَهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لُؤْلُؤَةً
أَوْ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى قِسْمَتِهِ", وَأَجَازَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ
بَيْعَ الْمُشَاعِ وَلَمْ يَرَ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ. وقال أبو حنيفة،
وَالشَّافِعِيُّ: "لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي الأَرْضِ فَقَطْ أَوْ فِي أَرْضٍ
بِمَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ نَابِتٍ فَقَطْ", قَالَ مَالِكٌ:
"الشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ فِي الأَرْضِ وَحْدَهَا، وَفِي الأَرْضِ بِمَا فِيهَا
مِنْ بِنَاءٍ أَوْ شَجَرٍ نَابِتٍ، أَوْ فِي الثِّمَارِ الَّتِي فِي رُءُوسِ
الشَّجَرِ وَإِنْ بِيعَتْ دُونَ الأُُصُولِ".وَرُوِّينَا، عَنْ عُثْمَانَ
بْنِ عَفَّان َرضي الله عنه "لاَ شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ وَلاَ فَحْلٍ"
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
إدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: "لاَ شُفْعَةَ فِي بِئْرٍ، وَلاَ فَحْلٍ وَالأُُرْفُ يَقْطَعُ كُلَّ
شُفْعَةٍ". الأُُرْفُ الْحُدُودُ وَالْمَعَالِمُ.
قال أبو محمد: وبرهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ هُوَ ابْنُ زِيَادٍ
أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ عَوْفٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ فَإِذَا
وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ". وَمِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ أَيْضًا أَنَا مَحْمُودُ، هُوَ ابْنُ غَيْلاَنَ أَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَعَلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ
فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ" .
وَوَجَدْت فِي كِتَابِ يَحْيَى بْنِ مَالِكِ بْنِ عَائِذٍ بِخَطِّهِ: أَخْبَرَنِي
الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
سَلَمَةَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
الطَّحَاوِيَّ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خُزَيْمَةَ أَنَا يُوسُفُ بْنُ
عَدِيٍّ هُوَ
(9/83)
الْقَرَاطِيسِيُّ، أَخْبَرَنَا
ابْنُ إدْرِيسَ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ الأَوْدِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ". قَالَ الطَّحَاوِيَّ: وَحَدَّثَنَا
إبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا نُعَيْمٌ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ
مُوسَى، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ السُّكَّرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الشَّرِيكُ شَفِيعٌ وَالشُّفْعَةُ فِي كُلِّ
شَيْءٍ" . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ أَنَا أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا
ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ
سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: "الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ،
لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَيَأْخُذُ أَوْ يَدَعُ،
فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ حَتَّى يُؤْذِنَهُ".
قال أبو محمد: فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ بِكُلِّ مَا قلنا،
جَابِرٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ
الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ مَالٍ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ
. وَرَوَاهَا كَذَا، عَنْ جَابِرٍ: أَبُو الزُّبَيْرِ سَمَاعًا مِنْهُ وَعَطَاءٌ،
وَأَبُو سَلَمَةَ، وَرَوَاهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ،
فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ جُمْلَةً وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَمِمَّنْ قَالَ
بِقَوْلِنَا فِي هَذَا كَمَا رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا يَزِيدُ
بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عُبَيْدِ
اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: "إذَا
وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَعَرَفَ النَّاسُ حُقُوقَهُمْ فَلاَ شُفْعَةَ بَيْنَهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مَنْظُورِ بْنِ أَبِي ثَعْلَبَةَ، عَنْ أَبَانَ بْنِ
عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ أَبَاهُ عُثْمَانَ قَالَ: لاَ مُكَايَلَةَ إذَا
وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ. فَهَذَانِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،
وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنهما يَحْمِلاَنِ قَطْعَ الشُّفْعَةِ بَعْدَ
وُجُوبِهَا بِوُقُوعِ الْحُدُودِ، وَمَعْرِفَةِ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ وَلَمْ
يَخُصَّا أَرْضًا دُونَ سَائِرِ الأَمْوَالِ بَلْ أَجْمَلاَ ذَلِكَ، وَالْحُدُودُ
تَقَعُ فِي كُلِّ جِسْمٍ مَبِيعٍ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ كُلِّ أَحَدٍ
حَقَّهُ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنِ ابْنِ مُلَيْكَةَ قَالَ: "قَضَى رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ الأَرْضِ وَالدَّارِ،
وَالْجَارِيَةِ، وَالْخَادِمِ" فَقَالَ عَطَاءٌ: "إنَّمَا الشُّفْعَةُ
فِي الأَرْضِ وَالدَّارِ" فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: تَسْمَعُنِي
لاَ أُمَّ لَكَ، أَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ تَقُولُ
مِثْلَ هَذَا وَإِلَى هَذَا رَجَعَ عَطَاءٌ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ
قَالَ أَنَا أَبَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: سَأَلْت عَطَاءً،
عَنِ الشُّفْعَةِ فِي الثَّوْبِ فَقَالَ: لَهُ شُفْعَةٌ وَسَأَلْته عَنِ
الْحَيَوَانِ فَقَالَ: لَهُ شُفْعَةٌ وَسَأَلْته، عَنِ الْعَبْدِ فَقَالَ: لَهُ
شُفْعَةٌ. فَهَذَانِ: عَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ بِأَصَحِّ إسْنَادٍ
عَنْهُمَا.
قال أبو محمد: "فَلاَ تَخْلُو الشُّفْعَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِنْ طَرِيقِ
النَّصِّ كَمَا نَقُولُ نَحْنُ أَوْ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ كَمَا يَقُولُ
الْمُخَالِفُونَ". فَإِنْ كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ فَهَذِهِ النُّصُوصُ
الَّتِي أَوْرَدْنَا لاَ يَحِلُّ الْخُرُوجُ عَنْهَا وَإِنْ كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ
النَّظَرِ كَمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهَا إنَّمَا جُعِلَتْ لِدَفْعِ ضَرَرٍ، عَنِ
الشَّرِيكِ فَالْعِلَّةُ بِذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ كَمَا هِيَ
مَوْجُودَةٌ فِي الْعَقَارِ، بَلْ أَكْثَرُ، وَفِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ،
كَوُجُودِهَا
(9/84)
فِيمَا يَنْقَسِمُ، بَلْ هِيَ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ أَشَدُّ ضَرَرًا فأما مَنْ مَنَعَ بَيْعَ الْمُشَاعِ فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً بَلْ هُوَ خِلاَفُ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} فَهَذَا بَيْعٌ لَمْ يُفَصَّلْ لَنَا تَحْرِيمُهُ فَهُوَ حَلاَلٌ. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْمُحَرِّمِينَ رَهْنَ الْجُزْءِ مِنْ الْمُشَاعِ، وَهِبَةَ الْجُزْءِ مِنْ الْمُشَاعِ، وَالصَّدَقَةَ بِالْجُزْءِ مِنْ الْمُشَاعِ، وَالإِجَارَةَ لِلْجُزْءِ الْمُشَاعِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْ بَيْعِ الْجُزْءِ مِنْ الْمُشَاعِ، لأََنَّ الْعِلَّةَ فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاحِدَةٌ، وَالْقَبْضُ وَاجِبٌ فِي الْبَيْعِ كَمَا هُوَ فِي الْهِبَةِ، وَالرَّهْنِ، وَالصَّدَقَةِ وَالإِجَارَةِ وَلَكِنَّ التَّخَاذُلَ فِي أَقْوَالِهِمْ فِي الدِّينِ أَخَفُّ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ, فَإِنْ قَالُوا: "اتَّبَعْنَا فِي إجَازَةِ بَيْعِ الْمُشَاعِ الآثَارَ الْمَذْكُورَةَ"قلنا: "مَا فَعَلْتُمْ، بَلْ خَالَفْتُمُوهَا كَمَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ"، وَأَقْرَبُ ذَلِكَ مُخَالَفَتُكُمْ إيَّاهَا فِي سُقُوطِ حَقِّ الشَّرِيكِ إذَا عَرَضَ عَلَيْهِ الأَخْذَ قَبْلَ الْبَيْعِ فَلَمْ يَأْخُذْ، فَقُلْتُمْ: "بَلْ حَقُّهُ بَاقٍ، وَلاَ يَسْقُطُ",وَأَيْضًا فَقَدْ جَاءَ نَصٌّ بِهِبَةِ الْمُشَاعِ إذْ وَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَشْعَرِيِّينَ ثَلاَثَ ذَوْدٍ مِنْ الإِبِلِ بَيْنَهُمْ فَلَمْ تُجِيزُوهُ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُلْ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّ حُجَّتَهُ أَنْ يَقُولَ: "خَبَرُ الشُّفْعَةِ مُخَالِفٌ لِلأُُصُولِ وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا بِالشِّرَاءِ" فَلاَ يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَخْذُهُ وَهَذَا خِلاَفٌ لِمَا ثَبَتَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْمُخَالِفِينَ لِلثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ حُكْمِ الْمُصَرَّاةِ، وَمِنْ حُكْمِ مَنْ وَجَدَ سِلْعَتَهُ عِنْدَ مُفْلِسٍ فَهُوَ أَوْلَى بِهَا، وَالْقُرْعَةُ بَيْنَ الأَعْبُدِ السِّتَّةِ فِي الْعِتْقِ، وَقَالُوا: هَذِهِ الأَخْبَارُ مُخَالِفَةٌ لِلأُُصُولِ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَ هَذَا فِي خَبَرِ الشُّفْعَةِ، وَلَكِنَّ التَّنَاقُضَ أَسْهَلُ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ، وَلاَ حُجَّةَ فِي نَظَرٍ مَعَ حُكْمٍ ثَابِتٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَأَمَّا الْخِلاَفُ فِيمَا تَكُونُ فِيهِ الشُّفْعَةُ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: إنَّمَا ذَكَرَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْهُ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا شَغَبُوا بِهِ إِلاَّ هَذَا. فَجَوَابُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، أَمَّا قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: فِي كُلِّ شِرْكٍ فِي أَرْضٍ أَوْ رَبْعٍ أَوْ حَائِطٍ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي هَذَا فَقَطْ، وَإِنَّمَا فِيهِ إيجَابُ الشُّفْعَةِ فِي الأَرْضِ وَالرَّبْعِ وَالْحَائِطِ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ هَلْ الشُّفْعَةُ فِيمَا عَدَاهَا أَمْ لاَ فَوَجَبَ طَلَبُ حُكْمِ مَا عَدَا هَذِهِ فِي غَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ وَجَدْنَا خَبَرَ جَابِرٍ هَذَا نَفْسِهِ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ بِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَمَا يَجْهَلُ أَنَّ عَطَاءً فَوْقَ أَبِي الزُّبَيْرِ إِلاَّ جَاهِلٌ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَيْثَمَةَ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ لَهُ شَرِيكٌ فِي رَبْعَةٍ أَوْ نَخْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ، فَإِنْ رَضِيَ أَخَذَ، وَإِنْ كَرِهَ تَرَكَ" أَفَتَرَوْنَ هَذَا حُجَّةً فِي أَنْ لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي رَبْعٍ أَوْ نَخْلٍ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الثِّمَارِ؟فَإِنْ قَالُوا: قَدْ جَاءَ خَبَرٌ آخَرُ بِزِيَادَةٍ قلنا: وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ آخَرُ
(9/85)
لَنَا أَيْضًا بِزِيَادَةٍ كُلُّ
مَالٍ لَمْ يُقْسَمْ، وَلاَ فَرْقَ فَكَيْفَ وَالْحَنَفِيُّونَ،
وَالْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ الْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي هَذَا
أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، فَهَلاَّ قَاسُوا عَلَى حُكْمِ الأَرْضِ،
وَالْحَائِطِ، وَالْبِنَاءِ: سَائِرَ الأَمْلاَكِ بِعِلَّةِ الضَّرَرِ وَدَفْعِهِ،
كَمَا قَاسُوا عَلَى الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ، وَالشَّعِيرِ
وَالْمِلْحِ، وَالتَّمْرِ: سَائِرَ الأَنْوَاعِ فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْمُوجِبُ
لِلْقِيَاسِ هُنَالِكَ وَفِي سَائِرِ مَا قَاسُوا فِيهِ وَمُنِعَ مِنْهُ هَاهُنَا،
لاَ سِيَّمَا وَالْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ يَجْعَلُونَ الشُّفْعَةَ فِي
الصَّدَاقِ قِيَاسًا عَلَى الْبَيْعِ، فَهَلاَّ قَاسُوا الْبَيْعَ عَلَى
الْبَيْعِ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الصَّدَاقِ عَلَى الْبَيْعِ
وَالْمَالِكِيُّونَ يَرَوْنَ الشُّفْعَةَ فِي الثَّمَرَةِ دُونَ الأُُصُولِ،
فَهَلاَّ قَاسُوا غَيْرَ الثَّمَرَةِ عَلَى الْعَقَارِ كَمَا قَاسُوا الثَّمَرَةَ
عَلَى الْعَقَارِ، لاَ سِيَّمَا مَعَ إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُ أَحَدًا
قَالَ بِذَلِكَ قَبْلَهُ. ثُمَّ كُلُّهُمْ مُخَالِفُونَ لِهَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ،
فِي أَنَّهُمْ لاَ يُسْقِطُونَ حَقَّ لِلشَّرِيكِ فِي الشُّفْعَةِ إذَا عَرَضَ
عَلَيْهِ شَرِيكُهُ أَخْذَ الشِّقْصِ بِمَا يُعْطَى فِيهِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ،
فَكَيْفَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَجْعَلَ بَعْضَ خَبَرٍ حُجَّةً، لاَ سِيَّمَا
فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَلاَ يَجْعَلُهُ حُجَّةً فِيمَا هُوَ فِيهِ
مَنْصُوصٌ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا.
وَأَمَّا اللَّفْظُ الَّذِي فِي رِوَايَةِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ
"فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ"
فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ نَصٌّ، وَلاَ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ فِي الأَرْضِ، وَالْعَقَارِ،
وَالْبِنَاءِ. بَلْ الْحُدُودُ وَاقِعَةٌ فِي كُلِّ مَا يَنْقَسِمُ مِنْ طَعَامٍ،
وَحَيَوَانٍ، وَنَبَاتٍ، وَعُرُوضٍ، وَإِلَى كُلِّ ذَلِكَ طَرِيقُ ضَرُورَةٍ،
كَمَا هُوَ إلَى الْبِنَاءِ وَإِلَى الْحَائِطِ، وَلاَ فَرْقَ، وَكَانَ ذِكْرُهُ
عليه السلام لِلْحُدُودِ وَالطُّرُقِ إعْلاَمًا بِحُكْمِ مَا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ،
وَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا لاَ يُقْسَمُ عَلَى حَسْبِهِ فَكَيْفَ وَأَوَّلُ
الْحَدِيثِ بَيَانٌ كَافٍ فِي أَنَّ الشُّفْعَةَ وَاجِبَةٌ فِي كُلِّ مَالٍ
يُقْسَمُ، وَفِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ وَهَذَا عُمُومٌ لِجَمِيعِ الأَمْوَالِ
مَا احْتَمَلَ مِنْهَا الْقِسْمَةَ وَمَا لَمْ يَحْتَمِلْهَا. وَمِنْ الْبَاطِلِ
الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ بِهَذَا
الْحُكْمِ " الأَرْضَ " فَقَطْ، ثُمَّ يُجْمِلُ هَذَا الإِجْمَالَ،
حَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ لاَ بِالإِبْهَامِ
وَالتَّلْبِيسِ هَذَا أَمْرٌ لاَ يَتَشَكَّلُ فِي عَقْلِ ذِي عَقْلٍ سِوَاهُ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: "فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلِّقٌ، وَقَدْ جَسَرَ
بَعْضُهُمْ عَلَى جَارِي عَادَتِهِ فِي الْكَذِبِ فَادَّعَى الإِجْمَاعَ عَلَى
وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي الأَرْضِ، وَالْبِنَاءِ، وَالأَشْجَارِ فَقَطْ، وَادَّعَى
الإِجْمَاعَ عَلَى سُقُوطِ الشُّفْعَةِ فِيمَا سِوَاهَا".
قال أبو محمد: "أَمَّا الإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي الأَرْضِ
وَمَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ وَشَجَرٍ" فَقَدْ أَوْرَدْنَا عَنِ الْحَسَنِ
وَابْنِ سِيرِينَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ
خِلاَفَ ذَلِكَ، وَهَؤُلاَءِ فُقَهَاءُ تَابِعُونَ وَأَمَّا الإِجْمَاعُ عَلَى
أَنْ لاَ شُفْعَةَ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، فَقَدْ ذَكَرْنَا عُمُومَ الرِّوَايَةِ،
عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَالرِّوَايَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ،
وَعَطَاءٍ0 وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَهَذَا مَالِكٌ يَرَى
الشُّفْعَةَ فِي الثَّمَرَةِ الْمَبِيعَةِ دُونَ
(9/86)
الأَصْلِ وَمَا نَعْلَمُ رُوِيَ
إسْقَاطُ الشُّفْعَةِ فِيمَا عَدَا الأَرْضِ إِلاَّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَشُرَيْحٍ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَلاَ يَصِحُّ عَنْهُمْ، وَعَنْ عَطَاءٍ وَقَدْ
رَجَعَ، عَنْ ذَلِكَ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ
وَقَتَادَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَرَبِيعَةَ، وَهُوَ، عَنْ
هَؤُلاَءِ صَحِيحٌ. أَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ فِي
ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: لاَ شُفْعَةَ فِي الْحَيَوَانِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
مَجْهُولٌ وَلَيْسَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ شُفْعَةَ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ،
كَمَا لَيْسَ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ إسْقَاطُ الشُّفْعَةِ، عَنْ غَيْرِ الْبُرِّ
وَالْفَحْلِ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَا جُمْلَةً,وَأَمَّا ابْنُ الْمُسَيِّبِ
فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَمْعَانَ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ وَهُوَ، عَنْ
شُرَيْحٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، وَيَكْفِي. وَرُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ عُبَيْدَةَ، وَجَرِيرُ،
وَيُونُسُ قَالَ عُبَيْدَةُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالاَ جَمِيعًا: لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي دَارٍ، أَوْ عَقَارٍ
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ: لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ فِي تُرْبَةٍ.
قال أبو محمد: "وَمِثْلُ عَدَدِ هَؤُلاَءِ لاَ يَعُدُّهُمْ إجْمَاعًا إِلاَّ
كَذَّابٌ، قَلِيلُ الْحَيَاءِ وَقَدْ أَوْرَدْنَا الْخِلاَفَ فِي ذَلِكَ عَمَّنْ
ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ". وَقَدْ خَالَفَ هَؤُلاَءِ
كُلَّهُمْ مَالِكٌ، فَرَأَى الشُّفْعَةَ فِي التِّينِ وَالْعِنَبِ،
وَالزَّيْتُونِ، وَالْفَوَاكِهِ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ، وَلَيْسَتْ دَارًا، وَلاَ
عَقَارًا، وَلاَ تُرْبَةً وَرَأَى ابْنُ شُبْرُمَةَ الشُّفْعَةَ فِي الْمَاءِ.
وَالْعَجَبُ مِنْ الْمَالِكِيِّينَ فِي إجْبَارِهِمْ الشَّرِيكَ عَلَى أَنْ
يَبِيعَ مَعَ شَرِيكِهِ وَلَمْ يُوجِبْ قَطُّ ذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ أَثَرٌ، وَلاَ
قِيَاسٌ، وَلاَ نَظَرٌ، ثُمَّ لاَ يُوجِبُ لَهُ الشُّفْعَةَ، وَقَدْ جَاءَ بِهَا
النَّصُّ. وَعَجَبٌ آخَرُ مِنْهُمْ، وَمِنْ الْحَنَفِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ:
الْمُسْنَدُ كَالْمُرْسَلِ سَوَاءٌ، حَتَّى أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ: بَلْ
الْمُرْسَلُ أَقْوَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا: أَحْسَنَ الْمَرَاسِيلِ بِإِيجَابِ
الشُّفْعَةِ فِي الْجَارِيَةِ وَفِي الْخَادِمِ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ،
عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فِي الْعَبْدِ
شُفْعَةٌ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ وَمَا نَعْلَمُ فِي الْمُرْسَلاَتِ أَقْوَى مِنْ
هَذَا فَخَالَفُوهُ، وَمَا عَابُوهُ إِلاَّ بِإِرْسَالٍ فَأَيُّ دِينٍ، أَوْ أَيُّ
إحْيَاءٍ، يَبْقَى مَعَ هَذَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.وَأَمَّا
سُقُوطُ حَقِّ الشَّرِيكِ إذَا عَرَضَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ الأَخْذَ فَلَمْ
يَأْخُذْهُ، فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ حَاشَا الطَّحَاوِيَّ، وَالْمَالِكِيِّينَ،
وَالشَّافِعِيِّينَ، قَالُوا: "لاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِذَلِكَ، بَلْ لَهُ
أَنْ يَأْخُذَ بَعْدَ الْبَيْعِ"، وَاحْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: بِأَنَّ
الشُّفْعَةَ لَمْ تَجِبْ لَهُ بَعْدُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ
فَتَرْكُهُ مَا لَمْ يَجِبْ لَهُ بَعْدُ لاَ مَعْنَى لَهُ، وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ
إذَا وَجَبَ، مَا لَهُمْ حُجَّةٌ غَيْرُ هَذَا أَصْلاً. وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ
أَوَّلُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: إنَّ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجِبْ لَهُ بَعْدُ، فَهَذَا بَاطِلٌ،
لأََنَّ الشُّفْعَةَ وَغَيْرَ الشُّفْعَةِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّيَانَةِ كُلِّهَا
لاَ تَجِبُ إِلاَّ إذَا أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى
الله عليه وسلم وَإِلَّا فَمَا لَمْ يَجِئْ هَذَا الْمَجِيءَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ
الدِّينِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ حَقَّ
الشَّفِيعِ بِعَرْضِ الشُّفْعَةِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ، وَأَسْقَطَ حَقَّهُ
بِتَرْكِهِ الأَخْذَ حِينَئِذٍ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ حَقًّا
أَصْلاً، إِلاَّ بِأَنْ لاَ يَعْرِضَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ فَحِينَئِذٍ
يَبْقَى لَهُ الْحَقُّ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَإِلَّا فَلاَ هَذَا هُوَ حُكْمُ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه الصلاة والسلام فَلْيَأْتُونَا
عَنْهُ عليه الصلاة والسلام بِأَنَّ الأَخْذَ لاَ يَجِبُ لِلشَّفِيعِ إِلاَّ
بَعْدَ الْبَيْعِ
(9/87)
فَقَطْ، وَهَذَا مَا لاَ
يَجِدُونَهُ أَبَدًا فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ مِنْ كَثَبٍ. وَلَيْتَ شِعْرِي
أَيْنَ كَانَ الْحَنَفِيُّونَ، عَنْ هَذَا النَّظَرِ حَيْثُ أَجَازُوا الزَّكَاةَ
قَبْلَ الْحَوْلِ، نَعَمْ، وَقَبْلَ دُخُولِهِ، وَالْمَالِكِيُّونَ كَذَلِكَ
قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِشَهْرَيْنِ، وَالشَّافِعِيُّونَ كَذَلِكَ قَبْلَ
تَمَامِ الْحَوْلِ؟ وَأَيْنَ كَانَ الْمَالِكِيُّونَ، عَنْ هَذَا النَّظَرِ حَيْثُ
أَجَازُوا إذْنَ الْوَارِثِ لِلْمُوصِي فِي أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ وَالْمَالُ
لَمْ يَجِبْ لَهُمْ بَعْدُ، وَلاَ لَهُمْ فِيهِ حَقٌّ وَلَعَلَّهُ هُوَ يَرِثُهُمْ
أَوْ لَعَلَّهُ سَيَحْدُثُ لَهُ وَلَدٌ يَحْجُبُهُمْ وَأَيْنَ كَانُوا، عَنْ هَذَا
النَّظَرِ فِي إجَازَتِهِمْ الطَّلاَقَ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَالْعِتْقَ قَبْلَ
الْمِلْكِ، فَأُعْجِبُوا لِهَذِهِ التَّخَالِيطِوَبِهِ يَقُولُ جَمَاعَةٌ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي
الرَّجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا دَارٌ أَوْ أَرْضٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ:
أُرِيدُ أَنْ أَبِيعَ وَلَك الشُّفْعَةُ فَاشْتَرِ مِنِّي، فَقَالَ لَهُ الآخَرُ:
لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ، قَدْ أَذِنْت لَك أَنْ تَبِيعَ، فَبَاعَ، ثُمَّ يَأْتِي
طَالِبُ الشُّفْعَةِ فَيَقُولُ قَدْ قَامَ الثَّمَنُ وَأَنَا أَحَقُّ قَالَ الْحَكَمُ:
لاَ شَيْءَ لَهُ إذَا أَذِنَ. قَالَ سُفْيَانُ: وَبِهِ نَأْخُذُ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ. وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَحْمَدَ:
وَطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ فإن قال قائل: قَدْ جَاءَ هَذَا الْخَبَرُ
مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ وَفِيهِ: لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ
يَبِيعَ قلنا: لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَبُو الزُّبَيْرِ سَمَاعًا مِنْ جَابِرٍ
وَهُوَ قَدْ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ سَمَاعًا
فَإِنَّهُ حَدَّثَهُ بِهِ مَنْ لَمْ يُسَمِّهِ، عَنْ جَابِرٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَكَانَ آخِرُ الْخَبَرِ حَاكِمًا عَلَى أَوَّلِهِ، وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ شَيْءٍ،
صَحَّ مِنْ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهَذَا خَبَرٌ
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ إدْرِيسَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ
قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ شَرِكَةٍ لَمْ
تُقْسَمْ: رَبْعَةٍ، أَوْ حَائِطٍ، لاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ
شَرِيكَهُ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَإِذَا بَاعَ وَلَمْ
يُؤْذِنْهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ.
قال أبو محمد: "فَإِنَّمَا جَعَلَهُ عليه السلام بَعْدَ الْبَيْعِ الَّذِي
لاَ يَحِلُّ أَحَقَّ فَقَطْ، فَلاَحَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الأَخْذِ أَوْ التَّرْكِ
بَعْدَ الْبَيْعِ إلَى الشَّفِيعِ إذَا لَمْ يُؤْذَنْ قَبْلَ الْبَيْعِ فَإِنْ
أَبْطَلَهُ بَطَلَ وَإِنْ أَجَازَهُ فَحِينَئِذٍ جَازَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ".
(9/88)
1595 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ
شُفْعَةَ إِلاَّ فِي الْبَيْعِ وَحْدَهُ، وَلاَ شُفْعَةَ فِي صَدَاقٍ، وَلاَ فِي
إجَارَةٍ، وَلاَ فِي هِبَةٍ، وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ
السَّلَفِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ،
عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى
الشُّفْعَةَ فِي الصَّدَاقِ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
مَهْدِيٍّ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ
قَالَ: بَلَغَنِي عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: "لاَ شُفْعَةَ فِي
صَدَاقٍ" وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِنَا، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ،
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَمَالِكٌ،
وَالشَّافِعِيُّ فِي الصَّدَاقِ وَالشُّفْعَةِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ
الْعُكْلِيُّ وَالشَّافِعِيُّ: يَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِصَدَاقِ مِثْلِهَا، وَقَالَ
ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَمَالِكٌ
(9/88)
يَأْخُذُهُ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ
وَأَوْجَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ الشُّفْعَةَ فِي الإِجَارَةِ.
قال أبو محمد: إنْ قِيلَ: فَهَلاَّ أَخَذْتُمْ بِإِيجَابِ الشُّفْعَةِ فِي كُلِّ
ذَلِكَ بِعُمُومِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَضَائِهِ
بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ قلنا: لَمْ يَجُزْ مَا تَقُولُونَ،
لأََنَّ " الشُّفْعَةَ " لَيْسَتْ لَفْظَةً قَدِيمَةً إنَّمَا هِيَ
لَفْظَةٌ شَرِيعِيَّةٌ لَمْ تَعْرِفْ الْعَرَبُ مَعْنَاهَا قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم كَمَا لَمْ تَعْرِفْ لَفْظَةَ " الصَّلاَةِ "
وَلَفْظَةَ " الزَّكَاةِ " وَلَفْظَةَ " الصِّيَامِ "
وَلَفْظَةَ " الْكَفَّارَةِ " وَلَفْظَةَ " النُّسُكِ "
وَلَفْظَةَ " الْحَدِّ " الْوَارِدَ كُلُّ ذَلِكَ فِي الدِّينِ، حَتَّى
بَيَّنَهَا لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا لَمْ تَعْرِفْهُ
الْعَرَبُ قَطُّ: مِنْ صِفَةِ الرُّكُوعِ، وَالسُّجُودِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَمَا
يُعْطَى مِنْ الأَمْوَالِ وَمَا يُمْتَنَعُ مِنْهُ فِي رَمَضَانَ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ " الشُّفْعَةُ " مِنْ هَذَا الْبَابِ لاَ يَدْرِي
أَحَدٌ مَا الْمُرَادُ بِهَا حَتَّى بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرَ ذَلِكَ،
فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُتَعَدَّى بِهَا بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
إلَى الظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ, فَإِنْ قَالُوا: "قِسْنَا الصَّدَاقَ"
وَالإِجَارَةَ عَلَى الْبَيْعِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ الْقِيَاسَ كُلَّهُ
بَاطِلٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْفَسَادِ، لأََنَّ
الصَّدَاقَ، وَالإِجَارَةَ لاَ يُشْبِهَانِ الْبَيْعَ فِي شَيْءٍ مِنْ
الأَشْيَاءِ، وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ أَنْ يُحْكَمَ
لِلشَّيْءِ بِحُكْمِ نَظِيرِهِ، وَالْبَيْعُ تَمْلِيكٌ لِلْمَبِيعِ، وَلَيْسَتْ
الإِجَارَةُ تَمْلِيكًا لِلْمُؤَاجِرِ إنَّمَا هِيَ إبَاحَةٌ لِلْمَنَافِعِ
الْحَادِثَةِ الظَّاهِرَةِ، وَلاَ الصَّدَاقُ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ، وَلاَ
يَحِلُّ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ وَالإِجَارَةُ إنَّمَا هِيَ فِيمَا لَمْ
يُخْلَقْ مِنْ الْمَنَافِعِ، وَالنِّكَاحُ يَجُوزُ بِلاَ ذِكْرِ صَدَاقٍ، وَلاَ
يَجُوزُ الْبَيْعُ بِغَيْرِ ذِكْرِ ثَمَنٍ. ثُمَّ اخْتِلاَفُهُمْ فِي ذَلِكَ
أَبِصَدَاقِ مِثْلِهَا أَمْ بِقِيمَةِ الشِّقْصِ بَيَانُ أَنَّهُ رَأْيٌ فَاسِدٌ
مُتَعَارِضٌ لَيْسَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى مِنْ الآخَرِ. وَلَيْتَ شِعْرِي
أَيْنَ كَانُوا، عَنْ هَذَا الْقِيَاسِ فِي أَنْ يَقِيسُوا عَلَى الأَرْضِينَ فِي
" الشُّفْعَةِ " سَائِرَ الأَمْوَالِ وَهَذَا أَصَحُّ فِي الْقِيَاسِ
لَوْ صَحَّ الْقِيَاسُ يَوْمًا. فَإِنْ ذَكَرُوا الْخَبَرَ الَّذِي فِيهِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ ابْتَاعَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ
فَصَاحِبُ الدَّيْنِ أَوْلَى" فَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ عَمَّنْ لَمْ
يُسَمَّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ، لأََنَّهُ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا،
فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي مَنْعِهِمْ مِنْ الشُّفْعَةِ فِيمَا عَدَا
الْعَقَارِ.
(9/89)
1596 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ لَمْ يَعْرِضْ عَلَى شَرِيكِهِ الأَخْذَ قَبْلَ الْبَيْعِ حَتَّى بَاعَ فَوَجَبَتْ الشُّفْعَةُ بِذَلِكَ لِلشَّرِيكِ، فَالشَّرِيكُ عَلَى شُفْعَتِهِ عَلِمَ بِالْبَيْعِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، حَضَرَهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْهُ، أَشْهَدَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْ حَتَّى يَأْخُذَ مَتَى شَاءَ، وَلَوْ بَعْدَ ثَمَانِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ يَلْفِظُ بِالتَّرْكِ فَيَسْقُطُ حِينَئِذٍ، وَلاَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِعَرْضِ غَيْرِ شَرِيكِهِ أَوْ رَسُولِهِ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الْحَاضِرُونَ فِي هَذَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَتَى عَلِمَ بِالْبَيْعِ، وَعَلِمَ أَنَّ لَهُ الشُّفْعَةَ، فَإِنْ طَلَبَ فِي الْوَقْتِ أَوْ أَشْهَدَ عَلَى أَنَّهُ آخِذٌ بِشُفْعَتِهِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ أَبَدًا، وَإِنْ سَكَتَ بَعْدَ ذَلِكَ سِنِينَ فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ، وَلاَ طَلَبَ
(9/89)
فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ, وَرُوِيَ،
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْحَاضِرِ: أَنَّ لَهُ أَجَلَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،
فَإِنْ طَلَبَ الشُّفْعَةَ فِيهَا قُضِيَ لَهُ، وَإِنْ مَرَّتْ الثَّلاَثُ وَلَمْ
يَطْلُبْ الشُّفْعَةَ بَطَلَ حَقُّهُ، وَلاَ شُفْعَةَ لَهُ. وَقَالَ صَاحِبُهُ
مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ كَذَلِكَ، إِلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: "لاَ يَنْتَفِعُ بِالإِشْهَادِ
عَلَى أَنَّهُ طَالِبٌ بِالشُّفْعَةِ إِلاَّ بِأَنْ يَكُونَ إشْهَادُهُ بِذَلِكَ
بِحَضْرَةِ الْمَطْلُوبِ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ بِحَضْرَةِ الشِّقْصِ
الْمَطْلُوبِ" وَقَالَ أَيْضًا: "فَإِنْ سَكَتَ بَعْدَ الإِشْهَادِ
الْمَذْكُورِ شَهْرًا وَاحِدًا لاَ يَطْلُبُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ". وَقَالَ
بَعْضُ كِبَارِ نُظَّارِ مُقَلِّدِي أَبِي حَنِيفَةَ: لِلشَّفِيعِ مِنْ أَمَدِ
الْخِيَارِ إنْ سَكَتَ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَلاَ طَلَبَ مَا لِلْمَرْأَةِ
الْمُخَيَّرَةِ. وَبِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يَقُولُ الْبَتِّيُّ، وَابْنُ شُبْرُمَةَ،
وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَالأَوْزَاعِيُّ، إِلاَّ أَنَّ عُبَيْدَ
اللَّهِ قَالَ: "لاَ يُمْهَلُ إِلاَّ سَاعَةً وَاحِدَةً" وقال مالك
ثَلاَثَةَ أَقْوَالٍ: مَرَّةً قَالَ: "إنْ بَلَغَهُ الْبَيْعُ أَنَّ لَهُ
الْقِيَامَ بِالشُّفْعَةِ فَسَكَتَ، وَلَمْ يَطْلُبْ، وَلاَ أَشْهَدَ، فَهُوَ
عَلَى حَقِّهِ، وَلَهُ أَنْ يَطْلُبَ مَا لَمْ يَطُلْ الأَمَدُ جِدًّا دُونَ
تَحْدِيدٍ فِي ذَلِكَ" وَمَرَّةً قَالَ: "إنْ قَامَ مَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ فَلَهُ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ حَتَّى مَضَتْ خَمْسَةُ
أَعْوَامٍ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ" وقال الشافعي: "إنْ تَرَكَ الطَّلَبَ
ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَأَقَلَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ
حَتَّى مَضَتْ لَهُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ" وَهُوَ قَوْلُ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ثُمَّ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: "إنْ تَرَكَ
الطَّلَبَ دُونَ عُذْرٍ مَانِعٍ مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَقَدْ بَطَلَ
حَقُّهُ"، وَإِنْ تَرَكَهُ لِعُذْرٍ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ طَالَ الأَمَدُ
أَوْ قَصُرَ وَهُوَ قَوْلُ مَعْمَرٍ وَرُوِيَ، عَنْ شُرَيْحٍ وَصَحَّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
وَرُوِيَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ لَهُ أَجَلَ يَوْمٍ وَاحِدٍ. وَمِمَّنْ قَالَ
مِثْلَ قَوْلِنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى أَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ الأَزْرَقِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ قَضَى بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قال أبو محمد: أَمَّا أَقْوَالُ مَالِكٍ كَمَا هِيَ، فَهِيَ فِي غَايَةِ
الْفَسَادِ لأََنَّهَا إمَّا تَحْدِيدٌ بِلاَ برهان وَأَمَّا إجْمَالٌ بِلاَ
تَحْدِيدٍ، فَلاَ يَدْرِي أَحَدٌ مَتَى يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلاَ مَتَى لاَ
يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلَيْسَ فِي الزَّمَانِ طَوِيلٌ إِلاَّ بِإِضَافَةٍ إلَى مَا
هُوَ أَقْصَرُ مِنْهُ، فَالْيَوْمُ طَوِيلٌ لِمَنْ عُذِّبَ فِيهِ، وَبِالإِضَافَةِ
إلَى سَاعَةٍ وَمِائَةِ عَامٍ قَلِيلٌ بِالإِضَافَةِ إلَى عُمْرِ الدُّنْيَا مَعَ
أَنَّهَا أَقْوَالٌ لَمْ تُعْهَدْ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ يُعَضِّدُهَا
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ سَلَفٍ، وَلاَ
قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ.وَكَذَلِكَ قَوْلُ سُفْيَانَ، وَالأَوَّلُ مِنْ
قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَقَوْلُ الشَّعْبِيِّ فِي تَحْدِيدِ يَوْمٍ، فَهُمَا
قَوْلاَنِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ لأََنَّهُمَا تَحْدِيدٌ بِلاَ برهان، وَلَيْسَ
رَدُّ ذَلِكَ إلَى مَا جَاءَ مِنْ الأَخْبَارِ بِخِيَارِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ
أَوْلَى مِنْ أَنْ يُرَدَّ إلَى خِيَارِ الْعِدَّةِ إنْ شَاءَ ارْتَجَعَ وَإِنْ
شَاءَ أَمْضَى
(9/90)
الطَّلاَقَ وَهُوَ ثَلاَثَةُ
أَشْهُرٍ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تَخَالِيطُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ وَتَحْدِيدُهُ بِشَهْرٍ وَبِأَنْ لاَ يَكُونَ الإِشْهَادُ إِلاَّ
بِحَضْرَةِ الْمَطْلُوبِ بِالشُّفْعَةِ، أَوْ الشِّقْصِ الْمَبِيعِ فَهَذَا
تَخْلِيطٌ نَاهِيك بِهِ وَتَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ.وَأَمَّا قَوْلُ
مَنْ قَالَ: " لَهُ مِنْ الأَمَدِ مَا لِلْمُخَيَّرَةِ " فَأَسْخَفُ
قَوْلٍ سُمِعَ بِهِ لأََنَّهُ احْتِجَاجٌ لِلْبَاطِلِ بِالْبَاطِلِ، وَلِلْهَوَسِ
بِالْهَوَسِ، وَمَا سُمِعَ بِأَحْمَقَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ فِي حُكْمِ
الْمُخَيَّرَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالْبَتِّيِّ، وَمَنْ
وَافَقَهُمْ فَإِنَّ تَحْدِيدَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالإِشْهَادِ، ثُمَّ السُّكُوتِ
إنْ شَاءَ قَوْلٌ بِلاَ برهان لَهُ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ. وَقَدْ
عَلِمْنَا أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ وَاجِبٌ بَعْدَ الْبَيْعِ إذَا لَمْ يُؤْذِنْهُ
الْبَائِعُ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَأَيُّ حَاجَةٍ بِهِ إلَى الإِشْهَادِ، أَوْ مِنْ
أَيْنَ أَلْزَمُوهُ إيَّاهُ وَأَسْقَطُوا حَقَّهُ بِتَرْكِهِ هَذَا خَطَأٌ
فَاحِشٌ، وَإِسْقَاطٌ لِحَقٍّ قَدْ وَجَبَ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ،
فَمَا يُقَوِّيهِ الإِشْهَادُ، وَلاَ يُضَعِّفُهُ تَرْكُهُ فَبَطَلَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ
فَنَظَرْنَا فِيهِ فَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ
الْمُمَوِّهِينَ نَزَعَ بِقَوْلٍ مَكْذُوبٍ مَوْضُوعٍ مُضَافٍ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الشُّفْعَةُ كَنَشْطَةِ عِقَالٍ وَالشُّفْعَةُ
لِمَنْ وَاثَبَهَا" وَهَذَا خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ
قَالَ: أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
الْحَارِثِ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "لاَ شُفْعَةَ لِغَائِبٍ، وَلاَ لِصَغِيرٍ وَالشُّفْعَةُ كَحَلِّ
الْعِقَالِ مَنْ مَثَّلَ بِمَمْلُوكِهِ فَهُوَ حُرٌّ وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَالنَّاسُ عَلَى شُرُوطِهِمْ مَا وَافَقُوا الْحَقَّ" .
قال أبو محمد: أَفَيَكُونُ أَعْجَبُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ كُلَّ مَا فِي هَذَا
الْخَبَرِ وَاحْتِجَاجِهِمْ بِبَعْضِهِ، فَبَعْضُهُ حَقٌّ وَبَعْضُهُ بَاطِلٌ
أُفٍّ لِهَذِهِ الأَدْيَانِ وَأَمَّا الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا، فَمَا
يَحْضُرُنَا الآنَ ذِكْرُ إسْنَادِهَا، إِلاَّ أَنَّهُ جُمْلَةً لاَ خَيْرَ فِيهِ،
وَابْنُ الْبَيْلَمَانِيِّ ضَعِيفٌ مُطْرَحٌ، وَمُتَّفَقٌ عَلَى تَرْكِهِ.وَأَمَّا
لَفْظُ لِمَنْ وَاثَبَهَا فَهُوَ لَفْظٌ فَاسِدٌ، لاَ يَحِلُّ أَنْ يُضَافَ مِثْلُهُ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأََنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: الشُّفْعَةُ
لِمَنْ وَاثَبَهَا: مُوجِبٌ أَنْ يَلْزَمَهُ الطَّلَبُ مَعَ الْبَيْعِ لاَ
بَعْدَهُ، لأََنَّ الْمُوَاثَبَةَ فِعْلٌ مِنْ فَاعِلَيْنِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ
طَلَبُهُ مَعَ الْبَيْعِ لاَ بَعْدَهُ، لأََنَّ التَّأَنِّي فِي الْوَثْبِ لاَ
يُسَمَّى مُوَاثَبَةً.وَأَمَّا قَوْلُهُ الشُّفْعَةُ كَنَشْطَةِ عِقَالٍ
فَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ نَشْطَ الْعِقَالِ:
هُوَ حَلُّ الْعِقَالِ، وَكَذَلِكَ الشُّفْعَةُ، لأََنَّهَا حَلُّ مِلْكٍ، عَنِ
الْمَبِيعِ وَإِيجَابُهُ لِغَيْرِهِ فَقَطْ.
قَالَ عَلِيٌّ: "وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى حَقَّ الشَّفِيعِ وَاجِبًا
وَجَعَلَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه السلام الْمُصَدَّقِ أَحَقَّ"، إذَا
لَمْ يُؤْذَنْ قَبْلَ الْبَيْعِ، فَكُلُّ حَقٍّ ثَبَتَ بِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى
وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَسْقُطُ أَبَدًا إِلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ
بِسُقُوطِهِ، فَإِنْ وَقَفَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَوْ يَتْرُكَ
لَزِمَهُ أَحَدُ الأَمْرَيْنِ وَوَجَبَ عَلَى الْحَاكِمِ إجْبَارُهُ عَلَى أَحَدِ
الأَمْرَيْنِ لأََنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ حَقَّهُ فَلاَ يَنْبَغِي لَهُ
(9/91)
تَضْيِيعُهُ، فَهُوَ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَخْذِهِ، أَوْ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ غَاشٌّ غَيْرُ نَاصِحٍ لأََخِيهِ الْمُنْصِفِ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا مَنْ مُنِعَ حَقُّهُ وَلَمْ يُعْطَهُ، فَلَيْسَ سُقُوطُهُ، عَنْ طَلَبِهِ قَطْعًا لِحَقِّهِ وَلَوْ سَكَتَ عُمْرَهُ كُلَّهُ، وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ غُصِبَ مَالاً، أَوْ كَانَ لَهُ دَيْنٌ أَوْ مِيرَاثٌ، أَوْ حَقٌّ مَا، فَإِنَّ سُقُوطَهُ، عَنْ طَلَبِهِ لاَ يُبْطِلُهُ، وَأَنَّهُ عَلَى حَقِّهِ أَبَدًا فَمِنْ أَيْنَ خَصُّوا حَقَّ الشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْحُقُوقِ بِهَذِهِ التَّخَالِيطِ؟.
(9/92)
فان أخذ الشقيع حقه لزم المشترى
ردما استغل
...
1597. - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَخَذَ الشَّفِيعُ حَقَّهُ لَزِمَ الْمُشْتَرِي رَدُّ
مَا اسْتَغَلَّ وَكَانَ كُلُّ مَا أَنْفَذَ فِيهِ مِنْ هِبَةٍ , أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ عِتْقٍ، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ بُنْيَانٍ، أَوْ مُكَاتَبَةٍ، أَوْ مُقَاسَمَةٍ،
فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، وَتُقْلَعُ أَنْقَاضُهُ
لَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ، لاَ سِيَّمَا الْمُخَاصِمُ الْمَانِعُ، فَإِنَّ هَذَا
غَاصِبٌ ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ، مَانِعٌ حَقَّ غَيْرِهِ بِلاَ مِرْيَةٍ، فَإِنْ تَرَكَ
الشَّرِيكُ الأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ نَفَذَ كُلُّ ذَلِكَ وَصَحَّ، وَلَمْ يَرُدَّ
شَيْئًا مِنْهُ، وَكَانَتْ الْغَلَّةُ لَهُ، هَذَا إذَا كَانَ إيذَانُهُ
الشَّرِيكَ مُمْكِنًا لَهُ، أَوْ لِلْبَائِعِ حِينَ اشْتَرَى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
إيذَانُ الشَّرِيكِ مُمْكِنًا لِلْبَائِعِ لِعُذْرٍ مَا، أَوْ لِتَعَذُّرِ
طَرِيقٍ، فَإِنَّ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ مَتَى طَلَبَهَا وَلَيْسَ عَلَى
الْمُشْتَرِي رَدُّ الْغَلَّةِ حِينَئِذٍ، لَكِنَّ كُلَّ مَا أَحْدَثَ فِيهِ
مِمَّا ذَكَرْنَا فَمَفْسُوخٌ وَيُقْلَعُ بُنْيَانُهُ وَلاَ بُدَّ.
برهان ذَلِكَ قَوْلُهُ عليه السلام الَّذِي أَوْرَدْنَا قَبْلُ لاَ يَصْلُحُ أَنْ
يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ فَلاَ يَخْلُو بَيْعُ الشَّرِيكِ قَبْلَ أَنْ
يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ مِنْ أَحَدِ أَوْجُهٍ ثَلاَثَةٍ، لاَ رَابِعَ لَهَا إمَّا أَنْ
يَكُونَ بَاطِلاً وَإِنْ صَحَّحَهُ الشَّفِيعُ بِتَرْكِهِ الشُّفْعَةَ وَهَذَا
بَاطِلٌ، لأََنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْغَلَّةِ عَلَى
كُلِّ حَالٍ أَخَذَ الشَّفِيعُ أَوْ تَرَكَ، وَالْخَبَرُ يُوجِبُ غَيْرَ هَذَا،
بَلْ يُوجِبُ أَنَّ الشَّرِيكَ أَحَقُّ، وَأَنَّهُ إنْ تَرَكَ فَلَهُ ذَلِكَ،
فَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلاً لاَحْتَاجَ إلَى تَجْدِيدِ عَقْدٍ آخَرَ وَهَذَا
خَطَأٌ، أَوْ يَكُونُ صَحِيحًا حَتَّى يُبْطِلَهُ الشَّفِيعُ بِالأَخْذِ وَهَذَا
بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: لاَ يَصْلُحُ فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ
يَكُونَ صَحِيحًا مَا أَخْبَرَ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ، أَوْ
يَكُونَ مَوْقُوفًا، فَإِنْ أَخَذَ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ عُلِمَ أَنَّ
الْبَيْعَ وَقَعَ بَاطِلاً، وَإِنْ تَرَكَ حَقَّهُ عُلِمَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ
صَحِيحًا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِبُطْلاَنِ الْوَجْهَيْنِ الأَوَّلِينَ
لِقَوْلِهِ عليه السلام "الشَّرِيكُ أَحَقّ" فَصَحَّ أَنَّ
لِلْمُشْتَرِي حَقًّا بَعْدَ حَقِّ الشَّفِيعِ. فَصَحَّ مَا قُلْنَاهُ.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ فِي هَذَا: مَتَى كَانَ الشَّفِيعُ أَحَقَّ، أَحِينَ
أَخَذَ أَمْ حِينَ رَدَّ الْبَيْع َإِنْ قَالُوا: مِنْ حِينِ أَخَذَقلنا: هَذَا
بَاطِلٌ، لأََنَّهُ خِلاَفُ حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ
جَعَلَهُ أَحَقَّ حِينَ الْبَيْعِ، فَإِذْ هُوَ أَحَقُّ حِينَ الْبَيْعِ فَإِذَا
أَخَذَ فَقَدْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنْ حِينِ الْبَيْعِ,َأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ
لِلْبَائِعِ إعْلاَمُ الشَّرِيكِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم:
(9/92)
"إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ
فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" فَصَحَّ بِلاَ شَكٍّ أَنَّ مَنْ لَمْ
يَقْدِرْ عَلَى إيذَانِ الشَّرِيكِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْهُ فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ
وَحَلَّ لَهُ الْبَيْعُ، لأََنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: "لاَ يَصْلُحُ أَنْ
يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَ شَرِيكَهُ" يَقْتَضِي ضَرُورَةً مَنْ يَقْدِرُ عَلَى
إيذَانِهِ، فَخَرَجَ، عَنْ هَذَا النَّصِّ حُكْمُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
إيذَانِهِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْبَيْعِ، وَعَاجِزٌ، عَنِ الإِيذَانِ فَمُبَاحٌ
لَهُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَسَاقِطٌ عَنْهُ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَهَذَا إذَا
طَلَبَ الشَّفِيعُ وَأَخَذَ شُفْعَتَهُ، فَحِينَئِذٍ بَطَلَ الْعَقْدُ، وَكَانَ
قَبْلَ ذَلِكَ صَحِيحًا، فَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ فَالْغَلَّةُ لَهُ، لأََنَّهَا
غَلَّةُ مَالِهِ وَأَمَّا الْبِنَاءُ وَسَائِرُ مَا أَحْدَثَ فَقَدْ أَبْطَلَهُ
حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ مِنْهُ
فَإِنَّمَا أَنْفَذَ حُكْمَهُ فِيمَا غَيْرُهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ فَبَطَلَ أَنْ
يَنْفُذَ حُكْمُهُ فِيمَا جَعَلَهُ تَعَالَى حَقًّا لِغَيْرِهِ لقوله تعالى:
{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا:
فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى،
قَالاَ جَمِيعًا: إذَا بَنَى ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ بَعْدَهُ فَالْقِيمَةُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ: "يَقْلَعُ بِنَاءَهُ وَبِهِ"
يَأْخُذُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابُهُمْ وَبِقَوْلِ الشَّعْبِيِّ يَأْخُذُ مَالِكٌ وَالْبَتِّيُّ،
وَالأَوْزَاعِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدَ.
قال أبو محمد: إلْزَامُهُ قَلْعَ بِنَائِهِ وَاجِبٌ بِمَا ذَكَرْنَا، وَبِأَنَّهُ
لاَ يَجُوزُ لَهُ إبْقَاءُ أَنْقَاضِهِ فِي سَاحَةِ غَيْرِهِ لِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ" ، وَلاَ يَجُوزُ إلْزَامُهُ غَرَامَةً فِي ابْتِيَاعِ مَا لاَ
يُرِيدُ ابْتِيَاعَهُ مِنْ أَنْقَاضِ بِنَاءِ الْمَخْرَجِ مِنْ الأَبْتِيَاعِ
لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّ، فَهُوَ ظُلْمٌ مُجَرَّدٌ. وَلاَ فَرْقَ
بَيْنَ إلْزَامِهِ غَرَامَةً لِلْمَخْرَجِ، عَنِ الْمِلْكِ وَبَيْنَ إبَاحَةِ
أَنْقَاضِ الْمَخْرَجِ لِلشَّفِيعِ وَكُلُّ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ مُحَرَّمٍ
بِالْبَاطِلِ، بَلْ كُلُّ ذِي حَقٍّ أَوْلَى بِحَقِّهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
قَالَ عَلِيٌّ: "أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ عليه
الصلاة والسلام الْخِيَارَ فِي الْبَيْعِ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ
الْمُصَرَّاةُ" ، وَمَنْ بَايَعَ وَقَالَ: "لاَ خِلاَبَةَ فَهَذَانِ
خِيَارُهُمَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا فَقَطْ" وَمَنْ تُلُقِّيَتْ
سِلْعَتُهُ فَهَذَا لَهُ الْخِيَارُ إذَا دَخَلَ السُّوقَ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَمَنْ وَجَدَ عَيْبًا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ بِهِ، وَلاَ شَرَطَ السَّلاَمَةَ
مِنْهُ. وَالشَّرِيكُ يَبِيعُ مَعَ غَيْرِ شَرِيكِهِ، وَلاَ يُؤْذِنُهُ.
فَهَؤُلاَءِ لَهُمْ الْخِيَارُ بِلاَ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ إِلاَّ حَتَّى يُقِرُّوا
بِتَرْكِ حَقِّهِمْ فَوَجَدْنَا مُشْتَرِي الْمُصَرَّاةِ، وَمَنْ بَايَعَ عَلَى
أَنْ لاَ خِلاَبَةَ يَنْقَضِي خِيَارُهُمَا بِتَمَامِ الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ،
وَلاَ يَكُونُ لَهُمَا خِيَارٌ بَعْدَهَا، وَيَلْزَمُهُمَا الشِّرَاءُ فَصَحَّ
يَقِينًا أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا، إذْ لَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ
يَلْزَمْ أَصْلاً إِلاَّ بِتَجْدِيدِ عَقْدٍ، فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا بِمَا
ذَكَرْنَا، وَأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يُخَيَّرْ فِي إمْضَائِهِ أَوْ
فِي رَدِّهِ، بَلْ كَانَ يَكُونُ بَاطِلاً لاَ خِيَارَ لأََحَدٍ فِي تَصْحِيحِهِ
فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا، ثُمَّ جَعَلَ تَعَالَى لِلْمُشْتَرِي
رَدَّهُ إنْ شَاءَ فَصَحَّ أَنَّ الْغَلَّةَ لَهُ رَدَّ أَوْ أَخَذَ
(9/93)
لأََنَّهَا حَدَثَتْ فِي مَالِهِ. وَوَجَدْنَا مَنْ تَلَقَّى السِّلَعَ فَابْتَاعَ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا، عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لِلْبَائِعِ خِيَارًا إِلاَّ بَعْدَ دُخُولِهِ إلَى السُّوقِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ خِيَارًا.فَصَحَّ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا، عَنِ التَّلَقِّي، وَلَمْ يَنْهَ، عَنِ الأَبْتِيَاعِ، لأََنَّ التَّلَقِّيَ غَيْرُ الأَبْتِيَاعِ فَهُمَا فِعْلاَنِ، أَحَدُهُمَا غَيْرُ الآخَرِ نَهَى، عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَنْهَ، عَنِ الآخَرِ، لَكِنْ جُعِلَ لِلْبَائِعِ خِيَارٌ فِي رَدِّهِ أَوْ إمْضَائِهِ وَلَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَبَطَلَ جُمْلَةً. فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ لِلْمُشْتَرِي فِي رَدِّ الْبَائِعِ الْبَيْعَ أَوْ إجَازَتِهِ. وَوَجَدْنَا [ أَيْضًا ] مَنْ وَجَدَ عَيْبًا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُ بِهِ، وَلاَ شَرَطَ السَّلاَمَةَ مِنْهُ، لَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا فِي إمْضَاءِ الْبَيْعِ أَوْ رَدِّهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ صَحِيحًا، إذْ لَوْ وَقَعَ فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ إمْضَاؤُهُ فَوَجَبَ أَيْضًا أَنَّ الْغَلَّةَ لَهُ، رَدَّ أَوْ أَخَذَ. وَبَقِيَ أَمْرُ الشَّفِيعِ فَوَجَدْنَاهُ بِخِلاَفِ كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْبُيُوعِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِالْمَنْعِ مِنْ الْبُيُوعِ الْمَذْكُورَةِ، بَلْ جَاءَ النَّصُّ بِإِجَازَتِهَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَبَانَ الدَّلِيلُ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ صَحِيحَةً. وَوَجَدْنَا مَنْ يُمْكِنُهُ إيذَانُ شَرِيكِهِ فَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِأَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ حَتَّى يُؤْذِنَهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلاَّ هَذَا اللَّفْظُ وَحْدَهُ لَوَجَبَ بُطْلاَنُ الْعَقْدِ بِكُلِّ حَالٍ، لَكِنْ لَمَّا جَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشَّرِيكَ أَحَقَّ، وَأَبَاحَ لَهُ الأَخْذَ أَوْ التَّرْكَ: وَجَبَ أَنَّهُ مُرَاعًى كَمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ أَخَذَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُمْضِ ذَلِكَ الْعَقْدَ، بَلْ أَبْطَلَهُ فَصَحَّ أَنَّهُ انْعَقَدَ فَاسِدًا فَلَزِمَهُ رَدُّ الْغَلَّةِ، وَإِنْ تَرَكَ الأَخْذَ فَقَدْ أَجَازَهُفَصَحَّ أَنَّهُ انْعَقَدَ جَائِزًا.وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الإِيذَانُ فَلَمْ يَأْتِ النَّصُّ فِيهِ بِأَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ، وَقَدْ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ، إِلاَّ أَنَّ لِلشَّرِيكِ الأَخْذَ أَوْ التَّرْكَ، فَإِنْ أَخَذَ فَحِينَئِذٍ بَطَلَ الْعَقْدُ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَالْغَلَّةُ لِلْمُشْتَرِي هَاهُنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/94)
1598 - مَسْأَلَةٌ: وَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلْبَدْوِيِّ، وَلِلسَّاكِنِ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ، وَلِلْغَائِبِ، وَلِلصَّغِيرِ إذَا كَبُرَ، وَلِلْمَجْنُونِ إذَا أَفَاقَ، وَلِلذِّمِّيِّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ عليه السلام: فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ بِهِ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ مِنْ السَّلَفِ: لاَ شُفْعَةَ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: "لاَ شُفْعَةَ لِمَنْ لاَ يَسْكُنُ الْمِصْر"َ، وَلاَ لِلذِّمِّيِّ.وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: لاَ شُفْعَةَ لِذِمِّيٍّ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: لاَ شُفْعَةَ لِغَائِبٍ، وَقَالَهُ أَيْضًا الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ، قَالاَ: إِلاَّ الْقَرِيبَ الْغَيْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: لاَ شُفْعَةَ لِصَغِيرٍ وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حُجَّةً أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ، فَإِنْ تَرَكَ وَلِيُّ الصَّغِيرِ، أَوْ الْمَجْنُونِ الأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا لَهُمَا لَزِمَهُمَا، لأََنَّهُ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ النَّصِيحَةِ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَ التَّرْكُ لَيْسَ نَظَرًا لَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا، وَلَهُمَا الأَخْذُ أَبَدًا، لأََنَّهُ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ غِشِّهِمَا.
(9/94)
فان باع الشقصر بعرض أو بعقار
للشفيع
...
1599 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَاعَ الشِّقْصَ بِعَرَضٍ، أَوْ بِعَقَارٍ لَمْ يَجُزْ
لِلشَّفِيعِ أَخْذُهُ إِلاَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَقَارِ أَوْ مِثْلِ ذَلِكَ
الْعَرَضِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ أَصْلاً فَالْمَطْلُوبُ مُخَيَّرٌ
(9/94)
1600 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ
شِقْصَهُ بِثَمَنٍ إلَى أَجَلٍ فَالشَّفِيعُ أَحَقُّ بِهِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ إلَى
ذَلِكَ الأَجَلِ ,قال مالك: "إنْ كَانَ مَلِيًّا أَخَذَ الشِّقْصَ بِذَلِكَ
الثَّمَنِ إلَى ذَلِكَ الأَجَلِ" وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَضَمِنَهُ
مَلِيءٌ وَإِلَّا فَلاَ وقال الشافعي: وَأَبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَأْخُذُهُ إِلاَّ
بِالنَّقْدِ، فَإِنْ أَبَى قِيلَ لَهُ: "اصْبِرْ، فَإِذَا جَاءَ الأَجَلُ
فَخُذْهَا حِينَئِذٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: إنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ ذِمَّةَ
الشَّرِيكِ وَقَدْ يُعْسِرُ قَبْلَ الأَجَلِ قال أبو محمد: هَذَا لاَ شَيْءَ،
وَنَقُولُ لَهُمْ: إنْ كَانَ لَمْ يَرْضَ ذِمَّةَ الشَّرِيكِ فَكَانَ مَاذَا
وَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ مُرَاعَاةُ رِضَاهُ وَسَخَطِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ
يَرْضَ مُعَامَلَتَهُ، وَقَدْ يُعْسِرُ الَّذِي بَاعَ مِنْهُ أَيْضًا،
فَالأَرْزَاقُ مَقْسُومَةٌ، وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "
فَالشَّرِيكُ أَحَقُّ" مُوجِبٌ لَهُ الأَخْذُ بِمَا يَبِيعُ بِهِ جُمْلَةً
وَتَفْضِيلُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَى فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(9/95)
ولو أن الشريك ببعد بيع شريكه قبل
ان يؤذنه باع أيضا
...
1601 - مَسْأَلَةٌ: وَلَوْ أَنَّ الشَّرِيكَ بَعْدَ بَيْعِ شَرِيكِهِ قَبْلَ أَنْ
يُؤْذِنَهُ بَاعَ أَيْضًا حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ الشَّرِيكِ الْبَائِعِ، أَوْ مِنْ
الْمُشْتَرِي مِنْهُ، أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ عَلِمَ بِأَنَّ لَهُ الشُّفْعَةَ أَوْ
لَمْ يَعْلَمْ عَلِمَ بِالْبَيْعِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَالشُّفْعَةُ لَهُ كَمَا
كَانَتْ، لأََنَّهُ حَقٌّ قَدْ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ فَلاَ يُسْقِطُهُ
عَنْهُ بَيْعُ مَالِهِ، وَلاَ غَيْرُ ذَلِكَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(9/95)
1602- مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ وَلَا مَالَ لَهُ لَمْ يَجِبْ أَنْ يُهْمَلَ، لَكِنْ يُبَاعُ ذَلِكَ الشِّقْصُ عَلَيْهِ، فَإِنْ وَفَّى بِالثَّمَنِ فَذَلِكَ، وَإِنْ فَضَلَتْ فَضْلَةٌ دُفِعَتْ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَفِ اُتُّبِعَ بِالْبَاقِي، وَأُنْظِرَ فِيهِ أَنْ يُوسِرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذُو مَالٍ بِذَلِكَ الشِّقْصِ الْوَاجِبِ لَهُ. وَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلَيْسَ ذَا عُسْرَةٍ لَكِنْ يُبَاعُ مَالُهُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ فَهُوَ حِينَئِذٍ ذُو عُسْرَةٍ بِالْبَاقِي فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ حِينَئِذٍ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ قَوْمٌ: يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ، وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ إخْرَاجُ حَقِّهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَقَّ
(9/95)
1603 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ مَاتَ
الشَّفِيعُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ: أَنَا آخُذُ شُفْعَتِي فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ،
وَلاَ حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي الأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ أَصْلاً، لأََنَّ اللَّهَ
تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ الْحَقَّ لَهُ لاَ لِغَيْرِهِ، وَالْخِيَارُ لاَ
يُوَرَّثُ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: "سَمِعْنَا أَنَّ الشُّفْعَةَ لاَ تُبَاعُ، وَلاَ
تُوهَبُ، وَلاَ تُوَرَّثُ، وَلاَ تُعَارُ، هِيَ لِصَاحِبِهَا الَّذِي وَقَعَتْ
لَهُ" قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: هُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ،
وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ وقال مالك،
وَالشَّافِعِيُّ: "لشُّفْعَةُ لِوَرَثَتِهِ" وَاحْتَجُّوا بِأَنْ
قَالُوا: "وَرَّثُ الشُّفْعَةُ كَمَا يُوَرَّثُ الْعَفْوُ فِي الدَّمِ أَوْ
الْقِصَاصِ مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا أُوهِمُوا بِهِ غَيْرَ هَذَا، وَهَذَا
بَاطِلٌ " لأََنَّهَا دَعْوَى بِلاَ برهان ثُمَّ هُوَ احْتِجَاجٌ لِلْخَطَأِ
بِالْخَطَأِ. وَقَوْلُهُمْ: "إنَّ الْعَفْوَ وَالْقِصَاصَ يُوَرَّثَانِ،
خَطَأٌ"، بَلْ هُمَا لِمَنْ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ ذُكُورِ
الأَوْلِيَاءِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمِيرَاثَ فِي
الأَمْوَالِ، لاَ فِيمَا لَيْسَ مَالاً، وَلَوْ وُرِّثَ الْخِيَارُ لَوَجَبَ أَنْ
يُوَرَّثَ عِنْدَهُمْ فِيمَنْ جَعَلَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِ إنْسَانٍ
بِعَيْنِهِ وَخَيَّرَهُ فِي طَلاَقِهَا أَوْ إبْقَائِهَا، فَمَاتَ ذَلِكَ
الإِنْسَانُ، فَكَانَ يَجِبُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَرِثَ وَرَثَتُهُ مَا جُعِلَ
لَهُ مِنْ الْخِيَارِ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ هَذَا. وَنَسْأَلُهُمْ أَيْضًا:
لِمَنْ يَأْخُذُونَ الْوَرَثَةَ بِالشُّفْعَةِ، أَلِلْمَيِّتِ أَمْ لأََنْفُسِهِمْ
فَإِنْ قَالُوا: لِلْمَيِّتِ قلنا: "هَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ الْمَيِّتَ لاَ
يَمْلِكُ شَيْئًا".وَإِنْ قَالُوا: لأََنْفُسِهِمْ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ،
لأََنَّ شَرِكَتَهُمْ إنَّمَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْبَيْعِ فَلاَ تُوجَدُ شُفْعَةٌ،
وَلَمْ يَكُونُوا حِينَ الْبَيْعِ شُرَكَاءَ، فَلَمْ تَجِبْ لَهُمْ شُفْعَةٌ.
وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ، وَخَالَفُوا جُمْهُورَ
الْعُلَمَاءِ، لأََنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ أَحَدَ الأَوْلِيَاءِ الَّذِي لَهُمْ
الْعَفْوُ أَوْ الْقِصَاصُ إنْ مَاتَ وَتَرَكَ زَوْجَةً وَبَنَاتٍ لَمْ يَرِثْنَ
الْخِيَارَ الَّذِي لَهُ. وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ الْحَنَفِيُّونَ،
لأََنَّهُمْ يُوَرِّثُونَ الْعَفْوَ وَالْقِصَاصَ، وَلاَ يُوَرِّثُونَ الْخِيَارَ
هَاهُنَا فأما إذَا بَلَغَ الشَّرِيكَ أَمْرُ الْبَيْعِ فَقَالَ: أَنَا آخُذُ
بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ مَاتَ فَقَدْ صَحَّتْ لَهُ، وَهِيَ مَوْرُوثَةٌ عَنْهُ
حِينَئِذٍ، وَلِوَرَثَتِهِ الطَّلَبُ، لأََنَّهَا حِينَئِذٍ مَالٌ قَدْ تَمَّ
لَهُ. وَلاَ مَعْنَى لِلطَّلَبِ عِنْدَ الْقَاضِي، وَلاَ لِحُكْمِ الْقَاضِي،
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قَطُّ، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله
عليه وسلم وَإِنَّمَا جُعِلَ الْقَاضِي لِيُجْبِرَ الْمُمْتَنِعَ مِنْ الْحَقِّ
فَقَطْ، وَلاَ مَزِيدَ، وَلَوْ تَعَاطَى النَّاسُ الْحُقُوقَ بَيْنَهُمْ مَا
اُحْتِيجَ إلَى قَاضٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/96)
ومن باع شقصا أو سعلة معه صفقة
واحدة
...
1604 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ شِقْصًا أَوْ سِلْعَةً مَعَهُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ
فَجَاءَ الشَّفِيعُ يَطْلُبُ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ أَوْ
يَتْرُكَ الْكُلَّ وَهَذَا قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَسَوَّارِ
(9/96)
1605 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ شُرَكَاءُ فَبَاعَ مِنْ أَحَدِهِمْ كَانَ لِلشُّرَكَاءِ مُشَارَكَتُهُ فِيهِ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى حِصَّتِهِ مِمَّا اشْتَرَى كَأَحَدِهِمْ، لأََنَّهُ شَرِيكٌ وَهُمْ شُرَكَاءُ، فَهُوَ دَاخِلٌ مَعَهُمْ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ" وَقَدْ قَالَ قَائِلٌ: لاَ حِصَّةَ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا خِلاَفُ النَّصِّ كَمَا ذَكَرْنَا وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: "إذَا بَاعَ مِنْ أَحَدِ شُرَكَائِهِ فَلاَ شُفْعَةَ لِلآخَرِينَ مِنْهُمْ" وَكَذَلِكَ أَيْضًا، عَنِ الْحَسَنِ، وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ قال علي: وهذا خِلاَفُ النَّصِّ أَيْضًا.
(9/97)
1606 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ كَانَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ غُيَّبًا فَاشْتَرَى أَحَدُهُمْ فَكَذَلِكَ أَيْضًا، وَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَقُولَ: لاَ آخُذُ إِلاَّ حِصَّتِي لأََنَّ الْبَائِعَ لاَ يَرْضَى بِبَيْعِ بَعْضِ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِيمَنْ بَاعَ شِقْصًا وَسِلْعَةً. فَلَوْ بَاعَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَحَضَرَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إِلاَّ حِصَّتَهُ فَقَطْ فِي قَوْلِ قَوْمٍ وَاَلَّذِي نَقُولُ بِهِ: إنَّهُ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَخْذُ الْكُلِّ أَوْ تَرْكُ
(9/97)
1607 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَاعَ اثْنَانِ فَأَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، أَوْ بَاعَ وَاحِدٌ مِنْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّ حِصَّةٍ شَاءَ وَيَدَعَ أَيَّهَا شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْجَمِيعَ، لأََنَّهَا عُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَعًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَعَقْدُ زَيْدٍ غَيْرُ عَقْدِ عَمْرٍو. وَلَوْ اسْتَحَقَّ الثَّمَنَ الَّذِي أَعْطَى أَحَدُهُمَا فَانْفَسَخَ عَقْدُهُ لَمْ يَكْدَحْ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/98)
1608 - مَسْأَلَةٌ: وَإِنْ كَانَ شُرَكَاءُ فِي شَيْءٍ بَعْضُهُمْ بِمِيرَاثٍ، وَبَعْضُهُمْ بِبَيْعٍ، وَبَعْضُهُمْ بِهِبَةٍ وَفِيهِمْ إخْوَةٌ وَرِثُوا أَبَاهُمْ مَا كَانَ أَبُوهُمْ وَرِثَهُ مَعَ أَعْمَامِهِمْ، فَبَاعَ أَحَدُهُمْ فَالْجَمِيعُ شُفَعَاءُ عَلَى عَدَدِهِمْ، لَيْسَ الأَخُ أَوْلَى بِحِصَّةِ أَخِيهِ مِنْ عَمِّهِ، وَلاَ مِنْ امْرَأَةِ أَبِيهِ، وَلاَ مِنْ امْرَأَةِ جَدِّهِ، وَلاَ مِنْ الأَجْنَبِيِّ، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَشَرِيكُهُ أَحَقُّ" وَكُلُّهُمْ شَرِيكُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ.وقال مالك: إنْ كَانَ إخْوَةُ الأُُمِّ وَزَوْجَاتٌ وَبَنَاتٌ وَأَخَوَاتٌ وَعَصَبَةٌ فَبَاعَ أَحَدُ الإِخْوَةِ لِلأُُمِّ فَسَائِرُ الإِخْوَةِ لِلأُُمِّ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَى الزَّوْجَاتِ فَسَائِرُهُنَّ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ أَحَدُ الْبَنَاتِ فَسَائِرُهُنَّ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ إحْدَى الأَخَوَاتِ فَسَائِرُهُنَّ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، ثُمَّ نَاقَضَ فَقَالَ: لَوْ بَاعَ أَحَدُ الْعُصْبَةِ لَمْ يَكُنْ سَائِرُ الْعُصْبَةِ أَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ، بَلْ يَأْخُذُهَا مَعَهُمْ الْبَنَاتُ وَالزَّوْجَاتُ، وَالأَخَوَاتُ، وَالإِخْوَةُ لأَُمٍّ. قَالَ: فَلَوْ اشْتَرَى بَنَاتُ إنْسَانٍ شِقْصًا وَاشْتَرَى أَخَوَاتُهُ شِقْصًا آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَاشْتَرَى أَجْنَبِيُّونَ شِقْصًا ثَالِثًا مِنْهُ فَبَاعَ إحْدَى الْبَنَاتِ أَوْ إحْدَى الأَخَوَاتِ لَمْ يَكُنْ أَخَوَاتُهَا أَحَقَّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ عَمَّتِهَا، وَلاَ مِنْ الأَجْنَبِيِّينَ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ وَرَثَةٌ وَمُشْتَرُونَ فِي شَيْءٍ فَبَاعَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فَلِلأَجْنَبِيِّ الشُّفْعَةُ فِي ذَلِكَ مَعَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا كَلاَمٌ يُغْنِي إيرَادُهُ، عَنْ تَكَلُّفِ إفْسَادِهِ لِفُحْشِ تَنَاقُضِهِ، وَظُهُورِ فَسَادِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/98)
1609 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ بَاعَ شِقْصًا وَلَهُ شُرَكَاءُ لأََحَدِهِمْ مِائَةُ سَهْمٍ، وَلأَخَرَ عِشْرُونَ، وَلأَخَرَ عُشْرُ الْعُشْرِ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ: فَكُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي الأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ، وَيَقْتَسِمُونَ مَا أَخَذُوا بِالسَّوَاءِ، وَلاَ مَعْنَى لِتَفَاضُلِ حِصَصِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَابْنُ شُبْرُمَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابِهِ، وَشَرِيكٍ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَشْهَر
(9/98)
ولا شفعة الآبتمام البيع بالتفريق
أو التخير
...
1610 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ شُفْعَةَ إِلاَّ بِتَمَامِ الْبَيْعِ بِالتَّفْرِيقِ
أَوْ التَّخْيِيرِ لأََنَّهَا لَيْسَ بَيْعًا قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ كُلِّ
مَنْ يَقُولُ بِتَفَرُّقِ الأَبَدَانِ.
(9/99)
1611 - مَسْأَلَةٌ: وَالشُّفْعَةُ
وَاجِبَةٌ وَإِنْ كَانَتْ الأَجْزَاءُ مَقْسُومَةً إذَا كَانَ الطَّرِيقُ إلَيْهَا
وَاحِدًا مُتَمَلَّكًا نَافِذًا أَوْ غَيْرَ نَافِذٍ لَهُمْ، فَإِنْ قُسِّمَ
الطَّرِيقُ أَوْ كَانَ نَافِذًا غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ لَهُمْ فَلاَ شُفْعَةَ
حِينَئِذٍ كَانَ مُلاَصِقًا أَوْ لَمْ يَكُنْ.
برهان ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَإِذَا
وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ" فَلَمْ
يَقْطَعْهَا عليه السلام إِلاَّ بِاجْتِمَاعِ الأَمْرَيْنِ مَعًا، وُقُوعُ
الْحُدُودِ، وَصَرْفُ الطُّرُقِ، لاَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الآخَرِ. وَلاَ يَقْطَعُ
الشُّفْعَةَ قِسْمَةٌ فَاسِدَةٌ قَبْلَ الْبَيْعِ، لأََنَّهَا لَيْسَتْ قِسْمَةً.،
وَلاَ يَقْطَعُهَا قِسْمَةٌ صَحِيحَةٌ بَعْدَ الْبَيْعِ، لأََنَّ الْحَقَّ قَدْ
وَجَبَ قَبْلَهَا.وقال أبو حنيفة، وَسُفْيَانُ: "الشُّفْعَةُ لِلشَّرِيكِ"
فَإِنْ تَرَكَ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ، فَلِشَرِيكِهِ فِي الطَّرِيقِ،
وَإِنْ كَانَتْ الأَرْضُ أَوْ الدَّارُ قَدْ قُسِّمَتْ فَإِنْ تَرَكَ أَوْ لَمْ
يَكُنْ فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُلاَصِقِ، وَإِنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ قَدْ
وَقَعَتْ وَالطَّرِيقُ غَيْرُ الطَّرِيقِ وَلاَ شُفْعَةَ لِجَارٍ غَيْرِ
مُلاَصِقٍ. وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ
وَالأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: لاَ شُفْعَةَ إِلاَّ لِشَرِيكٍ لَمْ
يُقَاسِمْ فَقَطْ. وَقَالَ آخَرُونَ: الشُّفْعَةُ لِكُلِّ جَارٍ. ثُمَّ
اخْتَلَفُوا، وَرُوِيَ فِي كُلِّ ذَلِكَ آثَارٌ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: إذَا قُسِّمَتْ الأَرْضُ وَحُدِّدَتْ فَلاَ
شُفْعَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ،
وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ قَالَ: إذَا ضُرِبَتْ الْحُدُودُ فَلاَ شُفْعَةَ.
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ إنَّمَا
الشُّفْعَةُ فِي الأَرْضِينَ، وَالدُّورِ، وَلاَ تَكُونُ
(9/99)
كتاب السلم
السلم ليس بيعا
...
بسم الله الرحمن الرحيم
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ السَّلَمِ
1612 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَزْمٍ
رضي الله عنه: السَّلَمُ لَيْسَ بَيْعًا ، لأََنَّ التَّسْمِيَةَ فِي الدِّيَانَاتِ
لَيْسَتْ إِلاَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه
وسلم وَإِنَّمَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّلَفَ، أَوْ
التَّسْلِيفَ، أَوْ السَّلَمَ. وَالْبَيْعُ يَجُوزُ بِالدَّنَانِيرِ
وَبِالدَّرَاهِمِ حَالًّا وَفِي الذِّمَّةِ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ مُسَمًّى وَإِلَى
الْمَيْسَرَةِ. وَالسَّلَمُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَلاَ بُدَّ
وَالْبَيْعُ يَجُوزُ فِي كُلِّ مُتَمَلَّكٍ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِالنَّهْيِ،
عَنْ بَيْعِهِ. وَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ إِلاَّ فِي مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ
فَقَطْ. وَلاَ يَجُوزُ فِي حَيَوَانٍ، وَلاَ مَذْرُوعٍ، وَلاَ مَعْدُودٍ، وَلاَ
فِي شَيْءٍ غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا. وَالْبَيْعُ لاَ يَجُوزُ فِيمَا لَيْسَ عِنْدَك.
وَالسَّلَمُ يَجُوزُ فِيمَا لَيْسَ عِنْدَك. وَالْبَيْعُ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ
إِلاَّ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ. وَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ
أَصْلاً.
برهان ذَلِكَ:
مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ،
وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ يَحْيَى،
وَأَبُو بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ.قال أبو محمد: هَذَا فِي كِتَابِي، عَنِ
ابْنِ نَامِي، وَفِي كِتَابِ غَيْرِي، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ وَقَالَ شَيْبَانُ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَبْدُ
الْوَارِثِ
(9/105)
وَالآخَرُ، كِلاَهُمَا، عَنِ
ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ حَدَّثَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي
الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: " مَنْ أَسْلَفَ فَلاَ يُسْلِفْ إِلاَّ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ
مَعْلُومٍ" فَهَذَا مَنْعُ السَّلَفِ وَتَحْرِيمُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ فِي
مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ،
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَسْلَفَ سَلَفًا
فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ".
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ َنْ أَبِي الْمِنْهَالِ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ
أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ
مَعْلُومٍ" فَفِي هَذَا إيجَابُ الأَجَلِ الْمَعْلُومِ. وَقَدْ صَحَّ نَهْيُ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ
عِنْدَك فَصَحَّ مَاقلنا نَصًّا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ. وَقَدْ فَرَّقَ
الأَوْزَاعِيِّ، وَجُمْهُورُ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، وَأَصْحَابِنَا
الظَّاهِرِيِّينَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ. قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: مَا
كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ جَازَ حَالًّا، وَمَا كَانَ بِلَفْظِ السَّلَمِ لَمْ
يَجُزْ إِلاَّ بِأَجَلٍ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيِّ: مَا كَانَ أَجَلُهُ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ فَأَقَلَّ فَهُوَ بَيْعٌ، وَمَا كَانَ أَجَلُهُ أَكْثَرَ فَهُوَ سَلَمٌ.
قَالَ الْقُمِّيُّ وَهُوَ مِنْ كِبَارِ الْحَنَفِيِّينَ: السَّلَمُ لَيْسَ
بَيْعًا، وَفِيمَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ نَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ
تَعَالَى لِذِكْرِهِ: فَطَائِفَةٌ كَرِهَتْ السَّلَمَ جُمْلَةً َمَا رُوِّينَا،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلاَبِيُّ
حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ،
عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ
السَّلَمَ كُلَّهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ
غِيَاثٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "نُهِيَ، عَنِ
الْعِينَةِ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ
مُعَاذٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ الْعِينَةَ فَقَالَ: نُبِّئْت أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ:
"دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَبَيْنَهُمَا جَرِيرَةٌ".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ
مَسْرُوقٍ قَالَ: "الْعِينَةُ حَرَامٌ".وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ
أَنَّهُمَا كَرِهَا الْعِينَةَ، وَمَا دَخَلَ النَّاسُ فِيهِ مِنْهَا.وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ أَبِي
جَنَابٍ، وَزَيْدِ بْنِ مَرْدَانُبَةَ قَالاَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ
الْعَزِيزِ إلَى عَبْدِ الْحَمِيدِ: انْهَ مَنْ قِبَلَك، عَنِ الْعِينَةِ،
فَإِنَّهَا أُخْتُ الرِّبَا.
قال أبو محمد: "الْعَيِّنَةُ هِيَ السَّلَمُ نَفْسُهُ، أَوْ بَيْعُ سِلْعَةٍ
إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَلاَ خِلاَفَ فِي هَذَا، فَبَقِيَ السَّلَمُ". قَالَ
عَلِيٌّ: "لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَأَبَاحَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ السَّلَمَ فِي الْمَعْدُودِ، وَالْمَذْرُوعِ
مِنْ الثِّيَابِ بِغَيْرِ ذِكْرِ وَزْنِهِ وَمَنَعَا مِنْ السَّلَفِ حَالًّا،
فَكَانَ هَذَا عَجَبًا مِنْ قَوْلِهِمَا، لأََنَّهُ إنْ كَانَ قَوْلُ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ
السَّلَمُ حَالًّا، أَوْ نَقْدًا، فَإِنَّ نَهْيَهُ عليه السلام، عَنْ أَنْ
يُسَلِّفَ إِلاَّ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ أَشَدُّ فِي
التَّحْرِيمِ
(9/106)
وَأَوْكَدُ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّلَمِ فِي غَيْرِ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ، وَلَئِنْ كَانَ الْقِيَاسُ عَلَى الْمَكِيلِ، وَالْمَوْزُونِ وَالْمَذْرُوعِ، وَالْمَعْدُودِ جَائِزًا فَإِنَّ قِيَاسَ جَوَازِ الْحُلُولِ وَالنَّقْدِ عَلَى جَوَازِ الأَجَلِ أَوْلَى، فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمَا بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ، بَلْ الْمَنْعُ مِنْ السَّلَفِ فِي غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ أَوْضَحُ، لأََنَّهُ جَاءَ بِلَفْظِ النَّهْيِ، وَلاَ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ إذَا خَالَفَ النَّصَّ.وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَأَجَازَ السَّلَمَ حَالًّا قِيَاسًا عَلَى جَوَازِهِ إلَى أَجَلٍ، وَأَجَازَ السَّلَمَ فِي كُلِّ شَيْءٍ قِيَاسًا عَلَى الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ، فَانْتَظَمَ خِلاَفُ الْخَبَرِ فِي كُلِّ مَا جَاءَ فِيهِ، وَكَانَ أَطْرَدَهُمْ لِلْقِيَاسِ وَأَفْحَشَهُمْ خَطَأً. فإن قيل: "إنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ اُسْتُثْنِيَ مِنْ جُمْلَةِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك" قلنا: "هَذَا بَاطِلٌ"، لأََنَّهُ دَعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ وَلَيْسَ كُلُّ مَا عُوِّضَ فِيهِ بِآخَرَ بَيْعًا، فَهَذَا الْقَرْضُ مَالٌ بِمَالٍ، وَلَيْسَ بَيْعًا بِلاَ خِلاَفٍ. وَلَمْ يُجِزْ أَبُو حَنِيفَةَ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ وَمَا نَعْلَمُ لِتَخْصِيصِهِمْ الْحَيَوَانَ بِالْمَنْعِ مِنْ السَّلَمِ فِيهِ دُونَ سَائِرِ مَا أَبَاحُوا السَّلَمَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ حُجَّةً أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ مَوَّهَ بِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: مِنْ الرِّبَا مَا لاَ يَكَادُ يَخْفَى كَالسَّلَمِ فِي سِنٍّ. قَالُوا: وَعُمَرُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَلاَ يَقُولُ مِثْلَ هَذَا إِلاَّ بِتَوْقِيفٍ.فَقُلْنَا لَهُ: هَذَا لاَ يُسْنَدُ، عَنْ عُمَرَ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ، لأََنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ أَنَّهُ نَهَى، عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ، وَهِيَ مُغَضَّفَةٌ لَمَّا تَطِبْ بَعْدُ، وَأَنْتُمْ تُجِيزُونَهُ عَلَى الْقَطْعِ فَمَرَّةً عُمَرُ حُجَّةٌ، وَمَرَّةً لَيْسَ هُوَ بِحُجَّةٍ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "مِنْ الرِّبَا أَنْ تُبَاعَ الثَّمَرَةُ وَهِيَ مُغَضَّفَةٌ لَمَّا تَطِبْ".وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ ابْنِ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ، عَنِ الرَّهْنِ فِي السَّلَفِ فَقَالَ: ذَلِكَ الرِّبَا الْمَضْمُونُ، وَهُمْ يُجِيزُونَ الرَّهْنَ فِي السَّلَفِ، وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ إنَّهُ الرِّبَا بِأَصَحِّ طَرِيقٍ حُجَّةً فِي أَنَّهُ رِبًا مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ. وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ، وَالشَّافِعِيُّونَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ كَانَ يَبْتَاعُ الْبَعِيرَ بِالْقَلُوصَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ بِعِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَمْرِهِ وَهَذَا حَدِيثٌ فِي غَايَةِ فَسَادِ الإِسْنَادِ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ فَمَرَّةً رَوَاهُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ كَثِيرٍ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ الدِّينَوَرِيِّ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حَرِيشٍ الزُّبَيْدِيِّ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ وَمَرَّةً قُلِبَ الإِسْنَادُ، فَجُعِلَ أَوَّلُهُ آخِرَهُ وَآخِرُهُ أَوَّلَهُ: فَرَوَاهُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ جُبَيْرٍ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ حُرَيْشٍ. وَمِثْلُ هَذَا لاَ يَلْتَفِتُ إلَيْهِ إِلاَّ مُجَاهِرٌ بِالْبَاطِلِ أَوْ جَاهِلٌ أَعْمَى. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْمَالِكِيِّينَ، وَالشَّافِعِيِّينَ لأََنَّ الأَجَلَ عِنْدَهُمْ إلَى الصَّدَقَةِ لاَ يَجُوزُ، فَقَدْ خَالَفُوهُ، وَمَجِيءُ
(9/107)
إبِلِ الصَّدَقَةِ كَانَ عَلَى
عَهْدِهِ عليه السلام يَخْتَلِفُ اخْتِلاَفًا عَظِيمًا مِنْهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ
يَوْمٍ كَبَلِيٍّ وَجُهَيْنَةَ، وَمِنْهُ عَلَى عِشْرِينَ يَوْمًا كَتَمِيمٍ، وطيئ
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَالِكِيِّينَ لاَ يُجِيزُونَ سَلَمَ الإِبِلِ فِي الإِبِلِ
إِلاَّ بِشَرْطِ اخْتِلاَفِهَا فِي الرِّحْلَةِ وَالنَّجَابَةِ، وَلَيْسَ هَذَا
مَذْكُورًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ,فَإِنْ قَالُوا: نَحْمِلُهُ عَلَى هَذَا قلنا:
إنْ فَعَلْتُمْ كُنْتُمْ قَدْ كَذَبْتُمْ وَزِدْتُمْ فِي الْخَبَرِ مَا لَيْسَ
فِيهِ، وَمَا لَمْ يُرْوَ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ. وَلَقَدْ كَانَ
يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِكُلِّ بَلِيَّةٍ، كَالْوُضُوءِ مِنْ
الْقَهْقَهَةِ فِي الصَّلاَةِ وَالْوُضُوءِ بِالْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَذَا
الْخَبَرِ، لأََنَّهُ مِثْلُهَا وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
بِعِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْنَا: هَذَا عَجَبٌ يَكُونُ قَوْلُ
عُمَرَ " مِنْ الرِّبَا السَّلَمُ فِي سِنٍّ " مُضَافًا إلَى النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم بِالظَّنِّ الْكَاذِبِ، وَيَكُونُ هَذَا الْخَبَرُ بِغَيْرِ
عِلْمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِي نَصِّهِ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم أَنْ آخُذَ فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ، فَكُنْتُ أَبْتَاعُ
الْبَعِيرَ بِالْقَلُوصَيْنِ وَالثَّلاَثَةِ إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا
قَدِمَتْ الصَّدَقَةُ قَضَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُفٍّ أُفٍّ
لِعَدَمِ الْحَيَاءِ، وَلاَ تُمَوِّهُوا بِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكْرٌ فَقَضَاهُ، فَإِنَّهُ صَحَّ أَنَّهُ
كَانَ قَرْضًا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْقَرْضِ " مِنْ
دِيوَانِنَا هَذَا وَكَذَلِكَ ابْتِيَاعُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْعَبْدَ
الَّذِي هَاجَرَ إلَيْهِ بِعَبْدَيْنِ وَصَفِيَّةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ
بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ فَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ نَقْدًا. وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ
الْمَالِكِيِّينَ الْمُحْتَجِّينَ بِخَبَرِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ فِي أَنَّ
الْعُمْرَةَ تَطَوُّعٌ، وَبِتِلْكَ الْمَرَاسِيلِ وَالْبَلاَيَا أَنْ يَقُولُوا:
"بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو
بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، وَيَزِيدُ بْنُ
زُرَيْعٍ، وَخَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ كُلُّهُمْ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ
"نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ
بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً" .وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ
جَابِرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَوَانُ اثْنَانِ
بِوَاحِدٍ لاَ بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ، وَلاَ خَيْرَ فِيهِ نَسَاءٌ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "نَهَى رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ
نَسِيئَةً"، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْمَرَاسِيلِ فَخَالَفَهُ الْمَالِكِيُّونَ
جُمْلَةً. وَأَجَازُوا الْحَيَوَانَ كُلَّهُ بِالْحَيَوَانِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ
نَسِيئَةً. وَأَجَازُوهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إذَا اخْتَلَفَتْ أَوْصَافُهُ
بِتَخَالِيطَ لاَ تُعْقَلُ. وَنَسِيَ الْحَنَفِيُّونَ قَوْلَهُمْ: إنَّ قَوْلَ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الزَّكَاةُ فِي السَّائِمَةِ" دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ غَيْرَ السَّائِمَةِ لاَ زَكَاةَ فِيهَا، فَهَلاَّ قَالُوا: هُنَا:
"نَهْيُهُ عليه الصلاة والسلام، عَنِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ
نَسِيئَةً" دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْعُرُوضِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً،
وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ. وَأَجَازَ الْحَنَفِيُّونَ الْمُكَاتَبَةَ
عَلَى الْوُصَفَاءِ، وَإِصْدَاقَ الْوُصَفَاءِ فِي الذِّمَّةِ وَمَنَعُوا مِنْ
السَّلَمِ فِي الْوُصَفَاءِ فَقَالُوا: "النِّكَاحُ يَجُوزُ فِيهِ مَا لاَ
يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ" قلنا: "وَالسَّرِقَةُ حُكْمُهَا غَيْرُ حُكْمِ
النِّكَاحِ، وَقَدْ قِسْتُمْ مَا يَكُونُ صَدَاقًا عَلَى مَا تُقْطَعُ فِيهِ
الْيَدُ، وَمَا فِي حُكْمٍ
(9/108)
إِلاَّ وَهُوَ يُخَالِفُ سَائِرَ
الأَحْكَامِ ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْكُمْ ذَلِكَ مِنْ قِيَاسِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ
حَيْثُ اشْتَهَيْتُمْ.
قال أبو محمد: وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ مِثْلُ قَوْلِنَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ نُبَيْحًا
الْعَنَزِيَّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "السَّلَمُ
بِالسِّعْرِ"، وَلَكِنْ اسْتَكْثِرْ بِدَرَاهِمِك أَوْ بِدَنَانِيرِك إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى وَكَيْلٍ مَعْلُومٍ وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنِ الأَسْوَدِ
بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مِثْلُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَبَّبٍ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدِينٍ إلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى} فِي السَّلَفِ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى الْحَنَّاطُ، عَنْ أَبِيهِ سَمِعْت ابْنَ
عُمَرَ يَقُولُ: كَيْلٌ مَعْلُومٌ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. عَنِ ابْنِ عُمَرَ
إبَاحَةُ السَّلَمِ فِي الْكَرَابِيسِ وَهِيَ ثِيَابٌ وَفِي الْحَرِيرِ. وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ فِي السَّبَائِبِ وَهُوَ الْكَتَّانُ وَكُلُّ ذَلِكَ يُمْكِنُ
وَزْنُهُ، وَمَا نَعْلَمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إجَازَةَ سَلَمٍ حَالٍّ،
وَلاَ فِي غَيْرِ مَكِيلٍ، وَلاَ مَوْزُونٍ إِلاَّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ
السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ
وَابْنِ عُمَرَ.وَرُوِّينَا أَيْضًا: إبَاحَتَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
بِاسْتِدْلاَلٍ لاَ بِنَصٍّ. وَرُوِّينَا النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ، عَنْ عُمَرَ،
وَحُذَيْفَةَ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ صَحِيحًا، وَغَيْرِهِ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/109)
لو الأجل في السلم ما وقع عليه
أجل
...
1613 - مَسْأَلَةٌ: وَالأَجَلُ فِي السَّلَمِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ أَجَلٍ
كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَحُدَّ أَجَلاً مِنْ أَجَلٍ
وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا: وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ
وَحْيٌ يُوحَى. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ فَالأَجَلُ سَاعَةٌ
فَمَا فَوْقَهَا. وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ: لاَ يَكُونُ الأَجَلُ فِي
ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ.وقال بعضهم: لاَ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ
ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ.
قال أبو محمد: هَذَا تَحْدِيدٌ فَاسِدٌ، لأََنَّهُ بِلاَ برهان وَقَالَ
الْمَالِكِيُّونَ: "يُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ يَوْمَيْنِ فَأَقَلّ"َ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: "مَا تَتَغَيَّرُ إلَيْهِ الأَسْوَاقُ
وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ"، لأََنَّهُ تَحْدِيدٌ بِلاَ برهان ثُمَّ
إنَّ الأَسْوَاقَ قَدْ تَتَغَيَّرُ مِنْ يَوْمِهَا، وَقَدْ لاَ تَتَغَيَّرُ
شُهُورًا وَكِلاَهُمَا لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا سَبَقَهُمْ إلَى التَّحْدِيدِ فِي
دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ، وَقَالَ اللَّيْثُ: "خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا".
(9/109)
ولا يجوز أن يكون الثمن في السلم
الا مقبوظا
...
1614 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ إِلاَّ
مَقْبُوضًا فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ تَمَامِ قَبْضِ جَمِيعِهِ بَطَلَتْ
الصَّفْقَةُ كُلُّهَا، لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِأَنْ
يُسَلِّفَ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ أَوْ وَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ.
" وَالتَّسْلِيفُ " فِي اللُّغَةِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا عليه السلام
هُوَ أَنْ يُعْطِيَ شَيْئًا فِي شَيْءٍ، فَمَنْ لَمْ يَدْفَعْ مَا أُسْلِفَ فَلَمْ
يُسَلَّفْ شَيْئًا، لَكِنْ وَعَدَ بِأَنْ يُسَلِّفَ. فَلَوْ دَفَعَ الْبَعْضَ
دُونَ الْبَعْضِ سَوَاءٌ أَكْثَرُهُ أَوْ أَقَلُّهُ فَهِيَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ،
وَعَقْدٌ وَاحِدٌ، وَكُلُّ عَقْدٍ وَاحِدٍ جَمَعَ فَاسِدًا وَجَائِزًا
(9/109)
1615 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ وَجَدَ بِالثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ عَيْبًا، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ السَّلاَمَةَ بَطَلَتْ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا، لأََنَّ الَّذِي أُعْطِيَ غَيْرَ الَّذِي عَقَدَ عَلَيْهِ، فَصَارَ عَقْدَ سَلَمٍ لَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ السَّلاَمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَحْبِسَ مَا أَخَذَ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ غَيْرُهُ، أَوْ يَرُدَّ وَتُنْقَضُ الصَّفْقَةُ كُلُّهَا لأََنَّهُ إنْ رَدَّ الْمَعِيبَ صَارَ سَلَمًا لَمْ يَسْتَوْفِ ثَمَنَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ,وقال أبو حنيفة: "يَسْتَبْدِلُ الزَّائِفَ، وَيُبْطِلُ مِنْ الصَّفْقَةِ بِقَدْرِ مَا وَجَدَ مِنْ السَّتُّوقِ، وَيَصِحُّ فِي الْبَاقِي",وقال مالك: "يَسْتَبْدِلُ كُلَّ ذَلِكَ وَالْحُجَّةُ فِي هَذِهِ كَالَّتِي قَبْلَهَا، وَلاَ فَرْقَ".
(9/110)
ولا يجوز أن يشترط طافي السلم
...
1616 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَا فِي السَّلَمِ دَفْعَهُ فِي
مَكَان بِعَيْنِهِ، فَإِنْ فَعَلاَ فَالصَّفْقَةُ كُلُّهَا فَاسِدَةٌ وَكُلَّمَا
قلنا أَوْ نَقُولُ: "إنَّهُ فَاسِدٌ، فَهُوَ مَفْسُوخٌ أَبَدًا، مَحْكُومٌ
فِيهِ بِحُكْمِ الْغَصْبِ",وبرهان ذَلِكَ أَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ
شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ"
لَكِنَّ حَقَّ السَّلَمِ قِبَلَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَحَيْثُ مَا لَقِيَهُ
عِنْدَ مَحَلِّ الأَجَلِ فَلَهُ أَخْذُهُ، يَدْفَعُ حَقَّهُ إلَيْهِ، فَإِنْ غَابَ
أَنْصَفَهُ الْحَاكِمُ مِنْ مَالِهِ إنْ وُجِدَ لَهُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} فَهُوَ
مَأْمُورٌ بِأَدَاءِ أَمَانَتِهِ حَيْثُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَيُسْأَلُهَا.
وَالْمَشْهُورُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ السَّلَمَ يَبْطُلُ إنْ لَمْ
يُذْكَرْ مَكَانُ الإِيفَاءِ.
وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ: "مَالُهُ مُؤْنَةٌ وَحِمْلٌ فَالسَّلَمُ
فَاسِدٌ"، إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَوْضِعَ الدَّفْعِ، وَمَا لَيْسَ لَهُ
حِمْلٌ، وَلاَ مُؤْنَةٌ فَالسَّلَمُ جَائِزٌ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَوْضِعَ
الدَّفْعِ. وَهَذِهِ أَقْوَالٌ لاَبرهان عَلَى صِحَّتِهَا، فَهِيَ فَاسِدَةٌ.
(9/110)
1617 - مَسْأَلَةٌ: وَاشْتِرَاطُ الْكَفِيلِ فِي السَّلَمِ يَفْسُدُ بِهِ السَّلَمُ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَأَمَّا اشْتِرَاطُ الرَّهْنِ فِيهِ فَجَائِزٌ، لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الرَّهْنِ " فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ وَمِمَّنْ أَبْطَلَ بِهِ الْعَقْدَ ابْنُ عُمَرَ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَغَيْرُهُمَا.
(9/110)
1618 - مَسْأَلَةٌ: وَالسَّلَمُ جَائِزٌ فِي الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ إذَا سُلِّمَ فِيهِمَا عَرَضًا، لأََنَّهُمَا وَزْنٌ
(9/110)
1619 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَسْلَمَ فِي صِنْفَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ مَفْسُوخٌ مِثْلُ أَنْ يُسَلِّمَ فِي قَفِيزَيْنِ مِنْ قَمْحٍ وَشَعِيرٍ، لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي كَمْ يَكُونُ مِنْهُمَا قَمْحًا، وَكَمْ يَكُونُ شَعِيرًا وَلاَ يَجُوزُ الْقَطْعُ بِأَنَّهُمَا نِصْفَانِ لأََنَّهُ لاَ دَلِيلَ عَلَى ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَلَوْ أَسْلَمَ اثْنَانِ إلَى وَاحِدٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَالسَّلَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا فِي الثَّمَنِ الَّذِي يَدْفَعَانِ، لأََنَّ الَّذِي أَسْلَمَا فِيهِ إنَّمَا هُوَ بِإِزَاءِ الثَّمَنِ بِلاَ خِلاَفٍ. فَلَوْ أَسْلَمَ وَاحِدٌ إلَى اثْنَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً، فَهُمَا فِيمَا قَبَضَا سَوَاءٌ لأََنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِيهِ، وَأَخَذَاهُ مَعًا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَتَفَاضَلاَ فِيهِ إِلاَّ بِأَنْ يَتَبَيَّنَ عِنْدَ الْعَقْدِ أَنَّ لِهَذَا ثُلُثَهُ وَلِهَذَا ثُلُثَيْهِ، أَوْ كَمَا يَتَّفِقُونَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/113)
ولا بد من وصف ما يسلم فيه ما
يسلم فيه بصفاته الضابطة
...
1620 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ بُدَّ مِنْ وَصْفِ مَا يُسْلِمُ فِيهِ بِصِفَاتِهِ
الضَّابِطَةِ لَهُ، لأََنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ تِجَارَةً، عَنْ
غَيْرِ تَرَاضٍ، إذْ لاَ يَدْرِي الْمُسَلِّمُ مَا يُعْطِيهِ الْمُسَلَّمَ
إلَيْهِ، وَلاَ يَدْرِي الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ مَا يَأْخُذُ مِنْهُ الْمُسَلِّمُ
فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَالتَّرَاضِي لاَ يَجُوزُ، وَلاَ يُمْكِنُ
إِلاَّ فِي مَعْلُومٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
(9/113)
والسلم جائز فيما يوجد حين عقد
...
1621 - مَسْأَلَةٌ: وَالسَّلَمُ جَائِزٌ فِيمَا لاَ يُوجَدُ حِينَ عَقْدِ
السَّلَمِ، وَفِيمَا يُوجَدُ، وَإِلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْهُ شَيْءٌ،
وَإِلَى مَنْ عِنْدَهُ. وَلاَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيمَا لاَ يُوجَدُ حِينَ حُلُولِ
أَجَلِهِ.برهان ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ
بِالسَّلَمِ كَمَا ذَكَرْنَا " وَبَيَّنَ فِي الْكَيْلِ " وَفِي
الْوَزْنِ، وَإِلَى أَجَلٍ، فَلَوْ كَانَ كَوْنُ السَّلَمِ فِي الشَّيْءِ لاَ
يَجُوزُ إِلاَّ فِي حَالِ وُجُودِهِ، أَوْ إلَى مَنْ عِنْدَهُ مَا سُلِّمَ إلَيْهِ
فِيهِ لَمَا أَغْفَلَ عليه السلام بَيَانَ ذَلِكَ حَتَّى يَكِلَنَا إلَى غَيْرِهِ،
حَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ
يُوحَى، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَأَمَّا السَّلَمُ فِيمَا لاَ يُوجَدُ
حِينَ حُلُولِ أَجَلِهِ فَهُوَ تَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ، وَهَذَا بَاطِلٌ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى:لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا فَهُوَ عَقْدٌ
عَلَى بَاطِلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ. وقولنا في هذا كُلِّهِ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَلَمْ يُجِزْ
السَّلَمَ فِي شَيْءٍ لاَ يُوجَدُ حِينَ السَّلَمِ فِيهِ: سُفْيَانُ،
وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: لاَ
يَجُوزُ السَّلَمُ إِلاَّ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ حِينِ السَّلَمِ إلَى حِينِ
أَجَلِهِ لاَ يَنْقَطِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ وَمَا نَعْلَمُ هَذَا
الْقَوْلَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: لاَ يَجُوزُ
السَّلَمُ فِي شَيْءٍ يَنْقَطِعُ، وَلَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّنَةِ، وَلاَ
يُعْلَمُ أَيْضًا هَذَا، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ.وَاحْتَجَّ الْمَانِعُونَ مِنْ
هَذَا بِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَنْ بَيْعِ
السُّنْبُلِ حَتَّى يَشْتَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ حَتَّى يَبْدُوَ
صَلاَحُهُ".
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُمْ
مُخَالِفُونَ لَهُ، لأََنَّهُمْ يُجِيزُونَ السَّلَمَ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ
وَهُمَا بَعْدُ سُنْبُلٌ لَمْ يَشْتَدَّ وَأَمَّا بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ
صَلاَحِهِ، فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، لأََنَّ السَّلَمَ عِنْدَ الْحَنَفِيِّينَ
وَعِنْدَنَا لَيْسَ بَيْعًا فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ جُمْلَةً. وَلَوْ كَانَ بَيْعًا
لَمَا حَلَّ، لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ
عِنْدَكَ لاَ لِمَنْ هُوَ عِنْدَهُ حِينَ السَّلَمِ فَإِنْ خَصُّوا السَّلَمَ مِنْ
ذَلِكَ قلنا: فَخَصُّوهُ مِنْ جُمْلَةِ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ
الصَّلاَحِ فِيهِ وَإِلَّا فَقَدْ تَحَكَّمْتُمْ فِي الْبَاطِلِ. وَمَوَّهُوا
بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ
نَجْرَانِيٍّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لاَ تُسْلِفُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاَحُهُ".
وَحدثنا حمام، حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبُغَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبِرْتِيُّ
الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ
أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ النَّجْرَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: "أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسْلَفَ فِي ثَمَرَةِ نَخْلٍ حَتَّى
يَبْدُوَ صَلاَحُهُ" النَّجْرَانِيُّ عَجَبٌ مَا كَانَ لِيَعْدُوَهُمْ
حَدِيثُ النَّجْرَانِيِّ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ ثَمَرُ النَّخْلِ
خَاصَّةً.فَإِنْ قَالُوا: "قِسْنَا عَلَى ثَمَرَةِ النَّخْلِ" قلنا:
وَهَلَّا قِسْتُمْ عَلَى السَّائِمَةِ غَيْرَ السَّائِمَةِ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ
مَا قَالُوهُ مِنْ تَمَادِي وُجُودِهِ إلَى حِينِ أَجَلِهِ.
وَأَمَّا السَّلَمُ إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْهُ شَيْءٌ فَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ يَحْيَى
(9/114)
بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ،
عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ، عَنِ الرَّجُلِ يَبْتَاعُ
شَيْئًا إلَى أَجَلٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَصْلُهُ لاَ يَرَى بِهِ بَأْسًا،
وَكَرِهَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعِكْرِمَةُ، وطَاوُوس، وَابْنُ سِيرِينَ
فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ الآثَارِ. وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ عَمَّنْ
دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ: ، حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرو، هُوَ ابْنُ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ:
سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ، عَنِ السَّلَمِ فِي النَّخْلِ فَقَالَ: " نَهَى، عَنْ
بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَصْلُحَ" وَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ السَّلَمِ
فِي النَّخْلِ فَقَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ
بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يُؤْكَلَ مِنْهُ" . وَمِنْ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ،عَنِ السَّلَمِ فِي
النَّخْلِ فَقَالَ: "نَهَى عُمَرُ، عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ حَتَّى
يَصْلُحَ".
وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ بَأْسَ أَنْ
يُسْلِمَ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ الْمَوْصُوفِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى مَا لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ فِي زَرْعٍ لَمْ يَبْدُ صَلاَحُهُ أَوْ ثَمَرٍ لَمْ يَبْدُ
صَلاَحُهُ.وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى، حَدَّثَنَا أَبُو
الأَحْوَصِ، حَدَّثَنَا طَارِقٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ
عُمَر: "لاَ تُسْلِمُوا فِي فِرَاخٍ حَتَّى تَبْلُغَ" وَذَكَرُوا
كَرَاهِيَةَ ذَلِكَ، عَنِ الأَسْوَدِ، وَإِبْرَاهِيمَ.
قَالَ عَلِيٌّ: "لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَكَيْفَ وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُمْ إنَّمَا نَهَوْا، عَنْ ذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ فِي زَرْعٍ بِعَيْنِهِ أَوْ
فِي ثَمَرِ نَخْلٍ بِعَيْنِهِ وَنَصُّ هَذِهِ الأَخْبَارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَابْنِ عُمَرَ أَنَّهُمَا رَأَيَا السَّلَمَ بَيْعًا، وَالْحَنَفِيُّونَ لاَ
يَرَوْنَهُ بَيْعًا وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمَا حُجَّةً فِي
شَيْءٍ غَيْرَ حُجَّةٍ فِي شَيْءٍ آخَرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ".
(9/115)
1622 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَلَمَ فِي شَيْءٍ فَضَيَّعَ قَبْضَهُ أَوْ اشْتَغَلَ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ وَعَدِمَ فَصَاحِبُ الْحَقِّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يُوجَدَ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ قِيمَتَهُ لَوْ وُجِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَرَاضَيَا عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } فَحُرْمَةُ حَقِّ صَاحِبِ السَّلَمِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى عَيْنِ حَقِّهِ كَحُرْمَةِ مِثْلِهَا وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْبُيُوعِ ".
(9/115)
1623 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الإِقَالَةُ فِي السَّلَمِ ، لأََنَّ الإِقَالَةَ بَيْعٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلُ وَقَدْ صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضْ وَعَنْ بَيْعِ الْمَجْهُولِ، لأََنَّهُ غَرَرٌ لَكِنْ يُبْرِئُهُ مِمَّا شَاءَ مِنْهُ فَهُوَ فِعْلُ خَيْرٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/115)
1624 - مَسْأَلَةٌ: مُسْتَدْرَكَةٌ مِنْ الْبُيُوعِ: مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فَهِيَ لَهُ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ قَائِمٍ أَوْ شَجَرٍ ثَابِتٍ. وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى دَارًا فَبِنَاؤُهَا كُلُّهُ لَهُ وَكُلُّ مَا يَكُونُ مُرَكَّبًا فِيهَا مِنْ بَابٍ أَوْ دُرْجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا إجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ وَمَا زَالَ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ الدُّورَ وَالأَرْضِينَ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا لاَ يَخْلُو يَوْمٌ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ بَيْعُ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ هَكَذَا، وَلاَ يَكُونُ لَهُ مَا كَانَ مَوْضُوعًا فِيهَا غَيْرَ مَبْنِيٍّ كَأَبْوَابٍ، وَسُلَّمٍ، وَدُرْجٍ، وَآجُرٍّ،
(9/115)
كتاب الهبات
*
لا تجوز هبة الا في موجود معلوم معروف القدر
...
كِتَابُ الْهِبَاتِ
1625 - مَسْأَلَةٌ: لاَ تَجُوزُ هِبَةٌ إِلاَّ فِي مَوْجُودٍ، مَعْلُومٍ،
مَعْرُوفِ الْقَدْرِ، وَالصِّفَاتِ، وَالْقِيمَةِ وَإِلَّا فَهِيَ بَاطِلٌ
مَرْدُودَةٌ.وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ كَمَنْ وَهَبَ مَا تَلِدُ
أَمَتُهُ، أَوْ شَاتُه، أَوْ سَائِرُ حَيَوَانِهِ، أَوْ مَا يَحْمِلُ شَجَرُهُ
الْعَامَ وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ، لأََنَّ الْمَعْدُومَ لَيْسَ شَيْئًا، وَلَوْ
كَانَ شَيْئًا لَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَزَلْ وَالأَشْيَاءَ مَعَهُ
وَهَذَا كُفْرٌ مِمَّنْ قَالَهُ. وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْعَطِيَّةُ
يَقْتَضِي كُلُّ ذَلِكَ مَوْهُوبًا وَمُتَصَدَّقًا، فَمَنْ أَعْطَى مَعْدُومًا
أَوْ تَصَدَّقَ بِمَعْدُومٍ فَلَمْ يُعْطِ شَيْئًا، وَلاَ وَهَبَ شَيْئًا وَلاَ
تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ. وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا فَلاَ يَلْزَمُهُ
حُكْمٌ وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه
وسلم أَمْوَالَ النَّاسِ إِلاَّ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ تَطِيبَ
النَّفْسُ عَلَى مَا لاَ تَعْرِفُ صِفَاتِهِ، وَلاَ مَا هُوَ، وَلاَ مَا قَدْرُهُ،
وَلاَ مَا يُسَاوِي، وَقَدْ تَطِيبُ نَفْسُ الْمَرْءِ غَايَةَ الطِّيبِ عَلَى
بَذْلِ الشَّيْءِ وَبَيْعِهِ، وَلَوْ عَلِمَ صِفَاتِهِ وَقَدْرِهِ وَمَا يُسَاوِي
لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِهِ فَهَذَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَهُوَ حَرَامٌ لاَ
يَحِلُّ.وَكَذَلِكَ مَنْ أَعْطَى أَوْ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مِنْ هَذِهِ
الدَّرَاهِمِ أَوْ بِرِطْلٍ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ، أَوْ بِصَاعٍ مِنْ هَذَا
الْبُرِّ، فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا، لأََنَّهُ لَمْ يُوقِعْ
صَدَقَتَهُ، وَلاَ هِبَتَهُ عَلَى مَكِيلٍ بِعَيْنِهِ، وَلاَ مَوْزُونٍ
بِعَيْنِهِ، وَلاَ مَعْدُودٍ بِعَيْنِهِ، فَلَمْ يَهَبْ، وَلاَ تَصَدَّقَ
أَصْلاً.وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَنْ لاَ يَدْرِي، وَلاَ
لِمَنْ لَمْ يُخْلَقْ، لِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْحَبْسُ فَبِخِلاَفِ هَذَا
كُلِّهِ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ حُكْمُهُ الْوَارِدُ فِيهِ
بِالنَّصِّفَإِنْ ذَكَرُوا الْحَدِيثَ الَّذِي رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ،
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ دِحْيَةُ يَوْمَ خَيْبَرَ: "يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ" قَالَ:: اذْهَبْ فَخُذْ
جَارِيَةً فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ"، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ:
"يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ بِنْتَ حُيَيِّ سَيِّدِ قُرَيْظَةَ
وَالنَّضِيرِ وَمَا تَصْلُحُ إِلاَّ لَكَ"، قَالَ: "اُدْعُهُ
بِهَا"، قَالَ: "فَجَاءَ بِهَا"، فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهَا صلى
الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "خُذْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ غَيْرَهَا
وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا" قلنا:: هَذَا أَعْظَمُ حُجَّةً لَنَا"،
لأََنَّ الْعَطِيَّةَ لَوْ تَمَّتْ لَمْ يَرْتَجِعْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَحَاشَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ الْمَثَلُ السَّوْءُ، وَهُوَ
عليه الصلاة والسلام يَقُولُ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الْعَائِدُ فِي
هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ، كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ لَكِنَّ
أَخْذَهَا وَتَمَامَ
(9/116)
مِلْكِهِ لَهَا، وَكَمَالَ عَطِيَّتِهِ عليه السلام لَهُ، إذْ عَرَفَ عليه الصلاة والسلام عَيْنَهَا، أَوْ صِفَتَهَا، أَوْ قَدْرَهَا، وَمَنْ هِيَ" فإن قيل:: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ عليه السلام اشْتَرَى صَفِيَّةَ مِنْ دِحْيَةَ وَقَدْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ ,قلنا: كِلاَ الْخَبَرَيْنِ، عَنْ أَنَسٍ صَحِيحٌ، وَتَأْلِيفُهُمَا ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ " إنَّهَا وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ، إنَّمَا مَعْنَاهُ بِأَخْذِهِ إيَّاهَا إذْ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بِوَجْهٍ صَحِيحٍ فَقَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ. وَقَوْلُهُ اشْتَرَاهَا عليه السلام بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ يُخَرَّجُ عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عليه السلام عَوَّضَهُ مِنْهَا فَسَمَّى أَنَسٌ ذَلِكَ الْفِعْلَ شِرَاءً.وَالثَّانِي أَنَّ دِحْيَةَ إذْ أَتَى بِهَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ: خُذْ غَيْرَهَا، قَدْ سَأَلَهُ إيَّاهَا، وَكَانَ عليه السلام لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ، فَأَعْطَاهُ إيَّاهَا.فَصَحَّتْ لَهُ، وَصَحَّ وُقُوعُهَا فِي سَهْمِهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِسَبْعَةِ أَرْؤُسٍ. وَلاَ شَكَّ فِي صِحَّةِ الْخَبَرَيْنِ، وَلاَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِصِحَّتِهِمَا، إِلاَّ كَمَا ذَكَرْنَا، وَمَا لاَ شَكَّ فِيهِ فَلاَ شَكَّ فِيمَا لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِجَابِرٍ: لَوْ قَدْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا, قلنا: هَذِهِ عِدَةٌ لاَ عَطِيَّةٌ، وَقَدْ أَنْفَذَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه هَذِهِ الْعِدَّةَ بَعْد مَوْتِهِ عليه السلام وَهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَنْفُذْ قَوْلُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/117)
1626 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ آخَرَ حَقٌّ فِي الذِّمَّةِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، أَوْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ، فَقَالَ لَهُ: "قَدْ وَهَبْتُ لَك مَا لِي عِنْدَك"، أَوْ قَالَ: "قَدْ أَعْطَيْتُكَ مَا لِي عِنْدَك أَوْ قَالَ لأَخَرَ: قَدْ وَهَبْتُ لَك مَا لِي عِنْدَ فُلاَنٍ", أَوْ قَالَ: "عْطَيْتُك مَا لِي عِنْدَ فُلاَنٍ" فَلاَ يَلْزَمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا، لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي ذَلِكَ الْحَقَّ الَّذِي لَهُ عِنْدَ فُلاَنٍ فِي أَيِّ جَوَانِبِ الدُّنْيَا هُوَ، وَلَعَلَّهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ الآنَ وَإِنَّمَا يَجُوزُ هَذَا بِلَفْظِ: الإِبْرَاءِ، أَوْ الْعَفْوِ، أَوْ الإِسْقَاطِ، أَوْ الْوَضْعِ. وَيَجُوزُ أَيْضًا بِلَفْظِ " الصَّدَقَةِ " لِلْحَدِيثِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ بُكَيْرٍ، هُوَ ابْنُ الأَشَجِّ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ فَهَذَا عُمُومٌ لِلْغُرَمَاءِ وَغَيْرِهِمْ,فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لأََهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا} .قلنا: أَفْعَالُ اللَّهِ تَعَالَى وَهِبَاتُهُ لاَ يُقَاسُ عَلَيْهَا أَفْعَالُ خَلْقِهِ، وَلاَ هِبَاتُهُمْ، لأََنَّهُ تَعَالَى لاَ آمِرَ فَوْقَهُ، وَلاَ شَرْعَ يَلْزَمُهُ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ فَكَيْفَ وَذَلِكَ الْغُلاَمُ الْمَوْهُوبُ مَخْلُوقٌ مُرَكَّبٌ مِنْ نَفْسٍ مَوْجُودَةٍ قَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُهَا، وَمِنْ تُرَابٍ، وَمَا تَتَغَذَّى بِهِ أُمُّهُ، قَدْ تَقَدَّمَ خَلْقُ كُلِّ ذَلِكَ,وَكَذَلِكَ الْهَوَاءُ، وَقَدْ أَحَاطَ اللَّهُ تَعَالَى عِلْمًا بِأَعْيَانِ كُلِّ ذَلِكَ، بِخِلاَفِ خَلْقِهِ وَالْكُلُّ
(9/117)
مِلْكُهُ بِخِلاَفِ خَلْقِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ فَرَّقَ مُخَالِفُونَا بَيْنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ: فَبَعْضُهُمْ أَجَازَ الصَّدَقَةَ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ، وَلَمْ يُجِزْ الْهِبَةَ إِلاَّ مَقْبُوضَةً. وَبَعْضُهُمْ أَجَازَ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ وَلَمْ يُجِزْهُ فِي الصَّدَقَةِ. وَيَكْفِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْبَلُ الْهِبَةَ وَالْعَطِيَّةَ، وَيَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلاَ يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَعَلَى آلِهِ، وَلَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْهِمَا الْعَطَايَا، وَلاَ الْهِبَاتُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/118)
1627 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَجُوزُ الْهِبَةُ بِشَرْطٍ أَصْلاً، كَمَنْ وَهَبَ عَلَى أَنْ لاَ يَبِيعَهَا الْمَوْهُوبُ، أَوْ عَلَى أَنْ يُوَلِّدَهَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوطِ: فَالْهِبَةُ بِكُلِّ ذَلِكَ بَاطِلٌ مَرْدُودَةٌ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَكُلُّ مَا لاَ يُعْقَدُ إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ يَصِحُّ فَلَمْ يَقَعْ فِيهِ عَقْدٌ بِهِ.
(9/118)
1628 - مَسْأَلَةٌ: وَلَا تَجُوزُ هِبَةٌ يُشْتَرَطُ فِيهَا الثَّوَابُ أَصْلًا، وَهِيَ فَاسِدَةٌ مَرْدُودَةٌ، لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ,فَهُوَ بَاطِلٌ، بَلْ فِي الْقُرْآنِ الْمَنْعُ مِنْهُ بِعَيْنِهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورٍ مِنْ السَّلَفِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ نا يَحْيَى الْجَبَّانِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا} قَالَ: هُوَ هَدِيَّةُ الرَّجُلِ، أَوْ هِبَةُ الرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ، فَذَلِكَ الَّذِي لَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ. قَالَ عَلِيٌّ: هَذَا إذَا أَرَادَهُ بِقَلْبِهِ وَأَمَّا إذَا اشْتَرَطَهُ فَعَيْنُ الْبَاطِلِ وَالإِثْمِ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْعَوْفِيُّ نا أَبِي سَعِيدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنِي عَمِّي الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنَ إِسْحَاقَ الْقَاضِي نا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :{وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ: لَا تُعْطِ شَيْئًا لِتُثَابَ أَفْضَلَ مِنْهُ، قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَهُ طَاوُوس أَيْضًا - وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا تَمْنُنْ عَطِيَّتَك، وَلَا عَمَلَك، وَلَا تَسْتَكْثِرْ. وَبِهِ إلَى إسْمَاعِيلَ نا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ هَارُونَ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ عَنْ عِكْرِمَةَ {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ: لَا تُعْطِ مَالًا مُصَانَعَةً رَجَاءَ أَفْضَلَ مِنْهُ مِنْ الثَّوَابِ مِنْ الدُّنْيَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ نا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ هُوَ عَارِمٌ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ أَبِي رَجَاءٍ سَمِعْت عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} قَالَ: لَا تُعْطِ شَيْئًا لِتُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ نا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، قَالَا جَمِيعًا: لَا تُعْطِ شَيْئًا لِتُصِيبَ أَفْضَلَ مِنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ نا أَحْمَدُ بْنُ فَرَجٍ نا الْهَرَوِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ نا الزِّبْرِقَانُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ}
(9/118)
1629 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً سَالِمَةً مِنْ شَرْطِ الثَّوَابِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ أَعْطَى عَطِيَّةً كَذَلِكَ أَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةِ كَذَلِكَ، فَقَدْ تَمَّتْ بِاللَّفْظِ، وَلاَ مَعْنَى لِحِيَازَتِهَا، وَلاَ لِقَبْضِهَا، وَلاَ يُبْطِلُهَا تَمَلُّكُ الْوَاهِبِ لَهَا، أَوْ الْمُتَصَدِّقِ بِهَا وَسَوَاءٌ بِإِذْنِ الْمَوْهُوبِ لَهُ، أَوْ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ أَمْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، سَوَاءٌ تَمَلَّكَهَا إلَى أَنْ مَاتَ، أَوْ مُدَّةً يَسِيرَةً أَوْ كَثِيرَةً عَلَى وَلَدٍ صَغِيرٍ كَانَتْ أَوْ عَلَى كَبِيرٍ أَوْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ مَا اسْتَغَلَّ مِنْهَا كَالْغَصْبِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ فِي حَيَاتِهِ، وَمِنْ رَأْسِ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا وقال أبو حنيفة: "مَنْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ قَرِيبٍ صَغِيرٍ، أَوْ كَبِيرٍ وَلَدٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، وَلاَ يَلْزَمُهُ حُكْمُ هِبَةٍ، وَلاَ صَدَقَةٍ، وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ، وَلاَ إلَى الَّذِي وَهَبَهَا لَهُ، فَإِنْ دَفَعَ ذَلِكَ
(9/120)
مُخْتَارًا، فَحِينَئِذٍ تَمَّتْ
الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ"، وَصَحَّ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ أَوْ الْمُتَصَدَّقِ
عَلَيْهِ، فَلَوْ قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ
بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ وَالْمُتَصَدِّقِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ بِذَلِكَ مِلْكٌ،
وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِرَدِّهَا إلَى الْوَاهِبِ أَوْ الْمُتَصَدِّقِ إِلاَّ
الصَّغِيرَ، فَإِنَّ أَبَاهُ أَوْ وَصِيَّهُ يَقْبِضَانِ لَهُ. قَالَ:
"فَإِنْ مَاتَ الْوَاهِبُ، أَوْ الْمُتَصَدِّقُ، أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ،
أَوْ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بَطَلَتْ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ".وقال مالك:
"مَنْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ"
وَهُوَ الْحَائِزُ لِلصَّغِيرِ الذَّكَرِ حَتَّى يَبْلُغَ وَلِلأُُنْثَى تُنْكَحُ
وَتَرْشُدُ. فَإِنْ وَهَبَ أَوْ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدٍ كَبِيرٍ، أَوْ عَلَى
أَجْنَبِيٍّ: أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا فَإِنْ قَبَضَاهُ بِغَيْرِ
إذْنِهِ فَهُوَ قَبْضٌ صَحِيحٌ، فَإِنْ غَفَلَ، عَنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ،
وَالْهِبَةُ أَوْ الصَّدَقَةُ فِي يَدِهِ وَاعْتِمَارِهِ: بَطَلَتْ الصَّدَقَةُ
وَالْهِبَةُ وَعَادَتْ مِيرَاثًا فَإِنْ دَفَعَ الْبَعْضَ وَاعْتَمَرَ الْبَعْضَ
فَإِنْ كَانَ الَّذِي اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ: بَطَلَ
الْجَمِيعُ وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ فَأَقَلُّ: صَحَّتْ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
فِي الْجَمِيعِ فِيمَا اعْتَمَرَ وَفِيمَا لَمْ يَعْتَمِرْ. وقال الشافعي
"فِي الْهِبَاتِ وَالْعَطَايَا وَالصَّدَقَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِقَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَفِي الأَحْبَاسِ فَقَطْ بِالْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا، عَنْ
أَصْحَابِنَا".
قال أبو محمد: "احْتَجَّ مَنْ لَمْ يُجِزْ الْهِبَةَ، وَالصَّدَقَةَ إِلاَّ
بِالْقَبْضِ" بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا
نَزَلَتْ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا
أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ أَعْطَيْتَ فَأَمْضَيْتَ"
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ
الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم يَقْرَأُ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ وَيَقُولُ: يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي
مَالِي، وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ
لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ" قَالُوا: فَشَرَطَ
عليه الصلاة والسلام فِي الْعَطِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ الإِمْضَاءَ، وَهُوَ الإِقْبَاضُ
وَقَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الْقَرْضِ، وَالْعَارِيَّةِ، فَلاَ يَصِحَّانِ
إِلاَّ مَقْبُوضَيْنِ، بِعِلَّةِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ، وَعَلَى
الْوَصِيَّةِ، فَلاَ تَصِحُّ بِاللَّفْظِ وَحْدَهُ، لَكِنْ بِمَعْنًى آخَرَ
مُقْتَرِنٍ إلَيْهِ وَهُوَ الْمَوْتُ. وَذَكَرُوا أَيْضًا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ،
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ
الْوَفَاةُ قَالَ لَهَا: إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا،
فَلَوْ كُنْتِ جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ لَكَانَ لَك فَإِذْ لَمْ تَفْعَلِي
فَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَارِثِ، وَذَكَرَ الْخَبَرَ، وَفِيهِ: أَنَّهَا قَالَتْ
" وَاَللَّهِ يَا أَبَتِ لَوْ كَانَ كَذَا وَكَذَا لَرَدَدْته ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "لَمَّا حَضَرَتْ
أَبَا بَكْرٍ الْوَفَاةُ، قَالَ لَهَا: إنِّي كُنْتُ نَحَلْتُكِ جِدَادَ عِشْرِينَ
وَسْقًا مِنْ أَرْضِي الَّتِي بِالْغَابَةِ، وَإِنَّك لَوْ كُنْتِ احْتَزْتِيهِ
لَكَانَ لَك، فَإِذَا لَمْ تَفْعَلِي، فَإِنَّمَا هُوَ مَالُ
الْوَارِثِ".وَمِنْ طَرِيقِ
(9/121)
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي الْمِسْوَرُ بْنُ
مَخْرَمَةَ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْقَارِي أَنَّهُمَا سَمِعَا
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَنْحَلُونَ
أَوْلاَدَهُمْ فَإِذْ مَاتَ الأَبْنُ قَالَ الأَبُ: مَالِي وَفِي يَدِي، وَإِذَا
مَاتَ الأَبُ قَالَ: قَدْ كُنْتُ نَحَلْتُ ابْنِي كَذَا وَكَذَا، لاَ نَحْلَ
إِلاَّ لِمَنْ حَازَهُ وَقَبَضَهُ، عَنْ أَبِيهِ". قَالَ الزُّهْرِيُّ:
فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ
شُكِيَ ذَلِكَ إلَيْهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: نَظَرْنَا فِي هَذِهِ النُّحُولِ
فَرَأَيْنَا أَحَقَّ مَنْ يَحُوزُ عَلَى الصَّبِيِّ أَبُوهُ" فَهَذِهِ
أَصَحُّ رِوَايَةٍ فِي هَذَا، وَصَحَّ أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ كَمَا
أَوْرَدْنَا.وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِي، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ
قَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَنْحَلُونَ أَبْنَاءَهُمْ نُحْلاً ثُمَّ
يُمْسِكُونَهَا، فَإِنْ مَاتَ ابْنُ أَحَدِهِمْ قَالَ: مَالِي بِيَدِي لَمْ
أُعْطِهِ أَحَدًا، وَإِنْ مَاتَ قَالَ: لأَبْنِي قَدْ كُنْتُ أَعْطَيْتُهُ
إيَّاهُ، مَنْ نَحَلَ نِحْلَةً لَمْ يَحُزْهَا الَّذِي نُحِلَهَا حَتَّى تَكُونَ
لِوَارِثِهِ إنْ مَاتَ فَهِيَ بَاطِلٌ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ
مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ
عَفَّانَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ نَحَلَ وَلَدًا صَغِيرًا لَهُ لَمْ يَبْلُغْ أَنْ
يَحُوزَ نِحْلَةً فَأَعْلَنَ بِهَا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهَا فَهِيَ جَائِزَةٌ وَإِنْ
وَلِيَهَا أَبُوهُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَأَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
وَشُرَيْحٍ، وَالزُّهْرِيِّ وَرَبِيعَةَ، وَبُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ: مِنْ هَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ نَبْهَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ هُوَ الْعَرْزَمِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ عَمْرٌو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، ثُمَّ اتَّفَقَ سَعِيدٌ وَعَطَاءٌ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ
أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، قَالُوا:
لاَ تَجُوزُ صَدَقَةٌ حَتَّى تُقْبَضَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ: كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ لاَ يُجِيزُ الصَّدَقَةَ حَتَّى تُقْبَضَ.
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ بِإِسْنَادِهِ، وَزَادَ فِيهِ:
إِلاَّ الصَّبِيَّ بَيْنَ أَبَوَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا مُجَالِدٌ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ شُرَيْحًا وَمَسْرُوقًا، كَانَا لاَ يُجِيزَانِ صَدَقَةً
إِلاَّ مَقْبُوضَةً وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَقْضِي بِذَلِكَ. قَالَ هُشَيْمٌ:
وَأَخْبَرَنِي مُطَرِّفٌ، هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا كَانَتْ فِي يَدِهِ فَإِذَا أَمْضَاهَا
فَقُبِضَتْ، فَهِيَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ.
قال علي: "هذا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ، مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا
غَيْرَ هَذَا، وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ",
فأما قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ: "إِلاَّ مَا تَصَدَّقْتَ، أَوْ أَعْطَيْتَ
فَأَمْضَيْتَ" فَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: إنَّ الإِمْضَاءَ هُوَ شَيْءٌ
آخَرُ غَيْرُ التَّصَدُّقِ، وَالإِعْطَاءِ، وَلاَ جَاءَ ذَلِكَ قَطُّ فِي لُغَةٍ،
بَلْ كُلُّ تَصَدُّقٍ وَإِعْطَاءٍ إعْطَاءٌ، فَاللَّفْظُ بِهِمَا إمْضَاءٌ
لَهُمَا، وَإِخْرَاجٌ لَهُمَا، عَنْ مِلْكِهِ، كَمَا أَنَّ
(9/122)
الأَكْلَ نَفْسَهُ هُوَ
الإِفْنَاءُ، وَاللِّبَاسُ هُوَ الإِبْلاَءُ، لأََنَّ لِكُلِّ لُبْسَةٍ حَظُّهَا
مِنْ الإِبْلاَءِ، فَإِذَا تَرَدَّدَ اللِّبَاسُ ظَهَرَ الإِبْلاَءُ فَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ قَالَ: "مَا لِي
هَذَا صَدَقَةٌ عَلَى فُلاَنٍ، أَوْ قَالَ: قَدْ تَصَدَّقْت عَلَيْك بِهَذَا
الشَّيْءِ"، أَوْ قَالَ: "مَالِي هَذَا هِبَةٌ لِفُلاَنٍ"، أَوْ
قَالَ: "قَدْ وَهَبْتُهُ لِفُلاَنٍ" فَلاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ مِمَّنْ
يُحْسِنُ اللُّغَةَ الْعَرَبِيَّةَ فِي أَنَّهُ يُقَالُ: قَدْ تَصَدَّقَ فُلاَنٌ
بِكَذَا عَلَى فُلاَنٍ، وَقَدْ وَهَبَ لَهُ كَذَا فَلَوْ لَمْ تَكُنْ الصَّدَقَةُ
كَامِلَةً تَامَّةً بِاللَّفْظِ، لَكَانَ الْمُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَصَدَّقَ،
أَوْ وَهَبَ كَاذِبًا فَوَجَبَ حَمْلُ الْحُكْمِ عَلَى مَا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ،
مَا لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِحُكْمٍ زَائِدٍ لاَ تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ فَيُوقَفُ
عِنْدَهُ وَيُعْمَلُ بِهِ. وَيُسْأَلُ الْمَالِكِيُّونَ خَاصَّةً عَمَّنْ قَالَ:
قَدْ وَهَبْتُ هَذَا الشَّيْءَ لَك، أَوْ قَالَ: هَذَا الشَّيْءُ هِبَةٌ لَك، أَوْ
قَالَ: قَدْ تَصَدَّقْت عَلَيْك بِهَذَا، أَوْ قَالَ: هَذَا صَدَقَةٌ عَلَيْك
أَتَصَدَّقُ، وَوَهَبَ بِذَلِكَ الشَّيْءِ أَمْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهِ، وَلاَ
وَهَبَهُ، وَلاَ ثَالِثَ لِهَذَا التَّقْسِيمِ. فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ، قَدْ
تَصَدَّقَ بِهِ وَوَهَبَهُ قلنا: فَإِذْ قَدْ تَصَدَّقَ بِهِ وَوَهَبَهُ فَقَدْ
تَمَّتْ الصَّدَقَةُ وَالْهِبَةُ وَصَحَّتْ، فَمَا يَضُرُّهُمَا تَرْكُ
الْحِيَازَةِ وَالْقَبْضِ، إذَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّفَإِنْ قَالُوا: لَمْ
يَهَبْ، وَلاَ تَصَدَّقَ قلنا: فَمِنْ أَيْنَ اسْتَحْلَلْتُمْ إجْبَارَهُ
وَالْحُكْمَ عَلَيْهِ بِدَفْعِ مَالٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يُتَصَدَّقْ بِهِ
عَلَيْهِ، وَلاَ وَهَبَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَهَبْهُ لَهُ، وَلاَ تَصَدَّقَ بِهِ
عَلَيْهِ هَذَا عَيْنُ الظُّلْمِ وَالْبَاطِلِ، وَلاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْ
أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا مَنْ دُونَ الصَّحَابَةِ فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لاَ سِيَّمَا وَالْخِلاَفُ قَدْ وَرَدَ فِي
ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،. وَأَيْضًا فَأَكْثَرُ تِلْكَ
الأَخْبَارِ إمَّا لاَ تَصِحُّ،
وَأَمَّا قَدْ جَاءَتْ بِخِلاَفِ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ أَلْفَاظِهَا،
وَأَمَّا قَدْ خَالَفُوا أُولَئِكَ الصَّحَابَةَ فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ كَمَجِيءِ
هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، أَوْ بِأَصَحَّ عَلَى مَا نُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى.وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ عَلَى الْقَرْضِ،
وَالْوَصِيَّةِ، وَالْعَارِيَّةِ: فَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ الْبَاطِلِ: أَمَّا الْقَرْضُ: فَقَدْ أَبْطَلُوا
وَهُوَ لاَزِمٌ بِاللَّفْظِ وَمَحْكُومٌ بِهِ، وَلاَ بُدَّ إذْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِخِلاَفِ هَذَا، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ مِنْ الْقَرْضِ بِعَدَمِ الإِقْبَاضِ مِثْلُ
مَا يَبْطُلُ مِنْ الْهِبَةِ، وَالصَّدَقَةِ، سَوَاءٌ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ
إِلاَّ مَا كَانَ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَقْرَضْتُكَ
عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مِنْ مَالِي، أَوْ تَصَدَّقْتُ عَلَيْك بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ
مِنْ مَالِي، أَوْ وَهَبْتُكَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ مِنْ مَالِي: فَهَذَا كُلُّهُ
لاَ يَلْزَمُ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ: مِنْ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ،
إِلاَّ فِي مُعَيَّنٍ، وَإِلَّا فَلَيْسَ وَاهِبًا لِشَيْءٍ، وَلاَ مُتَصَدِّقًا
بِشَيْءٍ، وَلاَ مُقْرِضًا لِشَيْءٍ. وَالْقَوْلُ فِي الْعَارِيَّةِ كَالْقَوْلِ
فِيمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ سَوَاءٌ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا الْقِيَاسُ لَكَانَ حُجَّةً
عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْقَرْضَ يَرْجِعُ فِيهِ مَتَى أَحَبَّ،
وَالْعَارِيَّةَ كَذَلِكَ وَلاَ يَرْجِعُ عِنْدَنَا فِي الْهِبَةِ، وَلاَ فِي
الصَّدَقَةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ
بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْقَرْضَ تَمْلِيكٌ لِلرَّقَبَةِ بِعِوَضٍ، وَالْعَارِيَّةَ
(9/123)
لَيْسَتْ تَمْلِيكًا لِلرَّقَبَةِ أَصْلاً فَبَطَلَ قِيَاسُ بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى بَعْضٍ لأَخْتِلاَفِ أَحْكَامِهَا. وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: "ِّفَاقُ جَمِيعِهَا فِي أَنَّهَا بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ فَأَنَا أَقِيسُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ بِأَوْلَى مِمَّنْ قَالَ افْتِرَاقُهَا فِي أَحْكَامِهَا يُوجِبُ أَنْ لاَ يُقَاسَ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَإِذَا كَانَ الأَتِّفَاقُ يُوجِبُ الْقِيَاسَ، فَالأَفْتِرَاقُ يُبْطِلُ الْقِيَاسَ، وَإِلَّا فَقَدْ تَحَكَّمُوا بِالدَّعْوَى بِلاَ برهان" وَيُقَالُ لَهُمْ: "هَلَّا قِسْتُمْ كُلَّ ذَلِكَ عَلَى النَّذْرِ الْوَاجِبِ عِنْدَكُمْ بِاللَّفْظِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ"، فَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ مِنْ الْعَارِيَّةِ وَالْقَرْضِ وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ: فَقَدْ كَفَوْنَا مُؤْنَةَ قِيَاسِهِمْ عَلَيْهَا، لأََنَّهُمْ لاَ يُوجِبُونَ فِيهَا الصِّحَّةَ بِالْقَبْضِ أَصْلاً، بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ بِالْمَوْتِ فَقَطْ. وَقَوْلُهُمْ: لاَ تَجِبُ بِاللَّفْظِ دُونَ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ الْمَوْتُ فَتَمْوِيهٌ بَارِدٌ فَاسِدٌ، لأََنَّ الْمُوصِيَ لَمْ يُوجِبْ الْوَصِيَّةَ قَطُّ بِلَفْظِهِ، بَلْ إنَّمَا أَوْجَبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَحِينَئِذٍ وَجَبَتْ بِمَا أَوْجَبَهَا بِهِ فَقَطْ دُونَ مَعْنًى آخَرَ: فَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِهِمْ وَبَرْدُهُ وَغَثَاثَتُهُ، وَمُخَالَفَتُهُ لِلْحَقِّ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَنَبْدَأُ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ: لَمَّا نَصَّ الْحَدِيثُ أَنَّهُ نَحَلَهَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ، فَلاَ يَخْلُو ضَرُورَةً مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ نَخْلاً تَجِدُّ مِنْهَا عِشْرِينَ وَسْقًا.وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَمْرًا يَكُونُ عِشْرِينَ وَسْقًا مَجْدُودَةً، لاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا وَأَيُّ الأَمْرَيْنِ كَانَ فَإِنَّمَا هِيَ عِدَةٌ، وَلاَ يَلْزَمُ هَذِهِ الْقَضِيَّةُ عِنْدَهُمْ، وَلاَ عِنْدَنَا، لأََنَّهَا لَيْسَتْ فِي مُعَيَّنٍ مِنْ النَّخْلِ، وَلاَ مُعَيَّنٍ مِنْ التَّمْرِ، وَقَدْ تَجِدُّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ أَرْبَعِينَ نَخْلَةً، وَقَدْ تَجِدُّ مِنْ مِائَتَيْ نَخْلَةٍ، وَقَدْ لاَ تَجِدُّ مِنْ نَخْلَةٍ بِالْغَابَةِ عِشْرِينَ وَسْقًا لِعَاهَةٍ تُصِيبَ الثَّمَرَةَ، فَهَذَا لاَ يَتِمُّ إِلاَّ حَتَّى يُعَيِّنَ النَّخْلَ أَوْ الأَوْسَاقَ فِي نَخْلَةٍ، فَيَتِمُّ حِينَئِذٍ بِالْجِدَادِ وَالْحِيَازَةِ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ الْهِبَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْمَحْدُودَةِ وَلاَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَعْلُومَةِ الْمُتَمَيِّزَةِ فِي وِرْدٍ، وَلاَ صَدْرٍ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يُوهِمُونَ فِي الأَخْبَارِ مَا لَيْسَ فِيهَا. وَأَيْضًا فَقَدْ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ عُرْوَةَ، وَآخَرُ هُوَ مِثْلُ عُرْوَةَ بِخِلاَفِ مَا رَوَاهُ عُرْوَةُ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيق عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "يَا بُنَيَّةُ إنِّي نَحَلْتُك نَخْلاً مِنْ خَيْبَرَ، وَإِنِّي أَخَاف أَنْ أَكُونَ آثَرْتُكِ عَلَى وَلَدِي، وَأَنَّكِ لَمْ تَكُونِي احْتَزْتِيهِ فَرُدِّيهِ عَلَى وَلَدِي فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، لَوْ كَانَتْ لِي خَيْبَرُ بِجِدَادِهَا لَرَدَدْتهَا. فَالْقَاسِمُ لَيْسَ دُونَ عُرْوَةَ وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ لَيْسَ دُونَ ابْنِ شِهَابٍ، لأََنَّهُ أَدْرَكَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ لَمْ يَأْخُذْ الزُّهْرِيُّ عَنْهُمْ، كَأَسْمَاءِ وَابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمَا، وَابْنُ جُرَيْجٍ لَيْسَ دُونَ مَالِكٍ. وَهَذِهِ السِّيَاقَةُ مُوَافِقَةٌ لِقَوْلِنَا لاَ لِقَوْلِهِمْ. فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ مَا رَوَوْهُ مِمَّا لاَ يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ، بَلْ يُخَالِفُهُ حُجَّةً لِمَا لاَ يُوَافِقُهُ، وَلاَ يَكُونُ
(9/124)
مَا رُوِّينَاهُ مُوَافِقًا
لِقَوْلِنَا حُجَّةً لِمَا يُوَافِقُهُ هَذِهِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ مِمَّنْ
أَطْلَقَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ
الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقِ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ
مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ
حِين أُحْضِرَ: "إنِّي قَدْ كُنْتُ أَبَنْتُكِ بِنُحْلٍ فَإِنْ شِئْت أَنْ
تَأْخُذِي مِنْهُ قِطَاعًا أَوْ قِطَاعَيْنِ ثُمَّ تَرُدِّينَهُ إلَى الْمِيرَاثِ
قَالَتْ: قَدْ فَعَلْتُ، وَلاَ خِلاَفَ مِنْ أَنَّ مَسْرُوقًا أَجَلُّ مِنْ عُرْوَةَ،
لأََنَّهُ أَفْتَى فِي خِلاَفَةِ عُمَرَ وَكَانَ أَخَصَّ النَّاسِ بِأُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ". وَشَقِيقٌ أَجَلُّ مِنْ الزُّهْرِيِّ، لأََنَّهُ أَدْرَكَ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرَهُ، وَصَحِبَ
الصَّحَابَةَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ عليه الصلاة والسلام الأَكَابِرَ الأَكَابِرَ.
وَالأَعْمَشُ إنَّمَا يُعَارَضُ بِهِ شُيُوخَ مَالِكٍ، لأََنَّهُ قَدْ أَدْرَكَ
أَنَسًا وَرَآهُ، فَهُوَ مِنْ التَّابِعِينَ مِنْ الْقَرْنِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا
فِيهِ كَمَا تَرَى بِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَرَدَّهُ بِإِذْنِهَا، لاَ بِأَنَّهُ
لَمْ يَتِمَّ بِاللَّفْظِ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مُرْسَلاً كَذَلِكَ، مِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِخَبَرِ أَبِي بَكْرٍ جُمْلَةً وَعَادَ حُجَّةً
عَلَيْهِمْ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ، وَصَحَّ أَنَّهُمَا رَأَيَا الْهِبَةَ
جَائِزَةً بِغَيْرِ قَبْضٍ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ،
وَعُثْمَانَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ: "لاَ تَجُوزُ صَدَقَةٌ
حَتَّى تُقْبَضَ فَبَاطِل"ٌ، لأََنَّ رَاوِيَهَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ الْعَرْزَمِيُّ وَهُوَ هَالِكٌ مُطْرَحٌ,وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ
عُمَرَ الْمُوَافِقَةُ لِلرِّوَايَةِ، عَنْ عُثْمَانَ فَلاَ شَيْءَ، لأََنَّ ابْنَ
وَهْبٍ لَمْ يُسَمِّ مَنْ أَخْبَرَهُ بِهَا وَالرِّوَايَةُ عَنْ مُعَاذٍ فِيهَا جَابِرٌ
الْجُعْفِيُّ، وَبَقِيَّةُ الرِّوَايَةِ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، فَهِيَ
حُجَّةٌ إِلاَّ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فَعُمَرُ عَمَّ كُلَّ مَوْهُوبٍ،
وَعُثْمَانُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ صِغَارَ الْوَلَدِ، وَإِنَّمَا هِيَ رَأْيٌ مِنْ
رَأْيِهِمَا اخْتَلَفَا فِيهِ، لاَ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ عَلَى أَحَدٍ وَقَدْ
صَحَّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةَ خِلاَفُ ذَلِكَ، كَمَا أَوْرَدْنَا
وَأَيْضًا فَإِنَّمَا هُوَ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ فِي النُّحْلِ خَاصَّةً، لاَ
فِي الصَّدَقَةِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ،
حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ قَالَ: "سَمِعْتُ
عِيسَى بْنَ الْمُسَيِّبِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الصَّدَقَةُ جَائِزَةٌ، قُبِضَتْ
أَوْ لَمْ تُقْبَضْ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ قَالَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ:
يُجِيزَانِ الصَّدَقَةَ وَإِنْ لَمْ تُقْبَضْ فَهَذَا إسْنَادٌ كَإِسْنَادِ
حَدِيثِ مُعَاذٍ، وَتِلْكَ الْمُنْقَطِعَاتُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ
قَتَادَةَ [عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ]، عَنِ النَّضْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ قَالَ: "نَحَلَنِي أَبِي نِصْفَ دَارِهِ"، فَقَالَ أَبُو
بُرْدَةَ: "إنْ سَرَّك أَنْ تَحُوزَ ذَلِكَ فَاقْبِضْهُ"، فَإِنَّ
عُمَرَ قَضَى فِي الأَنْحَالِ: مَا قُبِضَ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَا لَمْ يُقْبَضْ
مِنْهُ فَهُوَ مِيرَاثٌ فَهَذَا أَنَسٌ بِأَصَحِّ سَنَدٍ لاَ يَرَى الْحِرْزَ
شَيْئًا.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا
(9/125)
يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ
رَجُلٍ وَهَبَ لأَمْرَأَتِهِ قَالَ: هِيَ جَائِزَةٌ لَهَا، وَإِنْ لَمْ
تَقْبِضْهَا. وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
كَقَضَائِهِمَا بِوَلَدِ الْمُسْتَحَقَّةِ رَقِيقًا لِسَيِّدِ أُمِّهِمْ،
وَقَضَائِهِمَا فِي وَلَدِ الْعَرَبِيِّ مِنْ الأَمَةِ بِخَمْسٍ مِنْ الإِبِلِ،
وَكَإِبَاحَتِهِمَا الأَشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ. وَمَا رُوِيَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ
وَعُمَرَ، مِنْ إبْطَالِ هِبَةِ الْمَجْهُولِ. وَكَكَلاَمِ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْخُطْبَةِ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ،
إذْ ذَكَرَ لَهُ عُمَرُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ، وَكَإِيجَابِهِمَا الْقِصَاصَ مِنْ الْوَكْزَةِ
وَاللَّطْمَةِ، وَسُجُودِهِمَا فِي الْخُطْبَةِ، إذْ قَرَآ السَّجْدَةَ بِحَضْرَةِ
الصَّحَابَةِ دُونَ مُخَالِفٍ وَقَوْلُهُمَا: مَنْ أَشْعَرَ لَزِمَتْهُ
الْحُدُودُ، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَتَخْيِيرِهِمَا
الْمَفْقُودَ إذَا قَدِمَ امْرَأَتَهُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّدَاقِ وَغَيْرُ
ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا، فَمَرَّةً هُمَا حُجَّةٌ وَمَرَّةً لَيْسَا
حُجَّةً.وَأَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ فِيمَنْ اعْتَمَرَ مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ
وَهَبَ الثُّلُثَ فَمَا فَوْقَهُ، أَوْ مَا دُونَ الثُّلُثِ، فَقَوْلٌ لاَ
يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ مَعَ تَنَاقُضِهِ هَاهُنَا، فَجَعَلَ الثُّلُثَ
فِي حَيِّزِ الْكَثِيرِ، وَجَعَلَهُ فِيمَا تَحْكُمُ فِيهِ الْمَرْأَةُ مِنْ
مَالِهَا فِي حَيِّزِ الْقَلِيلِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا مَعَ أَنَّهُ خِلاَفٌ
مُجَرَّدٌ لِلرِّوَايَةِ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ وَكُلُّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ
فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ لَفْظَةٌ، لأََنَّ جَمِيعَهُمْ إمَّا مُبْطِلٌ
لِلْهِبَةِ فِيمَا لَمْ يَجُزْ جُمْلَةً، أَوْ فِي الصَّدَقَةِ كَذَلِكَ، أَوْ
مُجِيزٌ لَهُ جُمْلَةً. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: "إنْ قَبَضَهَا
الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ أَوْ
الْمُتَصَدِّقِ فَلَيْسَ قَبْضًا فَلاَ يُعْرَفُ"، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ،
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلرِّوَايَةِ، عَنْ عُمَرَ. وَعُثْمَانَ فِي ذَلِكَ، لأََنَّهُمَا
رضي الله عنهما لَمْ يَقُولاَ حَتَّى يَقْبِضَ بِإِذْنِهِ، لَكِنْ قَالاَ: حَتَّى
يَقْبِضَ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُمَا حُجَّةً وَإِجْمَاعًا فَقَدْ خَالَفَ
الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ الْحُجَّةَ وَالإِجْمَاعَ بِإِقْرَارِهِمْ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمَا حُجَّةً، وَلاَ إجْمَاعًا
فَلاَ مَعْنَى لأَحْتِجَاجِهِمْ بِهِ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِكُلِّ مَا
تَعَلَّقُوا بِهِ مِنْ ذَلِكَ, وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: فَإِنَّنَا
رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ "أَنَّ الصَّدَقَةَ جُمْلَةٌ
تَتِمُّ بِلاَ حِيَازَةٍ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ
لِلَّهِ تَعَالَى".
قال أبو محمد: "وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لأََنَّ الْهِبَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ
لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ بَاطِلٌ، فَلَوْ عَمِلْنَا ذَلِكَ لَمَا أَجَزْنَاهَا،
إذْ كُلُّ عَمَلٍ عُمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَنُبْطِلُ
قَوْلَهُ فِي الْهِبَةِ بِمَا أَبْطَلْنَا بِهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: بِأَنَّ الْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ
الْمُطْلَقَةِ يَمْلِكُهَا أَرْبَابُهَا، فَاحْتَاجُوا إلَى الْقَبْضِ
وَأَمَّا الْحُبَسُ فَلاَ مَالِكَ لَهَا إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَكُلُّ شَيْءٍ
فِي قَبْضَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلاَ قَابِضَ لَهَا دُونَهُ".
قَالَ عَلِيٌّ: "الأَرْضُ كُلُّهَا وَكُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ تَعَالَى، لَمْ
يَخْرُجْ شَيْءٌ، عَنْ مِلْكِهِ فَيُرَدُّ إلَيْهِ، وَقَدْ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ بِمَا يَبْطُلُ بِهِ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ" فَإِذَا
(9/126)
بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ، فَالْحُجَّةُ لِقَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وَهَذَا مَكَانُ الأَحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الآيَةِ، لاَ حَيْثُ احْتَجُّوا بِهَا مِمَّا بَيَّنَتْ السُّنَنُ أَنَّهُ لاَ مَدْخَلَ لَهُ فِيهَا.وَكَذَلِكَ قوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وَمَنْ تَلَفَّظَ بِالْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ فَقَدْ عَمِلَ عَمَلاً، وَعَقَدَ عَقْدًا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ إبْطَالُهُ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي إبْطَالِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/127)
ومن وهب هبة صحيحة لم يجز له
الرجوع فيه أبدأ
...
1629 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً صَحِيحَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ الرُّجُوعُ
فِيهَا أَصْلاً مُذْ يَلْفِظُ بِهَا إِلاَّ الْوَالِدَ وَالأُُمَّ فِيمَا
أَعْطَيَا، أَوْ أَحَدُهُمَا لِوَلَدِهِمَا فَلَهُمَا الرُّجُوعُ فِيهِ أَبَدًا
الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ. وَسَوَاءٌ تَزَوَّجَ الْوَلَدُ أَوْ الأَبْنَةُ
عَلَى تِلْكَ الْعَطِيَّةِ أَوْ لَمْ يَتَزَوَّجَا، دَايَنَا عَلَيْهَا أَوْ لَمْ
يُدَايِنَا، فَإِنْ فَاتَ عَيْنُهَا فَلاَ رُجُوعَ لَهُمَا بِشَيْءٍ، وَلاَ رُجُوعَ
لَهُمَا بِالْغَلَّةِ، وَلاَ بِالْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ الْهِبَةِ، فَإِنْ
فَاتَ الْبَعْضُ وَبَقِيَ الْبَعْضُ كَانَ لَهُمَا الرُّجُوعُ فِيمَا بَقِيَ
فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمَا. وقال
أبو حنيفة: "مَنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ أَوْ لِوَلَدٍ هِبَةً
وَأَقْبَضَهُ إيَّاهَا أَوْ وَهَبَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ هِبَةً
وَأَقْبَضَهُ إيَّاهَا فَلاَ رُجُوعَ لأََحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فِيمَا وَهَبَ
وَمَنْ وَهَبَ لأََجْنَبِيٍّ، أَوْ لِمَوْلًى أَوْ لِذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمَةٍ
هِبَةً وَأَقْبَضَهُ إيَّاهَا، فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا وَهَبَ مِنْ
ذَلِكَ مَتَى شَاءَ" وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ مَا لَمْ تَزِدْ الْهِبَةُ
فِي بَدَنِهَا، أَوْ مَا لَمْ يُخْرِجْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ
مَا لَمْ يَمُتْ الْوَاهِبُ، أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ مَا لَمْ يُعَوِّضْ
الْمَوْهُوبُ لَهُ، أَوْ غَيْرُهُ عَنْهُ الْوَاهِبَ عِوَضًا يَقْبَلُهُ
الْوَاهِبُ، فَأَيُّ هَذِهِ الأَسْبَابِ كَانَ فَلاَ رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ فِيمَا
وَهَبَ. وَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا
ذَكَرْنَا إِلاَّ بِتَسْلِيمِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ذَلِكَ، أَوْ بِحَضْرَةِ
الْحَاكِمِ أَحَبَّ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَمْ كَرِهَ قَالَ: "فَلَوْ وَهَبَ
آخَرُ جَارِيَةً فَعَلَّمَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ الْقُرْآنَ وَالْكِتَابَةَ وَالْخَيْرَ،
فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَانِعٍ مِنْ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ
عَلَيْهَا دَيْنٌ فَأَدَّاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَنْهَا، أَوْ كَانَتْ كَافِرَةً
فَأَسْلَمَتْ فَلاَ رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ فِيهَا",وَأَمَّا الصَّدَقَةُ فَلاَ
رُجُوعَ لِلْمُتَصَدِّقِ فِيهَا لأََجْنَبِيٍّ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِ أَجْنَبِيٍّ
بِخِلاَفِ الْهِبَةِ وقال مالك: "لاَ رُجُوعَ لِوَاهِبٍ، وَلاَ لِمُتَصَدِّقٍ
فِي هِبَتِهِ أَصْلاً، لاَ لأََجْنَبِيٍّ، وَلاَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ، إِلاَّ
فِي هِبَةِ الثَّوَابِ فَقَطْ"، وَفِيمَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ أَوْ
ابْنَتِهِ الْكَبِيرَيْنِ أَوْ الصَّغِيرَيْنِ، مَا لَمْ يَقُلْ: إنَّهُ وَهَبَهَا
لِوَلَدِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ قَالَ هَذَا فَلاَ رُجُوعَ لَهُ
فِيمَا وَهَبَ فَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَ، مَا لَمْ
يُدَايِنْ الْوَلَدَ عَلَى تِلْكَ الْهِبَةِ، أَوْ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْ الأَبْنُ
أَوْ الأَبْنَةُ عَلَيْهَا، أَوْ مَا لَمْ يَثِبْ الْوَلَدُ أَوْ الأَبْنَةُ
أَبَاهُمَا عَلَى ذَلِكَ، فَأَيُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ فَقَدْ بَطَلَ رُجُوعُ
الأَبِ فِي الْهِبَةِ. وَتَرْجِعُ الأُُمُّ كَذَلِكَ فِيمَا وَهَبَتْ الأُُمُّ
لِوَلَدِهَا الصِّغَارِ خَاصَّةً مَا دَامَ أَبُوهُمْ حَيًّا، فَلَهَا الرُّجُوعُ
فِيهِ، فَإِنْ مَاتَ أَبُوهُمْ فَلاَ رُجُوعَ لَهَا وَكَذَلِكَ لاَ رُجُوعَ لَهَا
فِيمَا.
(9/127)
وَهَبَتْ لِوَلَدِهَا الْكِبَارِ،
كَانَ أَبُوهُمْ حَيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ. قَالَ: وَهِبَةُ الثَّوَابِ صَاحِبُهَا
الْوَاهِبُ لَهَا لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا، فَإِنْ أُثِيبَ
مِنْهَا أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا فَلَهُ الرُّجُوعُ. فَإِنْ أُثِيبَ قِيمَتَهَا
فَلَهُ الرُّجُوعُ، فَإِنْ أُثِيبَ قِيمَتَهَا فَلَهُمْ قَوْلاَنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ لاَ رُجُوعَ لَهُ، وَالآخَرُ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ مَا لَمْ يَرْضَ
بِذَلِكَ الثَّوَابِ، وَلاَ ثَوَابَ عِنْدَهُمْ فِيمَا وَهَبَ أَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، وَلاَ لِلْفَقِيرِ فِيمَا أَهْدَى إلَى الْغَنِيِّ
يَقْدُمُ مِنْ سَفَرٍ، كَالْمَوْزِ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ: وَلاَ رُجُوعَ فِي
صَدَقَةٍ أَصْلاً، لاَ لِوَالِدٍ فِيمَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى وَلَدِهِ، وَلاَ
لِغَيْرِهِ.
قال أبو محمد: "هَذِهِ أَقَاوِيلُ لاَ تُعْقَلُ، وَفِيهَا مِنْ التَّضَادِّ،
وَالدَّعَاوَى بِلاَ دَلِيلٍ مَا يَكْفِي سَمَاعُهُ عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ
عَلَيْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَنْعُ الْفَقِيرِ يُهْدِي إلَى الْغَنِيِّ يُقَدِّمُ
الْمَوْزَ وَنَحْوَهُ مِنْ طَلَبِ الثَّوَابِ وَمَا أَحَدٌ أَحْوَجُ إلَيْهِ
مِنْهُ، وَإِطْلاَقُهُمْ الْغَنِيَّ عَلَى طَلَبِ الثَّوَابِ، وَمَنْعُهُمْ
الأُُمَّ مِنْ الرُّجُوعِ إذَا مَاتَ أَبُو وَلَدِهَا، وَإِبَاحَتُهُمْ لَهَا
الرُّجُوعَ إذَا كَانَ أَبُوهُمْ حَيًّا، وَإِبَاحَتُهُمْ الرُّجُوعَ فِيمَا
وَهَبَ لِيَتِيمٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، وَتَفْرِيقِهِمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ
حُكْمِ الْوَالِدِ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ تَخْصِيصُهُمْ إذَا تَزَوَّجَ الْوَلَدُ أَوْ
الأَبْنَةُ عَلَى تِلْكَ الْهِبَةِ بِالْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ".وَكَذَلِكَ
أَقْوَالُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، إذْ رَأَى الإِسْلاَمَ بَعْدَ الْكُفْرِ خَيْرًا
يَمْنَعُ الرُّجُوعَ، وَلَمْ يَرَ تَعَلُّمَ الْقُرْآنِ خَيْرًا يَمْنَعُ
الرُّجُوعَ. وَإِذَا رَأَى أَدَاءَ دَيْنِ الْعَبْدِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَلَمْ
يَرَ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ وَإِذَا لَمْ يَرَ الرُّجُوعَ
إِلاَّ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ هَذَا عَجَبٌ جِدًّا، وَلَئِنْ كَانَ الرُّجُوعُ
حَقًّا فَمَا بَالُهُ لاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ حَضْرَةِ الْحَاكِمِ، وَلَئِنْ كَانَ
غَيْرَ حَقٍّ فَمِنْ أَيْنَ جَازَ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ وَمِنْ عَجَائِبِ
الدُّنْيَا احْتِجَاجُهُمْ فِي إبْطَالِ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ رُجُوعِ
بَائِعِ السِّلْعَةِ فِيهَا إذَا وَجَدَهَا بِعَيْنِهَا عِنْدَ مُفْلِسٍ،
فَإِنَّهُ لاَ يَخْلُو أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي لَهَا مَلَكَهَا أَوْ لَمْ
يَمْلِكْهَا، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْلِكْهَا فَبِأَيِّ شَيْءٍ صَارَتْ عِنْدَهُ،
وَفِي جُمْلَةِ مَالِهِ، وَإِنْ كَانَ مَلَكَهَا فَلاَ سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَى
مَالِهِ فَهَاهُنَا كَانَ هَذَا الأَعْتِرَاضُ صَحِيحًا لاَ هُنَاكَ وَهَا هُنَا
لاَ يَخْلُو الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَلَكَ مَا وَهَبَ لَهُ أَمْ
لَمْ يَمْلِكْهُ، فَإِنْ كَانَ لَمْ يَمْلِكْهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ حَلَّ لَهُ
الْوَطْءُ وَالأَكْلُ، وَالْبَيْعُ، وَالتَّصَرُّفُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ وَرِثْث
عَنْهُ إنْ مَاتَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَلَكَهُ، فَلاَ سَبِيلَ لِلْوَاهِبِ عَلَى
مَالِهِ.
قال أبو محمد: "احْتَجَّ مَنْ رَأَى الرُّجُوعَ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ مَا
لَمْ يَثِبْ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَرْضَ مِنْهَا" بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
دِينَارٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عُمَرَ قَالَ: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَلَمْ يُثَبْ مِنْهَا فَهُوَ أَحَقُّ
بِهَا إِلاَّ لِذِي رَحِمٍ".
وَمِنْ طَرِيق سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا
الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
"مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ فَهُوَ جَائِزٌ، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً
لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا".وَمِنْ
طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا حَنْظَلَةُ، هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ
الْجُمَحِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
(9/128)
عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: "الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا".وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "أَوَّلُ مَنْ رَدَّ الْهِبَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ غَرِيمَهُ مَاتَ وَدَيْنُهُ عَلَيْهِ عُثْمَانُ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ ابْنُ أَبْزَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: "الْمَوَاهِبُ ثَلاَثَةٌ: مَوْهِبَةٌ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَوْهِبَةٌ يُرَادُ بِهَا وَجْهُ النَّاسِ، وَمَوْهِبَةٌ يُرَادُ بِهَا الثَّوَابُ فَمَوْهِبَةُ الثَّوَابِ يَرْجِعُ فِيهَا صَاحِبُهَا إذَا لَمْ يُثَبْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "هُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا يَعْنِي الْهِبَةَ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: "كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ فَأَتَاهُ رَجُلاَنِ يَخْتَصِمَانِ إلَيْهِ فِي بَازٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: وَهَبْتُ لَهُ بَازِي رَجَاءَ أَنْ يُثِيبَنِي فَأَخَذَ بَازِي وَلَمْ يُثِبْنِي فَقَالَ الآخَرُ: وَهَبَ لِي بَازِيَهُ مَا سَأَلْتُهُ، وَلاَ تَعَرَّضْت لَهُ، فَقَالَ فَضَالَةُ رُدَّ عَلَيْهِ بَازِيَهُ أَوْ أَثِبْهُ مِنْهُ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِي الْمَوَاهِبِ النِّسَاءُ وَشِرَارُ الأَقْوَامِ. وَرُوِيَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: الْمَوَاهِبُ ثَلاَثَةٌ: "رَجُلٌ وَهَبَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَوْهَبَ، فَهِيَ كَسَبِيلِ الصَّدَقَةِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي صَدَقَتِهِ، وَرَجُلٌ اُسْتُوْهِبَ فَوَهَبَ فَلَهُ الثَّوَابُ، فَإِنْ قَبِلَ عَلَى مَوْهِبَتِهِ ثَوَابًا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ وَرَجُلٌ وَهَبَ وَاشْتَرَطَ الثَّوَابَ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَى صَاحِبِهَا فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ. فَهَؤُلاَءِ: عُمَرُ، وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عُمَرَ، وَفَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ الْكِنْدِيِّ كَتَبَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَنْ وَهَبَ هِبَةً فَهُوَ بِالْخِيَارِ حَتَّى يُثَابَ مِنْهَا مَا يَرْضَى، فَإِنْ نَمَتْ عِنْدَ مَنْ وُهِبَتْ لَهُ فَلَيْسَ لِمَنْ وَهَبَهَا إِلاَّ هِيَ بِعَيْنِهَا لَيْسَ لَهُ مِنْ النَّمَاءِ شَيْءٌ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً لَمْ يُثَبْ عَلَيْهَا فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَهَا بِعَيْنِهَا عِنْدَ مَنْ وَهَبَهَا لَهُ لَمْ يُتْلِفْهَا أَوْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ فَلْيَرْجِعْ فِيهَا عَلاَنِيَةً غَيْرَ سِرٍّ، ثُمَّ تُرَدُّ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَهَبَ شَيْئًا مُثْبَتًا فَحَسُنَ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ، فَلْيَقْضِ لَهُ بِشَرْوَاهُ يَوْمَ وَهَبَهَا لَهُ، إِلاَّ مَنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ، فَإِنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِيهَا، أَوْ الزَّوْجَيْنِ، أَيُّهُمَا أَعْطَى صَاحِبَهُ شَيْئًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، فَلاَ رَجْعَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا.وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ وَيُونُسُ، وَابْنُ عَوْنٍ، كُلُّهُمْ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ: "مَنْ أَعْطَى فِي صِلَةٍ
(9/129)
أَوْ قَرَابَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَجَزْنَا عَطِيَّتَهُ، وَالْجَانِبُ الْمُسْتَغْزِرُ يُثَابُ عَلَى هِبَتِهِ أَوْ
تُرَدُّ عَلَيْهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: "مَنْ وَهَبَ
هِبَةً لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ مَا لَمْ يُثِبْه".وَمِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ قَالَ: "مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَرْجِعَ وَمَنْ وَهَبَ لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ"،
فَإِنْ أُثِيبَ مِنْهَا قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي
هِبَتِهِ وَقَدْ رُوِّينَاهُ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ فَرَضِيَ بِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَرْجِعَ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَرَبِيعَةَوَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَا هُشَيْمٌ أَنَا الْمُغِيرَةُ، عَنِ
الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ: أَنَّ رَجُلاً تَصَدَّقَ عَلَى أُمِّهِ بِخَادِمٍ لَهُ
وَتَزَوَّجَ فَسَاقَ الْخَادِمَ إلَى امْرَأَتِهِ فَقَبَضَتْهَا امْرَأَتُهُ
فَخَاصَمَتْهَا الأُُمُّ إلَى شُرَيْحٍ فَقَالَ لَهَا شُرَيْحٌ: إنَّ ابْنَك لَمْ
يَهَبْك صَدَقَتَهُ وَأَجَازَهَا لِلْمَرْأَةِ، لأََنَّ الأُُمَّ لَمْ تَكُنْ
قَبَضَتْهَا. قَالُوا: فَهَؤُلاَءِ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ
لَهُمْ مُخَالِفٌ، وَجُمْهُورُ التَّابِعِينَ. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمَهْرِيُّ أَنَا
أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ شُعَيْبٍ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَثَلُ الَّذِي اسْتَرَدَّ مَا وَهَبَ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَقِيءُ
فَيَأْكُلُ قَيْئَهُ" . فَإِذَا اسْتَرَدَّ الْوَاهِبُ فَلْيُوقَفْ
فَلْيُعَرَّفْ مَا اسْتَرَدَّ ثُمَّ لِيُدْفَعْ إلَيْهِ مَا وَهَبَ، وَمَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ بْنِ
مُجَمِّعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا لَمْ
يُثَبْ مِنْهَا" . وَمِنْ طَرِيقِ الْعُقَيْلِيِّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ
عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئٍ أَخْبَرَنِي أَبُو حُذَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الصَّدَقَةَ
يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّ الْهَدِيَّةَ يُبْتَغَى
بِهَا وَجْهُ الرَّسُولِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ" . قَالُوا فَعَلَى هَذَا لَهُ
مَا ابْتَغَى إذْ لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: "وَهَبَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هِبَةً
فَأَثَابَهُ فَلَمْ يَرْضَ فَزَادَهُ فَلَمْ يَرْضَ، فَقَالَ عليه السلام: لَقَدْ
هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَقْبَلَ هِبَةً". وَرُبَّمَا قَالَ مَعْمَرٌ: "أَنْ
لاَ أَتَّهِبَ إِلاَّ مِنْ قُرَشِيٍّ أَوْ أَنْصَارِيٍّ أَوْ ثَقَفِيٍّ أَوْ
دَوْسِيٍّ" وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَيْئًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا.
فأما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الأَدْنَى وَهُوَ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا
فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّنَا لَمْ نُنْكِرْ إثَابَةَ الْمَوْهُوبِ، بَلْ
هُوَ فِعْلٌ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا أَنْكَرْنَا وُجُوبَهُ إذْ لَمْ يُوجِبْهُ نَصُّ
قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ، وَلاَ أَنْكَرْنَا أَنْ يُوجِبَ فِي النَّاسِ الطَّمَعَ
الَّذِي لاَ يُقْنِعُهُ تَطَوُّعُ مَنْ لاَ شَيْءَ لَهُ عِنْدَهُ. وَلَيْسَ فِي
هَذَا الْخَبَرِ مِمَّا أَنْكَرْنَا مَعْنًى، وَلاَ إشَارَةً، وَإِنَّمَا فِيهِ
مَا لاَ نُنْكِرُهُ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَنَّهُ عليه السلام هَمَّ أَنْ لاَ
يَقْبَلَ هِبَةً إِلاَّ مِمَّنْ ذَكَرَ وَلَوْ أَنْفَذَ ذَلِكَ لَكَانَ مُبَاحًا
فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ وَلَيْسَ مِنْ
(9/130)
الْمَحْذُورِ عَلَيْهِ خِلاَفُهُ،
فَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِمَا هَمَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ
بِهَذَا الْخَبَرِ إذْ لَيْسَ فِيهِ إجَازَةُ هِبَةِ الثَّوَابِ، وَلاَ أَنَّ
تِلْكَ الْهِبَةَ اُشْتُرِطَ فِيهَا الثَّوَابُ، وَلاَ فِيهِ إجَازَةُ الرُّجُوعِ
فِي الْهِبَةِ أَصْلاً. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي خَبَرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ فَوَجَدْنَاهُ لاَ
خَيْرَ فِيهِ، فِيهِأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ، وَكِلاَهُمَا ضَعِيفٌ، وَلاَ يُعْرَفُ لِعَبْدِ الْمَلِكِ
سَمَاعٌ مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَلْقَمَةَ. وَفِيهِ أَيْضًا أَبُو
حُذَيْفَةَ، فَإِنْ كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ بَشِيرٍ النَّجَّارِيُّ فَهُوَ هَالِكٌ،
وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ فَسَقَطَ جُمْلَةً، وَلَمْ يَحِلَّ
الأَحْتِجَاجُ بِهِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً،
لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ لِهِبَةِ الثَّوَابِ أَصْلاً، وَلاَ لِلرُّجُوعِ
فِي الْهِبَةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ: أَنَّ الْهَدِيَّةَ
يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ الرَّسُولِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ.وَأَمَّا قَوْلُهُمْ
" لَهُ مَا ابْتَغَى " فَجُنُونٌ، نَاهِيكَ بِهِ، لأََنَّ فِي هَذَا
الْخَبَرِ أَنَّهُ ابْتَغَى قَضَاءَ حَاجَتِهِ، وَمَنْ لَهُ بِذَلِكَ وَقَدْ
تُقْضَى، وَلاَ تُقْضَى، لَيْسَ لِلْمَرْءِ مَا نَوَى فِي الدُّنْيَا: إنَّمَا
هَذَا مِنْ أَحْكَامِ الآخِرَةِ فِي الْجَزَاءِ فَقَطْ ةثم نقول: "إنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَدْ صَانَ نَبِيَّهُ عليه السلام، عَنْ أَنْ يُصَوِّبَ أَنْ
يُجِيزَ أَكْلَ هَدِيَّةٍ لَمْ يَبْتَغِ بِهَا مُهْدِيهَا وَجْهَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَصَدَ قَضَاءَ حَاجَتِهِ فَقَطْ وَوَجْهَ الرَّسُولِ،
وَهَذِهِ هِيَ الرِّشْوَةُ الْمَلْعُونُ قَابِلُهَا وَمُعْطِيهَا فِي الْبَاطِلِ،
فَلاَحَ مَعَ تَعَرِّي هَذَا الْخَبَرِ، عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهِ
مُتَعَلَّقٌ، مَعَ أَنَّهُ خَبَرُ سُوءٍ مَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٍّ". ثُمَّ
نَظَرْنَا فِي خَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّذِي بَدَأْنَا فِيهِ: فَوَجَدْنَاهُ
لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ
إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ. الثَّانِي أَنَّ
عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ لَيْسَ لَهُ سَمَاعٌ أَصْلاً مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ
أَدْرَكَهُ بِعَقْلِهِ أَصْلاً، وَأَعَلَّا مَنْ عِنْدَهُ مَنْ كَانَ بَعْدَ
السَّبْعِينَ، كَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَجَابِرٍ،
وَمَاتَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَبْلَ السِّتِّينَ، فَسَقَطَ جُمْلَةً. ثُمَّ إنَّهُ
حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ وَمُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّ نَصَّهُ الرَّجُلُ أَحَقُّ
بِهِبَتِهِ مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا فَلَمْ يَخُصَّ ذَا رَحِمٍ مِنْ غَيْرِهِ،
وَلاَ هِبَةً اُشْتُرِطَ فِيهَا الثَّوَابُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلاَ ثَوَابًا
قَلِيلاً مِنْ كَثِيرٍ وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمَالِكٍ. فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَدِيثُ حَقًّا فَقَدْ خَالَفُوا الْحَقَّ
بِإِقْرَارِهِمْ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ بَاطِلاً فَلاَ حُجَّةَ
فِي الْبَاطِلِ، وَهُمْ يَرُدُّونَ السُّنَنَ الثَّابِتَةَ بِدَعْوَاهُمْ
الْكَاذِبَةَ أَنَّهَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ وَالأُُصُولِ، وَكُلُّ مَا احْتَجُّوا
بِهِ هَاهُنَا فَخِلاَفُ الْقُرْآنِ، وَالأُُصُولِ.وَأَمَّا خَبَرُ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَصَحِيفَةٌ
مُنْقَطِعَةٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِيهَا، ثُمَّ هُوَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ
وَهُوَ ضَعِيفٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَمُخَالِفًا
لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ ذِي رَحِمٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ
زَوْجٍ لِزَوْجَةٍ، وَلاَ أَدَايَنَ عَلَيْهَا أَوْ لَمْ يُدَايِنْ، وَلاَ شَيْءٍ
مِمَّا خَصَّهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ، وَلاَ هِبَةَ ثَوَابٍ مِنْ غَيْرِهَا،
بَلْ أَطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ هِبَةٍ، فَمَنْ خَصَّهَا فَقَدْ كَذَبَ
بِإِقْرَارِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَوَّلَهُ مَا لَمْ
(9/131)
يَقُلْهُ وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ
مَنْ خَالَفَ حَدِيثًا بِأَسْرِهِ وَمَنْ خَالَفَ بَعْضَهُ وَأَقَرَّ بِبَعْضِهِ،
لاَ سِيَّمَا مِثْلُهُمْ وَمِثْلُنَا فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَ مَا يُقِرُّونَ
بِأَنَّهُ حَقٌّ، وَأَنَّهُ حُجَّةٌ لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا، فَاعْتَرَفُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ بِالدَّمَارِ وَالْبَوَارِ وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نُخَالِفُ إِلاَّ
مَا لاَ يَصِحُّ، كَاَلَّذِي يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ذِي عَقْلٍ، وَمَعَاذَ
اللَّهِ مِنْ أَنْ نُخَالِفَ خَبَرًا نُصَحِّحُهُ إِلاَّ بِنَسْخٍ بِنَصٍّ آخَرَ،
أَوْ بِتَخْصِيصٍ بِنَصٍّ آخَرَ, وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ قَوْلِهِمْ
بِلاَ حَيَاءٍ: إنَّ الْمَنْصُوصَ فِي خَبَرِ الشُّفْعَةِ مِنْ أَنَّ إذَا
وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلاَ شُفْعَةَ لَيْسَ مِنْ قَوْلِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ
الرَّاوِي فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا فِي هَذِهِ الْمُنَاقَضَةِ الْفَاسِدَةِ
الَّتِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَكْذُوبِ بِلاَ شَكٍّ مِنْ أَنَّهُ يُوقَفُ
ثُمَّ يُرَدُّ عَلَيْهِ مَا اسْتَرَدَّ، لَيْسَ مِنْ كَلاَمِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم إذْ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلاَمِ الرَّاوِي، بِلاَ شَكٍّ فِي
هَذَا لَوْ صَحَّ إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ، إذْ مِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُخْبِرَ
عليه السلام أَنَّ مُسْتَرِدَّ الْهِبَةِ كَالْكَلْبِ فِي أَقْبَحِ أَحْوَالِهِ
مِنْ أَكْلِ قَيْئِهِ، وَاَلَّذِي ضَرَبَ اللَّه تَعَالَى بِهِ الْمَثَلَ
لِلْكَافِرِ فَقَالَ تَعَالَى: {مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ
عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} ثُمَّ يَنْفُذُ عليه السلام
الْحُكْمُ بِمَا هَذِهِ صِفَتُهُ، حَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ. بَلْ لَوْ احْتَجَّ
عَلَيْهِمْ مُحْتَجٌّ بِهَذَا الْخَبَرِ لَكَانَ أَقْوَى تَشْغِيبًا، لأََنَّ
ظَاهِرَهُ: أَنَّ الْوَاهِبَ إذَا اسْتَرَدَّ مَا وَهَبَ وُقِفَ وَعُرِفَ مَا
اسْتَرَدَّ، ثُمَّ لِيُدْفَعْ إلَيْهِ مَا وَهَبَ، فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُوقَفَ
عَلَى مَا اسْتَرَدَّ ثُمَّ يَدْفَعُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ، وَلاَ يُتْرَكُ عِنْدَ
الْمُسْتَرِدِّ، وَاحْتِمَالٌ بِاحْتِمَالٍ وَدَعْوَى بِدَعْوَى. وَالْعَجَبُ مِنْ
قِلَّةِ الْحَيَاءِ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ عَلَيْهِمْ لاَ
لَهُمْ كَمَا بَيَّنَّا وَصَارَتْ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ هَاهُنَا، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حُجَّةً، وَهُمْ يَرُدُّونَ الرِّوَايَةَ الَّتِي لَيْسَتْ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَحْسَنَ مِنْهَا
كَرِوَايَتِنَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ،
وَحَبِيبٍ الْمُعَلِّمِ، كِلاَهُمَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يَجُوزُ
لأَمْرَأَةٍ أَمْرٌ فِي مَالِهَا إذَا مَلَكَ زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا"
وَرِوَايَةُ أَبِي دَاوُد نَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ نَا مَرْوَانُ، هُوَ ابْنُ
مُحَمَّدٍ نَا الْهَيْثَمُ بْنُ حُمَيْدٍ نَا الْعَلاَءُ بْنُ الْحَارِثِ نَا
عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فِي الْعَيْنِ السَّادَّةِ لِمَكَانِهَا بِثُلُثِ الدِّيَةِ .
وَغَيْرُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا لَمْ يَرُدُّوهُ إِلاَّ بِأَنَّهُ صَحِيفَةٌ،
فَأَيُّ دِينٍ يَبْقَى مَعَ هَذَا، أَوْ أَيُّ عَمَلٍ يَرْتَفِعُ مَعَهُ، وَهَذَا
هُوَ التَّلْبِيسُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى جِهَارًا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخِذْلاَنِ، فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ فِي شَيْءٍ مِنْ
الأَخْبَارِ.
وَأَمَّا مَا تَعَلَّقُوا بِهِ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَكُلُّهُ لاَ
حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ إذْ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ ثُمَّ
لَوْ كَانَ حُجَّةً فَهُوَ كُلُّهُ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ أَوَّلُ ذَلِكَ حَدِيثُ
عُمَرَ رضي الله عنه هُوَ صَحِيحٌ عَنْهُ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِغَيْرٍ ذِي رَحِمٍ
فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَرْضَى مِنْهَا فَلَمْ
يَخُصَّ رَحِمًا مَحْرَمَةً مِنْ غَيْرِ مَحْرَمَةٍ وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ
الْحَنَفِيِّينَ، وَلاَ خَصَّ مَا وَهَبَهُ أَحَدُ
(9/132)
الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ كَمَا
خَصُّوا، بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أَنَّ لَهَا الرُّجُوعَ فِيمَا وَهَبَتْ
لِزَوْجِهَا، كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَدْ
خَالَفُوا عُمَرَ، وَهُمْ يَحْتَجُّونَ بِهِ فِي أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ،
أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ، عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا. يَا لِلْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ قَوْلُ عُمَرََ
رضي الله عنه لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ، فَكَيْفَ اسْتَحَلُّوا خِلاَفَهُ، وَإِنْ
كَانَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلِمَا يُمَوِّهُونَ بِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَيَصُدُّونَ، عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو جَنَابٍ هُوَ يَحْيَى بْنِ أَبِي حَيَّةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ هُوَ مُحَمَّدُ
بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ شُرَيْحٍ الْقَاضِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا: تَرْجِعُ فِيمَا أَعْطَتْهُ لاَ
يَرْجِعُ فِيمَا أَعْطَاهَا. وَمِنْ طَرِيق ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
"أَنَّ النِّسَاءَ يُعْطِينَ أَزْوَاجَهُنَّ رَغْبَةً وَرَهْبَةً فَأَيُّمَا
امْرَأَةٍ أَعْطَتْ زَوْجَهَا شَيْئًا فَأَرَادَتْ أَنْ تَعْتَصِرَهُ فَهِيَ
أَحَقُّ بِهِ، وَصَحَّ الْقَضَاءُ بِهَا"، عَنْ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَمَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، حَتَّى أَنَّ شُرَيْحًا قَضَى لَهَا بِالرُّجُوعِ
فِيمَا وَهَبَتْ. لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَةَ،
عَنْ غَيْلاَنَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَا
أَدْرَكْتُ الْقُضَاةُ إِلاَّ يُقِيلُونَ الْمَرْأَةَ فِيمَا وَهَبَتْ
لِزَوْجِهَا، وَلاَ يُقِيلُونَ الزَّوْج فِيمَا وَهَبَ لأَمْرَأَتِهِ فَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ بِعُمَرَ وَصَارَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَلاَحَ أَنَّ قَوْلَهُمْ
خِلاَفُ قَوْلِهِ.وَأَمَّا خَبَرُ عُثْمَانَ فَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ رَأْيٌ
مُحْدَثٌ، لأََنَّ فِي نَصِّهِ " أَنَّ أَوَّلَ مَنْ رَدَّ الْهِبَةَ
عُثْمَانَ " وَمَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ فَلاَ حُجَّةَ فِيهِ. ثُمَّ هُوَ
أَيْضًا مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ، لأََنَّ فِيهِ رَدَّ الْهِبَةِ جُمْلَةً بِلاَ
تَخْصِيصِ ذِي رَحِمٍ، وَلاَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ فَصَارُوا
مُخَالِفِينَ لَهُ وَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِهِ.
وَأَمَّا خَبَرُ عَلِيٍّ فَبَاطِلٌ، لأََنَّ أَحَدَ طَرِيقَيْهِ فِيهَا جَابِرٌ
الْجُعْفِيُّ، وَفِي الآخَرِ ابْنُ لَهِيعَةَ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانُوا
مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّ فِي أَحَدِهِمَا الرَّجُلُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ مَا
لَمْ يُثَبْ مِنْهَا دُونَ تَخْصِيصِ ذِي رَحِمٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ أَحَدِ
الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِهَذَا، وَفِي الأُُخْرَى أَيْضًا
كَذَلِكَ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ جُمْلَةً فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِكُلِّ
ذَلِكَ.وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَصَحِيحٌ عَنْهُ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ
فِي الرِّوَايَةِ، عَنْ عُثْمَانَ مِنْ أَنَّهُمْ قَدْ خَالَفُوهُ، لأََنَّ فِيهِ
أَنَّهُ أَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يُثَبْ وَلَيْسَ فِيهِ تَخْصِيصُ ذِي رَحِمٍ
مَحْرَمَةٍ مِنْ غَيْرِهَا، وَلاَ تَخْصِيصُ مَا وَهَبَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ
لِلآخَرِ فَعَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا خَبَرُ فَضَالَةَ فَكَذَلِكَ أَيْضًا وَهُوَ ضَعِيفٌ، لأََنَّهُ، عَنْ
مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ،
لأََنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَا رَحِمٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلاَ تَخْصِيصُ مَا
وَهَبَهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِلآخَرِ وَظَاهِرُ إبْطَالِ هِبَةِ الثَّوَابِ،
فَعَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لاَ لَهُمْ، لأََنَّهُمْ قَدْ
خَالَفُوهُ.
وَأَمَّا خَبَرُ أَبِي الدَّرْدَاءِ فَكُلُّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ. فَعَادَتْ
الأَخْبَارُ كُلُّهَا خِلاَفًا لَهُمْ فَإِنْ
(9/133)
كانَتْ إجْمَاعًا فَقَدْ
خَالَفُوا الإِجْمَاعَ وَإِنْ كَانَتْ حُجَّةَ حَقٍّ لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا
فَقَدْ خَالَفُوا حُجَّةَ الْحَقِّ الَّتِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا، وَإِنْ لَمْ
تَكُنْ حُجَّةً، وَلاَ إجْمَاعًا فَالإِيهَامُ بِإِيرَادِهَا لاَ يَجُوزُ وَقَدْ
رُوِّينَا خِلاَفَ ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ،
أَنَّهُ قَالَ فِي قَضَاءِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بِالْيَمَنِ بَيْنَ أَهْلِهَا قَضَى
أَنَّهُ أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ أَرْضًا عَلَى أَنَّكَ تَسْمَعُ وَتُطِيعُ
فَسَمِعَ لَهُ وَأَطَاعَ، فَهِيَ لِلْمَوْهُوبَةِ لَهُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ
كَذَا وَكَذَا إلَى أَجَلٍ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ، فَهُوَ لِلْوَاهِبِ إذَا جَاءَ
الأَجَلُ، وَأَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ أَرْضًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ فَهِيَ
لِلْمَوْهُوبَةِ لَهُ.وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ:
"كَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: لاَ يُعَادُ فِي الْهِبَةِ".
وبه إلى مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "لاَ يَعُودُ
الرَّجُلُ فِي الْهِبَةِ" فَهَذَا مُعَاذٌ وَالْحَسَنُ، وطَاوُوس يَقُولُونَ
بِقَوْلِنَا سَوَاءً سَوَاءً. وَقَالُوا: "إنَّمَا خَصَصْنَا ذَوِي الرَّحِمِ
الْمَحْرَمَةِ لأََنَّ الْهِبَةَ لَهُمْ مَجْرَى الصَّدَقَةِ وَبَيْنَ
الزَّوْجَيْنِ" لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ
الْمُسْلِمَ إذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً يَحْتَسِبُهَا فَهِيَ لَهُ
صَدَقَةٌ" قَالُوا: وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِي الصَّدَقَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْنَا لَهُمْ: وَالْهِبَةُ لِغَيْرِ ذِي الرَّحِمِ وَلِغَيْرِ
الزَّوْجَةِ أَيْضًا صَدَقَةٌ لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَنْسَوْا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ
رِبْعِيٍّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: "كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ فَهَذَا فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ"
.فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ هِبَةٍ لِمُسْلِمٍ فَهِيَ صَدَقَةٌ، فَإِذْ قَدْ صَحَّ
إجْمَاعٌ عِنْدَهُمْ عَلَى أَنْ لاَ رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ، فَهُمْ أَصْحَابُ
قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، فَهَلاَّ قَاسُوا الْهِبَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَهِيَ
أَشْبَهُ شَيْءٍ بِهَا وَلَكِنَّهُمْ لاَ يُحْسِنُونَ قِيَاسًا، وَلاَ
يَتَّبِعُونَ نَصًّا.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ بَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ فَالْحُجَّةُ
لِقَوْلِنَا هُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَبِقَوْلِهِ
تَعَالَى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ، فَهَذَا مَوْضِعُ الأَحْتِجَاجِ
بِهَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ لاَ حَيْثُ احْتَجُّوا بِهِمَا حَيْثُ بَيَّنَتْ
السُّنَّةُ أَنَّهُ لاَ مَدْخَلَ لَهُ فِيهِمَا وَنَسُوا احْتِجَاجَهُمْ
بِالْمُسْلِمِينَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَأَيْضًا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامُ هُوَ
الدَّسْتُوَائِيُّ وَشُعْبَةُ، قَالاَ جَمِيعًا حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ"
.وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حَدَّثَنَا
أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ
الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ" وَمِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَّامٍ،
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ نَا الْحُسَيْنُ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، قَالاَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ يُعْطِي
الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعُ فِيهَا
(9/134)
إِلاَّ الْوَالِدُ يُعْطِيَ
وَلَدَهُ، وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعُ فِيهَا كَالْكَلْبِ،
أَكَلَ حَتَّى إذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فَرَجَعَ فِي قَيْئِهِ"
فَهَذِهِ الآثَارُ الثَّابِتَةُ الَّتِي لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا، وَلاَ الْخُرُوجُ
عَنْهَا وَمِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "مَثَلُ الَّذِي يَعُودُ فِي صَدَقَتِهِ
مَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ" .
قال أبو محمد: الْحُكْمُ فِي الْعَائِدِ فِي هِبَتِهِ، وَفِي الْعَائِدِ فِي
صَدَقَتِهِ سَوَاءٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مُخْطِئٌ، وَالْعَجَبُ كُلُّهُ قَوْلُهُمْ "
إنَّمَا شَبَّهَهُ بِالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، وَالْكَلْبُ لَيْسَ ذَلِكَ
عَلَيْهِ حَرَامًا فَهَذَا مِثْلُهُ " فَهَنِيئًا لَهُمْ هَذَا الْمَثَلُ
الَّذِي أَبَاحُوا لأََنْفُسِهِمْ الدُّخُولَ فِيهِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه
وسلم يُخْبِرُ أَنَّهُ مَثَلُ السَّوْءِ، فَكَيْفَ وَقَدْ جَاءَ الْخَبَرُ
الصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ، وَالْقَيْءُ عِنْدَهُمْ حَرَامٌ
لاَ نَدْرِي بِمَاذَاوَأَمَّا عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَبِهَذَا النَّصِّ. وَأَطَمُّ
شَيْءٍ قَوْلُ بَعْضِهِمْ " لاَ يَمْنَعُ كَوْنُهُ حَرَامًا مِنْ جَوَازِهِ
" وَهَذَا هَتْكُ الإِسْلاَمِ جِهَارًا. وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَيْضًا
قَوْلُهُمْ إنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ
يُعْطِي الْعَطِيَّةَ فَيَرْجِعُ فِيهَا إِلاَّ الْوَالِدُ يُعْطِي وَلَدَهُ
أَنَّهُ عليه السلام أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا احْتَاجَ الْوَالِدُ فَيَأْخُذُ
نَفَقَتَهُ.
قال أبو محمد: الْكَذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهُمْ
سَهْلٌ خَفِيفٌ، وَهَلْ فَهِمَ أَحَدٌ قَطُّ مِنْ هَذَا الْكَلاَمِ هَذَا
الْمَعْنَى، وَقَدْ عَلِمَ الْجَمِيعُ أَنَّ الأَبَ إذَا احْتَاجَ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ
فِيمَا أَعْطَى وَلَدَهُ دُونَ سَائِرِ مَالِهِ الَّذِي لَمْ يُعْطِهِ إيَّاهُ.
وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَأَمَّا جَعْلُنَا لِلْجَدِّ
وَلِلأُُمِّ الرُّجُوعَ فِيمَا أَعْطَيَا لأَبْنِ الأَبْنِ وَلِلأَبْنِ عُمُومًا
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى" {يَا بَنِي آدَمَ} وَقَالَ تَعَالَى: {كَمَا
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ} فَجَعَلَ تَعَالَى الْجَدَّ وَالْجَدَّةَ
أَبَوَيْنِ، وَالأُُمَّ وَالِدَةً تَقَعُ عَلَى الْجِنْسِ، وَهِيَ فِيهِ اسْمُ
الْوَالِدِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا
إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، هُوَ
ابْنُ أَبِي الشَّوَارِبِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ،
عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
يَعْتَصِرُ الرَّجُلُ مِنْ وَلَدِهِ مَا أَعْطَاهُ، مَا لَمْ يَمُتْ، أَوْ
يَسْتَهْلِك، أَوْ يَقَعُ فِيهِ دَيْنٌ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ،
حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا أَبُو ثَابِتٍ
الْمَدِينِيُّ ني ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ أَنَّ مُوسَى بْنَ سَعْدٍ حَدَّثَهُ أَنَّ سَعْدًا مَوْلَى الزُّبَيْرِ
نَحَلَ ابْنَتَهُ جَارِيَةً فَلَمَّا تَزَوَّجَتْ أَرَادَ ارْتِجَاعَهَا فَقَضَى
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَّ الْوَالِدَ يَعْتَصِرُ مَا دَامَ يَرَى مَالَهُ،
مَا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهَا فَتَقَعُ فِي مِيرَاثٍ أَوْ تَكُونُ امْرَأَةً
تُنْكَحُ، ثُمَّ تَلاَهُ عُثْمَانُ عَلَى ذَلِكَ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَجُلاً وَهَبَ
لأَبْنِهِ نَاقَةً فَرَجَعَ فِيهَا، فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِعَيْنِهَا، وَجَعَلَ نَمَاهَا لأَبْنِهِ. قَالُوا: فَهَذَا
عَمَلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ
(9/135)
رضي الله عنهم.
قال أبو محمد: وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ عُمَرَ، وَابْنِهِ، بِأَصَحَّ مِنْ هَذَا
السَّنَدِ رُجُوعُ الْمَرْءِ فِيمَا وَهَبَ مَا لَمْ يُثَبْ إِلاَّ لِذِي رَحِمٍ.
وَعَنْ عُثْمَانَ مِثْلُهُ فَمَا الَّذِي جَعَلَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ أَوْلَى مِنْ
تِلْكَ؟ فَكَيْفَ وَقَدْ خَالَفُوا هَذِهِ أَيْضًا، لأََنَّهُمْ يَقُولُونَ:
"إنَّمَا لِلأَبِ الأَرْتِجَاعُ فِي ذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ فَقَطْ"،
وَلَيْسَ هَذَا فِيمَا رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَيَقُولُونَ:
"لَيْسَ لِلأَبِ الأَرْتِجَاعُ فِيمَا وَهَبَ ابْنَهُ لِلَّهِ
تَعَالَى"، وَلَيْسَ هَذَا فِيمَا رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
وَحَاشَا لَهُمَا: أَنْ يُجِيزَا هِبَةً لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا لَمْ
تَكُنْ لِلَّهِ فَهِيَ لِلشَّيْطَانِ. فَحَصَلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمَالِكٍ، لاَ حُجَّةَ لَهُمَا أَصْلاً، وَمُخَالِفًا لِكُلِّ مَا أَظْهَرُوا
أَنَّهُمْ تَعَلَّقُوا بِهِ عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
(9/136)
1630 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ تَغَيَّرَتْ الْهِبَةُ عِنْدَ الْوَلَدِ حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهَا الأَسْمُ، أَوْ خَرَجَتْ، عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ مَاتَ، أَوْ صَارَتْ لاَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهَا فَلاَ رُجُوعَ لِلأَبِ فِيهِ، لأََنَّهَا إذَا تَغَيَّرَتْ فَهِيَ غَيْرُ مَا جَعَلَ لَهُ صلى الله عليه وسلم الرُّجُوعَ فِيهِ، وَإِذَا خَرَجَتْ، عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ مَاتَ، فَلاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الرُّجُوعَ عَلَيْهِ وَإِذَا بَطَلَ تَمَلُّكُهَا، فَلاَ تَمَلُّكَ لِلأَبِ فِيهَا أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/136)
ولا تنفذ هبة ولا صدقة لا حد الا
فيما ابقى
...
1631 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَنْفُذُ هِبَةٌ، وَلاَ صَدَقَةٌ لأََحَدٍ إِلاَّ فِيمَا
أَبْقَى لَهُ وَلِعِيَالِهِ غِنًى، فَإِنْ أَعْطَى مَا لاَ يَبْقَى لِنَفْسِهِ
وَعِيَالِهِ بَعْدَهُ غِنًى فُسِخَ كُلَّهُ.
برهان ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ
سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ
حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَعْرُوفٍ
صَدَقَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ
سَوَادٍ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ
ظَهْرِ غِنًى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ". وَرُوِّينَا مَعْنَاهُ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم.وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ
سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ
حَدَّثَهُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَفْضَلُ
الصَّدَقَةِ مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى". فَإِذًا كُلُّ مَعْرُوفٍ
صَدَقَةٌ، وَأَفْضَلُ الصَّدَقَةِ وَخَيْرُهَا مَا كَانَ، عَنْ ظَهْرِ غِنًى، فَبِلاَ
شَكٍّ وَبِالضَّرُورَةِ: أَنَّ مَا زَادَ فِي الصَّدَقَةِ وَنَقَصَ مِنْ
الْخَيْرِ، وَالأَفْضَلِ فَلاَ أَجْرَ فِيهِ، وَلاَ خَيْرَ فِيهِ، وَلاَ فَضْلَ
فِيهِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِذَا كَانَ بَاطِلاً، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ فَهَذَا مُحَرَّمٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ.وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلاَنَ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ
الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
(9/136)
ولا يحل لا حد أن يهب ولا أن
يتصدق على احد من ولده
...
1632 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَهَبَ، وَلاَ أَنْ يَتَصَدَّقَ
عَلَى أَحَدٍ مِنْ وَلَدِهِ إِلاَّ حَتَّى يُعْطِيَ أَوْ يَتَصَدَّقَ عَلَى كُلِّ
وَاحِدِ مِنْهُمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ . وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُفَضِّلَ ذَكَرًا عَلَى
أُنْثَى، وَلاَ أُنْثَى عَلَى ذَكَرٍ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مَفْسُوخٌ مَرْدُودٌ
أَبَدًا، وَلاَ بُدَّ، وَإِنَّمَا هَذَا فِي التَّطَوُّعِ وَأَمَّا فِي
النَّفَقَاتِ الْوَاجِبَاتِ فَلاَ، وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ الْوَاجِبَةُ. لَكِنْ
يُنْفِقُ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ بِحَسْبِ حَاجَتِهِ، وَيُنْفِقُ عَلَى
الْفَقِيرِ مِنْهُمْ دُونَ الْغَنِيِّ، وَلاَ يَلْزَمُهُ مَا ذَكَرْنَا فِي وَلَدِ
الْوَلَدِ، وَلاَ فِي أُمَّهَاتِهِمْ، وَلاَ فِي نِسَائِهِمْ، وَلاَ فِي
رَقِيقِهِمْ، وَلاَ فِي غَيْرِ وَلَدٍ، بَلْ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ بِمَالِهِ كُلَّ
مَنْ أَحَبَّ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ
فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ كَمَا أَعْطَاهُمْ، أَوْ يُشْرِكَهُمْ فِيمَا
أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ تَغَيَّرَتْ عَيْنُ الْعَطِيَّةِ مَا لَمْ يَمُتْ أَحَدُهُمْ
فَيَصِيرُ مَالُهُ لِغَيْرِهِ، فَعَلَى الأَبِ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطِيَ هَذَا
الْوَلَدَ، كَمَا أَعْطَى غَيْرَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أُعْطِيَ مِمَّا تَرَكَ
أَبُوهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مِثْلَ ذَلِكَ.وَرُوِيَ ذَلِكَ، عَنْ جُمْهُورِ
السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ
قَسَمَ مَالَهُ بَيْنَ بَنِيهِ فِي حَيَاتِهِ فَوُلِدَ لَهُ بَعْدَ مَا مَاتَ
فَلَقِيَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ: "مَا نِمْت اللَّيْلَةَ مِنْ
أَجْلِ ابْنِ سَعْدٍ هَذَا الْمَوْلُودُ لَمْ يُتْرَكْ لَهُ شَيْءٌ" فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ: "وَأَنَا وَاَللَّهِ، فَانْطَلِقْ بِنَا إلَى قَيْسِ بْنِ
سَعْدٍ نُكَلِّمُهُ فِي أَخِيهِ، فَأَتَيْنَاهُ فَكَلَّمْنَاهُ فَقَالَ قَيْسٌ:
أَمَّا شَيْءٌ أَمْضَاهُ سَعْدٌ فَلاَ أَرُدُّهُ أَبَدًا، وَلَكِنْ أُشْهِدُكُمَا
أَنَّ نَصِيبِي لَهُ".
قال أبو محمد: قَدْ زَادَ قَيْسٌ عَلَى حَقِّهِ، وَإِقْرَارُ أَبِي بَكْرٍ
لِتِلْكَ الْقِسْمَةِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ
(9/142)
اعْتِدَالِهَا.وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ
أَنَّ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ
لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: "يَا بُنَيَّةُ، إنِّي نَحَلْتُك نَخْلاً
مِنْ خَيْبَرَ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ آثَرْتُك عَلَى وَلَدِي، وَإِنَّك
لَمْ تَكُونِي احْتَزْتِيهِ، فَرُدِّيهِ عَلَى وَلَدِي فَقَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ
لَوْ كَانَتْ لِي خَيْبَرُ بِجِدَادِهَا ذَهَبًا لَرَدَدْتُهَا".وَمِنْ
طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ
الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ
حَكِيم بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِيهِ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ أَنَّ أَبَاهُ
حَيْدَةَ كَانَ لَهُ بَنُونَ لِعَلَّاتٍ أَصَاغِرُ وَلَدِهِ، وَكَانَ لَهُ مَالٌ
كَثِيرٌ فَجَعَلَهُ لِبَنِي عَلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَخَرَجَ ابْنُهُ مُعَاوِيَةُ
حَتَّى قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَخَيَّرَ
عُثْمَانُ الشَّيْخَ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ مَالَهُ وَبَيْنَ أَنْ
يُوَزِّعَهُ بَيْنَهُمْ فَارْتَدَّ مَالُهُ فَلَمَّا مَاتَ تَرَكَهُ الأَكَابِرُ
لأَِخْوَتِهِمْ. وبه إلى إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ
الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَنْ نَحَلَ وَلَدًا لَهُ نُحْلاً
دُونَ بَنِيهِ فَمَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: يُرَدُّ مِنْ
حَيْفِ النَّاحِلِ الْحَيِّ مَا يُرَدُّ مِنْ حَيْفِ الْمَيِّتِ مِنْ
وَصِيَّتِهِ.وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي الْوَلَدِ: لاَ يُفَضَّلُ
أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ بِشَعْرَةٍ، النُّحْلُ بَاطِلٌ، هُوَ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ، اعْدِلْ بَيْنَهُمْ كِبَارًا وَأَبِنْهُمْ بِهِ، قَالَ ابْنُ
جُرَيْجٍ: قُلْت لَهُ: هَلَكَ بَعْضُ نُحْلِهِمْ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُمْ قَالَ:
لِلَّذِي نَحَلَهُ مِثْلُهُ مِنْ مَالِ أَبِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي
رَبَاحٍ فَقُلْت: أَرَدْت أَنْ أُفَضِّلَ بَعْضَ وَلَدِي فِي نُحْلٍ أَنْحَلُهُ
فَقَالَ: لاَ، وَأَبَى إبَاءً شَدِيدًا وَقَالَ: سَوِّ بَيْنَهُمْ. وبه إلى عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: يَنْحَلُ وَلَدَهُ أَيُسَوَّى
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبٍ وَزَوْجَةٍ قَالَ: لَمْ يُذْكَرْ إِلاَّ الْوَلَدَ، لَمْ
أَسْمَعْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَهَؤُلاَءِ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَقَيْسُ بْنُ
سَعْدٍ، وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ، رضي الله
عنهم، لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، ثُمَّ مُجَاهِدٌ، وطَاوُوس
وَعَطَاءٌ، وَعُرْوَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ،
وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَجَمِيعِ أَصْحَابِنَا. ثُمَّ
اخْتَلَفُوا، فَقَالَ شُرَيْحٌ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، الْعَدْلُ أَنْ يُعْطِيَ
الذَّكَرَ حَظَّيْنِ وَالأُُنْثَى حَظًّا وَقَالَ غَيْرُهُمْ: بِالسَّوِيَّةِ فِي
ذَلِكَ.
وَرُوِّينَا خِلاَفَ ذَلِكَ، وَإِجَازَةُ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْوَلَدِ عَلَى
بَعْضٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَرَبِيعَةَ وَغَيْرِهِمَا.
وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَكَرِهَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَأَجَازَهُ إنْ وَقَعَ. وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَنْحَلَ بَعْضَ
(9/143)
وَلَدِهِ مَالَهُ كُلَّهُ وَذَكَرُوا، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، قِصَّةَ أَبِي بَكْرٍ وَعَائِشَةَ، وَقَوْلَ عُمَرَ مَنْ نَحَلَ وَلَدًا لَهُ.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَطَعَ ثَلاَثَةَ أَرْؤُسٍ أَوْ أَرْبَعَةً لِبَعْضِ وَلَدِهِ دُونَ بَعْضٍ، قَالَ بُكَيْر: وَحَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَنْصَارِيُّ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ عُمَرَ إذْ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: "هَذِهِ الأَرْضُ لأَبْنِي وَاقِدٍ، فَإِنَّهُ مِسْكِينٌ، نَحَلَهُ إيَّاهَا دُونَ وَلَدِهِ". قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: "وَبَلَغَنِيعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ نَحَلَ ابْنَتَهُ مِنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَرْبَعَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ وَلَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِهَا". وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ ذِي مَالٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ" وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ هَذَا. وَوَجَدْنَا مَنْ قَالَ بِقَوْلِنَا يَحْتَجُّ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَأَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنِ أَبِي عُمَرَ، وَقُتَيْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَحَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ يَحْيَى: حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَإِسْحَاقُ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ كُلُّهُمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَقَالَ قُتَيْبَةُ، وَابْنُ رُمْحٍ، كِلاَهُمَا، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، وَقَالَ عَبْد، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنَا مَعْمَرٌ، ثُمَّ اتَّفَقَ إبْرَاهِيمُ، وَسُفْيَانُ، وَاللَّيْثُ وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، كُلُّهُمْ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كِلاَهُمَا، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: أَتَى بِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا، فَقَالَ: أَكُلُّ بَنِيكَ نَحَلْتَ قَالَ: لاَ، فَارْدُدْهُ هَذَا لَفْظُ إبْرَاهِيمَ، وَيُونُسَ، وَمَعْمَرٍ، وَقَالَ سُفْيَانُ، وَاللَّيْثُ: أَكُلُّ وَلَدِك نَحَلْتَ وَاتَّفَقُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ. مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ: أَنَّ أَبَاهُ أَتَى بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا" فَقَالَ: أَكُلُّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَهُ قَالَ لاَ قَالَ: فَارْجِعْهُ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا نَصًّا مِنْ طَرِيقِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، كِلاَهُمَا، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ".وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، كُلُّهُمْ يَقُولُ فِيهِ " إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: رُدَّهُ، أَوْ اُرْدُدْهُ". وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الشَّعْبِيِّ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَعْطَيْت ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عليه السلام:
(9/144)
أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ
مِثْلَ هَذَا قَالَ: لاَ، قَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ
ارْجِعْ فَرُدَّ عَطِيَّتَهُ" .وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: تَصَدَّقَ
عَلَيَّ أَبِي بِبَعْضِ مَالِهِ، فَانْطَلَقَ أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ عَلَى صَدَقَتِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: أَفَعَلْتَ هَذَا بِوَلَدِكَ كُلِّهِمْ قَالَ : لاَ, قَالَ: "اتَّقُوا
اللَّهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلاَدِكُمْ فَرَجَعَ أَبِي فَرَدَّ تِلْكَ
الصَّدَقَةَ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ هُوَ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ التَّيْمِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ حَدَّثَنِي النُّعْمَانُ
بْنُ بَشِيرٍ، فَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ، وَفِيهِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَلاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ" فَكَانَتْ هَذِهِ
الآثَارُ مُتَوَاتِرَةً مُتَظَاهِرَةً: الشَّعْبِيُّ، وَعُرْوَةُ بْنُ
الزُّبَيْرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ، وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
كُلُّهُمْ سَمِعَهُ مِنْ النُّعْمَانِ. وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ الْحُفَلاَءُ
مِنْ الأَئِمَّةِ كُلِّهِمْ مُتَّفِقٌ عَلَى أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بِفَسْخِ تِلْكَ الصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ وَرَدِّهَا، وَبَيَّنَ
بَعْضُهُمْ أَنَّهَا رُدَّتْ، وَأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَخْبَرَ أَنَّهَا
جَوْرٌ وَالْجَوْرُ لاَ يَحِلُّ إمْضَاؤُهُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْ
جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ إمْضَاءُ كُلِّ جَوْرٍ وَكُلِّ ظُلْمٍ، وَهَذَا هَدْمُ
الإِسْلاَمِ جِهَارًا. فَوَجَدْنَا الْمُخَالِفِينَ قَدْ تَعَلَّلُوا بِهَذَا فِي
هَذَا بِأَنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ وَهَبَهُ جَمِيعَ مَالِهِ.فَقُلْنَا:
سُبْحَانَ اللَّهِ فِي نَصِّ الْحَدِيثِ " بَعْضَ مَالِهِ " وَفِي
بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الثَّابِتَةِ " بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ
". وَقَالَ آخَرُونَ: رَوَى هَذَا الْخَبَرَ دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ لِبَشِيرٍ: فَأَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا
أُولَئِكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءٌ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَلاَ إذًا". وَرَوَاهُ
الْمُغِيرَةُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ النُّعْمَانِ وَقَالَ فِيهِ فَأَشْهِدْ
عَلَى هَذَا غَيْرِي. فَقُلْنَا: هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ،لأََنَّ قَوْلَهُ عليه
السلام: " فَلاَ إذًا " نَهْيٌ صَحِيحٌ كَافٍ لِمَنْ عَقَلَ. وَقَوْلُهُ
عليه الصلاة والسلام: "أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي" لَوْ لَمْ يَأْتِ
إِلاَّ هَذَا اللَّفْظُ لَمَا كَانَ لَكُمْ فِيهِ مُتَعَلَّقٌ,وَأَمَّا وَقَدْ
رَوَى مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ الْمُغِيرَةِ وَدَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ
الزِّيَادَةَ الثَّابِتَةَ الَّتِي لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ الْخُرُوجُ عَنْهَا مِنْ
أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام بِرَدِّ تِلْكَ الصَّدَقَةِ وَالْعَطِيَّةِ
وَارْتِجَاعِهَا فَصَحَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ، وَبِإِخْبَارِ عليه الصلاة
والسلام أَنَّهُ جَوْرٌ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي
إنَّمَا هُوَ الْوَعِيدُ كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلاَ
تَشْهَدْ مَعَهُمْ} لَيْسَ عَلَى إبَاحَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْجَوْرِ
وَالْبَاطِلِ، لَكِنْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} {وكُلُوا
وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} وَحَاشَ لَهُ عليه السلام أَنْ
يُبِيحَ لأََحَدٍ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ هُوَ أَنَّهُ جَوْرٌ،
وَأَنْ يُمْضِيَهُ، وَلاَ يَرُدَّهُ، هَذَا مَا لاَ يُجِيزُهُ مُسْلِمٌ، وَيَكْفِي
مِنْ هَذَا أَنْ نَقُولَ:
(9/145)
تِلْكَ الْعَطِيَّةُ
وَالصَّدَقَةُ أَحَقٌّ جَائِزٌ هِيَ أَمْ بَاطِلٌ غَيْرُ جَائِزٍ. وَلاَ سَبِيلَ
إلَى قِسْمٍ ثَالِثٍ فَإِنْ قَالُوا: حَقٌّ جَائِزٌ أَعْظَمُوا الْفِرْيَةَ إذْ
أَخْبَرُوا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَبَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْحَقِّ
وَهُوَ الَّذِي أَتَانَا عَنْ رَبِّنَا تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ
يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَلاَ يُضَارَّ
كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} وَإِنْ قَالُوا: إنَّهَا بَاطِلٌ غَيْرُ جَائِزٍ
أَعْظَمُوا الْفِرْيَةَ إذْ أَخْبَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
حَكَمَ بِالْبَاطِلِ، وَأَنْفَذَ الْجَوْرَ وَأَمَرَ بِالإِشْهَادِ عَلَى عَقْدِهِ
وَكِلاَ الْقَوْلَيْنِ مُخْرِجٌ إلَى الْكُفْرِ بِلاَ مِرْيَةٍ وَلاَ بُدَّ مِنْ
أَحَدِهِمَا, وَزَادَ بَعْضُهُمْ ضَلاَلاً وَفِرْيَةً فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ
عليه الصلاة والسلام "أَشْهِدْ عَلَى هَذَا غَيْرِي" أَيْ إنِّي إمَامٌ
وَالإِمَامُ لاَ يَشْهَدُ، فَجَمَعُوا فِرْيَتَيْنِ، إحْدَاهُمَا الْكَذِبُ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَقْوِيلِهِ مَا لَمْ يَقُلْ
فَلْيَتَبَوَّأْ مَنْ أَطْلَقَ هَذَا مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وَالثَّانِيَةُ
قَوْلُهُمْ" إنَّ الإِمَامَ لاَ يَشْهَدُ، فَقَدْ كَذَبُوا وَأَفِكُوا فِي
ذَلِكَ، بَلْ الإِمَامُ يَشْهَدُ، لأََنَّهُ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ الْمُخَاطَبِينَ
بِأَنْ لاَ يَأْبَوْا إذَا دُعُوا، وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" {كُونُوا
قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ
الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فَهَذَا أَمْرٌ لِلأَئِمَّةِ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ
مِرْيَةٍ. وَالْعَجَبُ مِنْ قِلَّةِ حَيَاءِ هَذَا الْقَائِلِ، وَمِنْ قَوْلِهِ
وَمَذْهَبِهِ أَنَّ الإِمَامَ إذَا شَهِدَ عِنْدَ حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِهِ جَازَتْ
شَهَادَتُهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَشْهَدَ لَمَا جَازَتْ
شَهَادَتُهُ. ثُمَّ أَتَى بَعْضُهُمْ بِمَا كَانَ الْخَرَسُ أَوْلَى بِهِ فَقَالَ:
لَعَلَّ النُّعْمَانَ كَانَ كَبِيرًا وَلَمْ يَكُنْ قَبَضَ النُّحْلَ وَقَائِلُ
هَذَا إمَّا فِي نِصَابِ التُّيُوسِ جَهْلاً وَأَمَّا مَنْزُوعُ الْحَيَاءِ
وَالدِّينِ، لأََنَّ صِغَرَ النُّعْمَانِ أَشْهَرُ مِنْ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُ
وُلِدَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ،
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَبِي حَيَّانَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ
النُّعْمَانِ، " وَأَنَا يَوْمِئِذٍ غُلاَمٌ "، وَلاَ تُطْلَقُ هَذِهِ
اللَّفْظَةُ عَلَى رَجُلٍ بَالِغٍ أَصْلاً. وقال بعضهم لَمْ يَكُنْ النُّحْلُ
تَمَّ إنَّمَا كَانَ اسْتِشَارَةً وَمَوَّهُوا بِرِوَايَةِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي
حَمْزَةَ بِهَذَا الْخَبَرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ فِيهِ، عَنِ النُّعْمَانِ
نَحَلَنِي أَبِي غُلاَمًا ثُمَّ جَاءَ بِي إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فَقَالَ: إنِّي نَحَلْتُ ابْنِي هَذَا غُلاَمًا فَإِنْ أَذِنْتَ لِي أَنْ
أُجِيزَهُ أَجَزْتُهُ.
قال أبو محمد: لَوْلاَ عَمَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ وَضَلاَلِهِمْ مَا تَمَكَّنَ
الْهَوَى مِنْهُمْ هَذَا التَّمَكُّنُ، هُمْ يَسْمَعُونَ فِي أَوَّلِ الْخَبَرِ
" نَحَلَنِي أَبِي غُلاَمًا " وَفِي وَسَطِهِ " يَا رَسُولَ
اللَّهِ نَحَلْت ابْنِي هَذَا غُلاَمًا " وَيَقُولُونَ: لَمْ يَتِمَّ
النُّحْلُ. وَقَوْلُ بَشِيرٍ " فَإِنْ أَذِنْت لِي أَنْ أُجِيزَهُ أَجَزْته
" قَوْلٌ صَحِيحٌ، وَقَوْلُ مُؤْمِنٍ لاَ يَعْمَلُ إِلاَّ مَا أَبَاحَهُ لَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ظَاهِرِهِ بِلاَ تَأْوِيلٍ، نَعَمْ إنْ
أَجَازَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَجَازَهُ بَشِيرٌ وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ
عليه الصلاة والسلام رَدَّهُ بَشِيرٌ وَلَمْ يُجِزْهُ كَمَا فَعَلَ. وَذَكَرُوا
أَيْضًا رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ لِهَذَا الْخَبَرِعَنِ
الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: نَحَلَنِي أَبِي نُحْلاً
ثُمَّ أَتَى بِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(9/146)
لِيُشْهِدَهُ فَقَالَ "
أَكُلُّ وَلَدِكَ أَعْطَيْتَهُ هَذَا قَالَ: لاَقَالَ: أَلَيْسَ تُرِيدُ مِنْهُمْ
الْبِرَّ مِثْلَ مَا تُرِيدُ مِنْ ذَا قَالَ: بَلَى قَالَ: فَإِنِّي لاَ
أَشْهَدُ" قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَحَدَّثْتُ بِهِ ابْنَ سِيرِينَ، فَقَالَ:
إنَّمَا حَدَّثَنَا, أَنَّهُ قَالَ: قَارِبُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْقَوْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ أَعْظَمُ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ لِمَا
ذَكَرْنَا لِمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لاَ يَشْهَدُ عَلَى بَاطِلٍ،
وَهَذَا بَاطِلٌ، إذْ لَمْ يَسْتَجِزْ عليه السلام أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ
وَهَكَذَا رِوَايَةُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ،
عَنْ سَعِيدٍ لِهَذَا الْخَبَرِ وَفِيهِ لاَ أَشْهَدُ.وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ
سِيرِينَ: قَارِبُوا بَيْنَ أَبْنَائِكُمْ، فَمُنْقَطِعٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ
حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُ أَمَرَ بِالْمُقَارَبَةِ وَنَهَى، عَنْ
خِلاَفِهَا، وَهُمْ يُجِيزُونَ خِلاَفَ الْمُقَارَبَةِ، وَلاَ يُوجِبُونَ
الْمُقَارَبَةَ، فَمَنْ أَضَلُّ مِنْ هَؤُلاَءِ الْمَحْرُومِينَ.
وَالْمُقَارَبَةُ: هُوَ الأَجْتِهَادُ فِي التَّعْدِيلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ
تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فَصَحَّ أَنَّ
الْمُجْتَهِدَ فِي التَّعْدِيلِ بَيْنَ أَوْلاَدِهِ إنْ لَمْ يُصَادِفْ حَقِيقَةَ
التَّعْدِيلِ كَانَ مُقَارِبًا، إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ.وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا احْتِجَاجُهُمْ بِرِوَايَةِ زُهَيْرِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ لِهَذَا الْخَبَرِ قَالَ
جَابِرٌ: قَالَتْ امْرَأَةُ بَشِيرٍ: انْحَلْ ابْنِي غُلاَمَكَ هَذَا، أَشْهِدْ
لِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَلَهُ إخْوَةٌ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَكُلُّهُمْ أَعْطَيْتَهُ مِثْلَ مَا
أَعْطَيْتَهُ قَالَ: لاَ قَالَ: " فَلَيْسَ يَصْلُحُ هَذَا، أَلاَ وَإِنِّي
لاَ أَشْهَدُ إِلاَّ عَلَى حَقٍّ".
قال أبو محمد: أَفَيَكُونُ أَعْجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِهَذَا الْخَبَرِ وَهُوَ
أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، لأََنَّ فِي أَوَّلِهِ لَيْسَ يَصْلُحُ وَفِي
آخِرِهِ إنِّي لاَ أَشْهَدُ إِلاَّ عَلَى حَقٍّ فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ حَقًّا،
وَإِذْ لَيْسَ حَقًّا فَهُوَ بَاطِلٌ وَضَلاَلٌ قَالَ تَعَالَى: {فَمَاذَا بَعْدَ
الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} فَإِنْ قَالُوا: فَقَدْ قَالَ عليه الصلاة والسلام
"لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَبِيعَ" فِي حَدِيثِ الشُّفْعَةِ، ثُمَّ
أَجَزْتُمُوهُ إذَا أَجَازَهُ الشَّفِيعُ وَنَهَى عليه الصلاة والسلام عَنِ
النَّذْرِ، ثُمَّ أَوْجَبْتُمُوهُ إذَا وَقَعَ.قلنا: نَعَمْ، لأََنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ الْخِيَارَ لِلشَّفِيعِ إنْ شَاءَ أَخَذَ
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ، وَفِي تَرْكِهِ إقْرَارُ ذَلِكَ الْبَيْعِ، فَوَقَفْنَا
عِنْدَ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام فِي ذَلِكَ. وَنَهَى عليه السلام عَنِ
النَّذْرِ ثُمَّ أَمَرَ بِالْوَفَاءِ بِهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُسْتَخْرَجُ بِهِ
مِنْ الْبَخِيلِ فَوَقَفْنَا عِنْدَ أَمْرِهِ، فَبَانُونَ فِي هَذَا الْبَابِ
أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَمْضَاهُ بَعْدَ أَنْ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ وَنَحْنُ
أَوَّلُ سَامِعٍ وَمُطِيعٍ، وَذَلِكَ مَا لاَ يَجِدُونَهُ أَبَدًا. وَأَتَى
بَعْضُهُمْ بِآبِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُ ذَكَرَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ فِطْرِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ مُسْلِمِ
بْنِ صُبَيْحٍ هُوَ أَبُو الضُّحَى سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُول:
ذَهَبَ بِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي شَيْءٍ
أَعْطَانِيهِ "فَقَالَ: أَلَكَ وَلَدٌ غَيْرُهُ قَالَ: نَعَمْ، وَصَفَّ
بِيَدِهِ أَجْمَعَ كُلِّهِ كَذَا، أَلاَ سَوَّيْتَ بَيْنَهُمْ".
(9/147)
قال أبو محمد: إنَّ مَنْ عَارَضَ
رِوَايَةَ كُلِّ مَنْ ذَكَرْنَا بِرِوَايَةِ فِطْرٍ لَمَخْذُولٌ، وَفِطْرٌ ضَعِيفٌ
وَلَوْلاَ أَنَّ سُفْيَانَ رَوَاهُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ النُّعْمَانِ مَا
كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّ سَائِرَ الرِّوَايَاتِ زَائِدَةٌ حُكْمًا
وَلَفْظًا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَة، فَكَيْفَ وَقَدْ رُوِّينَا فِي حَدِيثِ
فِطْرٍ هَذَا مِنْ طَرِيقِ مَنْ إنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ
لَمْ يَكُنْ دُونَهُ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ فِطْرٍ نْ
مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ يَقُولُ:
"جَاءَ بِي أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُشْهِدَهُ
عَلَى عَطِيَّةٍ أَعْطَانِيهَا فَقَالَ: هَلْ لَكَ بَنُونَ سِوَاهُ قَالَ: نَعَمْ
قَالَ: سَوِّبَيْنَهُمْ" فَهَذَا إيجَابٌ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ, وَقَدْ
حَمَلَ الْمَالِكِيُّونَ أَمْرَهُ عليه الصلاة والسلام بِالتَّكْبِيرِ عَلَى
الْفَرْضِ بِمُجَرَّدِ الأَمْرِ وَحَمَلَ الْحَنَفِيُّونَ أَمْرَهُ عليه الصلاة
والسلام بِالإِعَادَةِ مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الإِمَامِ عَلَى الْفَرْضِ بِمُجَرَّدِ
الأَمْرِ وَمَا زَالُوا يَهْجُمُونَ عَلَى وُجُوهِ السُّخْفِ مُعَارَضَةً
لِلْحَقِّ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة
والسلام أَتَى بِخَرَزٍ فَقَسَمَهُ لِلْحُرَّةِ وَالأَمَةِ.
قال أبو محمد: أَيُّ شَبَهٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام
بِأَنْ يَرُدَّ تِلْكَ الصَّدَقَةَ وَالْعَطِيَّةَ وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهَا
جَوْرٌ لَوْ عَقَلُوا: فَبَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ كُلُّ ذِي مَالٍ أَحَقُّ بِمَالِهِ فَصَحِيحٌ، فَقَدْ قَالَ
تَعَالَى مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَالَ تَعَالَى:
{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} فَاَلَّذِي حَكَمَ
بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَفَسَخَ أَجْرَ الْبَغِيِّ، وَحُلْوَانَ الْكَاهِنِ،
وَبَيْعَ الْخَمْرِ، وَبَيْعَ أُمِّ الْوَلَدِ وَبَيْعَ الرِّبَا، هُوَ الَّذِي
فَسَخَ الصَّدَقَةَ وَالْعَطِيَّةَ الْمُفَضَّلَ فِيهَا بَعْضُ الْوَلَدِ عَلَى
بَعْضٍ، وَلَوْ أَنَّهُمْ اعْتَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الأَعْتِرَاضِ فِي
إبْطَالِهِمْ النُّحْلَ وَالصَّدَقَةَ الَّتِي لَمْ تُقْبَضْ لَكَانَ أَصَحَّ
وَأَثْبَتَ وَلَكِنَّهُمْ كَالسُّكَارَى يَخْبِطُونَ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ
بِأَنَّهُ عَمَلُ النَّاسِ.فَقُلْنَا: عَمَلُ النَّاسِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ
الْبَاطِلُ. وَقَالَ أَنَسٌ: مَا أَعْرِفُ مِمَّا أَدْرَكْت النَّاسَ عَلَيْهِ
إِلاَّ الصَّلاَةَ. وقال بعضهم: لَمَّا جَازَتْ مُفَاضَلَةُ الإِخْوَةِ جَازَتْ
مُفَاضَلَةُ الأَوْلاَدِ قلنا: هَذَا حُكْمُ إبْلِيسَ وَهَلَّا قُلْتُمْ: لَمَّا
جَازَ الْقَوَدُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ جَازَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَوَلَدِهِ؟
فَكَانَ أَصَحَّ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَا مَوَّهُوا بِهِ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،
فَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ قَدْ
أَوْرَدْنَاهُ بِخِلاَفِ مَا أَوْرَدُوهُ.وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
مَنْ نَحَلَ وَلَدَهُ نُحْلاً، فَنَحْنُ لَمْ نَمْنَعْ نُحْلَ الْوَلَدِ
وَإِنَّمَا مَنَعْنَا الْمُفَاضَلَةَ، وَلَيْسَ فِي كَلاَمِهِمَا إبَاحَةُ
الْمُفَاضَلَةِ، كَمَا لَيْسَ فِيهِ إبَاحَةُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخَنَازِيرِ،
وَلاَ فَرْقَ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُمَا الْمَنْعُ مِنْهَا، كَمَا أَوْرَدْنَا.وَأَمَّا
الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يَنْحَلْ
الآخَرِينَ قَبْلُ، وَلاَ بَعْدُ بِمِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ فِيهَا، أَنَّهُ قَالَ:
وَاقِدٌ ابْنِي مِسْكِينٌ.
فَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَحَلَهُ بَعْدُ كَمَا نَحَلَ إخْوَتَهُ
(9/148)
فَأَلْحَقهُ بِهِمْ،
وَأَخْرَجَهُ، عَنِ الْمَسْكَنَةِ، عَلَى أَنَّهَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ
وَهُوَ سَاقِطٌ.وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الرِّوَايَةِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
هِيَ أَيْضًا مُنْقَطِعَةٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ فَلَيْسَ فِيهَا أَنَّهُ لَمْ يُسَوِّ
قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ بَيْنَهُمْ، فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا النَّفَقَاتُ الْوَاجِبَاتُ: فَقَوْلُهُ عليه الصلاة
والسلام اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ إيجَابٌ لاََنْ يُنْفِقَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مَا لاَ قَوَامَ لَهُ إِلاَّ بِهِ، وَمَنْ تَعَدَّى هَذَا فَلَمْ يَعْدِلْ
بَيْنَهُمْ وَكَذَلِكَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام إيجَابٌ
لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالأُُنْثَى، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْمَوَارِيثِ
فِي شَيْءٍ وَلِكُلِّ نَصٍّ حُكْمُهُ، وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ فِي غَيْرِ
الأَوْلاَدِ، إذَا لَمْ يَأْتِ النَّصُّ إِلاَّ فِيهِمْ وَأَمَّا وَلَدُ
الْوَلَدِ: فَلاَ خِلاَفَ فِيهِمْ، وَقَدْ كَانَ لأََصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم بَنُو بَنِينَ وَبَنُو بَنَاتٍ فَلَمْ يُوجِبْ عليه الصلاة والسلام
إعْطَاءَهُمْ، وَلاَ الْعَدْلَ فِيهِمْ. وَإِذَا مَاتَ الْوَلَدُ بَعْدَ أَنْ
وُهِبَ هِبَةً لاَ مُحَابَاةَ فِيهَا فَقَدْ صَارَتْ لِوَرَثَتِهِ وَبَطَلَ أَمْرُ
الأَبِ فِيهَا,وَأَمَّا إنْ مَاتَ الْوَالِدُ فَالتَّعْدِيلُ بَيْنَهُمْ دَيْنٌ
عَلَيْهِ، فَهُوَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/149)
1633 - مَسْأَلَةٌ: وَهِبَةُ جُزْءٍ مُسَمًّى مَنْسُوبٍ مِنْ الْجَمِيعِ كَثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُشَاعِ وَالصَّدَقَةُ بِهِ جَائِزَةٌ حَسَنَةٌ لِلشَّرِيكِ وَلِغَيْرِ الشَّرِيكِ، وَلِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَفِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ كَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ، وَلاَ فَرْقَ,هُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَمَعْمَرِ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ,وقال أبو حنيفة: لاَ تَجُوزُ هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا يَنْقَسِمُ، وَلاَ الصَّدَقَةُ بِهِ لاَ لِلشَّرِيكِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ، لاَ عَلَى فَقِيرٍ وَلاَ عَلَى غَنِيٍّ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ بِمُشَاعٍ لاَ يَنْقَسِمُ عَلَى الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ وَلِلشَّرِيكِ وَلِغَيْرِهِ. وَاَلَّذِي يَنْقَسِمُ عِنْدَهُ: الدُّورُ، وَالأَرَضُونَ، وَالْمَكِيلاَتُ، وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ، وَالْمَذْرُوعَاتُ وَاَلَّذِي لاَ يَنْقَسِمُ عِنْدَهُ الرَّأْسُ الْوَاحِدُ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالْحَمَامُ، وَالسَّيْفُ، وَاللُّؤْلُؤَةُ، وَالثَّوْبُ وَالطَّرِيقُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَالَ: وَالإِجَارَةُ بِمُشَاعٍ مِمَّا يَنْقَسِمُ وَمِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ لاَ تَجُوزُ أَلْبَتَّةَ، إِلاَّ مِنْ الشَّرِيكِ وَحْدَهُ قَالَ: وَرَهْنُ الْمُشَاعِ الَّذِي يَنْقَسِمُ وَاَلَّذِي لاَ يَنْقَسِمُ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ، لاَ مِنْ الشَّرِيكِ وَلاَ مِنْ غَيْرِهِ. قَالَ: وَبَيْعُ الْمُشَاعِ وَإِصْدَاقِهِ وَالْوَصِيَّةُ بِهِ مِمَّا يَنْقَسِمُ وَمَا لاَ يَنْقَسِمُ: جَائِزٌ مِنْ الشَّرِيكِ وَغَيْرِ الشَّرِيكِ، وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْمُشَاعِ فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ التَّقَاسِيمِ الَّتِي لاَ تَعْقِلُ، وَلاَ لَهَا فِي الدَّيَّانَةِ أَصْلٌ بِالْمَنْعِ خَاصَّةً فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِي أَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مِمَّا يَنْقَسِمُ: كَمِائَةِ دِينَارٍ، أَوْ كَدَارٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ ضَيْعَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ كُرِّ طَعَامٍ، أَوْ قِنْطَارِ حَدِيدٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لِغَنِيَّيْنِ لاَ يَجُوزُ وَاخْتَلَفَ عَنْهُ فِي الصَّدَقَةِ بِذَلِكَ عَلَى فَقِيرَيْنِ، أَوْ هِبَةِ ذَلِكَ لِفَقِيرَيْنِ فَرُوِيَ عَنْهُ فِي الْهِبَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: أَنَّهَا تَجُوزُ لِلْفَقِيرَيْنِ وَفِي الأَصْلِ أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ وَالأَشْهَرُ عَنْهُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْفَقِيرَيْنِ كَذَلِكَ
(9/149)
أَنَّهَا تَجُوزُ، إِلاَّ فِي
رِوَايَةٍ مُبْهَمَةٍ غَيْرِ مُبَيِّنَةٍ أَجْمَلَ فِيهَا الْمَنْعَ فَقَطْ.
وَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: إنْ وَهَبَ دَارًا لأَثْنَيْنِ بَيْنَهُمَا
بِنِصْفَيْنِ جَازَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَهَبَ لأََحَدِهِمَا الثُّلُثَ وَلِلآخَرِ
الثُّلُثَيْنِ فَدَفَعَهَا إلَيْهِمَا مَعًا: جَازَ ذَلِكَ، فَإِنْ دَفَعَ إلَى
الْوَاحِدِ ثُمَّ إلَى الآخَرِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ, وَمَنَعَ سُفْيَانُ مِنْ
هِبَةِ الْمُشَاعِ، إِلاَّ أَنَّهُ أَجَازَ هِبَةَ وَاحِدٍ دَارًا لأَثْنَيْنِ
وَهِبَةَ الاِثْنَيْنِ دَارًا لِوَاحِدٍ وَمَنَعَ ابْنُ شُبْرُمَةَ مِنْ هِبَةِ
الْمُشَاعِ وَمِنْ هِبَةِ وَاحِدٍ دَارًا لأَثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَأَجَازَ
هِبَةَ اثْنَيْنِ دَارًا لِوَاحِدٍ.
قال أبو محمد: وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ شَغَبًا مَوَّهُوا بِهِ إِلاَّ إنْ قَالُوا:
قَبْضُ الْمُشَاعَ لاَ يُمْكِنُ.فَقُلْنَا لَهُمْ: كَذَبْتُمْ بَلْ هُوَ مُمْكِنٌ،
وَهَبْكَ أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلِمَ أَجَزْتُمْ بَيْعَهُ، وَالْبَيْعُ
عِنْدَكُمْ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ، وَلِمَ أَجَزْتُمْ إصْدَاقَهُ،
وَالصَّدَاقُ وَاجِبٌ فِيهِ الإِقْبَاضُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَآتُوا
النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} وَلِمَ أَجَزْتُمْ الْوَصِيَّةَ
بِهِ وَلِمَ أَجَزْتُمْ إجَارَةَ الْمُشَاعِ مِنْ الشَّرِيكِ، وَمَنَعْتُمْ
الرَّهْنَ فِيهِ مِنْ الشَّرِيكِ وَمَنَعْتُمْ الْهِبَةَ مِنْ الشَّرِيكِ
وَأَقْرَبُ ذَلِكَ لِمَ أَجَزْتُمْ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا لاَ يَنْقَسِمُ
وَالْعِلَّةُ وَاحِدَةٌ. فَهَلْ فِي التَّلاَعُبِ وَالسَّخَافَةِ أَكْثَرُ مِنْ
هَذَا وَمَوَّهُوا أَيْضًا بِالرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ
أَبِي بَكْرٍ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنهما: إنِّي كُنْتُ
نَحَلْتُك جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِ الْغَابَةِ فَلَوْ كُنْتِ
جَدَدْتِيهِ وَاحْتَزْتِيهِ لَكَانَ لَك هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ
هِبَةِ الْمُشَاعِ.
قال أبو محمد: هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا، وَفَاحِشُ الْقُبْحِ لِوُجُوهٍ أَوَّلُهَا
أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَثَانِيهَا أَنَّهُ كَمْ قَوْلَةٌ لأََبِي بَكْرٍ، وَعَائِشَةَ رضي الله عنهما
قَدْ خَالَفْتُمُوهُمَا فِيهَا كَقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَغَيْرِهِ مِنْ
الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فِي الزَّكَاةِ إنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتَ مَخَاضٍ
فَابْنَ لَبُونٍ ذَكَرٍ، وَكَتَرْكِهِ التَّضْحِيَةَ وَهُوَ غَنِيٌّ، وَكَصِيَامِ
عَائِشَةَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَقَوْلِهَا: لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ
يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ جِدًّا. وَثَالِثُهَا أَنَّ
هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ قَدْ أَوْرَدْنَاهُ بِخِلاَفِ هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَرَابِعُهَا أَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ
جِهَارًا بَلْ فِيهِ إجَازَةُ هِبَةِ جُزْءٍ مِنْ الْمُشَاعِ لِغَنِيَّةٍ،
لأََنَّهُ نَحَلَهَا جِدَادَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْغَابَةِ. وَلاَ
يَخْلُو ذَلِكَ ضَرُورَةً مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَحَلَهَا
مِنْ تِلْكَ النَّخْلِ مَا تَجِدُّ مِنْهَا عِشْرِينَ وَسْقًا، أَوْ نَحَلَهَا
عِشْرِينَ وَسْقًا مَجْدُودَةً، فَهِيَ إمَّا عِدَةٌ بِأَنْ يَنْحَلَهَا ذَلِكَ
وَهَذَا هُوَ الأَظْهَرُ وَأَمَّا أَنَّهُ نَحَلَهَا وَأَمْضَى لَهَا ذَلِكَ
الْمِقْدَارَ، وَهُوَ مَجْهُولُ الْقَدْرِ وَالْعَدَدِ وَالْعَيْنِ فِي مُشَاعٍ،
فَرَأَيَاهُ مَعًا بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ جَائِزًا وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا
مِنْهُمْ وَلَمْ يُبْطِلْهُ أَبُو بَكْرٍ لِذَلِكَ. فَكَذَبُوا فِي قَوْلِهِمْ
صُرَاحًا، وَإِنَّمَا أَبْطَلَهُ أَبُو بَكْرٍ بِنَصِّ قَوْلِهِ " لأََنَّهَا
لَمْ تَحُزْهُ " فَقَطْ، وَلَوْ جَدَدْته وَحَازَتْهُ لَكَانَ نَافِذًا
فَعَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ وَصَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"الْحَيَاءُ مِنْ الإِيمَانِ" فَسَقَطَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ
وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
(9/150)
قال أبو محمد: فَعُدْنَا إلَى قَوْلِنَا
فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَدْ حَضَّ عَلَى الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ،
وَالْفَضْلِ وَكَانَتْ الْهِبَةُ فِعْلَ خَيْرٍ، وَقَدْ عَلِمَ عَزَّ وَجَلَّ
أَنَّ فِي أَمْوَالِ الْمَحْضُوضِينَ عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مُشَاعًا
وَغَيْرَ مُشَاعٍ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى لَمْ يُبِحْ لَهُمْ الصَّدَقَةَ
وَالْهِبَةَ فِي الْمُشَاعِ لَبَيَّنَهُ لَهُمْ، وَلَمَا كَتَمَهُ عَنْهُمْ،
وَمَنْ حَرَّمَ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ أَوْجَبَ مَا لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَإِيجَابِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله
عليه وسلم الْمَأْمُورِ بِالتَّبْلِيغِ. وَالْبَيَانِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى وَافْتَرَى عَلَيْهِ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا. فَصَحَّ يَقِينًاأَنَّ
هِبَةَ الْمُشَاعِ وَالصَّدَقَةَ بِهِ، وَإِجَارَتَهُ وَرَهْنَهُ جَائِزٌ كُلُّ
ذَلِكَ فِيمَا يَنْقَسِمُ وَمَا لاَ يَنْقَسِمُ لِلشَّرِيكِ وَلِغَيْرِهِ،
وَلِلْغَنِيِّ وَلِلْفَقِيرِ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا.وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ نَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
الْمُهَاجِرِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ " قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكُبَّةِ شَعْرٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللَّهِ هَبْهَا لِي، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ نُعَالِجُ الشَّعْر فَقَالَ
عليه الصلاة والسلام: نَصِيبِي مِنْهَا لَكَ" وَهُمْ يَحْتَجُّونَ
بِالْمُرْسَلِ، وَبِرِوَايَةِ شَرِيكٍ. وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ فَمَا
صَرَفَهُمْ، عَنْ هَذَا الْخَبَرِ وَقَدْ صَحَّ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّهَا قَالَتْ لِلْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ، وَلِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ: إنِّي وَرِثْت، عَنْ أُخْتِي عَائِشَةَ مَالاً بِالْغَابَةِ، وَقَدْ
أَعْطَانِي مُعَاوِيَةُ بِهَا مِائَةَ أَلْفٍ، فَهُوَ لَكُمَا، لأََنَّهُمَا لَمْ
يَرِثَا مِنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا إنَّمَا وَرِثَا أَسْمَاءَ، وَعَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَهَذِهِ هِبَةٌ لِغَنِيَّيْنِ
مُكْثِرَيْنِ مُشَاعَةً، وَفِعْلُ أَسْمَاءَ رضي الله تعالى عنها بِحَضْرَةِ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم،، وَلاَ يُعْرَفُ لَهَا مِنْهُمْ مُخَالِفٌ، وَصَدَقَاتُ
الصَّحَابَةِ عَلَى بَنِيهِمْ وَبَنِي بَنِيهِمْ بِغَلَّةِ أَوْقَافِهِمْ أَشْهَرُ
مِنْ الشَّمْسِ صَدَقَةً أَوْ هِبَةً لأََغْنِيَاءَ بِمُشَاعٍ.وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ فَذَكَرَ قِصَّةَ حُنَيْنٍ وَطَلَبَ هَوَازِنَ عِيَالَهُمْ
وَأَبْنَاءَهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا كَانَ لِي
وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ
وَالأَنْصَارُ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَهَذِهِ هِبَةُ مُشَاعٍ وَهُمْ يَحْتَجُّونَ
بِهَذِهِ الطَّرِيقِ إذَا وَافَقَتْ تَقْلِيدَهُمْ. وَالْخَبَرُ الَّذِي
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَنَا أَبُو
خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمَّرَ عَلَيْنَا أَبَا عُبَيْدَةَ فَتَلَقَّى
عِيرًا لِقُرَيْشٍ وَزَوَّدَنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يَجِدْ لَنَا غَيْرَهُ
فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً" فَهَذِهِ عَطِيَّةُ
تَمْرٍ مُشَاعَةٍ وَالْحُجَّةُ تَقُومُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
نَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ نَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ غَيْلاَنِ بْنِ جَرِيرٍ،
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَتَيْتُ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَأَمَرَ
لَنَا بِثَلاَثِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى وَذَكَرَ الْخَبَرَ فَهَذِهِ هِبَةُ
مُشَاعٍ لَمْ يَنْقَسِمْ.
وَأَمَّا مِنْ النَّظَرِفَلَيْسَ إِلاَّ مِلْكٌ صَحِيحٌ ثُمَّ تَصَرَّفَ فِيمَا
صَحَّ الْمِلْكُ فِيهِ وَلاَ مَزِيدَ، فَتَمَلُّكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ
وَالْمُتَصَدِّقِ عَلَيْهِ بِالْجُزْءِ الْمُشَاعِ كَمَا مَلَكَهُ الْوَاهِبُ
وَالْمُتَصَدِّقُ، وَلاَ فَرْقَ أَلْبَتَّةَ وَيَتَصَرَّفُ
(9/151)
الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَالْمُتَصَدِّقُ. وَالْمُكْتَرِي، كَمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْوَاهِبُ وَالْمُتَصَدِّقُ وَالْمُكْتَرِي وَوُكَلاَؤُهُمْ وَلاَ فَرْقَ وَتَكُونُ يَدُ الْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِ كَمَا هِيَ عَلَيْهِ يَدُ الرَّاهِنِ وَوَكِيلُهُ وَلاَ فَرْقَ وَهَذَا لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/152)
1634 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا إذَا أَعْطَى شَيْئًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ جُمْلَةٍ، أَوْ عَدَدًا كَذَلِكَ، أَوْ ذَرْعًا كَذَلِكَ أَوْ وَزْنًا كَذَلِكَ، أَوْ كَيْلاً كَذَلِكَ، فَهُوَ بَاطِلٌ لاَ يَجُوزُ، مِثْلُ أَنْ يُعْطِيَ دِرْهَمًا مِنْ هَذِهِ الدَّرَاهِمِ، أَوْ دَابَّةً مِنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ أَوْ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ مِنْ هَذِهِ الدَّنَانِيرِ أَوْ رِطْلاً مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ أَوْ صَاعًا مِنْ هَذَا التَّمْرِ، أَوْ ذِرَاعًا مِنْ هَذَا الثَّوْبِ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَالصَّدَقَةُ بِكُلِّ هَذَا، وَالْهِبَةُ وَالإِصْدَاقُ وَالْبَيْعُ. وَالرَّهْنُ، وَالإِجَارَةُ، بَاطِلٌ كُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ فِيمَا اخْتَلَفَتْ أَبْعَاضُهُ أَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ لاَ لِشَرِيكٍ وَلاَ لِغَيْرِهِ، وَلاَ لِغَنِيٍّ، وَلاَ لِفَقِيرٍ لأََنَّهُ لَمْ يُوقِعْ الْهِبَةَ، وَلاَ الصَّدَقَةَ، وَلاَ الإِصْدَاقَ، وَلاَ الرَّهْنَ وَلاَ الإِجَارَةَ عَلَى شَيْءٍ أَبَانَهُ، عَنْ مِلْكِهِ، أَوْ أَوْقَعَ فِيهِ حُكْمَ الرَّهْنِ، أَوْ الإِجَارَةِ، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، عَنْ مِلْكِهِ، وَلاَ أَوْقَعَ فِيهِ حُكْمًا فَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَهَذَا خِلاَفُ مَا تَقَدَّمَ، لأََنَّ الْجُزْءَ الْمُسَمَّى مُتَيَقَّنٌ أَنَّهُ لاَ جُزْءَ إِلاَّ وَفِيهِ حَظٌّ لِلْمُشْتَرِي أَوْ الْمُصَدِّقِ أَوْ الْمَوْهُوبِ لَهُ أَو الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَوْ الْمُرْتَهِنِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ سَأَلْت الزُّهْرِيَّ عَنِ الرَّجُلِ يَكُونُ شَرِيكًا لأََبِيهِ فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: لَك مِائَةُ دِينَارٍ مِنْ الْمَالِ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَك فَقَالَ الزُّهْرِيُّ: قَضَى أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ حَتَّى يَحُوزَهُ مِنْ الْمَالِ وَيَعْزِلَهُ.وبه إلى مَعْمَرٍعَنْ سِمَاكِ بْنِ الْفَضْلِ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مِنْ النَّحْلِ إِلاَّ مَا أُفْرِدَ وَعُزِلَ وَأُعْلِمَ.
(9/152)
ومن أعطى شئيا من غير مسألة ففرض
عليه قبوله وله أن يهبه
...
1635 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أُعْطِي شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، فَفَرَضَ
عَلَيْهِ قَبُولَهُ، وَلَهُ أَنْ يَهَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ لِلَّذِي
وَهَبَهُ لَهُ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي الصَّدَقَةِ، وَالْهَدِيَّةِ، وَسَائِرِ
وُجُوهِ النَّفْعِ.
برهان ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ نَا إبْرَاهِيمُ بْنُ
سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ نَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ
السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، عَنِ ابْنِ
السَّاعِدِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ
وَلاَ إشْرَافِ نَفْسٍ، فَاقْبَلْهُ لاَ نَعْلَمُ حَدِيثًا رَوَاهُ أَرْبَعَةٌ
مِنْ الصَّحَابَةِ فِي نَسْقِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ إِلاَّ هَذَا".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو الطَّاهِرِ انَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي
عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي
عُمَرَ الْعَطَاءَ فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِهِ أَفْقَرَ
إلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ،
أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ
مُشْرِفٍ، وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ, قَالَ
سَالِمٌ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا،
وَلاَ يَرُدُّ شَيْئًا أُعْطِيهِ ". أناأَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
(9/152)
ولا يحل الرشوة وهي ما أعطاء
المرء
...
1636 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ تَحِلُّ الرِّشْوَةُ: وَهِيَ مَا أَعْطَاهُ الْمَرْءُ
لِيُحْكَمَ لَهُ بِبَاطِلٍ، أَوْ لِيُوَلِّيَ وِلاَيَةً أَوْ لِيُظْلَمَ لَهُ
إنْسَانٌ فَهَذَا يَأْثَمُ الْمُعْطِي وَالآخِذُ.فأما مَنْ مُنِعَ مِنْ حَقِّهِ
فَأَعْطَى لِيَدْفَعَ، عَنْ نَفْسِهِ الظُّلْمَ فَذَلِكَ مُبَاحٌ لِلْمُعْطِي
وَأَمَّا الآخِذُ فَآثِمٌ، وَفِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ فَالْمَالُ الْمُعْطَى بَاقٍ
عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ الَّذِي أَعْطَاهُ كَمَا كَانَ، كَالْغَصْبِ، وَلاَ فَرْقَ
وَمِنْ جُمْلَةِ هَذَا مَا أُعْطِيهِ أَهْلَ دَارِ الْكُفْرِ فِي فِدَاءِ
الأَسْرَى، وَفِي كُلِّ ضَرُورَةٍ، وَكُلُّ هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ
مِلْكَ أَهْلِ دَارِ الْكُفْرِ مَا أَخَذُوهُ فِي فِدَاءِ الأَسِيرِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: قَدْ مَلَكُوهُ وَهَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّهُ
قَوْلٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ نَظَرٌ
وقولنا في هذا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمَا.
برهان صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
فَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفْنَا أَبِحَقٍّ أَخَذَ الْكُفَّارُ مَا أَخَذُوا مِنَّا فِي
الْفِدَاءِ وَغَيْرِهِ أَمْ بِبَاطِلٍ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: بِالْبَاطِلِ، وَلَوْ
قَالُوا غَيْرَ ذَلِكَ كَفَرُوا، وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ، لأََنَّهُ خِطَابٌ
لِجَمِيعِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَلِلُزُومِ الدِّينِ لَهُمْ. وَقَوْلُ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ" .
فإن قيل: لِمَ أَبَحْتُمْ إعْطَاءَ الْمَالِ فِي دَفْعِ الظُّلْمِ وَقَدْ
رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ جَاءَ رَجُلٌ
يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي قَالَ: فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ
قَاتَلَنِي قَالَ: قَاتِلْهُ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي قَالَ: فَأَنْتَ
شَهِيدٌ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ قَالَ: فَهُوَ فِي النَّار" ِ
وَبِالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ" لَعَنِ اللَّهُ الرَّاشِيَ
وَالْمُرْتَشِيَ" قال أبو محمد: خَبَرُ لَعْنِهِ الرَّاشِي إنَّمَا رَوَاهُ
الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَأَيْضًا فَإِنَّ
الْمُعْطِيَ فِي ضَرُورَةِ دَفْعِ الظُّلْمِ لَيْسَ رَاشِيًا وَأَمَّا الْخَبَرُ
فِي الْمُقَاتَلَةِ فَهَكَذَا نَقُولُ: مَنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ
نَفْسِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ إعْطَاءُ فَلْسٍ فَمَا فَوْقَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا
مَنْ عَجَزَ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا} وَقَالَ عليه السلام: "إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" فَسَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْمُقَاتَلَةِ
وَالدِّفَاعِ وَصَارَ فِي حَدِّ الإِكْرَاهِ عَلَى مَا أَعْطَى فِي ذَلِكَ وَقَدْ
قَالَ
(9/157)
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ، عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ بِإِسْنَادِهِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: أَطْعِمُوا الْجَائِعَ وَفُكُّوا الْعَانِيَ وَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ عَانٍ عِنْدَ كُلِّ كَافِرٍ أَوْ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَمَعْمَرٍ قَالَ: مَعْمَرٌ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَقَالَ سُفْيَانُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ، قَالاَ جَمِيعًا: مَا أَعْطَيْت مُصَانَعَةً عَلَى مَالِك وَدَمِك، فَإِنَّك فِيهِ مَأْجُورٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/158)
1637- مسألة ـ وأما من نصر آخر في حق أودفع عنه ظلما ولم يشترط عليه في ذلك عطاء فاهدى اليه مكافأة فهذا حسن لا نكرهه لانه من جملة شكر المنعم وهدية بطيب نفس وما نعلم قرآنا ولا سنة في المنع من ذلك، وقد روينا عن على وابن مسعود المنع من هذا ولا نعلم برهانا يمنع منه وبالله تعالى التوفيق.
(9/158)
1638- مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ
السُّؤَالُ تَكَثُّرًا إِلاَّ لِضَرُورَةِ فَاقَةٍ، أَوْ لِمَنْ تَحَمَّلَ
حَمَالَةً، فَالْمُضْطَرُّ فُرِضَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ مَا يَقُوتُهُ هُوَ
وَأَهْلُهُ مِمَّا لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، مِنْ: أَكْلٍ، وَسُكْنَى، وَكِسْوَةٍ،
وَمَعُونَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ ظَالِمٌ، فَإِنْ مَاتَ فِي تِلْكَ
الْحَالِ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسِهِ. وَأَمَّا مَنْ طَلَبَ غَيْرَ مُتَكَثِّرٍ
فَلَيْسَ مَكْرُوهًا. وَكَذَلِكَ مَنْ سَأَلَ سُلْطَانًا فَلاَ حَرَجَ فِي
ذَلِكَ.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَخْبَرَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَعَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا يَزَالُ
الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي
وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ" .
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو كُرَيْبٍ نَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ
بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ
تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ
لِيَسْتَكْثِرْ" .وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى نَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هَارُونَ بْنِ رِئَابٍ حَدَّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ
نُعَيْمٍ الْعَدَوِيُّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ الْهِلاَلِيِّ
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: يَا قَبِيصَةُ إنَّ
الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأََحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمَّلَ حَمَالَةً
فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكَ وَرَجُلٌ
أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى
يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَالَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٌ
أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُوتَ ثَلاَثَةً مِنْ ذَوِي الْحَجِّ مِنْ قَوْمِهِ
فَيَقُولُونَ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ
حَتَّى يُصِيبَ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ: سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ فَمَا
سِوَاهُنَّ مِنْ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتٌ يَأْكُلُهَا
(9/158)
واعطاء الكافر مباح وقبول ما أعطى
هو القبول
...
1639 - مَسْأَلَةٌ: وَإِعْطَاءُ الْكَافِرِ مُبَاحٌ، وَقَبُولُ مَا أَعْطَى هُوَ
كَقَبُولِ مَا أَعْطَى الْمُسْلِمُ .رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا
سَهْلُ بْنُ بَكَّارَ نَا وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعِدِيِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ:
غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَبُوكَ وَأَهْدَى مَلِكُ
آيِلَةَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا.وَمِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ نَا عُبَيْدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ نَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ
قَالَتْ: "قَدِمَتْ أُمِّي عَلَيَّ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فَاسْتَفْتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: صِلِي أُمَّكَ".وَمِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ نَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ
أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: "فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ" .فإن قيل:
فَأَيْنَ أَنْتُمْ عَمَّا رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الشِّخِّيرِ عَنْ عِيَاضِ
بْنِ حِمَارٍ أَنَّهُ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةً،
فَقَالَ: أَسْلَمْتَ قُلْتُ لاَ، قَالَ" "إنِّي نُهِيتُ عَنْ زَبْدِ
الْمُشْرِكِينَ" َمِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ
مِثْلُهُ، وَقَالَ: فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا قَالَ الْحَسَنُ: زَبْدُ
الْمُشْرِكِينَ رِفْدُهُمْ قلنا: هَذَا مَنْسُوخٌ بِخَبَرِ أَبِي حُمَيْدٍ الَّذِي
ذَكَرْنَا، لأََنَّهُ كَانَ فِي تَبُوكَ، وَكَانَ إسْلاَمُ عِيَاضٍ قَبْلَ تَبُوكَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/159)
1640 - مَسْأَلَةٌ: لاَ تُقْبَلُ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ بَلْ يَكْتَسِبُ بِذَلِكَ إثْمًا زَائِدًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ . فَكُلَّمَا تَصَرَّفَ فِي الْحَرَامِ فَقَدْ زَادَ مَعْصِيَةً وَإِذَا زَادَ مَعْصِيَةً زَادَ إثْمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} .
(9/159)
1641 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنَّ يَمُنَّ بِمَا فَعَلَ مِنْ خَيْرٍ إِلاَّ مَنْ كَثُرَ إحْسَانُهُ
(9/159)
1642 - مَسْأَلَةٌ: وَهِبَةُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ الزَّوْجِ، وَالْبِكْرِ ذَاتِ الأَبِ، وَالْيَتِيمَةِ، وَالْعَبْدِ، وَالْمَخْدُوعِ فِي الْبُيُوعِ، وَالْمَرِيضِ مَرَضَ مَوْتِهِ، أَوْ مَرَضَ غَيْرَ مَوْتِهِ، وَصَدَقَاتِهِمْ: كَهِبَاتِ الأَحْرَارِ، وَاَللَّوَاتِي لاَ أَزْوَاجَ لَهُنَّ، وَلاَ آبَاءَ كَهِبَاتِ الصَّحِيحِ، وَلاَ فَرْقَوَقَدْ ذَكَرْنَا برهان ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ كِتَابِنَا. وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَدَبَ جَمِيعَ الْبَالِغِينَ الْمُمَيِّزِينَ إلَى الصَّدَقَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ وَإِنْقَاذِ نَفْسِهِ مِنْ النَّارِ، وَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مُتَوَعَّدٌ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ " فَلاَ يَحِلُّ مَنْعُهُمْ مِنْ الْقُرْبِ إِلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/160)
والصدقة التطوع على الغنى جائزة
...
1643 - مَسْأَلَةٌ: وَالصَّدَقَةُ لِلتَّطَوُّعِ عَلَى الْغَنِيِّ جَائِزَةٌ
وَعَلَى الْفَقِيرِ، وَلاَ تَحِلُّ لأََحَدٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَالْمُطَّلِبِ
ابْنَيْ عَبْدِ مَنَافٍ، وَلاَ لِمَوَالِيهِمْ، حَاشَ " الْحَبْسِ " فَهُوَ
حَلاَلٌ لَهُمْ، وَلاَ تَحِلُّ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى مَنْ أُمُّهُ مِنْهُمْ
إذَا لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ مِنْهُمْ وَأَمَّا الْهِبَةُ، وَالْهَدِيَّةُ،
وَالْعَطِيَّةُ، وَالإِبَاحَةُ وَالْمِنْحَةُ، وَالْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى فَكُلُّ
ذَلِكَ حَلاَلٌ لِبَنِي هَاشِمٍ، وَالْمُطَّلِبِ وَمَوَالِيهمْ هَذَا كُلُّهُ لاَ
خِلاَفَ فِيهِ حَاشَ دُخُولِ بَنِي الْمُطَّلِبِ فِيهِمْ، وَحَاشَ دُخُولِ
الْمَوَالِي فِيهِمْ، وَحَاشَ جَوَازِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ لَهُمْ، فَإِنَّ
قَوْمًا أَجَازُوهَا لَهُمْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقَطَّانِ نَا شُعْبَةُ نَا الْحَكَمُ، هُوَ ابْنُ عُتَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي
رَافِعٍ هُوَ عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فَأَرَادَ
أَبُو رَافِعٍ أَنْ يَتْبَعَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
إنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَحِلُّ لَنَا، وَإِنَّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ. فَهَذَا
عُمُومٌ لِكُلِّ صَدَقَةٍ" .وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا مُسَدَّدٌ نَا
هُشَيْمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ
(9/160)
وللعبدان يتصدق من مال سيده
...
1644 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ بِمَا لاَ
يُفْسِدُ، وَاسْتَدْرَكْنَا فِي تَصَدُّقِ الْعَبْدِ الْخَبَرَ الَّذِي قَدْ
ذَكَرْنَاهُ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُجِيبُ
دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ".وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ نَا
قُتَيْبَةُ نَا حَاتِمٌ، هُوَ ابْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
عُبَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت عُمَيْرًا مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ: "أَمَرَنِي
مَوْلاَيَ أَنْ أُقَدِّدَ لَحْمًا فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ فَأَطْعَمْتُهُ، فَعَلِمَ
بِذَلِكَ مَوْلاَيَ فَضَرَبَنِي، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَدَعَاهُ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْتَهُ فَقَالَ: يُطْعِمُ طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ
آمُرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الأَجْرُ
بَيْنَكُمَا". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ نَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، وَابْنُ نُمَيْرٍ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ كُلُّهُمْ، عَنْ حَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ
قَالَ: " كُنْتُ مَمْلُوكًا فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
أَأَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيَّ شَيْئًا قَالَ: نَعَمْ، وَالأَجْرُ
بَيْنَكُمَا[ نِصْفَانِ]".
قال أبو محمد: لاَ يَخْلُو مَالُ الْعَبْدِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ كَمَا نَقُولُ
نَحْنُ، أَوْ يَكُونَ لِسَيِّدِهِ كَمَا يَقُولُونَ فَإِنْ كَانَ مَالٌ فَصَدَقَةُ
الْمَرْءِ مِنْ مَالِهِ فِعْلٌ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ
لِسَيِّدِهِ فَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ بِإِبَاحَةِ الصَّدَقَةِ لَهُ مِنْهُ
فَلْيُعْضَدُوا بِالْجَنْدَلِ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قوله تعالى: {عَبْدًا
مَمْلُوكًا لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} لَيْسَ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَالْحِسِّ
فِي كُلِّ مَمْلُوكٍ، لأََنَّنَا نَرَاهُمْ لاَ يَعْجِزُونَ، عَنْ شَيْءٍ مِمَّا
يَعْجِزُ عَنْهُ الْحُرُّ فَصَحَّ أَنَّهُ تَعَالَى إنَّمَا عَنَى بَعْضَ
الْعَبِيدِ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ كُلُّ
أَبْكَمَ كَذَلِكَ.فَصَحَّ أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ الْبُكْمِ مَنْ هَذِهِ
صِفَتُهُ وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى هَذَا أَنْ يُسْقِطُوا عَنْهُ الصَّلاَةَ،
وَالْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ، وَالصِّيَامَ إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى
شَيْءٍ.فَإِنْ قَالُوا: هَذِهِ أَعْمَالُ أَبَدَانً.قلنا: قَدْ تَرَكْتُمْ
احْتِجَاجَكُمْ بِظَاهِرِ الآيَةِ بَعْدُ وَأَتَيْتُمْ بِدَعْوَى فِي الْفَرْقِ
بَيْنَ أَعْمَالِ الأَبَدَانِ وَأَعْمَالِ الأَمْوَالِ بِلاَبرهان وَالْحَجُّ
عَمَلُ بَدَنٍ فَأَلْزِمُوهُ إيَّاهُ.فَإِنْ قَالُوا: قَدْ يُجْبَرُ بِالْمَالِ.
قلنا فَأَسْقِطُوا عَنْهُ الصَّوْمَ بِهَذَا الدَّلِيلِ السَّخِيفِ، لأََنَّهُ
يُجْبَرُ بِالْمَالِ مِنْ عِتْقِ الْمُكَفِّرِ وَإِطْعَامِهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/162)
الإباحة
والاباحة جائز في المجهول
...
الإِبَاحَةُ
1645- مَسْأَلَةٌ: وَالإِبَاحَةُ جَائِزَةٌ فِي الْمَجْهُولِ، بِخِلاَفِ
الْعَطِيَّةِ، وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالْعُمْرَى، وَالرُّقْبَى،
وَالْحَبْسُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ كَطَعَامٍ يُدْعَى إلَيْهِ قَوْمٌ يُبَاحُ
لَهُمْ أَكْلُهُ، وَلاَ يُدْرَى كَمْ يَأْكُلُ كُلُّ وَاحِدٍ. وَهَذَا مَنْصُوصٌ
مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرُهُ بِإِجَابَةِ
الدَّعْوَةِ وَالأَكْلِ فِيهَا وَكَأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مَنْ شَاءَ أَنْ يَقْتَطِعَ إذْ نَحَرَ الْهَدْيَ. وَكَأَمْرِهِ عليه الصلاة
والسلام الْمُرْسَلَ بِالْهَدْيِ إذَا عَطِبَ أَنْ يَنْحَرَهُ، وَيُخَلِّيَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ. وَنَحْوُ هَذَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(9/163)
1646 - مَسْأَلَةٌ: وَجَائِزٌ لِلْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَيْتِ وَالِدِهِ، وَوَالِدَتِهِ، وَابْنِهِ، وَابْنَتِهِ، وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ، شَقِيقَتَيْنِ، أَوْ لأََبٍ أَوْ لأَُمٍّ، وَوَلَدِ وَلَدِهِ، وَجَدِّهِ، وَجَدَّتِهِ، كَيْفَ كَانَا، وَعَمِّهِ، وَعَمَّتِهِ كَيْفَ كَانَا، وَخَالِهِ، وَخَالَتِهِ، كَيْفَ كَانَا، وَصَدِيقِهِ، وَمَا مَلَكَ مَفَاتِحَهُ، سَوَاءٌ رَضِيَ مَنْ ذَكَرْنَا أَوْ سَخِطَ، أَذِنُوا، أَوْ لَمْ يَأْذَنُوا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الْكُلَّ.برهان ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي نَصِّ الْقُرْآنِ وَقَوْله تَعَالَى: {مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ} نَصُّ مَا قلنا، لأََنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: "إنَّ وَلَدَ أَحَدِكُمْ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ مِنْ كَسْبِهِ".
(9/163)
المنحة
والمنحة جائز
...
الْمِنْحَةُ
1647 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمِنْحَةُ جَائِزَةٌ، وَهِيَ فِي الْمُحْتَلَبَاتِ فَقَطْ،
يَمْنَحُ الْمَرْءُ مَا يَشَاءُ مِنْ إنَاثِ حَيَوَانِهِ مَنْ شَاءَ لِلْحَلْبِ.
وَكَدَارٍ يُبِيحُ سُكْنَاهَا، وَدَابَّةٍ يَمْنَحُ رُكُوبَهَا، وَأَرْضٍ يَمْنَحُ
ازْدِرَاعَهَا وَعَبْدٍ يَخْدُمُهُ، فَمَا حَازَهُ الْمَمْنُوحُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ
فَهُوَ لَهُ لاَ طَلَبَ لِلْمَانِحِ فِيهَا وَلِلْمَانِحِ أَنْ يَسْتَرِدَّ عَيْنَ
مَا مَنَحَ مَتَى شَاءَ سَوَاءٌ عَيَّنَ مُدَّةً أَوْ لَمْ يُعَيِّنْ، أَشْهَدَ
أَوْ لَمْ يُشْهِدْ، لأََنَّهُ لاَ يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ
إِلاَّ بِنَصٍّ وَلاَ نَصَّ فِي هَذَا وَتَعْيِينُهُ الْمُدَّةَ عِدَّةٌ وَقَدْ
ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَعْدَ لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ فِي بَابِ النُّذُورِ،
وَالأَيْمَانِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا، فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ. وَالإِزْرَاعُ،
وَالإِسْكَانُ، وَالإِفْقَارُ، وَالإِمْتَاعُ، وَالإِطْرَاقُ، وَالإِخْدَامُ،
وَالإِعْرَاءُ، وَالتَّصْيِيرُ: حُكْمُ مَا وَقَعَ بِهَذِهِ الأَلْفَاظِ كَحُكْمِ
الْمِنْحَةِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا، سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَلاَ فَرْقَ. وَهَذَا
كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَدَاوُد، وَجَمِيعِ
أَصْحَابِهِمْ. فَالإِزْرَاعُ يَكُونُ فِي الأَرْضِ يَجْعَلُ الْمَرْءُ لأَخَرَ
أَنْ يَزْرَعَ هَذِهِ الأَرْضَ مُدَّةً يُسَمِّيهَا، أَوْ طُولَ حَيَاتِهِ
وَالإِسْكَانُ يَكُونُ فِي الْبُيُوتِ وَفِي الدُّورِ، وَالدَّكَاكِينِ كَمَا
ذَكَرْنَا. وَالإِفْقَارُ يَكُونُ فِي الدَّوَابِّ الَّتِي تُرْكَبُ.
وَالإِطْرَاقُ يَكُونُ فِي الْفُحُولِ تُحْمَلُ عَلَى الإِنَاثِ. ==
========================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق