كتاب :مجلد 7. المحلى أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)
------------
وَيَزِيدُ مِنْ التَّنَاقُضِ
وَالْفَسَادِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تَفْرِيقُهُ بَيْنَ الدَّيْنِ الْحَالِ
وَالْمُؤَجَّلِ فِي ذَلِكَ وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ مَا تُكَلَّفُهُ الأُُمُّ
وَبَيْنَ مَا يُكَلَّفُهُ الْوَلَدُ. وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ إقْرَارِهِ بِالْحَمْلِ
وَبَيْنَ إقْرَارِهِ بِالْوَلَدِ بَعْدَ الْوَضْعِ فِيمَا يُكَلَّفُهُ مِنْ
الأَسْتِسْعَاءِ فِي الْحَالَيْنِ. وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ مَا تُكَلَّفُهُ أُمُّ
الْوَلَدِ وَبَيْنَ مَا يُكَلَّفُهُ الْعَبْدُ بِعِتْقِ. وَتَفْرِيقُهُ بَيْنَ
الرُّجُوعِ مَرَّةً عَلَى السَّيِّدِ بِمَا غَرِمَ الْغَارِمُ مِنْهُمْ وَبَيْنَ
مَنْعِهِمْ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ مَرَّةً بِذَلِكَ. وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ
كُلِّهِ قَوْلُهُ: إنَّ الْوَلَدَ يُسْتَسْعَى، فَلَيْتَ شِعْرِي إلَى مَتَى
بَقِيَ هَذَا الدَّيْنُ الْمَسْخُوطُ حَتَّى وُلِدَ الْمَحْمُولُ بِهِ، وَحَتَّى
فُطِمَ، وَكَبِرَ، وَبَلَغَ، وَتَصَرَّفَ أَفَإِنْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ مَاذَا
يَكُونُ كُلُّ هَذَا بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ،
وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَمَ قَبْلَهُمْ،
وَلاَ قِيَاسٍ أَصْلاً، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ مَا مِثْلُ عُقُولٍ أَنْتَجَتْ
هَذِهِ الأَقْوَالَ بِمَأْمُونَةِ عَلَى تَدْبِيرِ نَوَاةٍ مُحْرِقَة، فَكَيْفَ
عَلَى التَّحَكُّمِ فِي الدِّينِ وَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا
لَعَظِيمَةٌ فِي تَوْفِيقِهِ لَنَا إلَى اتِّبَاعِ كِتَابِهِ، وَسُنَنِ رَسُولِهِ
صلى الله عليه وسلم وَلاَ يُمَوِّهُونَ بِأَنْ يَقُولَ: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى
الأَسْتِسْعَاءِ الثَّابِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَبْدِ
الْمُشْتَرَكِ يَعْتِقُهُ سَيِّدُهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ
فِي عَبْدٍ يَمْلِكُهُ اثْنَانِ فَصَاعِدًا وَلَيْسَ هَاهُنَا مَالُك غَيْرَ
الْمُعْتِقِ عَبْدَهُ وَالْمُوَلِّدِ أَمَتَهُ. وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا
لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ، لأََنَّهُ قِيَاسُ حُكْمٍ عَلَى مَا لاَ
يُشْبِهُهُ، وَعَلَى مَا لَيْسَ مِنْهُ فِي وُرُودٍ، وَلاَ فِي صَدْرٍ
قال أبو محمد: ثُمَّ نَسْأَلُهُمْ؟ مَا الْفَرْقُ بَيْنَ عِتْقِهِ وَهِبَتِهِ
وَبَيْعِهِ وَإِصْدَاقِهِ، إذْ أَجَزْتُمْ الْبَيْعَ بِغَيْرِ إجْمَاعٍ،
وَمَنَعْتُمْ مِنْ سَائِرِ ذَلِكَ؟.
وَأَمَّا هَلاَكُ الرَّهْنِ بِغَيْرِ فِعْلِ الرَّاهِنِ، وَلاَ الْمُرْتَهِنِ،
فَلِلنَّاسِ فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَرَادَّانِ
الْفَضْلَ: تَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ الرَّهْنَ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ وَقِيمَةُ
الدَّيْنِ سَوَاءً، فَقَدْ سَقَطَ الدَّيْنُ، عَنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ، وَلاَ
ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الرَّهْنِ. فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ
سَقَطَ الدَّيْنُ بِمِقْدَارِهِ مِنْ الرَّهْنِ وَكُلِّفَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ
إلَى الرَّاهِنِ مِقْدَارَ مَا كَانَ تَزِيدُهُ قِيمَةُ الرَّهْنِ عَلَى قِيمَةِ
الدَّيْنِ. وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَقَلَّ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ
بِمِقْدَارِهِ وَأَدَّى الرَّاهِنُ إلَى الْمُرْتَهِنِ فَضْلَ مَا زَادَ الدَّيْنُ
عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَكَمِ، وَقَتَادَةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
قَالَ: يَتَرَاجَعَانِ الْفَضْلَ يَعْنِي فِي الرَّهْنِ يَهْلَكُ. وَرُوِيَ
أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ،
وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ
كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الدَّيْنِ أَوْ مِثْلَهَا فَقَدْ
بَطَلَ الدَّيْنُ كُلُّهُ، وَلاَ غَرَامَةَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِي زِيَادَةِ
قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى قِيمَةِ الدَّيْنِ
(8/96)
فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ
الرَّهْنِ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الدَّيْنِ سَقَطَ مِنْ الدَّيْنِ بِمِقْدَارِ
قِيمَةِ الرَّهْنِ وَأَدَّى الرَّاهِنُ إلَى الْمُرْتَهِنِ مَا بَقِيَ مِنْ
دَيْنِهِ: رُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ مَطَرٍ الْوَرَّاقِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ
عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى بْنِ عَامِرٍ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: وَمِنْ طَرِيق
قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ، عَنْ عَلِيٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ إدْرِيسَ الأَوْدِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَيْرٍ
قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: مِثْلَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ، وَقَتَادَةَ .وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَهَبَ الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ كَقِيمَةِ
الدَّيْنِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ إذَا تَلِفَ سَقَطَ الدَّيْنُ، وَلاَ
يَغْرَمُ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ شَيْئًا صَحَّ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ،
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ،
وَقَتَادَةَ وَصَحَّ عَنْ طَاوُوسٍ فِي الْحَيَوَانِ يَرْتَهِن وَرُوِّينَا، عَنِ
النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ فِيمَنْ ارْتَهَنَ عَبْدًا فَأَعْوَرَ عِنْدَهُ
قَالاَ: ذَهَبَ بِنِصْفِ دَيْنِهِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ كَانَ الرَّهْنُ
مِمَّا يَخْفَى كَالثِّيَابِ، وَنَحْوِهَا، فَضَمَانُ مَا تَلِفَ مِنْهَا عَلَى
الْمُرْتَهِنِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَيَبْقَى دَيْنُهُ بِحَسَبِهِ حَتَّى
يُؤَدِّيَ إلَيْهِ بِكَمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ مِمَّا يَظْهَرُ كَالْعَقَارِ،
وَالْحَيَوَانِ، فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَدَيْنُهُ بَاقٍ
بِكَمَالِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: سَوَاءٌ كَانَ مِمَّا يَخْفَى أَوْ مِمَّا لاَ يَخْفَى لاَ ضَمَانَ
فِيهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَصْلاً وَدَيْنُهُ بَاقٍ بِكَمَالِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ
إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ،
وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِهِمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى أَنَا قَتَادَةَ، عَنْ خِلاَسٍ
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي الرَّهْنِ: يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ
فَإِنْ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ بَرِئَ فَصَحَّ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ
لَمْ يَرَ تُرَاد الْفَضْلِ إِلاَّ فِيمَا تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْمُرْتَهِنِ لاَ
فِيمَا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، بَلْ رَأَى الْبَرَاءَةَ لَهُ مِمَّا أَصَابَتْهُ
جَائِحَةٌ وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّهُ قَالَ: الرَّهْنُ وَثِيقَةٌ إنْ هَلَكَ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ غُرْمٌ يَأْخُذُ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ كُلُّهُ. وَعَنِ
الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الرَّهْنِ يَهْلَكُ أَنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ حَقُّ
هَذَا إنَّمَا هَلَكَ مِنْ رَبِّ الرَّهْنِ لَهُ غَنَمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ.
قال أبو محمد: أَمَّا تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ مَا يَخْفَى وَبَيْنَ مَا لاَ
يَخْفَى: فَقَوْلٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ
سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ
نَعْلَمُهُ قَبْلَهُ فَسَقَطَ، وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التُّهْمَةِ;
وَالتُّهْمَةُ ظَنٌّ كَاذِبٌ يَأْثَمُ صَاحِبُهُ، وَلاَ يَحِلُّ الْقَوْلُ بِهِ،
وَالتُّهْمَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إلَى أَحَدٍ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ. وَأَمَّا قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِخَبَرِ مُرْسَلٍ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: " لاَ يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ
غُرْمُهُ، لاَ يُغْلَقُ الرَّهْنُ
(8/97)
مِمَّنْ رُهِنَهُ لَهُ
غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ ". وَقَالُوا: قَدْ أَجْمَعْ الصِّحَابَةُ
عَلَى تَضْمِينِ الرَّهْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ أَمِينٌ فِيمَا زَادَ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ
عَلَى قِيمَةِ دَيْنِهِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الْمُرْتَهِنَ أَمِينٌ فِيمَا فَضَلَ مِنْ
قِيمَةِ الرَّهْنِ عَلَى قِيمَةِ دَيْنِهِ، فَدَعْوَى فَاسِدَةٌ، وَتَفْرِيقٌ
بِلاَ دَلِيلٍ، وَمَا هُوَ إِلاَّ أَمِينٌ فِي الْكُلِّ أَوْ غَيْرُ أَمِينٍ فِي
الْكُلِّ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَجْمَعَ الصِّحَابَةُ عَلَى تَضْمِينِ الرَّهْنِ،
فَقَوْلٌ جَرَوْا فِيهِ عَلَى عَادَتِهِمْ الْخَفِيفَةِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنْ
الْكَذِبِ عَلَى الصَّحَابَةِ بِلاَ مُؤْنَةٍ. وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ هَلْ جَاءَ
فِي هَذَا كَلِمَةٌ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إِلاَّ، عَنْ عُمَرَ،
وَعَلِيٍّ، وَابْنِ عُمَرَ فَقَطْ. فأما عُمَرُ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ ذَلِكَ،
لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَعُبَيْدٍ لَمْ يُولَدْ إِلاَّ
بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ أَوْ أَدْرَكَهُ صَغِيرًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ شَيْئًا.
وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَلاَ يَصِحُّ عَنْهُ ; لأََنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ
إبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْهُ وَهُوَ مَجْهُولٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ
يَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ. وَأَمَّا عَلِيٌّ فَمُخْتَلَفٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَأَصَحُّ
الرِّوَايَات عَنْهُ إسْقَاطُ التَّضْمِينِ فِيمَا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ كَمَا
أَوْرَدْنَا آنِفًا. ثُمَّ أَعْجَبُ شَيْءٍ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ
أَجْمَعُوا عَلَى تَضْمِينِ الرَّهْنِ، فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُمْ قَدْ خَالَفُوا
الإِجْمَاعَ، لأََنَّهُمْ لاَ يُضَمِّنُونَ بَعْضَ الرَّهْنِ وَهُوَ مَا زَادَ
مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى قِيمَةِ الدَّيْنِ فَهَذَا حُكْمُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرُوا فَمُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ،
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً، لأََنَّهُ لاَ
يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَلاَ تَقْسِيمِهِمْ، وَإِنَّمَا
مُقْتَضَاهُ لَوْ صَحَّ هُوَ أَنَّ قَوْلَ لاَ يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِمَّنْ
رُهِنَهُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ،
فَوَجَبَ ضَمَانُ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَلاَ بُدَّ بِخِلاَفِ
قَوْلِهِمْ. وَقَوْلَهُ لاَ يُغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صَاحِبِهِ لَهُ غُنْمُهُ
وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ إنْ كَانَ أَرَادَ بِصَاحِبِهِ مَالِكَهُ، وَهُوَ الأَظْهَرُ،
فَهُوَ يُوجِبُ أَنَّ خَسَارَتَهُ مِنْهُ، وَلاَ يَضْمَنُهُ لَهُ الْمُرْتَهِنُ،
وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِصَاحِبِهِ الْمُرْتَهِنَ فَهُوَ يُوجِبُ ضَمَانَهُ لَهُ
بِكُلِّ حَالٍ، فَصَارَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ بِكُلِّ وَجْهٍ، وَبَطَلَ قَوْلُهُمْ،
وَنَقُولُ لَهُمْ: فِي أَيِّ الأُُصُولِ وَجَدْتُمْ شَيْئًا وَاحِدًا رَهْنًا
كُلَّهُ، عَنْ دَيْنٍ وَاحِدٍ بَعْضُهُ مَضْمُونٌ وَبَعْضُهُ أَمَانَةٌ وَأَنْتُمْ
تَرُدُّونَ السُّنَنَ بِخِلاَفِهَا بِالأُُصُولِ بِزَعْمِكُمْ ثُمَّ
تُخَالِفُونَهَا جِهَارًا بِلاَ نَصٍّ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ " يَتَرَادَّانِ
الْفَضْلَ " فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ أَنَّهُ
اسْتِحْسَانٌ وَكَأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الرَّهْنُ مَكَانَ الدَّيْنِ تَقَاصَّا
فِيهِ، وَهَذَا رَأْيٌ، وَالدِّينُ لاَ يُؤْخَذُ بِالآرَاءِ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ
" ذَهَبَتْ الرُّهُونُ بِمَا فِيهَا " فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِخَبَرِ
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ رَجُلاً
(8/98)
رَهَنَ فَرَسًا فَهَلَكَ
عِنْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ذَهَبَ حَقُّكَ
".
قال أبو محمد: هَذَا مُرْسَلٌ، وَمُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
قال أبو محمد: فَإِذْ قَدْ بَطَلَ كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ، فَالْوَاجِبُ
الرُّجُوعُ إلَى الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ، فَوَجَدْنَا مَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ
بْنُ قَاسِمٍ، حَدَّثَنَا أَبِي قَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قَاسِمٍ، حَدَّثَنَا
جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنِي
يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ الأَنْطَاكِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ،
حَدَّثَنَا نَضْرُ بْنُ عَاصِمٍ الأَنْطَاكِيُّ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، عَنْ
وَرْقَاءَ، حَدَّثَنَا أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لاَ يُغْلَقُ
الرَّهْنُ، الرَّهْنُ لِمَنْ رُهِنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ، وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ
". فَهَذَا مُسْنَدٌ مِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ،
وَادَّعَوْا أَنَّ أَبَا عُمَرَ الْمُطَرِّزَ غُلاَمَ ثَعْلَبٍ، قَالَ: أَخْطَأَ
مَنْ قَالَ: إنَّ الْغُرْمَ الْهَلاَكُ.
قال أبو محمد: وَقَدْ صَحَّ فِي ذَمِّ قَوْمٍ فِي الْقُرْآنِ قوله تعالى: {وَمِنْ
الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا}. أَيْ يَرَاهُ هَالِكًا بِلاَ
مَنْفَعَةٍ، فَالْقُرْآنُ أَوْلَى مِنْ رَأْيِ الْمُطَرِّزِ.
قال أبو محمد: وَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَالَ: " إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". فَلَمْ يُحِلَّ لِغَرِيمِ
الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا، وَلاَ أَنْ يَضْمَنَ الرَّهْنَ بِغَيْرِ نَصٍّ فِي
تَضْمِينِهِ إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى فِيهِ، أَوْ بِأَنْ يُضَيِّعَهُ فَيَضْمَنَهُ
حِينَئِذٍ بِاعْتِدَائِهِ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ. وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ قَدْ
وَجَبَ فَلاَ يُسْقِطُهُ ذَهَابُ الرَّهْنِ.فَصَحَّ يَقِينًا مِنْ هَذَيْنِ
الأَصْلَيْنِ الصَّحِيحَيْنِ بِالْقُرْآنِ، وَالإِجْمَاعِ، وَالسُّنَّةِ: أَنَّ
هَلاَكَ الرَّهْنِ مِنْ الرَّاهِنِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، وَأَنَّ
دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ بَاقٍ بِحَسْبِهِ لاَزِمٌ لِلرَّاهِنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا مَا تَوَلَّدَ مِنْ الرَّهْنِ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ قَضَى فِيمَنْ
ارْتَهَنَ أَرْضًا فَأَثْمَرَتْ، فَإِنَّ الثَّمَرَةَ مِنْ الرَّهْنِ. وَمِنْ
طَرِيقِ طَاوُوسٍ: أَنَّ فِي كِتَابِ مُعَاذٍ " مَنْ ارْتَهَنَ أَرْضًا
فَهُوَ يَحْتَسِبُ ثَمَرَهَا لِصَاحِبِ الرَّهْنِ ".
قال أبو محمد: الْحُكْمَانِ مُتَضَادَّانِ، وَهُمَا قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ
الثَّمَرَةَ لِصَاحِبِ الرَّهْنِ وَالآخَرُ: أَنَّهَا مِنْ الرَّهْنِ. وقال أبو
حنيفة: الْوَلَدُ، وَالْغَلَّةُ، وَالثَّمَرَةُ، رَهْنٌ مَعَ الأُُصُولِ. ثُمَّ
تَنَاقَضُوا، فَقَالُوا: إنْ هَلَكَ الْوَلَدُ، وَالْغَلَّةُ، وَالثَّمَرَةُ: لَمْ
يَسْقُطْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مِنْ، الدَّيْنِ شَيْءٌ، وَإِنْ هَلَكَ الأَصْلُ،
وَالأُُمُّ، وَالشَّجَرُ قُسِّمَ الدَّيْنَ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى النَّمَاءِ،
فَمَا وَقَعَ لِلأَصْلِ سَقَطَ، وَمَا وَقَعَ لِلنَّمَاءِ بَقِيَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ رَهْنٌ عِنْدَهُمْ
ثُمَّ خَالَفُوا بَيْنَ
(8/99)
أَحْكَامِهَا بِلاَ بُرْهَانٍ. وقال مالك: أَمَّا الْوَلَدُ فَدَاخِلٌ فِي الرَّهْنِ، وَأَمَّا الْغَلَّةُ وَالثَّمَرَةُ، فَخَارِجَانِ مِنْ الرَّهْنِ وَهَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ جِدًّا بِلاَ بُرْهَانٍ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْوَلَدَ بَعْضُ الأُُمِّ قلنا: كَذَبَ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَكَيْف يَكُونُ بَعْضَهَا، وَقَدْ يَكُونُ ذَكَرًا وَهِيَ أُنْثَى، وَيَكُونُ مُسْلِمًا، وَهِيَ كَافِرَةٌ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: وَالثَّمَرَةُ أَيْضًا بَعْضُ الشَّجَرِ دَعْوَى كَدَعْوَى. وقال الشافعي: كُلُّ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الأَصْلِ، وَلاَ يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الرَّهْنِ وَهُوَ الْحَقُّ، لأََنَّ الرَّهْنَ هُوَ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ الصَّفْقَةَ، لاَ مَا لَمْ يَتَعَاقَدَاهَا عَلَيْهِ، وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا شَيْءٌ لَمْ يَتَعَاقَدَا الصَّفْقَةَ عَلَيْهِ، فَكُلُّهُ غَيْرُ الأَصْلِ، وَكُلُّهُ حَادِثٌ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الأَصْلِ، فَكُلُّهُ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/100)
إن مات الراهن أو المرتهن بطل
الرهن ووجب رد الرهن إلى الراهن أو إلى ورثته وحل الدين الؤجل
...
1215 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ بَطَلَ الرَّهْنُ
وَوَجَبَ رَدُّ الرَّهْنِ إلَى الرَّاهِنِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ، وَحُلَّ
الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ
وَلاَ يَكُونُ الْمُرْتَهِنُ أَوْلَى بِثَمَنِ الرَّهْنِ مِنْ سَائِرِ
الْغُرَمَاءِ حِينَئِذٍ، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَإِذَا مَا مَاتَ الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّمَا كَانَ
حَقُّ الرَّهْنِ لَهُ، لاَ لِوَرَثَتِهِ، وَلاَ لِغُرَمَائِهِ، وَلاَ لأََهْلِ
وَصِيَّتِهِ، وَإِنَّمَا تُورَثُ الأَمْوَالُ لاَ الْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ
أَمْوَالاً: كَالأَمَانَاتِ، وَالْوَكَالاَت، وَالْوَصَايَا وَغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ بِمَوْتِهِ وَجَبَ رَدُّ الرَّهْنِ إلَى
صَاحِبِهِ. وَإِذَا مَاتَ الرَّاهِنُ فَإِنَّمَا كَانَ عَقْدُ الْمُرْتَهِنِ
مَعَهُ لاَ مَعَ وَرَثَتِهِ، وَقَدْ سَقَطَ مِلْكُ الرَّاهِنِ، عَنِ الرَّهْنِ
بِمَوْتِهِ، وَانْتَقَلَ مِلْكُهُ إلَى وَرَثَتِهِ أَوْ إلَى غُرَمَائِهِ، وَهُوَ
أَحَدُ غُرَمَائِهِ، أَوْ إلَى أَهْلِ وَصِيَّتِهِ، وَلاَ عَقْدَ لِلْمُرْتَهِنِ
مَعَهُمْ، وَلاَ يَجُوزُ عَقْدُ الْمَيِّتِ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ كَاسِبًا
عَلَيْهِمْ، فَالْوَاجِبُ رَدُّ مَتَاعِهِمْ إلَيْهِمْ، وَلِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ ". وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ خَالَفَ هَذَا حُجَّةً أَصْلاً:
وَرُوِّينَا عَنِ الشَّعْبِيِّ فِيمَنْ رَهَنَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَمَاتَ: أَنَّ
الرَّهْنَ لَهُ أَيْ لِوَرَثَتِهِ، قَالَ: الْحَكَمُ هُوَ لِلْغُرَمَاءِ.
(8/100)
من ارتهن شيئا فخاف فساده
ففرض عليه أن يأتي الحاكم فيبيعه ويوقف الثمن لصاحبه
...
1216 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ ارْتَهَنَ شَيْئًا فَخَافَ فَسَادَهُ كَعَصِيرِ خِيفَ
أَنْ يَصِيرَ خَمْرًا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ الْحَاكِمَ فَيَبِيعَهُ
وَيُوقِفَ الثَّمَنَ لِصَاحِبِهِ
إنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ يُنْصِفَ مِنْهُ الْغَرِيمَ الْمُرْتَهِنَ إنْ كَانَ
الدَّيْنُ حَالًّا أَوْ يَصْرِفَ الثَّمَنَ إلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ
مُؤَجَّلاً، فَإِنْ لَمْ يُمَكِّنْهُ السُّلْطَانُ فَلْيَفْعَلْ هُوَ مَا
ذَكَرْنَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
وَلِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَلأََنَّ
ثَمَنَ الرَّهْنِ هُوَ غَيْرُ الرَّهْنِ، وَإِنَّمَا عَقْدُهُ فِي الرَّهْنِ لاَ
فِي ثَمَنِهِ، وَإِنَّمَا ثَمَنُهُ مَالٌ مِنْ مَالِ مَالِكِهِ كَسَائِرِ مَالِهِ،
وَلاَ فَرْقَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/100)
1217 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ بَيْعُ سِلْعَةٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ رَهْنًا، عَنْ ثَمَنِهَا،
فَإِنْ وَقَعَ فَالْبَيْعُ مَفْسُوخٌ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لِلْبَائِعِ إمْسَاكُ
سِلْعَتِهِ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْ ثَمَنِهَا إنْ كَانَ حَالًّا وَإِلَّا فَلَيْسَ
لَهُ ذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ اشْتَرَطَ مَنْعَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِ مَا اشْتَرَى
مُدَّةً مُسَمَّاةً وَهَذَا شَرْطٌ لَيْسَ
(8/100)
1218 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَكُونُ حُكْمُ الرَّهْنِ إِلاَّ لِمَا ارْتَهَنَ فِي نَفْسِ عَقْدِ التَّدَايُنِ،
وَأَمَّا مَا ارْتَهَنَ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَلَيْسَ لَهُ حُكْمُ الرَّهْنِ،
وَلِرَاهِنِهِ أَخْذُهُ مَتَى شَاءَ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ
الرَّهْنَ إِلاَّ فِي الْعَقْدِ كَمَا تَلَوْنَا وَكُلُّ مَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ
فَهُوَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ.
(8/101)
من تداين فرهن في العقد رهنا
صحيحا ثم بعد ذلك تداينا أيضا وجعلا ذلك الرهن رهنا عن هذا الدين الثاني فالعقد
باطل مردود
...
1219 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ تَدَايَنَ فَرَهَنَ فِي الْعَقْدِ رَهْنًا صَحِيحًا،
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَدَايَنَا أَيْضًا وَجَعَلاَ ذَلِكَ الرَّهْنَ رَهْنًا، عَنْ
هَذَا الدَّيْنِ الثَّانِي، فَالْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلٌ مَرْدُودٌ،
لأََنَّ ذَلِكَ الرَّهْنَ قَدْ صَحَّ فِي الْعَقْدِ الأَوَّلِ، فَلاَ يَجُوزُ
نَقْلُهُ إلَى عَقْدٍ آخَر، إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، فَهُوَ
شَرْعٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَكُلُّ عَقْدٍ
انْعَقَدَ عَلَى بَاطِلٍ فَهُوَ بَاطِلٌ، لأََنَّهُ لَمْ تُعْقَدْ لَهُ صِحَّةٌ
إِلاَّ بِصِحَّةِ مَا لاَ صِحَّةَ لَهُ، فَلاَ صِحَّةَ لَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/101)
1220 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ
رَهَنَ رَهْنًا صَحِيحًا ثُمَّ أَنْصَفَ مِنْ بَعْضِ دَيْنِهِ أَقَلِّهِ أَوْ
أَكْثَرِهِ فَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجُ، عَنِ الرَّهْنِ بِقَدْرِ مَا أَدَّى، لَمْ
يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ،
لأََنَّ الرَّهْنَ وَقَعَ فِي جَمِيعِهِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَلاَ يَسْقُطُ، عَنْ
بَعْضِ الرَّهْنِ حُكْمُ الرَّهْنِ مِنْ أَجْلِ سُقُوطِ بَعْضِ الدَّيْنِ، إذْ
لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ. هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ،
وَأَصْحَابِنَا. فإن قيل: كَيْفَ تَمْنَعُونَ مِنْ إخْرَاجِ الرَّهْنِ إِلاَّ بِرِضَا
الْمُرْتَهِنِ، وَتُجِيزُونَ بَيْعَهُ وَعِتْقَهُ وَالصَّدَقَةَ بِهِ، وَهُوَ
إخْرَاجٌ لَهُ
(8/101)
1221 – مَسْأَلَةٌ- وَلاَ
يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَرْهَنَ مَالَ غَيْرِهِ، عَنْ نَفْسِهِ، وَلاَ مَالَ
وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ، إِلاَّ بِإِذْنِ صَاحِبِ السِّلْعَةِ
الَّتِي يُرِيدُ رَهْنَهَا،
وَلاَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلاَ مَالَ يَتِيمِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ، وَلاَ
مَالَ زَوْجَتِهِ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ، وَالْمَالِكِيُّونَ: لَهُ أَنْ
يَرْهَنَ، عَنْ نَفْسِهِ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ. قَالَ الْمَالِكِيُّونَ:
وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْهَنَ مَالَ يَتِيمِهِ، عَنْ نَفْسِهِ. وَقَالُوا: إذَا
أَذِنَ الأَجْنَبِيُّ لِغَيْرِهِ أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ، عَنْ نَفْسِهِ جَازَ.
وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ أَنَّ لِلأَبِ الْوَصِيِّ أَنْ يُودِعَ مَالَ الأَبْنِ
وَالْيَتِيمِ، فَإِدْخَالُهُ فِي الذِّمَّةِ أَحَقُّ بِالْجِوَازِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ لأََنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُمَا إيدَاعُهُ وَلاَ
قَرْضُهُ إِلاَّ حَيْثُ يَكُونُ ذَلِكَ نَظَرًا وَحِيَاطَةً لِلصَّغِيرِ وَلاَ
نَظَرَ لَهُ أَصْلاً فِي أَنْ يَرْهَنَهُ الأَبُ وَالْوَصِيُّ عَنْ أَنْفُسِهِمَا،
فَهُوَ ضَرَرٌ، فَهُوَ مَرْدُودٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ لِلإِنْسَانِ أَنْ يُودِعَ
الْوَدِيعَةَ الَّتِي أُودِعَتْ عِنْدَهُ أَذَا خَشِيَ هَلاَكَهَا عِنْدَهُ،
وَرَأَى السَّلاَمَةَ فِي إيدَاعِهَا: فَيَلْزَمُهُمْ بِهَذَا الأَسْتِدْلاَل
الْبَدِيعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْهَنَهَا عَنْ نَفْسِهِ. وَاحْتَجُّوا فِي
ذَلِكَ بِمَا صَحَّ مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: " إنَّ
أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ
". وَمِنْ طَرِيقِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ
عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:" إنَّ
أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ وَوَلَدُهُ مِنْ كَسْبِهِ".
رُوِّينَاهُمَا مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ
حَمَّادٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، قَالَ بَكْرٌ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ وقال
أحمد: حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ عَنِ الأَعْمَشِ
عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنِ الأَسْوَدِ.
قال أبو محمد: وَهَذَانِ الْخَبَرَانِ إنَّمَا هُمَا فِي الأَكْلِ وَهَكَذَا نَقُولُ:
يَأْكُلُ مِنْهُ مَا شَاءَ
(8/102)
مِنْ بَيْتِهِ وَغَيْر
بَيْتِهِ وَلَيْسَا فِي الْبَيْعِ وَلاَ فِي الأَرْتِهَانِ، وَلاَ فِي الْهِبَةِ.
وَلاَ فِي الأَخْذِ وَالتَّمَلُّكِ
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الأَكْلِ
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكُنْتُمْ قَدْ
تَنَاقَضْتُمْ أَفْحَشَ تَنَاقُضٍ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} إلَى قوله تعالى: {أَوْ مَا
مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} فَأَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى الأَكْلَ مِنْ
بُيُوتِ الأَصْدِقَاءِ وَاَلَّتِي مَفَاتِحُهَا بِأَيْدِينَا وَبُيُوتِ الإِخْوَةِ
وَالأَخَوَات وَسَائِرِ مَنْ ذُكِرَ فِي الآيَةِ فَأَبِيحُوا الأَرْتِهَانَ
مِنْهَا قِيَاسًا عَلَى الأَكْلِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا وَأَنْتُمْ لاَ
تَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَقَدْ نَقَضْتُمْ قِيَاسَكُمْ وَتَرَكْتُمُوهُ وَقَضَيْتُمْ
بِفَسَادِهِ وَهُوَ أَهْلٌ لِلْفَسَادِ جُمْلَةً، وَالثَّانِي أَنَّكُمْ لاَ
تُجِيزُونَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ
النَّظَرِ لَهُ، وَلاَ أَنْ يَتَمَلَّكَ مِنْهُ شَيْئًا أَصْلاً لِغَيْرِ
الْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ إِلاَّ الأَرْتِهَانَ خَاصَّةً، وَعِنْدَ الْمَالِكِيِّينَ
أَنْ يُصَدِّقهُ، عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً فَكَمْ هَذَا التَّنَاقُضُ
وَالتَّحَكُّمُ فِي الدِّينِ بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ الْمُضْطَرِبَةِ،
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُد هُوَ الْخُرَيْبِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: " أَنْتَ وَمَالُكَ
لأََبِيكَ ".
قال أبو محمد: فَأَبَاحُوا بِهِ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ
وَأَسْقَطُوا عَنْهُ الْحَدَّ فِي وَطْءِ أَمَةِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ
وَأَسْقَطُوا عَنْهُ الْحَدَّ فِيمَا سَرَقَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الْكَبِيرِ،
وَالصَّغِيرِ، وَقَضَوْا عَلَى الأَبِ بِضَمَانِهِ وَرَدِّهِ، وَأَبَاحَ
الْمَالِكِيُّونَ بِهِ أَنْ يُصَدِّق مَالَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ، عَنْ نَفْسِهِ
وَأَنْ يُعْتِقَ رَقَبَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ خَاصَّةً وَيَضْمَنَ الْقِيمَةَ فِي
ذَلِكَ كُلِّهِ.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَلْ هُوَ حُجَّةٌ
عَلَيْهِمْ لأََنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفُوهُ فَلَمْ يُبِيحُوا لِلأَبِ مِنْ
مَالِ ابْنِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَالْحَدِيثُ عَامٌّ لَمْ يَخُصَّ هَذِهِ
الْوُجُوهَ مِنْ غَيْرِهَا فَلاَ يَجُوزُ لَهُمْ تَخْصِيصُهَا بِدَعْوَى كَاذِبَةٍ.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُمْ لَمْ يُبِيحُوا الأَرْتِهَانَ وَالإِصْدَاقَ
إِلاَّ مِنْ مَالِ الأَبْنِ الصَّغِيرِ لاَ مِنْ مَالِ الأَبْنِ الْكَبِيرِ
فَخَالَفُوا الْخَبَرَ وَتُحَكَّمُوا فِي الدَّيْنِ بِالتَّحْرِيمِ،
وَالتَّحْلِيلِ بِالدَّعْوَى الْمُبْطِلَةِ بِلاَ بُرْهَانٍ فَإِنْ ادَّعَوْا
إجْمَاعًا كَذَبُوا لأََنَّهُ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ
رَجُلاً صَنَعَ شَيْئًا فِي مَالِهِ وَلَمْ يَسْتَأْذِنْ أَبَاهُ فَسَأَلَ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم أَوْ أَبَا بَكْرٍ أَوْ عُمَرَ فَقَالَ: اُرْدُدْ عَلَيْهِ
فَإِنَّمَا هُوَ سَهْمٌ مِنْ كِنَانَتِكَ "، وَقَدْ صَحَّ مَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا أَبُو قِلاَبَةَ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا
رَوْحٌ
(8/103)
هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ،
حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ
بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: يَأْخُذُ الأَبُ، وَالأُُمُّ مِنْ مَالِ وَلَدِهِمَا
بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلاَ يَأْخُذُ الأَبْنُ وَالأَبْنَةُ مِنْ مَالِ أَبَوَيْهِمَا
بِغَيْرِ إذْنِهِمَا، وَصَحَّ مِثْلُهُ نَصًّا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى الْعَبْسِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سُوَيْد، هُوَ ابْنُ غَفَلَةَ، عَنْ
أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ مِنْ قَوْلِهَا ; وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ،
حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى الأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ
الأَزْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُبَابُ بْنُ فَضَالَةَ بْنِ هُرْمُزَ الْحَنَفِيُّ
قَالَ: قُلْت لأََنَسِ بْنِ مَالِكٍ: جَارِيَةٌ لِي غَلَبَنِي عَلَيْهَا أَبِي
لَمْ يَخْلِطُهَا مَالٌ لأََبِي فَقَالَ لِي أَنَسٌ: هِيَ لَهُ، أَنْتَ وَمَالُك
مِنْ كَسْبِهِ، أَنْتَ وَمَالُك لَهُ حَلاَلٌ، وَمَالُهُ عَلَيْك حَرَامٌ إِلاَّ
مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا أَبُو
قِلاَبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد هُوَ السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ مَسْعُودِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ: أَوْلاَدُكُمْ هِبَةُ اللَّهِ لَكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ لَكُمْ. رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَتَاهُ أَبٌ
وَابْنٌ وَالأَبْنُ يَطْلُبُ أَبَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَقْرَضَهُ إيَّاهَا
وَالأَبُ يَقُولُ: إنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا فَأَخَذَ عُمَرُ بِيَدِ الأَبْنِ
فَوَضَعَهَا فِي يَدِ الأَبِ فَقَالَ: هَذَا وَمَالُهُ مَنْ هِبَةِ اللَّهِ لَك.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوُ هَذَا وَأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ
الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ وَجَوَّزَ مَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
كَانَ عَطَاءٌ لاَ يَرَى بَأْسًا بِأَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ
مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ
إسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: أَنْتَ مِنْ
هِبَةِ اللَّهِ لأََبِيك، أَنْتَ وَمَالُك لأََبِيك. حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا الْحَسَنُ،
هُوَ ابْنُ حَيٍّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْحَكَمِ، قَالاَ جَمِيعًا:
يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ إِلاَّ الْفَرْجَ، حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ:
الْوَالِد فِي حِلٍّ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ إِلاَّ الْفَرْجَ. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي
بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ خَاصَمَ أَبَاهُ إلَى
الشَّعْبِيِّ فِي مَالٍ لَهُ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ لِعَبْدِ اللَّهِ، أَجْعَلُك
وَمَالَك لَهُ يَعْنِي لِوَلَدِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ
بْنِ حَيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: الرَّجُلُ فِي حِلٍّ مِنْ
مَالِ وَلَدِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَأْخُذَ الرَّجُلُ مِنْ
مَالِ وَلَدِهِ مَا شَاءَ مَا لَمْ يُضَارّهُ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ
حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: الْوَالِدُ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ
(8/104)
وَلَدِهِ مَا شَاءَ
وَالْوَلَدُ لاَ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ وَالِدِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ الْبُرْسَانِيُّ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: يَأْخُذُ
الْوَالِدَانِ مِنْ مَالِ وَلَدِهِمَا مَا شَاءَا وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ
حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا وَهْبِ بْنِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
سَمِعْت الْحَسَنَ وَسَأَلَهُ سَائِلٌ، عَنْ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ وَالِدِهِ فَقَالَ
لَهُ الْحَسَنُ: أَنْتَ وَمَالُك لأََبِيك، أَمَا عَلِمْت أَنَّك عَبْدُ أَبِيك
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ،
عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ
مَا شَاءَ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً تَسُرَّاهَا، قَالَ قَتَادَةَ: لَمْ
يُعْجِبْنِي مَا قَالَ فِي الْجَارِيَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ
قَالَ: يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ إِلاَّ الْفَرْجَ. وَقَدْ
رُوِّينَا عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا إِلاَّ الْفَرْجَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى:
لاَ يَغْرَمُ الأَبُ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ
لِمَالِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ خِلاَفًا مِنْ الصَّحَابَةِ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْهُمْ
فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُمْ: عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ،
وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَنَسٌ،
وَابْنُ عَبَّاسٍ، إِلاَّ رِوَايَةً صَحَّتْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَأُخْرَى، عَنْ
عَلِيٍّ لَمْ يَصِحَّ. وَلاَ نَعْلَمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّابِعِينَ
مُخَالِفًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلاَّ ابْنَ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيَّ،
وَمُجَاهِدًا، بِاخْتِلاَفِ عَنْهُمْ وَالزُّهْرِيَّ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ
كَقَوْلِنَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا
الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
سِيرِينَ قَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْلَى بِمَالِهِ يَعْنِي الْوَالِدَ
وَالْوَلَدَ. وبه إلى عَبْدٍ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: لَيْسَ
لِلأَبِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ إِلاَّ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ طَعَامٍ، أَوْ
شَرَابٍ، أَوْ لِبَاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: لاَ يَأْخُذُ الرَّجُلُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ
شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَحْتَاجَ فَيُسْتَنْفَقَ بِالْمَعْرُوفِ، يَعُولُهُ ابْنُهُ،
كَمَا كَانَ الأَبُ يَعُولُهُ، فأما إذَا كَانَ الأَبُ مُوسِرًا فَلَيْسَ لَهُ
أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ فَيَبْقَى بِهِ مَالُهُ، أَوْ يَضَعُهُ فِي مَا
لاَ يَحِلُّ قَالَ: فَإِذَا كَانَتْ أُمُّ الْيَتِيمِ مُحْتَاجَةً أَنْفَقَ
عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ، يَدُهَا مَعَ يَدِهِ، وَالْمُوسِرَةُ لاَ شَيْءَ لَهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى،
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خُذْ مِنْ مَالِ وَلَدِك
مَا أَعْطَيْته، وَلاَ تَأْخُذْ مِنْهُ مَا لَمْ تُعْطِهِ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ: إنَّ أَبِي يَحْرِمْنِي
مَالَهُ فَقَالَ لَهُ جَابِرٌ: كُلْ مَنْ مَالِ أَبِيك بِالْمَعْرُوفِ. حَدَّثَنَا
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ
حَازِمٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ نَحَرَ جَزُورًا فَجَاءَ
سَائِلٌ فَسَأَلَ ابْنَ عُمَرَ؟
(8/105)
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا
هِيَ لِي فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: يَا أَبَتَاهُ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ، أَطْعِمْ
مِنْهَا مَا شِئْت. حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ
عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ: الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَالِ وَلَدِهِ إذَا كَانَ صَغِيرًا فَإِذَا
كَبُرَ وَاحْتَازَ مَالَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إسْرَائِيلُ ضَعِيفٌ.
قال أبو محمد: يَقُولُ ابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ،
وَمُجَاهِدٌ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، نَقُولُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ فِي
الأَكْلِ خَاصَّةً فَإِنَّ لِلأَبِ وَالأُُمِّ أَنْ يَأْكُلاَ مِنْ مَالِ
الْوَلَدِ حَيْثُ وَجَدَاهُ مِنْ بَيْتٍ أَوْ غَيْرِ بَيْتٍ فَقَطْ ثُمَّ لاَ
شَيْءَ لَهُمَا، وَلاَ حُكْمَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ، لاَ بِعِتْقِ، وَلاَ
بِإِصْدَاقِ، وَلاَ بِارْتِهَانِ، إِلاَّ إنْ كَانَا فَقِيرَيْنِ، فَيَأْخُذُ
الْفَقِيرُ مِنْهُمَا مَا احْتَاجَ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ مِنْ كِسْوَةٍ، وَأَكْلٍ،
وَسُكْنَى، وَخِدْمَةٍ، وَمَا احْتَاجَا إلَيْهِ فَقَطْ. وَأَمَّا الْوَلَدُ
فَيَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ، وَبَيْتِ أُمِّهِ مَا شَاءَ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا،
وَلاَ يَأْكُلُ مِنْ غَيْرِ الْبَيْتِ شَيْئًا، كَمَا جَاءَتْ النُّصُوصُ، لاَ
يَتَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ، فَإِنْ احْتَاجَ أَخَذَ أَيْضًا كَمَا قلنا فِي
الْوَالِدَيْنِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا وَبِذِي
الْقُرْبَى} ثُمَّ الْحُدُودُ، وَالأَحْكَامُ لاَزِمَةٌ لِلأَبِ فِي جَارِيَةِ
وَلَدِهِ، وَفِي مَالِ وَلَدِهِ، وَلاَزِمَةٌ لِلأَبْنِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ،
وَأُمِّهِ، وَمَالِهِمَا، كَمَا هِيَ فِيمَا بَيْنَ الأَجْنَبِيَّيْنِ سَوَاءٌ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ يُشَنِّعُونَ خِلاَفَ
الصَّاحِبِ لاَ يُعْرَفُ لَهُ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ إذَا وَافَقَ شَهَوَاتهمْ،
وَيَجْعَلُونَهُ إجْمَاعًا وَيَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ. وَأَقْرَبُ ذَلِكَ: مَا
ذَكَرْنَا مِنْ دَعْوَى الْحَنَفِيِّينَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى تَضْمِينِ
الرَّهْنِ، وَلَيْسَ مِنْهُ إِلاَّ رِوَايَاتٌ لاَ تَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ،
وَابْنِهِ، وَعَلِيٍّ فَقَطْ. وَقَدْ صَحَّتْ، عَنْ عَلِيٍّ رِوَايَةٌ بِإِسْقَاطِ
التَّضْمِينِ إذَا أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، ثُمَّ لاَ يَرَوْنَ هَاهُنَا مَا قَدْ
صَحَّ عَنْ عَائِشَةَ وَأَنَسٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ يُعْرَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم حُجَّةٌ
أَصْلاً، وَلاَ يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ، إِلاَّ رِوَايَةً، عَنْ عُمَرَ
رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
قُدَامَةَ الْحَنَفِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ: أَنَّ رَجُلاً خَاصَمَ أَبَاهُ
إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي مَالٍ أَخَذَهُ لَهُ أَبُوهُ فَقَالَ عُمَرُ:
أَمَّا مَا كَانَ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ، وَأَمَّا مَا اسْتَهْلَكَ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا هَذَا أَيْضًا، مَعَ أَنَّهَا
لاَ تَصِحُّ، لأََنَّهَا عَمَّنْ لاَ يَدْرِي مَنْ هُوَ أَلَيْسَ هَذَا مِنْ
أَعْجَبْ الْعَجَبِ وَمِمَّا يَنْبَغِي لِذِي الْحَيَاءِ أَنْ يَهَابَهُ، وَلِذِي
الدِّينِ أَنْ يُفَرِّقَهُ. فإن قيل: فَأَنْتُمْ الْقَائِلُونَ بِكُلِّ مَا صَحَّ
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلِمَ اسْتَحْلَلْتُمْ تَرْكَ الثَّابِتِ
عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ عليه السلام: " أَنْتَ وَمَالُكَ لأََبِيكَ "؟
قلنا: يُعِيذُنَا اللَّهُ مِنْ أَنْ نَتْرُكَ خَبَرًا صَحَّ عَنْهُ عليه السلام،
وَلَوْ أُجْلِبُ عَلَيْنَا مِنْ بَيْنِ الْبَحْرَيْنِ إِلاَّ أَنْ يَصِحَّ
نَسْخُهُ وهذا الخبر مَنْسُوخٌ لاَ شَكَّ فِيهِ لأََنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
حَكَمَ بِمِيرَاثِ الأَبَوَيْنِ، وَالزَّوْجِ، وَالزَّوْجَةِ، وَالْبَنِينَ،
وَالْبَنَاتِ مِنْ مَالِ الْوَلَد
(8/106)
إذَا مَاتَ وَأَبَاحَ فِي الْقُرْآنِ لِكُلِّ مَالِك أَمَةٍ وَطْأَهَا بِمِلْكِ يَمِينِهِ، وَحَرَّمَهَا عَلَى مَنْ لاَ يَمْلِكُهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} فَدَخَلَ فِي هَذَا مَنْ لَهُ وَالِدٌ، وَمَنْ لاَ وَالِدَ لَهُ. فَصَحَّ أَنَّ مَالَ الْوَلَدِ لَهُ بِيَقِينِ، لاَ لأََبَوَيْهِ، وَلاَ حَقَّ لَهُمَا فِيهِ إِلاَّ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الأَكْلِ، أَوْ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَقَطْ. وَلَوْ كَانَ مَالُ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ لَمَا وَرِثَتْ زَوْجَةُ الْوَلَدِ، وَلاَ زَوْجُ الْبِنْتِ، وَلاَ أَوْلاَدُهُمَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، لأََنَّهُ مَالٌ لأَِنْسَانِ حَيٍّ، وَلاَ كَانَ يَحِلُّ لِذِي وَالِدٍ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ أَصْلاً، لأََنَّهَا لأََبِيهِ كَانَتْ تَكُونُ. فَصَحَّ بِوُرُودِ هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ وَبَقَائِهِمَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثَابِتَيْنِ غَيْرِ مَنْسُوخَيْنِ: أَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرُ مَنْسُوخٌ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا صَحَّ بِالنَّصِّ، وَالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقَّنِ: أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَمَةً، أَوْ عَبْدًا لَهُمَا وَالِدٌ فَإِنَّ مِلْكَهُمَا لِمَالِكِهِمَا، لاَ لأََبِيهِمَا. فَصَحَّ أَيْضًا: أَنَّ قَوْلَهُ عليه السلام: إنَّهُ لأََبِيهِ مَنْسُوخٌ، وَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَهَذَا مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ بِالأَثَرِ وَخَالَفُوا ذَلِكَ الأَثَرَ نَفْسَهُ. وَأَمَّا رَهْنُ الْمَرْءِ السِّلْعَةَ تَكُونُ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَإِنَّ الرَّهْنَ لاَ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ، عَنِ الأَرْتِهَانِ إِلاَّ بِخُرُوجِهِ، عَنْ مِلْكِ الرَّاهِنِ، أَوْ بِهَلاَكِهِ، أَوْ بِاسْتِحَالَتِهِ، حَتَّى يَسْقُطَ عَنْهُ الأَسْمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حِينَ رُهِنَ، أَوْ بِقَضَاءِ الْحَقِّ الَّذِي رُهِنَ عَنْهُ، فَالْتِزَامُ غَيْرِ الرَّاهِنِ لِلرَّاهِنِ هَذَا كُلُّهُ فِي سِلْعَتِهِ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلَهُ أَخْذُ سِلْعَتِهِ مَتَى شَاءَ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ لأََنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الرُّهُونِ فِيمَا ذَكَرْنَا فَلَيْسَ رَهْنًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/107)
إذا استحق الرهن أو بعضه بطلت
الصفة كلها
...
1222 – مَسْأَلَةٌ- وَإِذَا اُسْتُحِقَّ الرَّهْنُ أَوْ بَعْضُهُ بَطَلَتْ
الصَّفْقَةُ كُلُّهَا
لأََنَّهُمَا تَعَاقَدَا صِحَّتَهَا بِصِحَّةِ الرَّهْنِ وَلَمْ يَتَعَاقَدَا
قَطُّ تِلْكَ الْمُدَايَنَةَ إِلاَّ عَلَى صِحَّةِ الرَّهْنِ، وَذَلِكَ الرَّهْنُ
لاَ صِحَّةَ لَهُ، تِلْكَ الْمُدَايَنَةُ لَمْ تَصِحَّ قَطُّ. وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/107)
إذا رهن جماعة رهنا هو لهم
عند واحد أو رهن واحد عند جماعة فأي واحد من الجماعة قضا ما عليه خرج حقه من ذلك
الرهن وبقي نصيب شركائه رهنا بحسبه
...
1223 - مَسْأَلَةٌ - وَإِذَا رَهَنَ جَمَاعَةٌ رَهْنًا هُوَ لَهُمْ عِنْدَ
وَاحِدٍ، أَوْ رَهَنَ وَاحِدٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ، فَأَيُّ الْجَمَاعَةِ قَضَى مَا
عَلَيْهِ خَرَجَ حَقُّهُ مِنْ ذَلِكَ الرَّهْنِ، عَنِ الأَرْتِهَانِ، وَبَقِيَ
نَصِيبُ شُرَكَائِهِ رَهْنًا بِحَسَبِهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ قَضَى الْوَاحِدُ بَعْضَ الْجَمَاعَةِ حَقَّهُ دُونَ بَعْضٍ فَقَدْ
سَقَطَ حَقُّ الْمَقْضِيِّ فِي الأَرْتِهَانِ، وَرَجَعَتْ حِصَّتُهُ مِنْ
الرَّهْنِ إلَى الرَّاهِنِ، وَبَقِيَتْ حِصَصُ شُرَكَائِهِ رَهْنًا بِحَسَبِهَا،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَصَحَّ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/107)
1224 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
حَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِي شَيْءٍ مِنْ رَقَبَةِ الرَّهْنِ،
فَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ فَوَطِئَهَا فَهُوَ زَانٍ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَذَلِكَ
الْوَلَدُ رَقِيقٌ لِلرَّاهِنِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "
الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ
(8/107)
1225 - مَسْأَلَةٌ - وَرَهْنُ
الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ جَائِزٌ طُبِعَتْ أَوْ لَمْ تُطْبَعْ.
قَالَ مَالِكٌ: لاَ يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ تُطْبَعَ وَهَذَا قَوْلٌ لاَ نَعْلَمُهُ
لأََحَدٍ قَبْلَهُ، وَلَئِنْ كَانَ يُخَافُ انْتِفَاعٌ بِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ
لَمَخُوفٍ عَلَى كُلِّ مَا يُرْهَنُ، وَلاَ فَرْقَ، وَلاَ سِيَّمَا مَعَ قَوْلِهِ:
إنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ لاَ تَتَعَيَّنُ، وَإِنَّ امْرَأً لَوْ غَصَبَ
دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِرَدِّهِمَا بِعَيْنِهِمَا،
وَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فِي يَدِهِ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ مِثْلُهُمَا. وَهَذَا
عَجَبٌ جِدًّا مَعَ قَوْلِهِ فِي طَبْعِهِمَا فِي الرَّهْنِ. وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَمَّ " كِتَابُ الرَّهْنِ " وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(8/108)
كتاب الحوالة
الدليل على مشروعية الحوالة
...
كتاب الحوالة
1226 - مَسْأَلَةٌ -
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ: نا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ نا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَُعْرَجِ; وَقَالَ
مُسْلِمٌ: نا ابْنُ رَافِعٍ نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ نا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ
مُنَبِّهٍ - ثُمَّ اتَّفَقَ الأَُعْرَجُ، وَهِشَامٌ، وَكِلَاهُمَا عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" مَطْلُ
الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا اُتُّبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ
" . وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي " كِتَابِ الْبُيُوعِ " بِإِسْنَادِهِ أَنَّهُ
قَالَ: " إذَا ابْتَعْتَ بَيْعًا فَلَا تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ " .
فَوَجَبَ مِنْ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ عِنْدَ آخَر حَقٌّ
مِنْ غَيْرِ الْبَيْعِ لَكِنْ مِنْ ضَمَانِ غَصْبٍ أَوْ تَعَدٍّ بِوَجْهِ مَا،
أَوْ مِنْ سَلَمٍ سَلَّمَ فِيهِ، أَوْ مِنْ قَرْضٍ، أَوْ مِنْ صُلْحٍ، أَوْ
إجَارَةٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ مِنْ كِتَابَةٍ، أَوْ مِنْ ضَمَانٍ، فَأَحَالَهُ
بِهِ عَلَى مَنْ لَهُ عِنْدَهُ حَقٌّ مِنْ غَيْرِ الْبَيْعِ، لَكِنْ بِأَحَدِ
هَذِهِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَا نُبَالِي مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ كَانَ
الْحَقَّانِ، أَوْ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَكَانَ الْمُحَالُ عَلَيْهِ
يُوفِيه حَقَّهُ مِنْ وَقْتِهِ وَلَا يَمْطُلُهُ: فَفَرْضٌ عَلَى الَّذِي أُحِيلَ
أَنْ يَسْتَحِيلَ عَلَيْهِ، وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَيَبْرَأَ الْمُحِيلُ
مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ . وَلَا رُجُوعَ لِلَّذِي أُحِيلَ عَلَى الَّذِي أَحَالَهُ
بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ - انْتَصَفَ، أَوْ لَمْ يَنْتَصِفْ - أَعْسَرَ
الْمُحَالُ عَلَيْهِ إثْرَ الإِحَالَةِ عَلَيْهِ أَمْ لَمْ يُعْسَرْ، لِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ،
وَلَا يَجُوزُ لَهُ اتِّبَاعُ غَيْرِهِ فَإِنْ غَرَّهُ وَأَحَالَهُ عَلَى غَيْرِ
مَلِيءٍ وَالْمُحِيلُ يَدْرِي أَنَّهُ غَيْرُ مَلِيءٍ أَوْ لَا يَدْرِي فَهُوَ
عَمَلٌ فَاسِدٌ وَحَقُّهُ
(8/108)
1227 - مَسْأَلَةٌ - وَإِذَا
ثَبَتَ حَقُّ الْمُحِيلِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ
بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ، وَإِنْ كَانَ جَاحِدًا فَهِيَ حَوَالَةٌ صَحِيحَةٌ.
وقال مالك: لاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِإِقْرَارِهِ بِالْحَقِّ فَقَطْ وَهَذِهِ دَعْوَى
بِلاَ بُرْهَانٍ وَاحْتَجَّ لَهُ مَنْ قَلَّدَهُ بِأَنَّهُ قَدْ تُجْرَحُ
الْبَيِّنَةُ فَيَبْطُلُ الْحَقُّ قلنا: وَقَدْ يَرْجِعُ، عَنْ إقْرَارِهِ
بِذَلِكَ الْحَقِّ، وَيُقِيمُ بَيِّنَةً بِأَنَّهُ قَدْ كَانَ أَدَّاهُ،
فَيَبْطُلُ الْحَقُّ، وَلاَ يَجُوزُ تَخْصِيصُ مَا لَمْ يَخُصُّهُ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بِالآرَاءِ الْفَاسِدَةِ وَمَا يَنْطِقُ، عَنِ الْهَوَى إنْ
هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} .
(8/110)
تجوز الحوالة بالدين المؤجل
إلى مثل أجله فقط وبالحال على الحال بخلا ف العكس
...
1228 - مَسْأَلَةٌ - وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ عَلَى
الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ إلَى مِثْلِ أَجَلِهِ لاَ إلَى أَبْعَدِ،
وَلاَ إلَى أَقْرَبَ وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْحَالِ عَلَى الْحَالِ، وَلاَ
تَجُوزُ بِحَالِ عَلَى مُؤَجَّلٍ ;، وَلاَ بِمُؤَجَّلِ عَلَى حَالٍ، وَلاَ
بِمُؤَجَّلِ عَلَى مُؤَجَّلٍ إلَى غَيْرِ أَجَلِهِ، لأََنَّ فِي كُلِّ ذَلِكَ
إيجَابُ تَأْجِيلِ حَالٍ أَوْ إيجَابِ حُلُولِ. مُؤَجَّلٍ. وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ
إذْ لَمْ يُوجِبْهُ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
وَأَمَّا الْمُؤَجَّلُ بِالْمُؤَجَّلِ إلَى أَجَلِهِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ
نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي أَمْرِهِ عليه السلام: " مَنْ
اُتُّبِعَ عَلَى مَلِيءٍ أَنْ يَتْبَعَهُ ". تَمَّ " كِتَابُ
الْحَوَالَةِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(8/110)
كتاب الكفالة
تعريف الكفالة وأقوال العلماء في مشروعيتها
...
كِتَابُ الْكَفَالَةِ
1229 - مَسْأَلَةٌ . الْكَفَالَةُ هِيَ الضَّمَانُ، وَهِيَ الزَّعَامَةُ، وَهِيَ
الْقَبَالَةُ، وَهِيَ الْحَمَالَةُ،
(8/110)
حكم العبد والحر والمرأة
والرجل والكافر سواء
...
1230 - مَسْأَلَةٌ - وَحُكْمُ الْعَبْدِ، وَالْحُرِّ، وَالْمَرْأَةِ، وَالرَّجُلِ،
وَالْكَافِرِ، وَالْمُؤْمِنِ: سَوَاءٌ،
لِعُمُومِ النَّصِّ الَّذِي أَوْرَدْنَاهُ فِي ذَلِكَ، وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/117)
1231 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ ضَمَانُ مَا لاَ يَدْرِي مِقْدَارُهُ
مِثْلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَنَا أَضْمَنُ عَنْك مَا لِفُلاَنٍ عَلَيْك، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَلأَِخْبَارِهِ عليه السلام
" أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ مَالُ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ "
وَالتَّرَاضِي، وَطِيبُ النَّفْسِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ عَلَى مَعْلُومِ الْقَدْرِ
هَذَا أَمْرٌ يُعْلَمُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ.
(8/117)
1232 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ ضَمَانُ مَالٍ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ،
كَمَنْ قَالَ لأَخَرَ: أَنَا أَضْمَنُ لَك مَا تَسْتَقْرِضُهُ مِنْ فُلاَنٍ، أَوْ
قَالَ لَهُ: اقْتَرِضْ مِنْ فُلاَنٍ دِينَارًا وَأَنَا أَضْمَنُهُ عَنْك، أَوْ
قَالَ لَهُ: أَقْرِضْ فُلاَنًا دِينَارًا وَأَنَا أَضْمَنُهُ لَك وَهُوَ قَوْلُ
ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبِي
سُلَيْمَانَ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ
بَاطِلٌ. وَلأََنَّ الضَّمَانَ عَقْدٌ وَاجِبٌ، وَلاَ يَجُوزُ الْوَاجِبُ فِي
غَيْرِ وَاجِبٍ، وَهُوَ الْتِزَامُ مَا لَمْ يَلْزَمْ بَعْدُ، وَهَذَا مُحَالٌ
وَقَوْلٌ مُتَفَاسِدٌ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَمْ يَلْزَمْ حِينَ الْتِزَامِهِ فَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَ فِي ثَانٍ، وَفِي حِينٍ لَمْ يَلْتَزِمْ فِيهِ، وَقَدْ لاَ
يُقْرِضُهُ مَا قَالَ لَهُ. وَقَدْ يَمُوتُ الْقَائِلُ لِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يُقْرِضَهُ مَا أَمَرَهُ بِإِقْرَاضِهِ. فَصَحَّ بِكُلِّ هَذَا أَنَّهُ لاَ
يَلْزَمُ ذَلِكَ الْقَوْلُ. فَإِنْ قَالَ لَهُ: أَقْرِضْنِي كَذَا وَكَذَا
وَادْفَعْهُ إلَى فُلاَنٍ، أَوْ زِنْ عَنِّي لِفُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا، أَوْ
أَنْفِقْ، عَنِّي فِي أَمْرِ كَذَا فَمَا أَنْفَقْت فَهُوَ عَلَيَّ، أَوْ ابْتَعْ
لِي أَمْرَ كَذَا فَهَذَا جَائِزٌ لاَزِمٌ، لأََنَّهَا وَكَالَةٌ وَكَّلَهُ بِمَا
أَمَرَهُ بِهِ.
وَأَجَازَ مَا ذَكَرْنَا بُطْلاَنَهُ: أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ،
وَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ.
وَاحْتَجَّ لَهُمْ بَعْضُ الْمُمْتَحَنِينَ بِتَقْلِيدِهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ جَيْشَ الأُُمَرَاءِ،
فَإِنْ مَاتَ، فَالأَمِيرُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ مَاتَ،
فَالأَمِيرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ . قَالَ: فَكَمَا تَجُوزُ
الْمُخَاطَرَةُ فِي الْوِلاَيَاتِ فَهِيَ جَائِزَةٌ فِي الضَّمَانِ.
(8/117)
لا يجوز أن يشترط في ضمان
اثنين عن واحد أن يأخذ أيهما شاء بالجميع ولا أن يشترط ذلك الضامن في نفسه
والمضمون في نفسه وفي المضمون عنه
...
1233- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي ضَمَانِ اثْنَيْنِ، عَنْ
وَاحِدٍ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْجَمِيعِ،
وَلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ الضَّامِنُ فِي نَفْسِهِ وَفِي الْمَضْمُونِ عَنْهُ،
وَلاَ أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَلِيءَ مِنْهُمَا، عَنِ الْمُعْسِرِ،
وَالْحَاضِر، عَنِ الْغَائِبِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبِي
سُلَيْمَانَ. وَأَجَازَ هَذَا الشَّرْطَ شُرَيْحٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَعَطَاءٌ،
وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَسُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" كُلُّ
شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ " وَهَذَا شَرْطٌ لَمْ
يَأْتِ بِإِبَاحَتِهِ نَصٌّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ ضَمَانٌ لَمْ
يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِمَا، وَلاَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا
هُوَ ضَمَانٌ مُعَلَّقٌ عَلَى أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ لاَ يَدْرِي عَلَى
أَيِّهِمَا يَسْتَقِرُّ فَهُوَ بَاطِلٌ، لأََنَّ مَا لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَرْءِ
بِعَيْنِهِ حِينَ عَقْدِهِ إيَّاهُ، فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَصِحَّ عَلَيْهِ
بَعْدَ ذَلِكَ فِي حِينِ لَمْ يَعْقِدْهُ، وَلاَ الْتَزَمَهُ وَهَذَا وَاضِحٌ لاَ
خَفَاءَ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/118)
1234 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ
ضَمِنَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا حَقًّا عَلَى إنْسَانٍ فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ
لِمَا ذَكَرْنَا،
فَلَوْ ابْتَاعَ اثْنَانِ بَيْعًا أَوْ تَدَايَنَا دَيْنًا عَلَى أَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ عَنِ الآخَرِ، فَإِنَّ مَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا قَدْ انْتَقَلَ عَنْهُ وَاسْتَقَرَّ عَلَى الآخَرِ لَا يَجُوزُ غَيْرُ
هَذَا أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ . وَلِأَنَّ مِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ
الْمُمْتَنِعِ أَنْ يَكُونَ مَالُ وَاحِدٍ عَلَى اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا يَكُونُ
كُلُّهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، لِأَنَّهُ كَانَ يُصَيِّرُ الدِّرْهَمُ
دِرْهَمَيْنِ وَلَا بُدَّ; أَوْ يَكُونَ غَيْرَ لَازِمٍ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ،
وَلَا لَهُمَا جَمِيعًا، وَهَذَا هَوَسٌ لَا يُعْقَلُ - وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ .
(8/118)
لا يجوز أن يشترط في بيع ولا
سلم ولا مداينة أصلا إعطاء ضامن ولا يجوز أن يكلف أحد في خصومة إعطاء ضامن به لئلا
يهرب
...
1235- مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي بَيْعٍ، وَلاَ فِي سَلَمٍ،
وَلاَ فِي مُدَايِنَةٍ أَصْلاً إعْطَاءُ ضَامِنٍ. وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُكَلَّفَ
أَحَدٌ فِي خُصُومَةٍ إعْطَاءَ ضَامِنٍ بِهِ لِئَلَّا يَهْرُبَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُكَلِّفَ مَنْ وَجَبَ لَهُ حَقٌّ مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ
ضَامِنًا. وَكُلُّ ذَلِكَ جَوْرٌ وَبَاطِلٌ لأََنَّهُ كُلُّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَلأََنَّهُ تَكْلِيفُ مَا لَمْ
يَأْتِ قَطُّ نَصٌّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَلاَ مِنْ رَسُولِهِ عليه السلام
بِإِيجَابِهِ، فَهُوَ شَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. فَإِنْ
احْتَجَّ مَنْ يُجِيزُ ذَلِكَ أَوْ بَعْضَهُ بِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ
بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ
رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ
أَلْفَ دِينَارٍ، فَذَكَرَ كَلاَمًا، وَفِيهِ فَقَالَ: ائْتِنِي بِالْكَفِيلِ
فَقَالَ: كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلاً، فَقَالَ: صَدَقْتَ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ ثُمَّ الْتَمَسَ
مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ فَلَمْ
يَجِدْ مَرْكَبًا فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا ثُمَّ أَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ
دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى
بِهَا إلَى الْبَحْرِ فَذَكَرَ كَلاَمًا، وَفِيهِ: فَرَمَى بِهَا إلَى الْبَحْرِ
" وَذَكَرَ بَاقِي الْخَبَرَ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْخَبَرَ
مُنْقَطِعًا غَيْرَ مُتَّصِلٍ فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ لأََنَّهُ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا. ثُمَّ لَوْ صَحَّ
لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّهُ شَرِيعَةٌ غَيْرُ شَرِيعَتِنَا،
وَلاَ يَلْزَمُنَا غَيْرُ شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلمقَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} وَالْعَجَبُ
أَنَّهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ، فَإِنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ أَلْبَتَّةَ
لأََحَدٍ أَنْ يَقْذِفَ مَالَهُ فِي الْبَحْرِ لَعَلَّهُ يَبْلُغُ إلَى غَرِيمِهِ،
بَلْ يَقْضُونَ عَلَى مَنْ فَعَلَ هَذَا بِالسَّفَهِ وَيَحْجُرُونَ عَلَيْهِ
وَيُؤَدِّبُونَهُ فَكَيْفَ يَسْتَسْهِلُ ذُو حَيَاءٍ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى
خَصْمِهِ بِمَا هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ.
(8/119)
1236 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ ضَمَانُ الْوَجْهِ أَصْلاً، لاَ فِي مَالٍ، وَلاَ فِي حَدٍّ، وَلاَ فِي
شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ
لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ. وَمِنْ
طَرِيقِ النَّظَرِ إنَّنَا نَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ تَكَفَّلَ بِالْوَجْهِ فَقَطْ
فَغَابَ الْمَكْفُولُ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِالضَّامِنِ لِوَجْهِهِ أَتُلْزِمُونَهُ
غَرَامَةَ مَا عَلَى الْمَضْمُونِ فَهَذَا جَوْرٌ وَأَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ
لأََنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ قَطُّ، أَمْ تَتْرُكُونَهُ فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ
الضَّمَانَ بِالْوَجْهِ الَّذِي جَاذَبْتُمْ فِيهِ الْخُصُومَ، وَحَكَمْتُمْ
بِأَنَّهُ لاَ مَعْنَى لَهُ، أَمْ تُكَلِّفُونَهُ طَلَبَهُ فَهَذَا تَكْلِيفُ
الْحَرَجِ، وَمَا لاَ طَاقَةَ لَهُ بِهِ، وَمَا لَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى
إيَّاهُ قَطُّ، وَلاَ مَنْفَعَةَ فِيهِ، وَلَعَلَّهُ يَزُولُ، عَنْ مَوْضِعِكُمْ،
وَلاَ يَطْلُبُهُ، وَلَكِنْ يَشْتَغِلُ بِمَا يَعْنِيه. وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ
أَحَدُ
(8/119)
قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وَقَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: يَجُوزُ ضَمَانُ
الْوَجْهِ إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إنْ ضَمِنَ الْوَجْهَ غَرِمَ الْمَالَ،
إِلاَّ أَنْ يَقُولَ الْوَجْهَ خَاصَّةً، فَكَانَ هَذَا التَّقْسِيمُ طَرِيفًا
جِدًّا، وَمَا يَعْلَمُ أَحَدٌ فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنَا أَضْمَنُ وَجْهَهُ،
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: أَنَا أَضْمَنُ وَجْهَهُ خَالِصَةً، وَكِلاَ الْقَوْلَيْنِ
لَمْ يَلْتَزِمْ فِيهِ غَرَامَةَ مَالٍ، وَلاَ ضَمَانَةً أَصْلاً، فَكَيْفُ
يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ بِغَرَامَةِ مَالٍ لَمْ يَضْمَنْهُ قَطُّ وَحَسْبُنَا
اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ وَمَا نَعْلَمُ لِمَالِكٍ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ
سَلَفًا.
وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ ضَمَانَ الْوَجْهِ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
الْعُقَيْلِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ الْهَمَذَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ إِسْحَاقَ الْبَلْخِيّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ خُثَيْمَ بْنِ عِرَاكِ بْنِ
مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ خُثَيْمَ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَفَلَ فِي تُهْمَةٍ ". وَبِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي
الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو
الأَسْلَمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عُمَرَ بَعَثَهُ مُصَدِّقًا عَلَى بَنِي
سَعْدِ هُذَيْمٍ فَذَكَرَ الْخَبَرَ، وَفِيهِ " أَنَّهُ وَجَدَ فِيهِمْ
رَجُلاً وَطِئَ أَمَةَ امْرَأَتِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَأَخَذَ حَمْزَةُ
بِالرَّجُلِ كَفِيلاً " لأََنَّهُمْ ذَكَرُوا لَهُ: أَنَّ عُمَرَ قَدْ عَرَفَ
خَبَرَهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَرَ عَلَيْهِ رَجْمًا، لَكِنْ جَلَدَهُ مِائَةً،
فَلَمَّا أَتَى عُمَرَ أَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَصَدَّقَهُمْ عُمَرُ، قَالَ:
وَإِنَّمَا دَرَأَ عَنْهُ الرَّجْمَ لأََنَّهُ عَذَرَهُ بِالْجَهَالَةِ.
وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ
حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ: أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أُتِيَ بِقَوْمٍ يُقِرُّونَ
بِنُبُوَّةِ مُسَيْلِمَةَ، وَفِيهِمْ ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَاسْتَتَابَهُ فَأَبَى
فَضَرَبَ عُنُقَهُ ثُمَّ إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ اسْتَشَارَ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَاقِينَ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَدِيُّ بْنُ
حَاتِمٍ بِقَتْلِهِمْ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَجَرِيرُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بِاسْتِتَابَتِهِمْ وَأَنْ يُكَفِّلَهُمْ عَشَائِرَهُمْ،
فَاسْتَتَابَهُمْ، فَكَفَّلَهُمْ عَشَائِرَهُمْ، وَنَفَاهُمْ إلَى الشَّامِ. وَذَكَرُوا:
أَنَّ شُرَيْحًا كَفَلَ فِي دَمٍ وَحَبَسَهُ فِي السِّجْنِ; وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ
عَبْدِ الْعَزِيزِ كَفَلَ فِي حَدٍّ قَالُوا: وَهَذَا إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ
كَمَا تَرَى.
قال أبو محمد: فِي احْتِجَاجِ مَنْ احْتَجَّ بِهَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى رِقَّةِ
دِينِ الْمُحْتَجِّ بِهِ، وَلاَ مَزِيدَ وَعَلَى قِلَّةِ مُبَالاَتِهِ
بِالْفَضِيحَةِ الْعَاجِلَةِ وَالْخِزْيِ الآجِلِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا
لَهُمْ حُجَّةٌ أَصْلاً غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَكُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ أَمَّا
الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَاطِلٌ لأََنَّهُ مِنْ
رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ خُثَيْمَ بْنِ عِرَاكٍ، وَهُوَ وَأَبُوهُ فِي غَايَةِ
الضَّعْفِ، لاَ تَجُوزُ الرِّوَايَةُ عَنْهُمَا، وَمَعَاذَ اللَّهُ مِنْ أَنْ
يَأْخُذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَدًا بِتُهْمَةٍ، وَهُوَ
الْقَائِلُ: " إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ
" وَالتُّهْمَةُ ظَنٌّ. وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكْفُلَ إنْسَانٌ بِتُهْمَةٍ
لَوَجَبَ الْكَفِيلُ عَلَى كُلِّ مَنْ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ، إذْ لَيْسَ أَحَدٌ
بَعْدَ الصَّدْرِ الأَوَّلِ يُقْطَعُ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ التُّهْمَةِ وَهَذَا
تَخْلِيطٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ، وَالْمُحْتَجُّونَ بِهَذَا الْخَبَرِ لاَ يَقُولُونَ
بِمَا فِيهِ مِنْ أَخْذِ الْكَفَالَةِ فِي التُّهْمَةِ، فَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ
يَحْتَجُّ
(8/120)
بِخَبَرٍ يُطْلِقُهُ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا لَيْسَ فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ
يُخَالِفُ كُلَّ مَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ، وَيَرَى الْحُكْمَ بِمَا فِيهِ جَوْرًا
وَظُلْمًا نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ مِثْلِ هَذَا. وَأَمَّا خَبَرُ
حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ فَبَاطِلٌ لأََنَّهُ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ وَهُوَ ضَعِيفٌ ثُمَّ الْمُحْتَجُّونَ بِهِ
أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِمَا فِيهِ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَرَى أَنْ يُجْلَدَ
الْجَاهِلُ فِي وَطْءِ أَمَةِ امْرَأَتِهِ مِائَةً، وَلاَ أَنْ يُدْرَأَ
الرَّجْمُ، عَنِ الْجَاهِلِ فَكَيْف يَسْتَحِلُّونَ أَنْ يَحْتَجُّوا، عَنْ عُمَرَ
رضي الله عنه بِعَمَلٍ هُوَ عِنْدَهُمْ جَوْرٌ وَظُلْمٌ، أَمَا فِي هَذَا عَجَبٌ
وَعِبْرَةٌ مَا شَاءَ اللَّه كَانَ. وَأَيْضًا: فَكُلُّهُمْ لاَ يُجِيزُ
الْكَفَالَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وهذا الخبر إنَّمَا فِيهِ الْكَفَالَةُ
فِي حَدٍّ فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الْعَجَائِبِ.
وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَإِنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ إسْمَاعِيلَ
بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ، وَشُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، كُلُّهُمْ،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنَ مُضَرِّبٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،
وَهَذِهِ الأَسَانِيدُ هِيَ أَنْوَارُ الْهُدَى لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي
رِوَايَتِهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِهِمْ، وَلاَ ذَكَرَ مِنْهُمْ أَحَدٌ كَفَالَةً
إِلاَّ إسْرَائِيلَ وَحْدَهُ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ كَانَ ثِقَةً مَا ضَرَّ
رِوَايَتَهُ مَنْ خَالَفَهَا مِنْ الثِّقَاتِ، وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ ثُمَّ لَوْ
صَحَّتْ لَكَانَ جَمِيعُ الْمُحْتَجِّينَ بِهَا أَوَّلَ مُخَالِفٍ لَهَا،
لأََنَّهُمْ كُلُّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ الْكَفَالَةَ فِي الرِّدَّةِ تَابَ أَوْ
لَمْ يَتُبْ، وَلاَ يَرَوْنَ التَّغْرِيبَ عَلَى الْمُرْتَدِّ إذْ تَابَ، وَلَيْسَ
هَذَا مَكَانًا يُمَكِّنُهُمْ فِيهِ دَعْوَى نَسْخٍ بَلْ هِيَ أَحْكَامٌ
مَجْمُوعَةٌ إمَّا صَوَابٌ وَحُجَّةٌ، وَأَمَّا خَطَأٌ وَغَيْرُ حَجَّةٍ:
الْكَفَالَةُ بِالْوَجْهِ فِي الْحُدُودِ وَفِي الرِّدَّةِ، وَالتَّغْرِيبُ فِي
الرِّدَّةِ وَجَلْدُ الْجَاهِلِ الْمَحْضِ فِي الزِّنَى مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَلاَ
يُرْجَمُ، فَيَا لِلْمُسْلِمِينَ كَيْف يَسْتَحِلُّ مَنْ لَهُ مُسْكَةُ حَيَاء
أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى خَصْمِهِ بِمَا هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ. وَكَذَلِكَ
الرِّوَايَةُ، عَنْ شُرَيْحٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إنَّمَا هِيَ
أَنَّهُمَا كَفَلاَ فِي حَدٍّ وَدَمٍ، وَهُمْ لاَ يَرَوْنَ الْكَفَالَةَ فِيهِمَا
أَصْلاً، وَهِيَ بَعْدُ، عَنْ شُرَيْحٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ وَهُوَ
كَذَّابٌ. وَلاَ يُعْرَفَ هَذَا أَيْضًا يَصِحُّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ
الْعَزِيزِ. فَإِنْ كَانَ مَا ذَكَرُوا مِنْ هَذِهِ التَّكَاذِيبِ إجْمَاعًا كَمَا
زَعَمُوا فَقَدْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمُخَالِفَةِ الإِجْمَاعِ،
فَسُحْقًا وَبُعْدًا لِمَنْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ، نَقُولُ فِيهِمْ: كَمَا قَالَ
تَعَالَى فِيمَنْ اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالضَّلاَلِ: {فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأََصْحَابِ السَّعِيرِ} وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
إِلاَّ إنَّ أُولَئِكَ نَادِمُونَ، وَهَؤُلاَءِ مُصِرُّونَ. وَأَمَّا نَحْنُ
فَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا لَمَا كَانَ فِيهَا حُجَّةٌ، لأََنَّهَا
إنَّمَا هِيَ، عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فَقَطْ، وَأَيْنَ
هَذِهِ مِنْ صَلاَةِ مُعَاذٍ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ إمَامَتِهِ
قَوْمَهُ فِي مَسْجِدِ بَنِي سَلِمَةَ فِي تِلْكَ الصَّلاَةِ وَخَلْفَهُ ثَلاَثَةٌ
(8/121)
وَأَرْبَعُونَ بَدْرِيًّا مُسَمَّوْنَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ سِوَى سَائِرِ أَصْحَابِ الْمَشَاهِدِ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَرَوْا هَذَا إجْمَاعًا، بَلْ رَأَوْهَا صَلاَةً فَاسِدَةً، وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا، بَلْ هِيَ وَاَللَّهِ صَلاَةٌ مُقَدَّسَةٌ فَاضِلَةٌ، حَقٌّ، وَصَلاَةُ الْمُخَالِفِينَ لَهَا هِيَ الْفَاسِدَةُ حَقًّا. وَأَيْنَ هَذَا مِنْ إعْطَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ أَرْضَ خَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ تَمْرٍ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ مُسَمًّى، لَكِنْ يُقِرُّونَهُمْ بِهَا كَمَا شَاءُوا، وَيُخْرِجُونَهُمْ إذَا شَاءُوا؟ فَلَمْ يَرَوْا هَذَا إجْمَاعًا، بَلْ رَأَوْهُ مُعَامَلَةً فَاسِدَةً مَرْدُودَةً، وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا، بَلْ هُوَ وَاَللَّهِ الإِجْمَاعُ الْمُتَيَقَّنُ وَالْحَقُّ الْوَاضِحُ، وَأَقْوَالُ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ هِيَ الْفَاسِدَةُ الْمَرْدُودَةُ حَقًّا، وَنَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى مَا مَنَّ بِهِ. ثُمَّ اعْلَمُوا الآنَ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ قَطُّ إبَاحَةُ كَفَالَةِ الْوَجْهِ، عَنْ صَاحِبٍ، وَلاَ تَابِعٍ فَهِيَ بَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ لاَ تَجُوزُ الْبَتَّةُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَمَّ " كِتَابُ الْكَفَالَةِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(8/122)
كتاب الشركة
لا تجوز الشراكة بالأبدان أصلا لا في دلا لة ولا في تعليم ولا في خدمة ولا في عمل
يدفان وقعت فهي باطلة
...
كِتَابُ الشَّرِكَةِ
1237 - مَسْأَلَةٌ - لاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالأَبْدَانِ أَصْلاً،
لاَ فِي دَلاَلَةٍ، وَلاَ فِي تَعْلِيمٍ، وَلاَ فِي خِدْمَةٍ، وَلاَ فِي عَمَلِ
يَدٍ، وَلاَ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ، فَإِنْ وَقَعَتْ فَهِيَ بَاطِلَةٌ لاَ
تَلْزَمُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْهُمَا مَا كَسَبَ، فَإِنْ
اقْتَسَمَاهُ وَجَبَ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِأَخْذِهِ، وَلاَ بُدَّ لأََنَّهُ شَرْطٌ
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} . وَقَالَ تَعَالَى {لاَ
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ} . وَهَذَا كُلُّهُ عُمُومٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لأََنَّهُ
لَمْ يَأْتِ بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، فَمَنْ
ادَّعَى فِي ذَلِكَ تَخْصِيصًا فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لاَ
يَعْلَمْ. وَأَمَّا نَحْنُ فَقَدْ قلنا: مَا نَعْلَمُ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى
لَوْ أَرَادَ تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمَا أَهْمَلَهُ لِيُضِلَّنَا
وَلَبَيَّنَهُ لَنَا رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم الْمَأْمُورُ بِبَيَانِ مَا
أَنْزَلَ عَلَيْهِ فَإِذْ لَمْ يُخْبِرْنَا اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ
عليه السلام بِتَخْصِيصِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ قَاطِعٍ
بَاتٍّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ عُمُومَ مَا اقْتَضَاهُ كَلاَمُهُ.
وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَلاَ يَحِلُّ أَنْ يَقْضِيَ بِمَالِ
مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لِغَيْرِهِ إِلاَّ بِنَصِّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ،
وَإِلَّا فَهُوَ جَوْرٌ. وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ
تَرَاضٍ مِنْكُمْ} فَهَذِهِ لَيْسَتْ تِجَارَةٌ أَصْلاً فَهِيَ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ.
(8/122)
إن كان العمل لا ينقسم
واستأجرها صاحبه بأجرة واحدة فالأجرة بينهما على قدر عمل كل واحد منهما
...
1238 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ لاَ يَنْقَسِمُ وَاسْتَأْجَرَهُمَا
صَاحِبُهُ بِأُجْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَالأُُجْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ عَمَلِ
كُلِّ وَاحِدٍ
كَكَمْدِ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، أَوْ بِنَاءِ حَائِطٍ وَاحِدٍ، أَوْ خِيَاطَةِ ثَوْبٍ
وَاحِدٍ، وَمَا أَشْبَهَ هَذَا وَكَذَلِكَ إنْ نَصَبَا حِبَالَةً مَعًا
فَالصَّيْدُ بَيْنَهُمَا، أَوْ أَرْسَلاَ جَارِحَيْنِ فَأَخَذَا صَيْدًا وَاحِدًا
فَهُوَ بَيْنَهُمَا; وَإِلَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مَا صَادَ جَارِحُهُ. وقال أبو
حنيفة: شَرِكَةُ الأَبَدَانِ جَائِزَةٌ فِي الصِّنَاعَاتِ اتَّفَقَتْ
صِنَاعَتُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَتْ عَمَلاً فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي
مَوْضِعَيْنِ، فَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا أَوْ مَرِضَ فَمَا أَصَابَ الصَّحِيحُ
الْحَاضِرُ فَبَيْنَهُمَا، وَلاَ تَجُوزُ فِي التَّصَيُّدِ، وَلاَ فِي
الأَحْتِطَابِ.
قال أبو محمد: هَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ بِلاَ بُرْهَانٍ وَرُوِيَ عَنْهُ: أَنَّ
شَرِكَةَ الأَبَدَانِ لاَ تَجُوزُ إِلاَّ فِيمَا تَجُوزُ فِيهِ الْوَكَالَةُ
وَهَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ أَيْضًا لأََنَّ الْوَكَالَةَ عِنْدَهُ جَائِزَةٌ
فِي النِّكَاحِ فَتَجِبُ أَنْ تَجُوزَ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُمْ فِي النِّكَاحِ.
وقال مالك شَرِكَةُ الأَبَدَانِ جَائِزَةٌ فِي الأَحْتِطَابِ وَطَلَبِ
الْعَنْبَرِ، إذَا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ. وَكَذَلِكَ إذَا
اشْتَرَكَا فِي صَيْدِ الْكِلاَبِ وَالْبُزَاةِ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بَازٍ وَكَلْبٌ، يَتَعَاوَنُ الْبَازَانِ أَوْ الْكَلْبَانِ عَلَى
صَيْدٍ وَاحِدٍ وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ عِنْدَهُ عَلَى التَّعْلِيمِ فِي مَكَان
وَاحِدٍ; فَإِنْ كَانَا فِي مَجْلِسَيْنِ فَلاَ ضَيْرَ فِيهِ. وَأَجَازَ شَرِكَةَ
الأَبَدَانِ فِي الصِّنَاعَاتِ إذَا كَانَا فِي دُكَّانٍ وَاحِدٍ، كَالْقَصَّارِ
وَنَحْوِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي صِنَاعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا
فَالأُُجْرَةُ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ إنْ غَابَ أَحَدُهُمَا أَوْ عَمِلَ
أَحَدُهُمَا يَوْمًا وَالآخَرُ يَوْمَيْنِ. وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ اشْتَرَاك
الْحَمَّالِينَ أَوْ النَّقَّالِينَ عَلَى الدَّوَابِّ. وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ
الأَشْتِرَاكُ فِي صِنَاعَتَيْنِ أَصْلاً كَحَدَّادٍ وَقَصَّارٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَهَذَا تَحَكُّمٌ بِلاَ بُرْهَانٍ وَقَوْلٌ لاَ نَعْلَمُ لَهُمْ سَلَفًا
وَقَوْلُنَا هُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي
ثَوْرٍ .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ شَرِكَةَ الأَبَدَانِ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الْقَطَّانِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ
السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ: اشْتَرَكْت أَنَا وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقَّاصٍ فِيمَا نُصِيبُ يَوْمَ بَدْرٍ فَجَاءَ سَعْدٌ بِأَسِيرَيْنِ، وَلَمْ
أَجِئْ أَنَا وَعَمَّارٌ بِشَيْءٍ.
قال أبو محمد: وَهَذَا عَجَبٌ عَجِيبٌ، وَمَا نَدْرِي عَلَى مَاذَا يُحْمَلُ
عَلَيْهِ أَمْرُ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ؟ وَنَسْأَلُ اللَّهَ السَّلاَمَةَ مِنْ
التَّمْوِيهِ فِي دِينِهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ. أَوَّلُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا
خَبَرٌ مُنْقَطِعٌ لأََنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لاَ يَذْكُرُ مِنْ أَبِيهِ شَيْئًا:
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ
قَالَ: قُلْت لأََبِي عُبَيْدَةَ: أَتَذْكُرُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ شَيْئًا قَالَ:
لاَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَوْ صَحَّ
(8/123)
لَكَانَ أَعْظَمَ حَجَّةً
عَلَيْهِمْ، لأََنَّهُمْ أَوَّلُ قَائِلٍ مَعَنَا وَمَعَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ:
أَنَّ هَذِهِ شَرِكَةٌ لاَ تَجُوزُ، وَأَنَّهُ لاَ يَنْفَرِدُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ
الْعَسْكَرِ بِمَا يُصِيبُ دُونَ جَمِيعِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ حَاشَا مَا
اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ كَوْنِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ، وَأَنَّهُ إنْ فَعَلَ
فَهُوَ غُلُولٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ شَرِكَةٌ
لَمْ تَتِمَّ، وَلاَ حَصَلَ لِسَعْدٍ، وَلاَ لِعَمَّارٍ، وَلاَ لأَبْنِ مَسْعُودٍ
مِنْ ذَيْنِكَ الأَسِيرَيْنِ إِلاَّ مَا حَصَلَ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ
الَّذِي كَانَ بِالشَّامِ، وَلِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الَّذِي كَانَ
بِالْمَدِينَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ: {قُلْ الأَنْفَالُ
لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فَكَيْف
يَسْتَحِلُّ مَنْ يَرَى الْعَارَ عَارًا أَنْ يَحْتَجَّ بِشَرِكَةٍ أَبْطَلَهَا
اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَمْضِهَا؟.
وَالرَّابِعُ أَنَّهُمْ -يَعْنِي الْحَنَفِيِّينَ لاَ يُجِيزُونَ الشَّرِكَةَ فِي
الأَصْطِيَادِ، وَلاَ يُجِيزُهَا الْمَالِكِيُّونَ فِي الْعَمَلِ فِي مَكَانَيْنِ،
فَهَذِهِ الشَّرِكَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ لاَ تَجُوزُ عِنْدَهُمْ،
فَمَنْ أَعْجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ فِي تَصْحِيحِ قَوْلِهِ بِرِوَايَةٍ لاَ
تَجُوزُ عِنْدَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى تَوْفِيقِهِ
لَنَا.
(8/124)
لا تجوز الشراكة إلا في أعيان
الأموال
...
1239 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ الشَّرِكَةُ إِلاَّ فِي أَعْيَانِ الأَمْوَالِ،
فَتَجُوزُ فِي التِّجَارَةِ بِأَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا مَالاً وَالآخَرُ مَالاً
مِثْلُهُ مِنْ نَوْعِهِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَيَخْلِطَا
الْمَالَيْنِ، وَلاَ بُدَّ، حَتَّى لاَ يُمَيِّزَ أَحَدُهُمَا مَالَهُ مِنْ
الآخَرِ، ثُمَّ يَكُونُ مَا ابْتَاعَا بِذَلِكَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ
حِصَصِهِمَا فِيهِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ، وَالْخَسَارَةُ عَلَيْهِمَا
كَذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَيْنِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا
ابْتَاعَهُ هُوَ أَوْ شَرِيكُهُ، بِهِ رِبْحُهُ كُلُّهُ لَهُ وَحْدُهُ،
وَخَسَارَتُهُ كُلُّهَا عَلَيْهِ وَحْدَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إذَا خَلَطَا الْمَالَيْنِ فَقَدْ صَارَتْ تِلْكَ
الْجُمْلَةُ مُشَاعَةً بَيْنَهُمَا، فَمَا ابْتَاعَا بِهَا فَمُشَاعٌ بَيْنَهُمَا،
وَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ فَثَمَنُهُ أَصْلُهُ، وَرِبْحُهُ مُشَاعٌ بَيْنَهُمَا
وَالْخَسَارَةُ مُشَاعَةٌ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَيْنِ
فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكُونَ لِزَيْدٍ مَا اُبْتِيعَ بِمَالِ عَمْرٍو، أَوْ مَا
رَبِحَ فِي مَالِ غَيْرِهِ، أَوْ مَا خَسِرَ فِي مَالِ غَيْرِهِ، لِمَا ذَكَرْنَا
آنِفًا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا}.
(8/124)
إن ابتاع اثنان فصاعدا سلعة
بينهما على السواء أو ابتاع أحدهما منها أكثر من النصف والآخر كذلك فهو بيع جائز
والثمن على قدر حصتهما
...
1240 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ ابْتَاعَ اثْنَانِ فَصَاعِدًا سِلْعَةً بَيْنَهُمَا
عَلَى السَّوَاءِ، أَوْ ابْتَاعَ أَحَدُهُمَا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ،
وَالآخَرُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ، فَهَذَا بَيْعٌ جَائِزٌ، وَالثَّمَنُ
عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا،
فَمَا رَبِحَا أَوْ خَسِرَا فَبَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا، لأََنَّ
الثَّمَنَ بَدَلُ السِّلْعَةِ. وَهَكَذَا لَوْ وَرِثَا سِلْعَةً، أَوْ وُهِبَتْ
لَهُمَا، أَوْ مَلَكَاهَا بِأَيِّ وَجْهٍ مَلَكَاهَا بِهِ فَلَوْ تَعَاقَدَا أَنْ
يَبْتَاعَا هَكَذَا لَمْ يَلْزَمْ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى، فَهُوَ بَاطِلٌ
(8/124)
لا يحل للشريكين فصاعدا أن
يشترطا أن يكون لأحدهما في الربح زيادة على مقدار ماله فيما يبيع
...
1241 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ لِلشَّرِيكَيْنِ فَصَاعِدًا أَنْ يَشْتَرِطَا
أَنْ يَكُونَ لأََحَدِهِمَا
(8/124)
إن أخرج أحدهما ذهبا والآخر
فضة أو عرضا أو ما أشبه ذلك لم يجز أصلا إلا بأن يبيع أحدهما عرضه أو كلاهما حتى
يصير الثمن ذهبا أو فضة ثم يخلطا
...
1242 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا ذَهَبًا وَالآخَرُ فِضَّةً أَوْ
عَرَضًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَصْلاً، إِلاَّ بِأَنْ يَبِيعَ
أَحَدُهُمَا عَرَضَهُ أَوْ كِلاَهُمَا حَتَّى يَصِيرَ الثَّمَنُ ذَهَبًا فَقَطْ،
أَوْ فِضَّةً فَقَطْ،
ثُمَّ يَخْلِطَا الثَّمَنَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلاَ بُدَّ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ.
أَوْ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا مِنْ الآخَرِ مِمَّا أَخْرَجَ بِمِقْدَارِ مَا يُرِيدُ
أَنْ يُشَارِكَهُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا مَخْلُوطًا لاَ
يَتَمَيَّزُ، وَلاَ بُدَّ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/125)
1243 - مَسْأَلَةٌ - وَمُشَارَكَةُ
الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ جَائِزَةٌ، وَلاَ يَحِلُّ لِلذِّمِّيِّ مِنْ الْبَيْعِ
وَالتَّصَرُّفِ إِلاَّ مَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ،
لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ. وَقَدْ
عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ وَهُمْ يَهُودُ
بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى أَنْ يَعْمَلُوهَا بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فِي الثَّمَنِ، وَالزَّرْعِ، وَالْغَرْسِ.
وَقَدْ ابْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ بِالْمَدِينَةِ
وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ فَمَاتَ عليه السلام وَهِيَ رَهْنٌ عِنْدَهُ وَذَكَرْنَاهُ
بِإِسْنَادِهِ فِي "كِتَابِ الرَّهْنِ" مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَهَذِهِ
تِجَارَةُ الْيَهُودِ جَائِزَةٌ وَمُعَامَلَتُهُمْ جَائِزَةٌ وَمَنْ خَالَفَ هَذَا
فَلاَ بُرْهَانَ لَهُ. وَرُوِّينَا، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: لاَ بَأْسَ
بِمُشَارَكَةِ الْمُسْلِمِ لِلذِّمِّيِّ إذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ عِنْدَ
الْمُسْلِمِ وَتَوَلَّى الْعَمَلَ لَهَا وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَكَرِهَ ذَلِكَ
أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ جُمْلَةً.
قال أبو محمد: مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا تَجْوِيزُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ:
مُعَامَلَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَإِنْ أَعْطَوْهُ دَرَاهِمَ الْخَمْرِ
وَالرِّبَا ثُمَّ يَكْرَهُونَ مُشَارَكَتَهُ حَيْثُ لاَ يُوقِنُ بِأَنَّهُمْ
يَعْمَلُونَ بِمَا لاَ يَحِلُّ، وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا. وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا
نَدْرِي أَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرَامَ، كَمَا أَنَّ فِي الْمُسْلِمِينَ
مَنْ لاَ يُبَالِي مِنْ أَيْنَ أَخَذَ الْمَالَ إِلاَّ أَنَّ مُعَامَلَةَ
الْجَمِيعِ جَائِزَةٌ مَا لَمْ يُوقِنْ حَرَامًا، فَإِذَا أَيْقَنَاهُ حَرُمَ
أَخْذُهُ مِنْ كَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
(8/125)
إن أخذ أحد الشريكين شيئا من
المال حسبه على نفسه ونقص به من رأس ماله ولا يحل لأحد منهما أن ينفق إلا من حصته
...
1244 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَخَذَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ
حَسَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَنَقَصَ بِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ
الَّذِي أَخَذَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ إِلاَّ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ
لَهُ.
وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُنْفِقَ إِلاَّ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ
الرِّبْحِ، وَلاَ مَزِيدَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الأَمْوَالَ مُحَرَّمَةٌ
عَلَى غَيْرِ أَرْبَابِهَا فَإِنْ تَكَارَمَا فِي ذَلِكَ جَازَ مَا نَفِدَ بِطِيبِ
نَفْسٍ، وَلَمْ يَلْزَمْ فِي الْمُسْتَأْنَفِ إنْ لَمْ تَطِبْ بِهِ النَّفْسُ.
(8/126)
1245 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ
اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يُعَاوِنُهُ فِي خِيَاطَةٍ أَوْ نَسْجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ
بِنِصْفِ مَا يَرِدُ أَوْ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِنْهُ: فَهُوَ بَاطِلٌ وَعَقْدٌ
فَاسِدٌ،
وَلَهُ بِقَدْرِ مَا يَعْمَلُ، وَلاَ بُدَّ، فَإِنْ تَكَارَمَا بِذَلِكَ، عَنْ
غَيْرِ شَرْطٍ فَهُوَ جَائِزٌ مَا دَامَ بِطِيبِ نُفُوسِهِمَا بِذَلِكَ فَقَطْ.
لقوله تعالى: {وَلاَ تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم:" كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ
بَاطِلٌ ".
(8/126)
من كانت بينهما الدابة مشتركة
لم يجز أن يشترطا إستعمالها بالأيام
...
1246 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا الدَّابَّةُ مُشْتَرَكَةً لَمْ
يَجُزْ أَنْ يَتَشَارَطَا اسْتِعْمَالَهَا بِالأَيَّامِ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ
فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ،
وَقَدْ يَسْتَعْمِلُهَا أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَعْمِلُهَا الآخَرُ،
وَالأَمْوَالُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى غَيْرِ أَرْبَابِهَا إِلاَّ بِطِيبِ
أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ تَكَارَمَا فِي ذَلِكَ جَازَ مَا دَامَ بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ
بِذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُطَيِّبَ نَفْسَهُ مِنْ
مَالِهِ بِمَا شَاءَ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ نَصٌّ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ
فِي الْعَبْدِ، وَالرَّحَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِنْ تَشَاحَّا فَلِكُلِّ أَحَدٍ
مِنْهُمَا عَلَى الآخَرِ نِصْفُ أُجْرَةِ مَا اسْتَعْمَلَ فِيهِ ذَلِكَ الشَّيْءَ
الْمُشْتَرَكِ، أَوْ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْ أُجْرَتِهَا، فَإِنْ آجَرَهَا
فَحَسَنٌ، وَالأُُجْرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حِصَصِهِمَا فِي تِلْكَ
السِّلْعَةِ.
(8/126)
من كانت بينهما سلع مشتركة
ابتاعها للبيع فأراد أحدهما البيع أجبر شريكه على البيع
...
1247- مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا سِلَعٌ مُشْتَرَكَةٌ ابْتَاعَاهَا
لِلْبَيْعِ فَأَرَادَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ أَجْبَرَ شَرِيكَهُ عَلَى الْبَيْعِ،
لأََنَّهُمَا عَلَى ذَلِكَ تَعَاقَدَا الشَّرِكَةَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْبَيْعِ
لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْبَيْعِ مَنْ لاَ يُرِيدُهُ، لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ
نَصٌّ. وَمَنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا دَابَّةٌ، أَوْ عَبْدٌ، أَوْ حَيَوَانٌ،
أُجْبِرَا عَلَى النَّفَقَةِ، وَعَلَى مَا فِيهِ صَلاَحُ كُلِّ ذَلِكَ. وَمَنْ
كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَرْضٌ لَمْ يُجْبَرْ مَنْ لاَ يُرِيدُ عِمَارَتَهَا عَلَى
عِمَارَتِهَا، لَكِنْ يَقْتَسِمَانِهَا وَيَعْمُرُ مَنْ شَاءَ حِصَّتَهُ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا
أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ أَوْ لِيُمْسِكْ أَرْضَهُ ". وَمَنْ كَانَتْ
بَيْنَهُمَا دَارٌ، أَوْ رَحَى، أَوْ مَا لاَ يَنْقَسِمُ، أُجْبِرَا عَلَى
الإِصْلاَحِ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ،
وَلِكُلِّ أَوَامِرِهِ حَقُّهَا مِنْ الطَّاعَةِ لاَ يَحِلُّ ضَرْبُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ.
وَبَيْعُ الشَّرِيكِ فِيمَا اشْتَرَكَا فِيهِ لِلْبَيْعِ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ
وَابْتِيَاعُهُ كَذَلِكَ، لأََنَّهُمَا عَلَى ذَلِكَ تَعَاقَدَا فَكُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وَكِيلٌ لِلآخَرِ، فَإِنْ تَعَدَّى مَا أَمَرَهُ بِهِ فَبَاعَ
بِوَضِيعَةٍ، أَوْ إلَى أَجَلٍ، أَوْ اشْتَرَى عَيْبًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ كُلِّ
ذَلِكَ، لأََنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلاَ يَجُوزُ لَهُ فِي
مَالِ غَيْرِهِ إِلاَّ مَا أَبَاحَهُ لَهُ. وَلاَ يَجُوزُ إقْرَارُ أَحَدِهِمَا
عَلَى الآخَرِ فِي غَيْرِ مَا وَكَّلَهُ بِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ ابْتِيَاعٍ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا أَرَادَ الأَنْفِصَالَ فَلَهُ ذَلِكَ. وَلاَ
تَحِلُّ الشَّرِكَةُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَمَّ
" كِتَابُ الشَّرِكَةِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
"
(8/127)
كتاب القسمة
الدليل على أن القسمة جائزة في حق كل مشترك إذا امكن و على حسب ما يمكن
...
كِتَابُ الْقِسْمَةِ
1248 - مَسْأَلَةٌ - الْقِسْمَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ حَقٍّ مُشْتَرَكٍ إذَا
أَمْكَنَ، وَعَلَى حَسْبِ مَا يُمْكِنُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} .
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا
حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخِطْمِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ
فَيَعْدِلُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ هَذِهِ قِسْمَتِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلاَ
تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ، وَلاَ أَمْلِكُ " [يَعْنِي الْقَلْبَ]. فَهَذَانِ
نَصَّانِ عُمُومٌ لِكُلِّ قِسْمَةٍ، وَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يَخُصَّهُمَا فِي
مِيرَاثٍ أَوْ بَيْنَ النِّسَاءِ بِرَأْيِهِ، وَأُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِأَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ: بُرْهَانٌ قَاطِعٌ فِي
وُجُوبِ الْقِسْمَةِ إذَا طَلَبَ ذُو الْحَقِّ حَقَّهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ
(8/128)
يجبر الممتنع منهما عليها
ويوكل الصغير والمجنون والنائب من يعزل له حقه
...
1249 - مَسْأَلَةٌ - وَيُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْهُمَا عَلَيْهَا، وَيُوَكِّلُ
الصَّغِيرُ، وَالْمَجْنُونُ، وَالْغَائِبُ مَنْ يَعْزِلُ لَهُ حَقَّهُ،
لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْر رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطَى
كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَوَجَبَ أَنْ يَنْفُذُ ذَلِكَ وَيَقْضِيَ بِهِ لِكُلِّ
مَنْ طَلَبَ حَقَّهُ، وَأَمَّا التَّقْدِيمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا فَلِقَوْلِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} وَهَذَا مِنْ الْقِسْطِ.
(8/128)
1250- مَسْأَلَةٌ - وَفَرْضٌ
عَلَى كُلِّ آخِذٍ حَظَّهُ مِنْ الْمَقْسُومِ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهُ مِنْ حَضَرَ
الْقِسْمَةَ مِنْ ذَوِي قُرْبَى أَوْ مِسْكَيْنِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ،
وَيُعْطِيَهُ الْوَلِيُّ، عَنِ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونِ، وَالْغَائِبِ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} . وَأَمْرُ اللَّهِ
تَعَالَى فَرْضٌ حَتَّى يَأْتِيَ نَصٌّ ثَابِتٌ بِأَنَّهُ لَيْسَ فَرْضًا وَإِلَّا
فَقَوْلُ مَنْ قَالَ: لاَ يَلْزَمُ إنْفَاذُ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لِخُصُوصٍ
ادَّعَاهُ، أَوْ نَسْخٍ زَعَمَهُ، أَوْ لِنَدْبٍ أَطْلَقَهُ بِظَنِّهِ قَوْلٌ
سَاقِطٌ مَرْدُودٌ فَاسِدٌ فَاحِشٌ، إِلاَّ أَنْ يُخْبِرَنَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَمْعًا وَطَاعَةً، لأََنَّهُ الْمُبَلِّغُ،
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَحْكَامَهُ، وَأَمَّا مَنْ دُونَهُ فَلاَ. رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ يُونُسَ، هُوَ ابْنُ
عُبَيْدٍ وَمَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ قَالَ
يُونُسُ، وَمَنْصُورٌ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ،
ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ، قَالاَ جَمِيعًا فِي قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. وبه إلى
هُشَيْمٍ، عَنْ عَوْفٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي جَمِيلَةَ-
(8/128)
لا يجوز أن يجبر أحد من
الشركاء على بيع حصته مع شريكه أو شركائه ولا على تقاسمهما الشيء الذي هما فيه
شريكان أصلا
...
1251 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ أَحَدٌ مِنْ الشُّرَكَاءِ عَلَى
بَيْعِ حِصَّتِهِ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ شُرَكَائِهِ، وَلاَ عَلَى تَقَاوُمِهِمَا
الشَّيْءَ الَّذِي هُمَا فِيهِ شَرِيكَانِ أَصْلاً
كَانَ مِمَّا يَنْقَسِمُ أَوْ مِمَّا لاَ يَنْقَسِمُ مِنْ الْحَيَوَانِ، لَكِنْ
يُجْبَرَانِ عَلَى الْقِسْمَةِ إنْ دَعَا إلَيْهَا أَحَدُهُمَا، أَوْ أَحَدُهُمْ،
أَوْ تُقْسَمُ الْمَنَافِعُ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ لاَ تُمْكِنُ الْقِسْمَةُ
وَمَنْ دَعَا إلَى الْبَيْعِ قِيلَ لَهُ: إنْ شِئْت فَبِعْ حِصَّتَك وَإِنْ شِئْت
فَأَمْسِكْ، وَكَذَلِكَ شَرِيكُك إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ إضَاعَةٌ
لِلْمَالِ بِلاَ شَيْءٍ مِنْ النَّفْعِ فَيُبَاعُ حِينَئِذٍ لِوَاحِدٍ كَانَ أَوْ
لِشَرِيكَيْنِ فَصَاعِدًا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَكَا لِتِجَارَةٍ فَيُجْبَرُ
عَلَى الْبَيْعِ هَاهُنَا خَاصَّةً مَنْ أَبَاهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". فَصَحَّ بِهَذَا أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ
أَنْ يُخْرِجَ مَالَ أَحَدٍ، عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ تَرَاضٍ مِنْهُ،
وَالإِجْبَارُ عَلَى الْبَيْعِ إخْرَاجٌ لِلْمَالِ عَنْ صَاحِبِهِ إلَى مَنْ هُوَ
حَرَامٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَهَذَا ظُلْمٌ لاَ شَكَّ
فِيهِ. فإن قيل: إنَّ تَرْكَ أَحَدِهِمَا الْبَيْعَ ضَرَرًا بِانْتِقَاصِ قِيمَةِ
حِصَّةِ الآخَرِ قلنا: لاَ ضَرَرَ فِي ذَلِكَ، بَلْ الضَّرَرُ كُلُّهُ هُوَ أَنْ
يُجْبَرَ الْمَرْءُ عَلَى إخْرَاجِ مِلْكِهِ، عَنْ يَدِهِ، فَهَذَا الضَّرَرُ هُوَ
الْمُحَرَّمُ، لاَ ضَرَرُ إنْسَانٍ بِأَنْ لاَ يُنَفِّذَ لَهُ هَوَاهُ فِي مَالِ
شَرِيكِهِ. وَقَدْ وَافَقَنَا الْمُخَالِفُونَ هَاهُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ
قِطْعَةُ أَرْضٍ أَوْ دَارٌ صَغِيرَةٌ إلَى جَنْبِ أَرْضٍ أَوْ دَارٍ لِغَيْرِهِ
لَوْ بِيعَتَا مَعًا لَتَضَاعَفَتْ الْقِيمَةُ لَهُمَا، وَإِنْ بِيعَتَا
مُتَفَرِّقَتَيْنِ نَقَصَتْ الْقِيمَةُ أَنَّهُ لاَ يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ
إنْ أَبَاهُ، فَمِنْ أَيْنَ وَقَعَ لَهُمْ هَذَا الْحُكْمُ فِي الْمُشْتَرَكِ مِنْ
الأَمْوَالِ دُونَ الْمَقْسُومِ مِنْهَا وَقَوْلُهُمْ هَاهُنَا عَارٍ مِنْ
الأَدِلَّةِ كُلِّهَا وَظُلْمٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَأَمَّا مَا اُبْتِيعَ
لِلتِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ فَهُوَ شَرْطٌ قَدْ أَبَاحَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ،
فَلاَ يَجُوزُ إبْطَالُهُ إِلاَّ بِرِضًا مِنْهُمَا جَمِيعًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الأَقْوَالِ: أَنَّ الَّذِينَ يُجْبِرُونَ الشَّرِيكَ عَلَى
الْبَيْعِ مَعَ شَرِيكِهِ أَوْ عَلَى تَقَاوُمِهِ حَتَّى يَحْصُلَ لأََحَدِهِمَا
كُلَّهُ لاَ يَرَوْنَ الشُّفْعَةَ فِي ذَلِكَ فِيمَا عَدَا الأَرْضِ وَالْبِنَاءِ،
فَأَوْجَبُوا الْبَيْعَ حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ
صلى الله عليه وسلم وَأَبْطَلُوهُ حَيْثُ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ
صلى الله عليه وسلم وَهُمَا بَيْعٌ وَبَيْعُ.
(8/130)
يقسم كل شيء إذا لم يكن
بينهما مال مشترك سواه حاشا الرأس الواحد من الحيوان والمصحف فلا يقسم أصلا بل
يؤجرونه ويقتسمون أجرته
...
1252 - مَسْأَلَةٌ - وَيُقْسَمُ كُلُّ شَيْءٍ سَوَاءٌ أَرْضًا كَانَ، أَوْ دَارًا
صَغِيرَةً، أَوْ كَبِيرَةً، أَوْ حَمَّامًا، أَوْ ثَوْبًا، أَوْ سَيْفًا، أَوْ
لُؤْلُؤَةً، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ،
إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مَالٌ مُشْتَرَكٌ سِوَاهُ حَاشَا الرَّأْسَ
الْوَاحِدَ مِنْ الْحَيَوَانِ، وَالْمُصْحَفَ فَلاَ يُقْسَمُ أَصْلاً، لَكِنْ
يَكُونُ بَيْنَهُمْ يُؤَاجِرُونَهُ
(8/130)
إن كان المال المقسوم أشياء
متفرقة فدعا أحد المقتسمين إلى إخراج نصيبه كله بالقرعة في شخص من أشخاص المال أو
في نوع منه قضي له بذلك أحب شركاؤه أم كرهوا
...
1253 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ الْمَالُ الْمَقْسُومُ أَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةً
فَدَعَا أَحَدُ الْمُقْتَسِمِينَ إلَى إخْرَاجِ نَصِيبِهِ كُلِّهِ بِالْقُرْعَةِ
فِي شَخْصٍ مِنْ أَشْخَاصِ الْمَالِ، أَوْ فِي نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِهِ: قُضِيَ
لَهُ بِذَلِكَ، أَحَبَّ شُرَكَاؤُهُ أَمْ كَرِهُوا .
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقْسَمَ كُلُّ نَوْعٍ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، وَلاَ كُلُّ دَارٍ
بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، وَلاَ كُلُّ ضَيْعَةٍ بَيْنَ جَمِيعِهِمْ، إِلاَّ بِاتِّفَاقِ
جَمِيعِهِمْ عَلَى ذَلِكَ. وَيُقْسَمُ الرَّقِيقُ، وَالْحَيَوَانُ،
وَالْمَصَاحِفُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ عَبْدٌ وَبَعْضُ
آخَرَ بَقِيَ شَرِيكًا فِي الَّذِي وَقَعَ حَظُّهُ فِيهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ مَنْ قَالَ غَيْرَ قَوْلِنَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ
تَرْكِ قَوْلِهِ هَذَا وَالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِنَا، أَوْ إبْطَالِ الْقِسْمَةِ
جُمْلَةً، وَتَكْلِيفُ مَا لاَ يُطَاقُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: مَا
الْفَرْقُ بَيْنَك فِي قَوْلِك: تُقْسَمُ كُلُّ دَارٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ
ضَيْعَةٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ غَنَمٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ بَقَرٍ بَيْنَهُمْ،
وَكُلُّ رَقِيقٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ ثِيَابٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آخَرَ قَالَ:
بَلْ يُقْسَمُ كُلُّ بَيْتٍ بَيْنَهُمْ، وَكُلُّ رُكْنٍ مِنْ كُلِّ فَدَّانٍ
بَيْنَهُمْ، لأََنَّهُ إذَا جَعَلْتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّةً فِي كُلِّ
شَيْءٍ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ لَزِمَك هَذَا الَّذِي أَلْزَمْنَاك، وَلاَ بُدَّ.
فَإِنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيبًا مَفْرُوضًا} . قلنا: نَعَمْ هَذَا الْحَقُّ، وَهَذِهِ الآيَةُ حُجَّتُنَا
عَلَيْك لأََنَّك إذَا حَمَلْتهَا عَلَى مَا قُلْت لَزِمَك مَا قلنا، وَلاَ بُدَّ،
وَالآيَةُ مُوجِبَةٌ لِقَوْلِنَا، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرَادَ
مِنَّا مَا قَدْ جَعَلَهُ فِي وُسْعِنَا، فَإِنَّمَا أَرَادَ تَعَالَى مِمَّا
قَلَّ مِمَّا تَرَكَهُ الْمَيِّتُ أَوْ كَثُرَ فَقَطْ، وَلَمْ يُرِدْ تَعَالَى
قَطُّ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَقْسُومِ، إذْ لَوْ أَرَادَ تَعَالَى ذَلِكَ
لَكَانَ تَعَالَى قَدْ كَلَّفَنَا مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ مِنْ قِسْمَةِ كُلِّ
جُزْءٍ مِنْهُ وَلَوْ عَلَى قَدْرِ الصُّؤَابَةِ، فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْخَبَرَ الثَّابِتَ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ الأَنْصَارِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ
رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ " أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ الْغَنِيمَةَ فَعَدَلَ عَشَرَةً مِنْ الْغَنَمِ
بِبَعِير "ٍ فِي حَدِيثٍ فَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا لأََنَّهُ عليه السلام أَعْطَى
بَعْضَهُمْ غَنَمًا، وَبَعْضَهُمْ إبِلاً، فَهَذَا عَمَلُ الصَّحَابَةِ مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي ثَوْرٍ وَغَيْرِهِ.
(8/132)
يقسم كل ما لا يحل بيعه إذا
حل ملكه كالكلاب والسنابير
...
1254 - مَسْأَلَةٌ - وَيُقْسَمُ كُلُّ مَا لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ إذَا حَلَّ
مِلْكُهُ: كَالْكِلاَبِ، وَالسَّنَانِيرِ،
وَالثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلاَحُهُ، وَالْمَاءِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّ
ذَلِكَ بِالْمُسَاوَاةِ وَالْمُمَاثَلَةِ، لأََنَّ الْقِسْمَةَ تَمْيِيزُ حَقِّ
كُلِّ وَاحِدٍ وَتَخْلِيصُهُ، وَلَيْسَتْ بَيْعًا وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا
جَازَ أَنْ تَأْخُذَ الْبِنْتُ دِينَارًا وَالأَبْنُ دِينَارَيْنِ. وَكَذَلِكَ:
تَقْسِيمُ الضِّيَاعِ الْمُتَبَاعِدَةِ فِي الْبِلاَدِ الْمُتَفَرِّقَةِ،
فَيَخْرُجُ بَعْضُهُمْ إلَى بَلْدَةٍ، وَالآخَرُ إلَى أُخْرَى لِمَا ذَكَرْنَا
وَكُلُّ قَوْلٍ خَالَفَ هَذَا فَهُوَ تَحَكُّمٌ بِلاَ بُرْهَانٍ يَئُولُ إلَى
التَّنَاقُضِ، وَإِلَى الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِنَا، وَتَرْكِ قَوْلِهِمْ، إذْ لاَ
بُدَّ مِنْ تَرْكِ بَعْضٍ وَأَخْذِ بَعْضٍ وقال أبو حنيفة: لاَ يُقْسَمُ
الْحَيَوَانُ إِلاَّ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ، وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا، عَنْ
أَحَدٍ قَبْلَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/133)
1255 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ فِي الْقِسْمَةِ لأََحَدِ الْمُقْتَسِمِينَ عُلْوُ بِنَاءٍ
وَالآخَرِ سُفْلُهُ،
وَهَذَا مَفْسُوخٌ أَبَدًا إنْ وَقَعَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الْهَوَاءَ دُونَ الأَرْضِ لاَ يُتَمَلَّكُ، وَلاَ
يُمْكِنُ ذَلِكَ فِيهِ أَصْلاً لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لاَ سَبِيلَ
لأََحَدٍ إلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي الْهَوَاءِ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ. وَالثَّانِي
أَنَّهُ مُتَمَوِّجٌ غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ، وَلاَ مَضْبُوطٍ، فَمَنْ وَقَعَ لَهُ
الْعُلْوُ فَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جُدُرَاتِ
صَاحِبِهِ وَسَطْحِهِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لاَ يَهْدِمَ صَاحِبُ السُّفْلِ جُدُرَاتِهِ،
وَلاَ سَطْحَهُ، وَلاَ أَنْ يُعْلِيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلاَ أَنْ
يُقَصِّرَهُ: وَلاَ أَنْ يُقَبِّبَ سَطْحَهُ، وَلاَ أَنْ يُرَقِّقَ جُدُرَاتِهِ،
وَلاَ أَنْ يَفْتَحَ فِيهَا أَقْوَاسًا. وَكُلُّ هَذِهِ شُرُوطٌ لَيْسَتْ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ
مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ ".
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ حَقٌّ فَهُوَ مُمَلَّكٌ إيَّاهُ
يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْف شَاءَ، مَا لَمْ يَمْنَعْهُ قُرْآنٌ، أَوْ سُنَّةٌ
فَبَطَلَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ بِيَقِينٍ لاَ إشْكَالَ فِيهِ وَصَحَّ أَنَّ
ابْتِيَاعَ الْعُلُوِّ عَلَى إقْرَارِهِ حَيْثُ هُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ،
وَإِنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُ أَنْقَاضِهِ فَقَطْ، فَإِذَا ابْتَاعَهَا فَلَيْسَ لَهُ
إمْسَاكُهَا عَلَى جَدَرَاتِ غَيْرِهِ، إِلاَّ مَا دَامَ تَطِيبُ نَفْسُهُ
بِذَلِكَ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِإِزَالَتِهَا، عَنْ حَقِّهِ مَتَى شَاءَ.
وَقَدْ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ مِنْ اقْتِسَامِ سُفْلٍ لِوَاحِدٍ وَعُلُوٍّ لأَخَر.َ
(8/133)
1256 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَحِلُّ لأََحَدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ إنْفَاذُ شَيْءٍ مِنْ الْحُكْمِ فِي جُزْءٍ
مُعَيَّنٍ مِمَّا لَهُ فِيهِ شَرِيكٌ ،
وَلاَ فِي كُلِّهِ سَوَاءٌ قَلَّ ذَلِكَ الْجُزْءُ أَوْ كَثُرَ لاَ بَيْعٌ، وَلاَ
صَدَقَةٌ، وَلاَ هِبَةٌ، وَلاَ إصْدَاقٌ، وَلاَ إقْرَارٌ فِيهِ لأََحَدٍ، وَلاَ
تَحْبِيسٌ، وَلاَ غَيْرُ ذَلِكَ، كَمَنْ بَاعَ رُبُعَ هَذَا الْبَيْتِ، أَوْ
ثُلُثَ هَذِهِ الدَّارِ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، أَوْ كَانَ شَرِيكُهُ
حَاضِرًا، أَوْ مُقَاسَمَتَهُ لَهُ مُمْكِنَةٌ، لأََنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا
كَسْبٌ عَلَى غَيْرِهِ، لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي أَيَقَعُ لَهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ
ذَلِكَ الْجُزْءُ أَمْ لاَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ
نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وَلِقَوْلِ
(8/133)
1257 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ
وَقَعَ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا فُسِخَ أَبَدًا
سَوَاءٌ وَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حِصَّتِهِ أَوْ
لَمْ يَقَعْ: لاَ يَنْفُذُ شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْنَا أَصْلاً لِقَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهُوَ رَدٌّ " وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ عَمَلٌ وَقَعَ بِخِلاَفِ
أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمْرِ رَسُولِهِ عليه السلام فَهُوَ رَدٌّ. وَأَيْضًا:
فَكُلُّ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ حِينَ عَقْدِهِ بَلْ وَجَبَ إبْطَالُهُ، فَمِنْ
الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ يَجُوزَ فِي وَقْتٍ آخَرَ لَمْ يَعْقِدْ فِيهِ،
وَكُلُّ قَوْلٍ لَمْ يُصَدَّقْ حِينَ النُّطْقِ بِهِ فَمِنْ الْبَاطِلِ
الْمُمْتَنِعِ أَنْ يُصَدَّقَ حِينَ لَمْ يَنْطِقْ بِهِ، إِلاَّ أَنْ يُوجِبَ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي مَكَان مِنْ الأَمْكِنَةِ: قُرْآنٌ، أَوْ سُنَّةٌ،
فَيُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَرْضٌ، أَوْ حَيَوَانٌ، أَوْ عَرَضٌ،
فَبَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، أَوْ وَهَبَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ
أَصْدَقَهُ، فَإِنْ كَانَ شَرِيكُهُ غَائِبًا، وَلَمْ يُجِبْ إلَى الْقِسْمَةِ،
أَوْ حَاضِرًا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى الْقِسْمَةِ، أَوْ لَمْ
يُجِبْهُ إلَى الْقِسْمَةِ: فَلَهُ تَعْجِيلُ أَخْذِ حَقِّهِ، وَالْقِسْمَةِ وَالْعَدْلِ
فِيهَا، لأََنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ قِسْمَةِ الْحَاكِمِ إذَا عَدَلَ، وَبَيْنَ
قِسْمَةِ الشَّرِيكِ إذَا عَدَلَ، إذْ لَمْ يُوجِبْ الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ مَعْقُولٌ، وَمَنْعِهِ مِنْ أَخْذِ حَقِّهِ جَوْرٌ،
وَكُلُّ ذِي حَقٍّ أَوْلَى بِحَقِّهِ فَيُنْظَرُ حِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ أَنْفَذَ
مَا ذَكَرْنَا فِي مِقْدَارِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ بِالْعَدْلِ غَيْرَ
مُتَزَيَّدٍ، وَلاَ مُحَابٍ لِنَفْسِهِ بِشَيْءٍ أَصْلاً: فَهِيَ قِسْمَةُ حَقٍّ،
وَكُلُّ مَا أَنْفَذَ مِنْ ذَلِكَ جَائِزٌ نَافِذٌ: أَحَبَّ شَرِيكُهُ أَمْ
كَرِهَ. فَإِنْ كَانَ حَابَى نَفْسَهُ، فُسِخَ كُلُّ ذَلِكَ، لأََنَّهَا صَفْقَةٌ
جَمَعَتْ حَرَامًا وَحَلاَلاً فَلَمْ تَنْعَقِدْ صَحِيحَةً. فَلَوْ غَرَسَ وَبَنَى
وَعَمَّرَ: نَفَذَ كُلُّ ذَلِكَ فِي مِقْدَارِ حَقِّهِ وَقَضَى بِمَا زَادَ
لِلَّذِي يُشْرِكُهُ، وَلاَ حَقَّ لَهُ فِي بِنَائِهِ وَعِمَارَتِهِ، وَغَرْسِهِ،
إِلاَّ قَلْعَ عَيْنِ مَالٍ، كَالْغَصْبِ، وَلاَ فَرْقَ. فَلَوْ كَانَ طَعَامًا
فَأَكَلَ مِنْهُ: ضَمِنَ مَا زَادَ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ. فَإِنْ كَانَ
مَمْلُوكًا فَأَعْتَقَ: ضَمِنَ حِصَّةَ شَرِيكِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. تَمَّ " كِتَابُ الْقِسْمَةِ " وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ.
(8/134)
كتاب الاستحقاق والغصب
والجنايات على الأموال
لا يحل لأحد مال مسلم ولا مال ذمي إلا بما أباح الله عز وجل على لسان رسوله في
القرآن أو السنة
...
كِتَابُ الأَسْتِحْقَاقِ وَالْغَصْبِ وَالْجِنَايَاتِ عَلَى الأَمْوَالِ
1258 - مَسْأَلَةٌ - لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ مَالُ مُسْلِمٍ، وَلاَ مَالُ ذِمِّيٍّ،
إِلاَّ بِمَا أَبَاحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله
عليه وسلم فِي الْقُرْآنِ، أَوْ السُّنَّةِ
نَقْلُ مَالِهِ إلَى غَيْرِهِ، أَوْ بِالْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ
تَعَالَى بِهِ أَيْضًا، وَكَذَلِكَ نَقْلُهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ كَالْهِبَاتِ
الْجَائِزَةِ، وَالتِّجَارَةِ الْجَائِزَةِ، أَوْ الْقَضَاءِ الْوَاجِبِ بِالدِّيَاتِ،
وَالتَّقَاصِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ. فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا
مِنْ مَالِ غَيْرِهِ أَوْ صَارَ إلَيْهِ بِغَيْرِ مَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ كَانَ
عَامِدًا عَالَمًا بَالِغًا مُمَيِّزًا فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
وَإِنْ كَانَ غَيْرَ
(8/134)
من غصب شيئا أو أخذه بغير حق
لكن ببيع محرم أو هبة محرمة أو بعقد فاسد أو هو يظن أنه له ففرض عليه أن يرده
...
1259 - مَسْأَلَةٌ - فَمَنْ غَصَبَ شَيْئًا، أَوْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، لَكِنْ
بِبَيْعٍ مُحَرَّمٍ، أَوْ هِبَةٍ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، أَوْ وَهُوَ
يَظُنُّ أَنَّهُ لَهُ: فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ
إنْ كَانَ حَاضِرًا، أَوْ مَا بَقِيَ مِنْهُ إنْ تَلِفَ بَعْضُهُ أَقَلُّهُ أَوْ
أَكْثَرُهُ وَمِثْلُ مَا تَلِفَ مِنْهُ، أَوْ يَرُدَّهُ وَمِثْلَ مَا نَقَصَ مِنْ
صِفَاتِهِ، أَوْ مِثْلَهُ إنْ فَاتَتْ عَيْنُهُ وَأَنْ يَرُدَّ كُلَّ مَا
اُغْتُلَّ مِنْهُ، وَكُلَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ، كَمَا قلنا سَوَاءٌ سَوَاءٌ:
الْحَيَوَانُ، وَالدُّورُ، وَالشَّجَرُ، وَالأَرْضُ، وَالرَّقِيقُ، وَغَيْرُ
ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي كُلِّ مَا قلنا. فَيَرُدَّ كُلَّ مَا اُغْتُلَّ مِنْ
الشَّجَرِ، وَمِنْ الْمَاشِيَةِ: مِنْ لَبَنٍ، أَوْ صُوفٍ، أَوْ نِتَاجٍ، وَمِنْ
الْعَقَارِ: الْكِرَاءِ. وَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ فَأَوْلَدَهَا، فَإِنْ كَانَ
عَالَمًا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ حَدُّ الزِّنَى وَبِرَدِّهَا وَأَوْلاَدِهَا وَمَا
نَقَصَهَا وَطْؤُهُ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ حَدٍّ،
وَلاَ إثْمَ، لَكِنْ يَرُدُّهَا، وَيَرُدُّ أَوْلاَدَهُ مِنْهَا رَقِيقًا
لِسَيِّدِهَا، وَيَرُدُّ مَا نَقَصَهَا وَطْؤُهُ، وَلاَ شَيْءَ لِكُلِّ مَنْ
ذَكَرْنَا عَلَى الْمُسْتَحِقِّ فِيمَا أَنْفَقَ كَثُرَ أَمْ قَلَّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا آنِفًا مِنْ الْقُرْآنِ، وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ
مِنْ مَالِ الْمَرْءِ فَهُوَ لَهُ بِاتِّفَاقٍ مِنْ خُصُومِنَا مَعَنَا، فَمَنْ
خَالَفَ مَا قلنا: فَقَدْ أَبَاحَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَأَبَاحَ
الْمَالَ الْحَرَامَ، وَخَالَفَ الْقُرْآنَ، وَالسُّنَنَ، بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، وَاللَّيْثِ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَمُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ، كُلُّهُمْ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَلاَ لاَ يَحْلِبَنَّ أَحَدٌ مَاشِيَةَ
أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرُبَتُهُ
فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُنْتَقَلَ طَعَامُهُ، فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ
مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ " وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
(8/135)
هَذَا، فَقَالَ بَعْضُ
التَّابِعِينَ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: كُلُّ ذَلِكَ لِلْغَاصِبِ
وَلِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ بِضَمَانِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَا تَوَلَّدَ مِنْ
لَبَنٍ، أَوْ صُوفٍ، أَوْ إجَارَةٍ فَهُوَ لِلْغَاصِبِ وَالْمُسْتَحَقِّ
عَلَيْهِ،وَأَمَّا الْوَلَدُ فَلِلْمُسْتَحِقِّ وَفَرَّقَ آخَرُونَ فِي ذَلِكَ
بَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْغَاصِبِ: فَجَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ
لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَجْعَلُوهُ لِلْغَاصِبِ وَفَرَّقَ آخَرُونَ
بَيْنَ مَا وُجِدَ مِنْ ذَلِكَ قَائِمًا وَبَيْنَ مَا هَلَكَ مِنْهُ فَلَمْ
يُضَمِّنُوهُ مَا هَلَكَ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ كُلُّهَا أَرَاءٌ فَاسِدَةٌ مُتَخَاذِلَةٌ، وَحُجَّةُ
جَمِيعِهِمْ إنَّمَا هِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي لاَ يَصِحُّ، الَّذِي انْفَرَدَ بِهِ
مَخْلَدُ بْنُ خَفَّافٍ، وَمُسْلِمُ بْنُ خَالِدٍ الزِّنْجِيُّ " أَنَّ
الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ ". ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ
حُجَّةٌ، لأََنَّهُ إنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ
وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ، فَكَانَ خَرَاجُهُ لَهُ وَهَكَذَا نَقُولُ نَحْنُ،
لأََنَّهُ قَدْ مَلَكَهُ مِلْكًا صَحِيحًا فَاسْتَغَلَّ مَالَهُ لاَ مَالَ
غَيْرِهِ، وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ عَلَى الْحَلاَلِ، ثُمَّ
لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا فَكَيْفَ وَهُوَ بَاطِلٌ كُلُّهُ أَوْ أَنْ يَحْكُمَ
لِلْبَاطِلِ بِحُكْمِ الْحَقِّ، وَلِلظَّالِمِ بِحُكْمِ مَنْ لَمْ يَظْلِمْ،
فَهَذَا الْجَوْرُ وَالتَّعَدِّي لِحُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ
هَذَا الْخَبَرُ عَلَى عُمُومِهِ لَكَانَ تَقْسِيمُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
الْغَاصِبِ وَبَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَبَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ
الْغَلَّةِ، وَبَيْنَ الْمَوْجُودِ وَالتَّأَلُّفِ بَاطِلاً مَقْطُوعًا بِهِ،
لأََنَّهُ لاَ بِهَذَا الْخَبَرِ أَخَذَ، وَلاَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي قَدَّمْنَا
أَخَذَ، بَلْ خَالَفَ كُلَّ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا بَقِيَ الْكَلاَمُ بَيْنَنَا
وَبَيْنَ مَنْ رَأَى الْغَلَّةَ وَالْوَلَدَ لِلْغَاصِبِ وَلِلْمُسْتَحَقِّ
عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَقَطْ، فَالنُّصُوصُ الَّتِي ذَكَرْنَا تُوجِبُ مَا قلنا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الرِّوَايَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد قَالَ:
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ
السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم،
أَنَّهُ قَالَ: "مَ نْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ
لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقٌّ ". فَنَسْأَلُهُمْ عَمَّنْ صَارَ إلَيْهِ مَالُ
أَحَدٍ بِغَيْرِ حَقٍّ أَعِرْقُ ظَالِمٍ هُوَ أَمْ لاَ فَإِنْ قَالُوا: لاَ،
خَالَفُوا الْقُرْآنَ، وَالسُّنَنَ، وَتَرَكُوا قَوْلَهُمْ، وَقَوْلَ أَهْلِ
الإِسْلاَمِ، وَلَزِمَهُمْ أَنْ لاَ يَرُدُّوا عَلَى الْمُسْتَحِقِّ شَيْئًا،
لأََنَّهُ لَيْسَ بِيَدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ، وَلاَ بِيَدِ الْغَاصِبِ،
وَالظَّالِمُ بِعِرْقِ ظَالِمٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِرْقُ ظَالِمٍ فَهُوَ عِرْقُ
حَقٍّ، إذْ لاَ وَاسِطَةَ بَيْنَهُمَا. قَالَ تَعَالَى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ
إِلاَّ الضَّلاَلُ} وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا وَإِنْ قَالُوا: بَلْ بِعِرْقِ
ظَالِمٍ هُوَ بِيَدِهِ، لَزِمَهُمْ أَنْ لاَ حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا سَرَى
فِيهِ ذَلِكَ الْعِرْقُ. وَهَذَا فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَلَدِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْغَلَّةِ: فَكَلاَمٌ
فِي غَايَةِ السُّخْفِ وَالْفَسَادِ، وَلَوْ عُكِسَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ مَا
انْفَصَلُوا مِنْهُ. وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الأَوْلاَدِ الأَحْيَاءِ
فَرَأَى رَدَّهُمْ، وَبَيْنَ الْمَوْتَى
(8/136)
فَلَمْ يَرَ رَدَّهُمْ
فَيُقَالُ لَهُمْ هَلْ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ كُلِّ مَا نَتَجَتْ الأُُمَّهَاتُ
حِينَ الْوِلاَدَةِ إلَى سَيِّدِهِمْ وَسَيِّدِ أُمِّهِمْ أَمْ لاَ فَإِنْ
قَالُوا: لاَ، لَزِمَهُمْ أَنْ لاَ يَقْضُوا بِرَدِّهِمْ أَصْلاً أَحْيَاءً
وُجِدُوا أَمْ أَمْوَاتًا. وَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ،
قلنا: فَسُقُوطُ وُجُوبِ رَدِّهِمْ بِمَوْتِهِمْ كَلاَمٌ بَاطِلٌ لاَ خَفَاءَ
بِهِ. وَلَهُمْ فِي أَوْلاَدِ الْمُسْتَحِقَّةِ مِمَّنْ اُسْتُحِقَّتْ عَلَيْهِ
أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ: فَمَرَّةً قَالُوا: يَأْخُذُهَا وَيَأْخُذُ قِيمَةَ
وَلَدِهَا، وَمَرَّةٌ قَالُوا: يَأْخُذُهَا فَقَطْ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي
الْوَلَدِ لاَ قِيمَةَ، وَلاَ غَيْرِهَا وَمَرَّةً قَالُوا: يَأْخُذُ قِيمَتَهَا
وَقِيمَةَ وَلَدِهَا.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ
هَؤُلاَءِ الأَوْلاَدِ هَلْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ قَطُّ فِي أَوَّلِ خَلْقهمْ، أَوْ
حِينَ وِلاَدَتِهِمْ: مَلَكَ سَيِّدُ أُمِّهِمْ أَمْ لَمْ يَقَعْ لَهُ قَطُّ
عَلَيْهِمْ مِلْكٌ، وَلاَ ثَالِثَ لِهَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قَالُوا: بَلْ
قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِلْكُهُ قلنا: فَفِي أَيِّ دِينِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ
وَجَدْتُمْ أَنْ تُجْبِرُوهُ عَلَى بَيْعِ عَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ بِلاَ ضَرَرٍ
كَانَ مِنْهُ إلَيْهِمْ وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَؤُلاَءِ وَبَيْنَ مَنْ تَزَوَّجَ
أَمَةً فَاسْتُرِقَّ وَلَدُهُ مِنْهَا فَهَلاَّ أَجْبَرْتُمْ سَيِّدَهَا عَلَى
قَبُولِ فَدَائِهِمْ فَإِنْ قَالُوا عَلَى هَذَا دَخَلَ النَّاكِحُ لَمْ يَنْوِ
الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عَلَى ذَلِكَ قلنا: فَكَانَ مَاذَا، وَمَا حُرِّمَتْ
أَمْوَالُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ بِنِيَّاتِ غَيْرِهِمْ فِيهَا، أَوْ أَيْنَ
وَجَدْتُمْ هَذَا الْحُكْمَ وَهَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَى وُجُودِهِ، وَإِذْ هُمْ
فِي مِلْكِهِ فَهُمْ لَهُ بِلاَ شَكٍّ. وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَقَعْ مِلْكُهُ
قَطُّ عَلَيْهِمْ قلنا: فَبِأَيِّ وَجْهٍ تَقْضُونَ لَهُ بِقِيمَتِهِمْ وَهَذَا
ظُلْمٌ لأََبِيهِمْ بَيِّنٌ، وَإِيكَالٌ لِمَا لَهُ بِالْبَاطِلِ، وَإِبَاحَةٌ
لِثَمَنِ الْحُرِّ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عليه السلام.
وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ: يَأْخُذُ قِيمَةَ الأُُمِّ فَقَطْ، أَوْ يَأْخُذُهَا
فَقَطْ: لأََيِّ شَيْءٍ يَأْخُذُهَا، أَوْ قِيمَتَهَا فَإِنْ قَالُوا: لأََنَّهَا
أَمَتُهُ قلنا: فَأَوْلاَدُ أَمَتِهِ عَبِيدُهُ بِلاَ شَكٍّ، فَلِمَ
أَعْطَيْتُمُوهُ بَعْضَ مَا مَلَكَتْ يَمِينُهُ وَتَمْنَعُونَهُ الْبَعْضَ أَوْ
لِمَ تَجْبُرُونَهُ عَلَى بَيْعِهَا وَهُوَ لاَ يُرِيدُ بَيْعَهَا: رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ أَنَّ رَجُلاً بَاعَ جَارِيَةً
لأََبِيهِ فَتَسَرَّاهَا الْمُشْتَرِي فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلاَدًا فَجَاءَ أَبُوهُ
فَخَاصَمَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَرَدَّهَا وَوَلَدَهَا إلَيْهِ،
فَقَالَ الْمُشْتَرِي: دَعْ لِي وَلَدِي، فَقَالَ لَهُ: دَعْ لَهُ وَلَدَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ شَفَاعَةٌ مِنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَرَغْبَةٌ وَلَيْسَ
فَسْخًا لِقَضَائِهِ بِهَا وَبِوَلَدِهَا لِسَيِّدِهَا: وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، هُوَ ابْنُ
أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلاَسٍ: أَنَّ أَمَةً أَتَتْ طَيِّئًا
فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَوَلَدَتْ لَهُ
أَوْلاَدًا ثُمَّ إنَّ سَيِّدَهَا ظَهَرَ عَلَيْهَا فَقَضَى بِهَا عُثْمَانُ بْنُ
عَفَّانَ: أَنَّهَا وَأَوْلاَدَهَا لِسَيِّدِهَا، وَأَنَّ لِزَوْجِهَا مَا
أَدْرَكَ مِنْ مَتَاعِهِ، وَجَعَلَ فِيهِمْ الْمِلَّةَ وَالسُّنَّةَ كُلُّ رَأْسٍ
رَأْسَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
(8/137)
عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ
مَنْصُورٍعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ امْرَأَةً وَابْنًا لَهَا بَاعَا جَارِيَةً
لِزَوْجِهَا وَهُوَ أَبُو الْوَلَدِ فَوَلَدَتْ الْجَارِيَةُ لِلَّذِي ابْتَاعَهَا
ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا فَخَاصَمَ إلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَمْ
أَبِعْ وَلَمْ أَهَبْ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: قَدْ بَاعَ ابْنُك وَبَاعَتْ
امْرَأَتُك قَالَ: إنْ كُنْت تَرَى لِي حَقًّا فَأَعْطِنِي قَالَ: فَخُذْ
جَارِيَتَك وَابْنَهَا، ثُمَّ سَجَنَ الْمَرْأَةَ وَابْنَهَا حَتَّى تَخَلَّصَا
لَهُ، فَلَمَّا رَأَى الزَّوْجُ ذَلِكَ أَنْفَذَ الْبَيْعَ. فَهَذَا عَلِيٌّ قَدْ
رَأَى الْحَقَّ أَنَّهَا وَوَلَدَهَا لِسَيِّدِهَا وَقَضَى بِذَلِكَ، وَسَجَنَ
الْمَرْأَةَ وَوَلَدَهَا وَهُمَا أَهْلٌ لِذَلِكَ لِتَعَدِّيهِمَا، وَالأَخْذُ
بِالْخَلاَصِ قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ رَدَّ الثَّمَنِ وَهَذَا حَقٌّ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ مُطَرِّفٍ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لَهُ
ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا آخَرُ بِبَيِّنَةٍ قَالَ عَلِيٌّ: تَرُدُّ عَلَيْهِ،
وَيَقُومُ وَلَدُهَا فَيَغْرَمُ الَّذِي بَاعَهُ بِمَا عَزَّ وَهَانَ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا مُطَرِّفٌ، هُوَ
ابْنُ طَرِيفٍ وَالْمُغِيرَةُ، قَالَ مُطَرِّفٌ: عَنِ الشَّعْبِيِّ، وَقَالَ
مُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الشَّعْبِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ فِي
وَلَدِ الْغَارَّةِ أَنَّ عَلَى أَبِيهِمْ أَنْ يَفْدِيَهُمْ بِمَا عَزَّ وَهَانَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: يُفْدَوْنَ بِعَبْدٍ عَبْدٍ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، عَنْ أيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ
بْنِ يَسَارٍ قَالَ: قَضَى عُمَرُ فِي أَوْلاَدِ الْغَارَّة بِالْقِيمَةِ.
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ:
غَرَّتْ أَمَةٌ قَوْمًا وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَتْ فِيهِمْ
فَوَلَدَتْ أَوْلاَدًا فَوَجَدُوهَا أَمَةٌ فَقَضَى عُمَرُ بِقِيمَةِ أَوْلاَدِهَا
فِي كُلِّ مَغْرُورٍ غُرَّةٌ. وَقَضَى الشَّعْبِيُّ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ فِي
وَلَدِ الْمَغْرُورِ بِغُرَّةٍ. وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ، وَالْحَسَنِ:
مَكَانَ كُلِّ وَاحِدٍ غُرَّةٌ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَى أَبِيهِمْ قِيمَتُهُمْ
وَيُهْضَمُ عَنْهُ مِنْ الْقِيمَةِ شَيْءٌ. وَهَذَا قَوْلُنَا: وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي ثَوْرٍ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَصْحَابِنَا، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ،
إِلاَّ فِي وَلَدِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ مِنْهَا فَقَطْ، فَإِنَّهُ نَاقَضَ فِي
ذَلِكَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ
ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى عَبْدًا
فَاسْتَغَلَّهُ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَادَّعَاهُ فَخَاصَمَ إلَى إيَاسِ بْنِ
مُعَاوِيَةَ فِيهِ فَاسْتَحَقَّهُ فَقَضَى لَهُ بِالْعَبْدِ وَبِغَلَّتِهِ،
وَقَضَى لِلرَّجُلِ عَلَى صَاحِبِهِ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ بِمِثْلِ
الْعَبْدِ، وَبِمِثْلِ غَلَّتِهِ، قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: فَذَكَرْت ذَلِكَ لِمُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ فَقَالَ: هُوَ فَهْمٌ فَهَذَانِ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، يَقُولاَنِ بِقَوْلِنَا فِي رَدِّ الْغَلَّةِ فِي
الأَسْتِحْقَاقِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ
قَالَ: إذَا اشْتَرَيْت غَنَمًا فَنَمَتْ ثُمَّ جَاءَ أَمْرٌ بِرَدِّ الْبَيْعِ
فِيهِ قَالَ: يَرُدُّهَا وَنَمَاءَهَا، وَالْجَارِيَةُ إذَا وَلَدَتْ كَذَلِكَ.
فَإِنْ قَالُوا: فَلِمَ فَرَّقْتُمْ أَنْتُمْ بَيْنَ الْغَاصِبِ
(8/138)
وَالْمُسْتَحِقِّ
فَأَلْحَقْتُمْ الْوَلَدَ بِالْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ وَلَمْ تُلْحِقُوهُ
بِالْغَاصِبِ قلنا: نَعَمْ، لأََنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ اثْنَانِ مِنْ مُؤْمِنٍ
وَكَافِرٍ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ فَأَسْلَمَ
النَّاسُ وَفِيهِمْ أَوْلاَدُ الْمَنْكُوحَاتِ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ وَالْمُتَمَلِّكَاتِ
بِغَيْرِ حَقٍّ، وَالْمُتَمَلِّكُ، وَالنَّاكِحُ يَظُنَّانِ أَنَّ ذَلِكَ
النِّكَاحَ وَالْمِلْكَ حَقٌّ، فَأَلْحَقَهُمْ بِآبَائِهِمْ، وَلَمْ يُلْحِقْ
قَطُّ وَلَدَ غَاصِبٍ، أَوْ زَانٍ بِمَنْ وَضَعَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، بَلْ قَالَ
عليه السلام: " وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَر "ُ وَالْغَاصِبُ وَالْعَالِمُ
بِفَسَادِ عَقْدِهِ مِلْكًا كَانَ أَوْ زَوَاجًا عَاهِرَانِ فَلاَ حَقَّ لَهُمَا
فِي الْوَلَدِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَذَا مَكَانٌ خَالَفُوا فِيهِ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيًّا، وَلاَ يُعْرَفُ
لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ إِلاَّ رِوَايَةٌ،
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
أَنَّ رَجُلاً اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لَهُ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ
أَنَّهَا لَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: تُرَدُّ إلَيْهِ وَيُقَوَّمُ عَلَيْهِ الْوَلَدُ
فَيَغْرَمُ الَّذِي بَاعَ بِمَا عَزَّ وَهَانَ، فَادَّعَوْا أَنَّهُمْ تَعَلَّقُوا
بِهَذِهِ، وَقَدْ كَذَبُوا لأََنَّهُمْ لاَ يُغَرِّمُونَ الْبَائِعَ مَا يَفْدِي
بِهِ وَلَدَهُ، إِلاَّ الرِّوَايَةَ الْمُنْقَطِعَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلُ،
عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي أَوْلاَدِ الْغَارَّةِ بِقِيمَتِهِمْ وَالْقِيمَةُ
قَدْ صَحَّتْ، عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ أَنَّهَا عَبْدٌ مَكَانَ عَبْدٍ أَوْ
عَبْدَانِ مَكَانَ عَبْدٍ ; فَقَدْ خَالَفُوا هَذَا أَيْضًا. وَخَالَفُوا كُلَّ
مَنْ ذَكَرْنَا، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَهُمْ جُمْهُورُ مَنْ
رَوَى عَنْهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ فِي فِدَاءِ وَلَدِ الْغَارَّةِ
الْمُسْتَحَقَّةِ بِعَبْدٍ. وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّهُ يَضْمَنُ كُلَّ مَا مَاتَ
مِنْ الْوَلَدِ وَالنِّتَاجِ، وَمَا تَلِفَ مِنْ الْغَلَّةِ وَيَضْمَنُ
الزِّيَادَةَ فِي الْجِسْمِ وَالْقِيمَةَ، لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ مَالُ
الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَكَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ كُلَّ ذَلِكَ فَهُوَ
مُعْتَدٍ بِإِمْسَاكِهِ مَالَ غَيْرِهِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى. فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ مُعْتَدِيًا، لأََنَّهُ لَمْ
يُبَاشِرْ غَصْبَ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ رِيحٍ أَلْقَتْ ثَوْبًا
فِي مَنْزِلِ الإِنْسَانِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ، لأََنَّ الَّذِي رَمَتْ الرِّيحُ الثَّوْبَ
فِي مَنْزِلِهِ لَيْسَ مُتَمَلِّكًا لَهُ وَلَوْ تَمَلَّكَهُ لَلَزِمَهُ
ضَمَانُهُ، وَهَذَا الْمُشْتَرِي أَوْ الْغَاصِبُ مُتَمَلِّكٌ لِكُلِّ مَا
تَوَلَّدَ مِنْ غَلَّةٍ، أَوْ زِيَادَةٍ، أَوْ نَتَاجٍ، أَوْ ثَمَرَةٍ، حَائِلٌ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ الَّذِي افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى رَدَّهُ إلَيْهِ،
وَحَرَّمَ عَلَيْهِ إمْسَاكَهُ عَنْهُ، فَهُوَ مُعْتَدٍ بِذَلِكَ يَقِينًا
فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى. وَأَمَّا
الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ، فَإِنَّهُ حِينَ زَادَ ثَمَنُهُ كَانَ فَرْضًا
عَلَيْهِ رَدُّهُ إلَى صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ، فَكَانَ لاَزِمًا لَهُ أَنْ
يَرُدَّهُ إلَيْهِ وَهُوَ يُسَاوِي تِلْكَ الْقِيمَةِ، فَإِذَا لَزِمَهُ ذَلِكَ
ثُمَّ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ رَدُّ مَا لَزِمَهُ رَدُّهُ.
وَأَمَّا الْكِرَاءُ: فَإِنَّهُ إذْ حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهِ وَبَيْنَ عَيْنِ
مَالِهِ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنَافِعِهِ فَضَمِنَهَا، وَلَزِمَهُ أَدَاءُ مَا
مَنَعَهُ مِنْ حَقِّهِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْطِيَ
كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَكِرَاءُ مَتَاعِهِ مِنْ حَقِّهِ بِلاَ شَكٍّ، فَفَرْضٌ
عَلَى مَانِعِهِ إعْطَاؤُهُ حَقُّهُ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا: قَوْلُ الْحَنَفِيِّينَ إنَّ الْكِرَاءَ لِلْغَاصِبِ
وَالْغَلَّةَ وَلاَ يَضْمَنُ وَلَدَهَا
(8/139)
الْمَوْتَى، ثُمَّ يَقُولُونَ
فِيمَنْ صَادَ ظَبْيَةً فِي الْحَرَمِ فَأَمْسَكَهَا وَلَمْ يَقْتُلْهَا، حَتَّى
إذَا وَلَدَتْ عِنْدَهُ أَوْلاَدًا فَمَاتُوا وَلَمْ يَذْبَحْهُمْ أَنَّهُ
يَجْزِيهَا وَيَجْزِي أَوْلاَدَهَا فَلَوْ عَكَسُوا لاََصَابُوا وَمَا أَلْزَمَ
اللَّهُ تَعَالَى صَائِدَ الظَّبْيَةِ ضَمَانَهَا عَاشَتْ أَوْ مَاتَتْ إِلاَّ
أَنْ يَقْتُلَهَا عَامِدًا، وَإِلَّا فَلاَ، فَهُمْ أَبَدًا يُحَرِّفُونَ كَلاَمَ
اللَّهِ تَعَالَى عَنْ مَوَاضِعِهِ. وأعجب شَيْءٍ احْتِجَاجُ بَعْضِ
مُتَصَدِّرِيهِمْ بِالْجَهْلِ بِأَنْ قَالَ: وَأَيُّ ذَنْبٍ لِلْوَلَدِ حَتَّى
يُسْتَرَقَّ .فَقُلْنَا: مَا عَلِمْنَا ذَنْبًا يُوجِبُ الأَسْتِرْقَاقَ،
وَالرِّدَّةَ، وَقَتْلَ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا، وَتْرُكَ الصَّلاَةِ، وَزِنَى
الْمُحْصَنِ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُوجِبُ
اسْتِرْقَاقَ فَاعِلِهِ وَأَوْلاَدُ الْكُفَّارِ يُسْتَرَقُّونَ، وَلاَ ذَنْبَ
لَهُمْ فَلَيْسَ يَعْتَرِضُ بِمِثْلِ هَذَا الْهَوَسِ إِلاَّ مَنْ لاَ عَقْلَ
لَهُ، وَلاَ دِينَ. وَأَمَّا إسْقَاطُنَا الْمَهْرَ فِي وَطْءِ الْغَاصِبِ،
وَالْمُسْتَحِقِّ، فَلأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْهُ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَمَالُ
الْغَاصِبِ وَالْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ: حَرَامٌ، إِلاَّ مَا أَوْجَبَهُ النَّصُّ،
وَلاَ مَهْرَ إِلاَّ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، أَوْ لِلَّتِي نُكِحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ
وَلِيِّهَا فَقَطْ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ ضَمَانُ مَا
نَقَصَهُ وَطْؤُهُ إيَّاهَا بِزِنَى الْغَاصِبِ أَوْ بِجَهْلِ الْمُسْتَحَقِّ
عَلَيْهِ فَقَطْ، لأََنَّهُ اسْتَهْلَكَ بِذَلِكَ بَعْضَ قِيمَةِ أَمَةِ غَيْرِهِ
فَقَطْ. وَأَمَّا الْقَضَاءُ بِالْمِثْلِ: فَإِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ اخْتَلَفُوا،
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ يُعْطَى إِلاَّ الْقِيمَةَ فِي كُلِّ شَيْءٍ: رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ فِيمَنْ اسْتَهْلَكَ حِنْطَةً أَنَّ لَهُ طَعَامًا
مِثْلَ طَعَامِهِ، قَالَ سُفْيَانُ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ فُقَهَائِنَا: لَهُ الْقِيمَةُ.
وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: أَمَّا مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ
مِنْ نَوْعِهِ، وَأَمَّا مَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْعُرُوضِ، وَالْحَيَوَانِ
فَالْقِيمَةُ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْمِثْلُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَلاَ بُدَّ،
فَإِنْ عُدِمَ الْمِثْلُ فَالْمَضْمُونُ لَهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُمْهِلَهُ
حَتَّى يُوجَدَ الْمِثْلُ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ. قال أبو محمد:
وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ، وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ
قَضَى بِالْقِيمَةِ حُجَّةً أَصْلاً إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَتَى بِطَامَّةٍ،
فَقَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى عَلَى مَنْ أَعْتَقَ
شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ بِأَنْ يُقَوَّمَ عَلَيْهِ بَاقِيهِ لِشَرِيكِهِ،
قَالُوا: فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مَنْ اسْتَهْلَكَ حِصَّةَ
غَيْرِهِ مِنْ الْعَبْدِ بِالْقِيمَةِ.
قال علي: وهذا مِنْ عَجَائِبِهِمْ فَإِنَّهُمْ أَفْحَشُوا الْخَطَأَ فِي هَذَا
الأَحْتِجَاجِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا احْتِجَاجُهُمْ بِهِ فِيمَنْ
اسْتَهْلَكَ، وَالْمُعْتِقُ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ
يَسْتَهْلِكْ شَيْئًا، وَلاَ غَصَبَ شَيْئًا، وَلاَ تَعَدَّى أَصْلاً، بَلْ
أَعْتَقَ حِصَّتَهُ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ عِتْقَهَا، وَإِنَّمَا
هُوَ حُكْمٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَذَهُ لاَ لِتَعَدٍّ مِنْ الْمُعْتَقِ
أَصْلاً. وَالثَّانِي عَظِيمٌ تَنَاقُضُهُمْ، لأََنَّهُ يَلْزَمُهُمْ إنْ كَانَ
الْمُعْتِقُ الْمَذْكُورُ مُسْتَهْلِكًا حِصَّةَ شَرِيكِهِ، وَلِذَلِكَ يَضْمَنُ
الْقِيمَةَ
(8/140)
بِأَنْ يُوجِبُوا ذَلِكَ
عَلَيْهِ مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا كَمَا يَفْعَلُونَ فِي كُلِّ مُسْتَهْلَكٍ
وَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ هَذَا فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ مَنْ يَدْرِي أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى سَائِلُهُ، عَنْ كَلاَمِهِ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ عِبَادَ اللَّهِ
تَعَالَى يَتَعَقَّبُونَ كَلاَمَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُجَاهَرَةِ الْقَبِيحَةِ
الْفَاسِدَةِ مِنْ إحَالَةِ السُّنَنِ، عَنْ مَوَاضِعِهَا وَسَعْيِهِمْ فِي
إدْحَاضِ الْحَقِّ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَدَّعُوا هَاهُنَا إجْمَاعًا،
لأََنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى، وَزُفَرَ بْنَ الْهُذَيْلِ يُضَمِّنُونَهُ مُعْسِرًا
أَوْ مُوسِرًا، وَمَا نُبَالِي بِطَرْدِ هَذَيْنِ أَصْلُهُمَا فِي الْخَطَأِ،
لأََنَّهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفَانِ لِحُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُضَمِّنْ الْمُعْسِرَ شَيْئًا، وَإِنَّمَا
أَمَرَ فِي ذَلِكَ بِالأَسْتِسْعَاءِ لِلْمُعْتَقِ فَقَطْ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ
قَالَ:" سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ
أَهْدَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ
وَيَوْمِهَا: جَفْنَةً مِنْ حَيْسٍ، فَقَامَتْ عَائِشَةُ فَأَخَذَتْ الْقَصْعَةَ
فَضَرَبَتْ بِهَا الأَرْضَ فَكَسَرَتْهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم إلَى قَصْعَةٍ لَهَا فَدَفَعَهَا إلَى رَسُولِ زَيْنَبَ، فَقَالَ: هَذِهِ
مَكَانُ صَحْفَتِهَا وَقَالَ لِعَائِشَةَ: لَكِ الَّتِي كَسَرْتِ " فَهَذَا
قَضَاءٌ بِالْمِثْلِ لاَ بِالدَّرَاهِمِ بِالْقِيمَةِ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ
عُثْمَانَ، وَابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا قَضَيَا عَلَى مَنْ اسْتَهْلَكَ
فُصْلاَنًا بِفُصْلاَنٍ مِثْلِهَا. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَعَلِيٍّ
أَنَّهُمَا قَضَيَا بِالْمِثْلِ فِيمَنْ بَاعَ بَعِيرًا وَاسْتَثْنَى جِلْدَهُ،
وَرَأْسَهُ، وَسَوَاقِطَهُ. وَعَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَالْحَسَنِ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ، فِي فِدَاءِ وَلَدِ الْغَارَّةِ بِعَبِيدٍ لاَ
بِالْقِيمَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ،
عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى فِي قَصَّارٍ شَقَّ ثَوْبًا
أَنَّ الثَّوْبَ لَهُ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ فَقَالَ رَجُلٌ: أَوْ ثَمَنُهُ فَقَالَ
شُرَيْحٌ: إنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِهِ، قَالَ: إنَّهُ لاَ يَجِدُ،
قَالَ: لاَ وَجَدَ. وَعَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَضَى فِي ثَوْبٍ اُسْتُهْلِكَ
بِالْمِثْلِ.
قال أبو محمد: لَمْ نُورِدْ قَوْلَ أَحَدٍ مِمَّنْ أَوْرَدْنَا احْتِجَاجًا بِهِ،
وَإِنَّمَا أَوْرَدْنَاهُ لِئَلَّا يَهْجُمُوا بِدَعْوَى الإِجْمَاعِ جُرْأَةً
عَلَى الْبَاطِلِ، فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّكُمْ لاَ تَقْضُونَ بِالْمَكْسُورِ
لِلْكَاسِرِ، فَقَدْ خَالَفْتُمْ الْحَدِيثَ قلنا: حَاشَا لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ
لَكِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". فَعَلِمْنَا أَنَّهُ عليه السلام لاَ
يُعْطِي أَحَدًا غَيْرَ حَقِّهِ، وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، وَلَمْ يَقُلْ عليه
السلام: إنَّهَا لَك مِنْ أَجْلِ كَسْرِك إيَّاهَا فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِ مَنْ
نَسَبَ إلَيْهِ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَهُ عليه السلام. فَصَحَّ
بِذَلِكَ يَقِينًا أَنَّ تِلْكَ الْكِسَارَةَ الَّتِي أَعْطَى لِعَائِشَةَ، رضي
الله عنها، لاَ تَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا
أَنَّهَا لَمْ تَصْلُحْ لِشَيْءٍ فَأَبْقَاهَا كَمَا يَحِلُّ لِكُلِّ إنْسَانٍ
مِنَّا مَا فَسَدَ جُمْلَةً مِنْ مَتَاعِ غَيْرِهِ وَلَمْ يَنْتَفِعْ مِنْهُ
شَيْءٌ. وَأَمَّا أَنَّ قَصْعَةَ عَائِشَةَ الَّتِي أَعْطَى كَانَتْ خَيْرًا مِنْ
الَّتِي كَانَتْ لِزَيْنَبِ، رضي الله عنها، فَجَبْرَ عليه السلام تِلْكَ
الزِّيَادَةَ بِتِلْكَ الْكِسَارَةِ
(8/141)
وَإِلَّا فَنَحْنُ عَلَى
يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ عليه السلام لاَ يُعْطِي أَحَدًا مَالَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ
حَقٍّ، وَإِنَّمَا حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي عَيْنِ مَالِهِ لاَ فِي
غَيْرِهِ، فَمَا دَامَتْ الْعَيْنُ أَوْ شَيْءٌ مِنْهَا مَوْجُودَيْنِ فَلاَ حَقَّ
لَهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ عَدِمَ جُمْلَةً فَحِينَئِذٍ يَقْضِي لَهُ
بِالْمِثْلِ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذَا عَدِمَ الْمِثْلَ مِنْ نَوْعِهِ فَكُلُّ مَا قَاوَمَهُ
وَسَاوَاهُ فَهُوَ أَيْضًا مِثْلٌ لَهُ مِنْ هَذَا الْبَابِ، إِلاَّ أَنَّهُ
أَقَلُّ مِثْلَيْهِ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ نَوْعِهِ، فَلِذَلِكَ قَضَيْنَا
بِهِ عِنْدَ عَدَمِ الْمِثْلِ الْمُطْلَقِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/142)
من كسر لأخيه شيئا أو جرح له
عبدا أو حيوانا أو خرق له ثوبا قوم ذلك صحيحا مما جني عليه
...
1260 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَسَرَ لأَخَرَ شَيْئًا، أَوْ جَرَحَ لَهُ عَبْدًا،
أَوْ حَيَوَانًا، أَوْ خَرَقَ لَهُ ثَوْبًا، قُوِّمَ كُلُّ ذَلِكَ صَحِيحًا مِمَّا
جَنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قُوِّمَ كَمَا هُوَ السَّاعَةُ، وَكُلِّفَ الْجَانِي أَنْ
يُعْطِيَ صَاحِبَ الشَّيْءِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ،
وَلاَ بُدَّ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الشَّيْءَ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ
لِلْجَانِي لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى فَقَطْ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْجِنَايَةُ صَغِيرَةً أَوْ
كَبِيرَةً لاَ يَحِلُّ هَذَا. وَلِلْحَنَفِيِّينَ هَاهُنَا اضْطِرَابٌ وَتَخْلِيطٌ
كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِمْ: مَنْ غَصَبَ ثَوْبًا فَإِنَّهُ يَرُدُّ إلَى صَاحِبِهِ
فَإِنْ وُجِدَ وَقَدْ قَطَعَهُ الْغَاصِبُ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
أَخْذِهِ كَمَا هُوَ وَمَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ
لِلْغَاصِبِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلاَّ وَقَدْ
خَاطَهُ قَمِيصًا: فَهُوَ لِلْغَاصِبِ بِلاَ تَخْيِيرٍ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ
قِيمَةُ الثَّوْبِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْحِنْطَةِ تُغْصَبُ فَتُطْحَنُ
وَالدَّقِيقُ يُغْصَبُ فَيُعْجَنُ، وَاللَّحْمُ يُغْصَبُ فَيُطْبَخُ أَوْ يُشْوَى.
قال أبو محمد: مَا فِي الْمُجَاهَرَةِ بِكَيْدِ الدِّينِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا،
وَلاَ فِي تَعْلِيمِ الظَّلَمَةِ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا،
فَيُقَالُ لِكُلِّ فَاسِقٍ: إذَا أَرَدْت أَخْذَ قَمْحِ يَتِيمٍ، أَوْ جَارِك،
وَأَكْلَ غَنَمِهِ، وَاسْتِحْلاَلَ ثِيَابِهِ، وَقَدْ امْتَنَعَ مِنْ أَنْ
يَبِيعَك شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَاغْصِبْهَا، وَاقْطَعْهَا ثِيَابًا عَلَى
رَغْمِهِ، وَاذْبَحْ غَنَمَهُ وَأَطْبُخْهَا، وَاغْصِبْهُ حِنْطَتَهُ
وَاطْحَنْهَا، وَكُلْ كُلَّ ذَلِكَ حَلاَلاً طَيِّبًا، وَلَيْسَ عَلَيْك إِلاَّ
قِيمَةُ مَا أَخَذْت، وَهَذَا خِلاَفُ الْقُرْآنِ فِي نَهْيِهِ تَعَالَى أَنْ
نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بِالْبَاطِلِ، وَخِلاَفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فِي قَوْلِهِ: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ" " و مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ
رَدٌّ ". وَمَا يَشُكُّ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِي أَنَّ كُلَّ
ثَوْبٍ قُطِعَ مِنْ شُقَّةٍ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِ الشُّقَّةِ، وَكُلَّ دَقِيقٍ
طُحِنَ مِنْ حِنْطَةِ إنْسَانٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ، وَكُلَّ لَحْمٍ
شُوِيَ فَهُوَ لِصَاحِبِ اللَّحْمِ وَهُمْ يُقِرُّونَ بِهَذَا ثُمَّ لاَ
يُبَالُونَ بِأَنْ يَقُولُوا: الْغَصْبُ، وَالظُّلْمُ، وَالتَّعَدِّي يُحِلُّ
أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ لِلْغُصَّابِ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَمْرِ
الْقَصْعَةِ الْمَكْسُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَبْلُ وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ
لِذَلِكَ الْخَبَرِ فَخَالَفُوهُ فِيمَا فِيهِ، وَاحْتَجُّوا لَهُ فِيمَا لَيْسَ
فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِخَبَرِ الْمَرْأَةِ الَّتِي دَعَتْ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى طَعَامٍ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا
أَرَادَتْ ابْتِيَاعَ شَاةٍ فَلَمْ تَجِدْهَا فَأَرْسَلَتْ إلَى جَارَةٍ لَهَا:
ابْعَثِي إلَيَّ الشَّاةَ الَّتِي لِزَوْجِكِ فَبَعَثَتْ
(8/142)
بِهَا إلَيْهَا فَأَمَرَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالشَّاةِ أَنْ تُطْعَمَ الأَسَارَى قَالَ
هَذَا الْجَاهِلُ الْمُفْتَرِي: فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقَّ صَاحِبِ
الشَّاةِ قَدْ سَقَطَ عَنْهَا إذْ شُوِيَتْ.
قال أبو محمد: وهذا الخبر لاَ يَصِحُّ، لَوْ صَحَّ لَكَانَ أَعْظَمَ حُجَّةٍ عَلَيْهِمْ،
لأََنَّهُ خِلاَفٌ لِقَوْلِهِمْ، إذْ فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام لَمْ يُبْقِ
ذَلِكَ اللَّحْمُ فِي مِلْكِ الَّتِي أَخَذَتْهَا بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهَا، وَهُمْ
يَقُولُونَ: إنَّهُ لِلْغَاصِبِ حَلاَلٌ وهذا الخبر فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ
رَأْيَهَا فِي ذَلِكَ فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْمَحْفُوظُ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم خِلاَفُ هَذَا:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ
أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ أَصْحَابَ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلُوا بِأَهْلِ مَاءٍ وَفِيهِمْ أَبُو
بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، فَانْطَلَقَ النُّعْمَانُ فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُمْ: يَكُونُ
كَذَا وَكَذَا وَهُمْ يَأْتُونَهُ بِالطَّعَامِ وَاللَّبَنِ، وَيُرْسِلُ هُوَ
بِذَلِكَ إلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ فَقَالَ: أَرَانِي
آكِلُ كِهَانَةَ النُّعْمَانِ مُنْذُ الْيَوْمِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَده فِي حَلْقِهِ
فَاسْتَقَاءَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّد بْن إِسْحَاق فِي مَغَازِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي
حَبِيبٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: كُنْت فِي غَزْوَةِ ذَاتِ
السَّلاَسِلِ فَذَكَرَ قِسْمَتُهُ الْجَزُورَ بَيْنَ الْقَوْمِ وَأَنَّهُمْ
أَعْطَوْهُ مِنْهَا، فَأَتَى بِهِ إلَى أَصْحَابِهِ فَطَبَخُوهُ فَأَكَلُوهُ،
ثُمَّ سَأَلَهُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ عَنْهُ فَأَخْبَرَهُمَا، فَقَالاَ لَهُ:
وَاَللَّهِ مَا أَحْسَنْت حِينَ أَطْعَمْتنَا هَذَا ثُمَّ قَامَا يَتَقَيَّآنِ مَا
فِي بُطُونِهِمَا. وَمِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ:
شَرِبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبَنًا فَأَعْجَبَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ
أَنَّهُ حُلِبَ لَهُ مِنْ نَعَمِ الصَّدَقَةِ فَأَدْخَلَ عُمَرُ أُصْبُعَهُ
فَاسْتَقَاءَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ
بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَالُوا
لَهُ: قَدْ شَرِبَ عَلِيٌّ نَبِيذَ الْجَرِّ قَالَ سُلَيْمَانُ: فَقُلْت لَهُمْ:
هَذَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ يُحَدِّثُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ أَخْبَرَ أَنَّهُ نَبِيذَ جَرِّ تَقَيَّأَهُ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ الْعُذُرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّقَطِيُّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ
بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شُوَيْهٍ قَالَ: سَمِعْت
عَبْدَ الرَّزَّاقِ يَقُولُ: دَخَلَ مَعْمَرٌ عَلَى أَهْلِهِ فَإِذَا عِنْدَهَا
فَاكِهَةٌ فَأَكَلَ مِنْهَا، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهَا فَقَالَتْ لَهُ: أَهْدَتْهَا
إلَيْنَا فُلاَنَةُ النَّائِحَةُ، فَقَامَ مَعْمَرٌ فَتَقَيَّأَ مَا أَكَلَ.
قال أبو محمد: فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ
وَعِلْمِهِمْ لاَ مُخَالِفَ لَهُمْ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ لاَ يَرَوْنَ الطَّعَامَ
الْمَأْخُوذَ بِغَيْرِ حَقٍّ مِلْكًا لأَخِذِهِ، وَإِنْ أَكَلَهُ، بَلْ يَرَوْنَ
عَلَيْهِ إخْرَاجَهُ، وَأَنْ لاَ يُبْقِيَهُ فِي جِسْمِهِ مَا دَامَ يَقْدِرُ
عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهُ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَعَلَّقَ هَؤُلاَءِ
الْقَوْمُ فِي إبَاحَةِ الْحَرَامِ جِهَارًا؟
قال أبو محمد: وَبِهَذَا نَقُولُ، فَمَا دَامَ الْمَرْءُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ
يَتَقَيَّأَهُ، فَفَرْضٌ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلاَ
(8/143)
يَحِلُّ إمْسَاكُ الْحَرَامِ
أَصْلاً فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَلاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ
وُسْعَهَا، وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ، وَالسُّنَنَ بِآرَائِهِمْ
الْفَاسِدَةِ، وَتَقْلِيدًا لِبَعْضِ التَّابِعِينَ فِي خَطَأٍ أَخْطَأَهُ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَالُوا أَيْضًا: قِسْنَا هَذَا عَلَى
الْعَبْدِ يَمُوتُ فَتُضْمَنَ قِيمَتُهُ.
قال علي: وهذا عَلَيْهِمْ، لاَ لَهُمْ، لأََنَّ الْمَيِّتَ لاَ يَتَمَلَّكُهُ
الْغَاصِبُ.
(8/144)
من غصب دار فتهدمت كلف رد
بنائها كما كان
...
1261 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ غَصَبَ دَارًا فَتَهَدَّمَتْ كُلِّفَ رَدَّ بِنَائِهَا
كَمَا كَانَ، وَلاَ بُدَّ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَهُوَ قَدْ اعْتَدَى عَلَى الْبِنَاءِ
الْمُؤَلَّفِ فَحَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ، وَهُوَ بِإِجْمَاعِهِمْ مَعَنَا
وَإِجْمَاعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ مَأْمُورٌ بِرَدِّهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ إلَى
صَاحِبِهَا، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ بِهَدْمِهَا مَا لَزِمَهُ.
وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ دَارٍ تَتَهَدَّمُ وَبَيْنَ عَبْدٍ يَمُوتُ
فَكَانَ احْتِجَاجُ صَاحِبِهِمْ: أَنَّ الدُّورَ وَالأَرَضِينَ لاَ تُغْصَبُ،
فَكَانَ هَذَا عَجَبًا جِدًّا. وَمَا نَعْلَمُ لأَِبْلِيسِ دَاعِيَةً فِي
الإِسْلاَمِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطْلِقُ الظَّلَمَةَ عَلَى غَصْبِ دُورِ النَّاسِ
وَأَرَاضِيهمْ ثُمَّ يُبِيحُ لَهُمْ كِرَاءَهَا وَغَلَّتَهَا، وَلاَ يَرَى
عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا تَلِفَ مِنْهَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا.
(8/144)
1262 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ
غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا، أَوْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَعَلَيْهِ رَدُّهَا وَمَا
نَقَصَ مِنْهَا،
وَمُزَارَعَتُهُ مِثْلُهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ حَالَ بَيْنَ صَاحِبِهَا
وَبَيْنَ مَنْفَعَةِ أَرْضِهِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ لِلأَرْضِ إِلاَّ الزَّرْعُ
وَالْمُزَارِعَةُ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي " الْمُزَارَعَةِ " إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: الأَرْضُ لاَ تُغْصَبُ، وَهَذَا
كَذِبٌ مِنْهُمْ، لأََنَّ الْغَصْبَ هُوَ أَخْذُ الشَّيْءِ بِغَيْرِ حَقِّهِ
ظُلْمًا وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ
إبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا مُوسَى
بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أَخَذَ مِنْ
الأَرْضِ شِبْرًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ [بِهِ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى سَبْعِ
أَرَضِينَ ". فَصَحَّ أَنَّ الأَرْضَ تُؤْخَذُ بِغَيْرِ حَقٍّ.فَصَحَّ
أَنَّهَا تُغْصَبُ.
(8/144)
1263 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ
غَصَبَ زُرَيْعَةً فَزَرَعَهَا. أَوْ نَوًى فَغَرَسَهُ أَوْ مَلُوخًا فَغَرَسَهَا،
فَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ الزَّرْعِ فَلِصَاحِبِ الزَّرِيعَةِ
يَضْمَنُهُ لَهُ الزَّارِعُ وَكُلُّ مَا نَبَتَ مِنْ النَّوَى، وَالْمَلُوخِ
فَلِصَاحِبِهَا وَكُلُّ مَا أَثْمَرَتْ تِلْكَ الشَّجَرُ فِي الأَبَدِ فَلَهُ، لاَ
حَقَّ لِلْغَاصِبِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " وَلَيْسَ لِعِرْقِ ظَالِمٍ حَقّ "ٌ.
وَلأََنَّ كُلَّ مَا تَوَلَّدَ مِنْ مَالِ الْمَرْءِ فَلَهُ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ
لِلنَّاسِ مِنْ ذَلِكَ مَا لاَ خَطْبَ لَهُ بِهِ مِمَّا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ
صَاحِبُهُ فَيَطْرَحُهُ مُبِيحًا لَهُ، مِنْ أَخْذِهِ مِنْ النَّوَى وَنَحْوِ
ذَلِكَ فَقَطْ، لاَ مَا لَمْ يُبِحْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/144)
كل من عدا عليه حيوان ممتلك
من بعير أو فرس فلم يقد على دفعه عن نفسه إلا بقتله فقتله فلا ضمان عليه
...
1264 - مَسْأَلَةٌ . وَكُلُّ مَنْ عَدَا عَلَيْهِ حَيَوَانٌ مُتَمَلَّكٌ مِنْ
بَعِيرٍ، أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ، أَوْ فِيلٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ، عَنْ نَفْسِهِ إِلاَّ بِقَتْلِهِ فَقَتَلَهُ فَلاَ
ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَ
الْحَنَفِيُّونَ: يَضْمَنُهُ، وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ ".
وَبِالْخَبَرِ الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْكَرِيمِ " إنَّ
إنْسَانًا عَدَا عَلَيْهِ فَحْلٌ لِيَقْتُلَهُ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ
فَأَغْرَمَهُ أَبُو بَكْرٍ إيَّاهُ، وَقَالَ: بَهِيمَةٌ لاَ تَعْقِلُ ".
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ "
مَنْ أَصَابَ الْعَجْمَاءَ غُرِّمَ ". وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ لَهُمْ: أَنَّ
غُلاَمًا دَخَلَ دَارَ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ فَضَرَبَتْهُ نَاقَةٌ لِزَيْدٍ
فَقَتَلَتْهُ فَعَمَدَ أَوْلِيَاءُ الْغُلاَمِ فَعَقَرُوهَا فَأَبْطَلَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ دَمَ الْغُلاَمِ وَأَغْرَمَ وَالِدَ الْغُلاَمِ ثَمَنَ
النَّاقَةِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُ هَذَا.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا الْحَدِيثُ " جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَار "ٌ
فَفِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، وَبِهِ نَقُولُ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ،
لأََنَّنَا لَمْ نُخَالِفْهُمْ فِي أَنَّ مَا جَرَحَتْهُ الْعَجْمَاءُ لاَ
يَغْرَمُ وَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ هَذَا بَلْ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ فِي
تَضْمِينِهِمْ الرَّاكِبَ، وَالسَّائِقَ، وَالْقَائِدَ، مَا أَصَابَ الْعَجْمَاءُ
مِمَّا لَمْ يَحْمِلْهَا عَلَيْهِ فَهُمْ الْمُخَالِفُونَ لِهَذَا الأَثَرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَشُرَيْحٍ، فِيهِ نَقُولُ: مَنْ
قَتَلَتْ بَهِيمَةٌ وَلِيَّهُ فَمَضَى بَعْدَ جِنَايَتِهَا فَقَتَلَهَا فَهُوَ
ضَامِنٌ لَهَا، لأََنَّهَا لاَ ذَنْبَ لَهَا وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ
فَصَحِيحٌ، وَمَنْ أَصَابَ الْعَجْمَاءَ قَاصِدًا لَهَا غَيْرَ مُضْطَرٍّ فَهُوَ
غَارِمٌ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِيٍّ، فَمُنْقَطِعَةٌ،
وَلاَ حُجَّةَ فِي مُنْقَطِعٍ لَوْ كَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم فَكَيْفَ عَمَّنْ دُونَهُ؟ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ
حُجَّةٌ وَكَمْ قِصَّةٍ خَالَفُوا فِيهَا أَبَا بَكْرٍ وَغَيْرَهُ حَيْثُ لاَ
يَجُوزُ خِلاَفُهُ، أَقْرَبُ ذَلِكَ مَا أَوْرَدْنَا، عَنْ أَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ، وَعَلِيٍّ رضي الله عنهم مِنْ تَقَيُّئِهِمْ مَا أَكَلُوا أَوْ شَرِبُوا
مِمَّا لاَ يَحِلُّ فَخَالَفُوا، فَإِنَّمَا هُمْ حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ، حَيْثُ
وَافَقُوا أَبَا حَنِيفَةَ لاَ حَيْثُ خَالَفُوهُ، وَهَذَا تَلاَعُبٌ بِالدِّينِ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الأَسَدَ، وَالسَّبُعَ، حَرَامٌ قَتْلُهُ
فِي الْحَرَمِ وَعَلَى قَاتِلِهِ الْجَزَاءُ، إِلاَّ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُحْرِمُ
بِأَذًى فَلَهُ قَتْلُهُ، وَلاَ يَجْزِيه فَكَمْ هَذَا التَّنَاقُضُ، وَالْهَدْمُ،
وَالْبِنَاءُ وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ الْمُشَنِّعِينَ بِقَوْلِ
الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَهُمْ وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ
سَوَاءٌ أَنْ يَقُولُوا بِهَذَا، وَلَكِنَّهُ مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ يَخْلُو مَنْ عَدَتْ الْبَهِيمَةُ عَلَيْهِ فَخَشِيَ أَنْ
تَقْتُلَهُ أَوْ أَنْ تَجْرَحَهُ، أَوْ أَنْ تَكْسِرَ لَهُ
(8/145)
عُضْوًا أَوْ أَنْ تُفْسِدَ ثِيَابَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ لَهَا، مَنْهِيًّا، عَنِ الأَمْتِنَاعِ مِنْهَا وَدَفْعِهَا، وَهَذَا مِمَّا لاَ يَقُولُونَهُ، وَلَوْ قَالُوهُ لَكَانَ زَائِدًا فِي ضَلاَلِهِمْ، لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} وَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ، أَوْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِدَفْعِهَا، عَنْ نَفْسِهِ مَنْهِيًّا، عَنْ إمْكَانِهَا مِنْ رُوحِهِ، أَوْ جِسْمِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ لِمَا ذَكَرْنَا. فَإِذَا هُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّجَاةِ مِنْهَا إِلاَّ بِقَتْلِهَا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِقَتْلِهَا، لأََنَّ قَتْلَهَا هُوَ الدَّفْعُ الَّذِي أُمِرَ بِهِ وَمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ وَإِذْ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} .
(8/146)
لا ضمان على صاحب البهيمة
فيما جنته في مال أو دوم ليل ونهارا
...
1265 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْبَهِيمَةِ فِيمَا جَنَتْهُ
فِي مَالٍ أَوْ دَمٍ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا
لَكِنْ يُؤْمَرُ صَاحِبُهُ بِضَبْطِهِ، فَإِنْ ضَبَطَهُ فَذَاكَ، وَإِنْ عَادَ
وَلَمْ يَضْبِطْهُ بِيعَ عَلَيْهِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
" الْعَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ " وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَأَبِي سُلَيْمَانَ وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ: يَضْمَنُ مَا جَنَتْهُ لَيْلاً،
وَلاَ يَضْمَنُ مَا جَنَتْهُ نَهَارًا وَهُوَ قَضَاءُ شُرَيْحٍ، وَحُكْمُ
الشَّعْبِيِّ. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ نَاقَةِ الْبَرَاءِ بِأَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ
حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ مَا أَصَابَتْ بِاللَّيْلِ.
قَالَ عَلِيٌّ: لَوْ صَحَّ هَذَا لَمَا سَبَقُونَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ،
وَلَكِنَّهُ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ، لأََنَّهُ إنَّمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ
حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةُ، عَنْ أَبِيهِ وَرَوَاهُ الزُّهْرِيُّ أَيْضًا، عَنْ
أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ.فَصَحَّ
أَنَّهُ مُرْسَلٌ لأََنَّ حَرَامًا لَيْسَ، هُوَ ابْنُ مُحَيِّصَةُ لِصُلْبِهِ
إنَّمَا، هُوَ ابْنُ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةُ، وَسَعْدٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ
الْبَرَاءِ، وَلاَ أَبُو أُمَامَةَ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُنْقَطِعٍ وَلَقَدْ كَانَ
يَلْزَمُ الْحَنَفِيِّينَ الْقَائِلِينَ: إنَّ الْمُرْسَلَ وَالْمُسْنَدَ سَوَاءٌ
أَنْ يَقُولُوا بِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِأَغْرَبَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ وَهُوَ مَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَمَسْرُوقٍ، وَمُجَاهِدٍ، فِي
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ
إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} ، وَأَنَّ
سُلَيْمَانَ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي ذَلِكَ فِي غَنَمٍ أَفْسَدَتْ حَرْثَ
قَوْمٍ بِأَنْ دَفَعَ الْغَنَمَ إلَى أَهْلِ الْحَرْثِ، لَهُمْ صُوفُهَا وَأَلْبَانُهَا
حَتَّى يَعُودَ الْعِنَبُ أَوْ الْحَرْثُ كَمَا كَانَ.
قال أبو محمد: وَهَذَا عَجَبٌ مِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا وَاَلَّذِي لاَ نَشُكُّ
فِيهِ أَنَّ بَيْنَ هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ وَبَيْنَ سُلَيْمَانَ عليه السلام
مَا فِي رِيَاحٍ وَمَهَامِهَ فَيْحَاءَ،وَلَوْ رَوَوْا لَنَا ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَامَتْ بِهِ حُجَّةٌ لأََنَّهُ مُرْسَلٌ. ثُمَّ
لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْمُحْتَجُّونَ بِهِ أَوَّلَ مُخَالِفِينَ لَهُ، لأََنَّهُمْ
لاَ يَحْكُمُونَ بِهَذَا الْحُكْمِ، فَيَا لِلَّهِ كَيْفَ يَنْطِقُ لِسَانُ
مُسْلِمٍ بِأَنْ يَحْتَجَّ عَلَى خَصْمِهِ فِي الدِّينِ بِحُكْمٍ لاَ يَحِلُّ
عِنْدَهُ
(8/146)
أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ؟
وَحَسْبُنَا اللَّهُ. وَعَجَبٌ آخَرُ مِنْ الشَّافِعِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ
يَرَى الْقَوْلَ بِالْمُرْسَلِ ثُمَّ أَبَاحَ هَاهُنَا الأَمْوَالَ بِمُرْسَلٍ لاَ
يَصِحُّ أَصْلاً. وَأَمَّا بَيْعُ مَا تَعَدَّى مِنْ الْعَجْمَاءِ فَلِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَمِنْ الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى حِفْظُ الزُّرُوعِ، وَالثِّمَارِ الَّتِي هِيَ أَمْوَالُ النَّاسِ
فَلاَ يُعَانُ عَلَى فَسَادِهَا، فَإِبْعَادُ مَا يُفْسِدُهَا فَرْضٌ، وَلاَ
سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِالْبَيْعِ الْمُبَاحِ، وَهَا هُنَا آثَارٌ، عَنِ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم قَدْ خَالَفُوهَا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ أَنَّ عُمَرَ
بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَقُولُ: بِرَدِّ الْبَعِيرِ، وَالْبَقَرَةِ،
وَالْحِمَارِ، وَالضَّوَارِي، إلَى أَهْلِهِنَّ ثَلاَثًا إذَا حُظِرَ الْحَائِطُ
ثُمَّ يُعْقَرْنَ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَسَمِعْت عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ عَبْدِ
اللَّهِ يَذْكُرُ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ
بِالْحَائِطِ أَنْ يُحْظَرَ وَيُسَدَّ الْحَظْرُ مِنْ الضَّارِي الْمُدِلِّ ثُمَّ
يُرَدُّ إلَى أَهْلِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يُعْقَرُ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ
التَّيْمِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُكَاتَبٌ لِبَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ أَتَى بِنَقَدٍ
مِنْ السَّوَادِ إلَى الْكُوفَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى جِسْرِ الْكُوفَةِ جَاءَ
مَوْلًى لِبَكْرِ بْنِ وَائِلٍ فَتَخَلَّلَ النَّقَدَ عَلَى الْجِسْرِ فَنَفَرَتْ
مِنْهَا نَقْدَةٌ فَقَطَرَتْ الرَّجُلَ فِي الْفُرَاتِ فَغَرِقَ فَأَخَذْت فَجَاءَ
مَوَالِيهِ إلَى مَوَالِيَّ فَعَرَضَ مَوَالِيَّ عَلَيْهِمْ صُلْحًا أَلْفَيْ
دِرْهَمٍ، وَلاَ يَرْفَعُونَ إلَى عَلِيٍّ فَأَبَوْا فَأَتَيْنَا عَلِيَّ بْنَ
أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُمْ: إنْ عَرَفْتُمْ النَّقْدَةَ بِعَيْنِهَا
فَخُذُوهَا، وَإِنْ اخْتَلَطَتْ عَلَيْكُمْ فَشَرْوَاهَا.
قال أبو محمد: إنَّ فِي الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، الْعَجَبَ إذْ
يَحْتَجُّونَ فِي إبْطَالِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ فِي أَنَّ الْبَيِّعَيْنِ لاَ
بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا بِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ
أَنَّ عُمَرَ قَالَ: الْبَيْعُ، عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ ثُمَّ يَرُدُّونَ
هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهَذِهِ الأُُخْرَى عَنْ
عَلِيٍّ فَهَلاَّ قَالُوا: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَلَكِنْ هَذَا
حُكْمُ الْقَوْمِ فِي دِينِهِمْ فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ أَهْلُ السُّنَنِ عَلَى
عَظِيمِ نِعْمَتِهِ عِنْدَهُمْ.
(8/147)
من كسر إناء فضة أو ذهب فلا
شيء عليه وقد أحسن
...
1266 - مَسْأَلَةٌ . وَمَنْ كَسَرَ إنَاءَ فِضَّةٍ أَوْ إنَاءَ ذَهَبٍ فَلاَ
شَيْءَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَحْسَنَ
لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي
" الْوُضُوءِ " " وَالأَطْعِمَةِ " " وَالأَشْرِبَةِ
" وَكَذَلِكَ مَنْ كَسَرَ صَلِيبًا أَوْ أَهْرَقَ خَمْرًا لِمُسْلِمٍ ; أَوْ
لِذِمِّيٍّ. وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: " إنْ أَهْرَقَ خَمْرًا لِذِمِّيٍّ
مُسْلِمٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا، وَإِنْ أَهْرَقَهَا ذِمِّيٌّ فَعَلَيْهِ
مِثْلُهَا".
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ، وَلاَ قِيمَةَ لِلْخَمْرِ، وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْعَهَا وَأَمَرَ بِهَرْقِهَا، فَمَا لاَ يَحِلُّ
بَيْعُهُ، وَلاَ مِلْكُهُ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ، فَإِنْ قَالُوا: هِيَ أَمْوَالُ
أَهْلِ الذِّمَّةِ قلنا:
(8/147)
كَذَبْتُمْ وَمَا جَعَلَهَا
اللَّهُ تَعَالَى مُذْ حَرَّمَهَا مَالاً لأََحَدٍ، وَلَكِنْ أَخْبِرُونَا: أَهِيَ
حَلاَلٌ لأََهْلِ الذَّمَّةِ أَمْ هِيَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: هِيَ
لَهُمْ حَلاَلٌ كَفَرُوا; لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ فِيمَا نَعَاهُ
عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلاَ
يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. وَلاَ يَخْتَلِفُ مُسْلِمَانِ فِي أَنَّ دِينَ
الإِسْلاَمِ لاَزِمٌ لِلْكُفَّارِ لُزُومَهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ إلَيْهِمْ كَمَا بُعِثَ إلَيْنَا، وَأَنَّ
طَاعَتَهُ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ كَمَا هِيَ عَلَيْنَا ؟فَإِنْ قَالُوا: بَلْ هِيَ
عَلَيْهِمْ حَرَامٌ قلنا: صَدَقْتُمْ فَمَنْ أَتْلَفَ مَالاً لاَ يَحِلُّ
تَمَلُّكُهُ فَقَدْ أَحْسَنَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ
رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
الأَعْلَى الْجُعْفِيُّ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قِيلَ لَهُ: عُمَّالُك يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ، وَالْخَنَازِيرَ فِي
الْخَرَاجِ فَقَالَ لَهُ بِلاَلٌ: إنَّهُمْ لَيَفْعَلُونَ فَقَالَ عُمَرُ: لاَ
تَفْعَلُوا وَلُّوهُمْ هُمْ بَيْعَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ
[كِدَامٍ] الأَنْصَارِيِّ عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ
الأَعْلَى، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ بِلاَلاً قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ:
إنَّ عُمَّالَك يَأْخُذُونَ الْخَمْرَ وَالْخَنَازِيرَ فِي الْخَرَاجِ فَقَالَ:
لاَ تَأْخُذُوهَا مِنْهُمْ، وَلَكِنْ وَلُّوهُمْ أَنْتُمْ بَيْعهَا وَخُذُوا
أَنْتُمْ مِنْ الثَّمَن.
قال أبو محمد: هَذَا لاَ حُجَّة فِيهِ لأََنَّ حَدِيثَ سُفْيَانَ وَهُوَ
الصَّحِيحُ لَيْسَ فِيهِ مَا زَادَ إسْرَائِيلُ وَإِنَّمَا فِيهِ "
وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا ". وَهَذَا كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {نُوَلِّهِ مَا
تَوَلَّى} وَإِسْرَائِيلُ ضَعِيفٌ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ
دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَإِنَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنْ
يُخَالِفُوا عُمَرَ رضي الله عنه فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ ذَوِي الْمَحَارِمِ مِنْ
الْمَجُوسِ وَنَهْيِهِ لَهُمْ، عَنِ الزَّمْزَمَةِ ثُمَّ يُقَلِّدُونَ هَاهُنَا
رِوَايَةً سَاقِطَةً مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ، وَالسُّنَنِ وَإِنْ كَانَتْ
الْخَمْرُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَإِنَّ الصَّلِيبَ وَالأَصْنَامَ عِنْدَهُمْ
أَجَلُّ مِنْ الْخَمْرِ، فَيَجِبُ عَلَى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ أَنْ يُضَمِّنُوا
مَنْ كَسَرَ لَهُمْ صَلِيبًا أَوْ صَنَمًا حَتَّى يُعِيدَهُ سَالِمًا صَحِيحًا
وَإِلَّا فَقَدْ تَنَاقَضُوا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد نَا قُتَيْبَةُ
بْنُ سَعِيدٍ نَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ،
عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّهُ
سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ
بِمَكَّةَ: إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ،
وَالْخَنَازِيرِ "، فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ
يُبِيحَ ثَمَنَ بَيْعٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؟ أَمْ كَيْفَ يَسْتَحِلُّ
مُسْلِمٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّهَا مَالٌ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ تُضْمَنُ
لَهُمْ؟ حَاشَ لِلَّهِ مِنْ هَذَا.
(8/148)
من كسر حلية فضة في سرج أو
لجام أو حلي ذهب لإمرأته أو لرجل يعده لأهله أو للبيع كلف إعادته صحيحا
...
1267 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ كَسَرَ حِلْيَةَ فِضَّةٍ فِي سَرْجٍ، أَوْ لِجَامٍ،
أَوْ مَهَامِيزَ، أَوْ سَيْفٍ، أَوْ تَاجٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ حُلِيَّ
ذَهَبٍ لأَمْرَأَةٍ، أَوْ لِرَجُلٍ يُعِدُّهُ لأََهْلِهِ، أَوْ لِلْبَيْعِ:
كُلِّفَ إعَادَتَهُ صَحِيحًا كَمَا كَانَ
لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ، فَإِنْ تَرَاضَيَا جَمِيعًا عَلَى أَنْ يَضْمَنَ لَهُ مَا
بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَمَكْسُورًا: جَازَ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ مِثْلُ مَا
اعْتَدَى بِهِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَتَّفِقَا مِنْ ذَلِكَ فِي حُلِيِّ الذَّهَبِ
عَلَى ذَهَبٍ، وَفِي حُلِيِّ الْفِضَّةِ عَلَى فِضَّةٍ، وَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ
بِهِ مَا شَاءَ ; لأََنَّهُ لَيْسَ هُوَ بَيْعًا وَإِنَّمَا هُوَ اعْتِدَاءٌ
بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى بِهِ عَلَيْهِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/149)
كل ما جني على العبد أو أمة
أو بعير أو حمار فان في الخطأ في العبد والأمة خاصة وفي غيرهما خطأ أو عمدا ما نفص
من قيمته بالغا ما بلغ
...
1268 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا جَنَى عَلَى عَبْدٍ، أَوْ أَمَةٍ، أَوْ بَعِيرٍ،
أَوْ فَرَسٍ، أَوْ بَغْلٍ، أَوْ حِمَارٍ، أَوْ كَلْبٍ يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ، أَوْ
سِنَّوْرٍ، أَوْ شَاةٍ، أَوْ بَقَرَةٍ، أَوْ إبِلٍ، أَوْ ظَبْيٍ، أَوْ كُلِّ
حَيَوَانٍ مُتَمَلَّكٍ فَإِنَّ فِي الْخَطَأِ فِي الْعَبْدِ وَفِي الأَمَةِ
[خَاصَّةً] وَفِي سَائِرِ مَا ذَكَرْنَا خَطَأً أَوْ عَمْدًا مَا نَقَصَ مِنْ
قِيمَتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالأَمَةُ فَفِيمَا جَنَى عَلَيْهِمَا عَمْدًا الْقَوَدُ
وَمَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِمَا. أَمَّا الْقَوَدُ فَلِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ
وَأَمَّا مَا نَقَصَ مِنْ الْقِيمَةِ فَلِلسَّيِّدِ فِيمَا اُعْتُدِيَ عَلَيْهِ
مِنْ مَالِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ امْرَأً اسْتَكْرَهَ أَمَةً فَقَتَلَهَا
لَكَانَ عَلَيْهِ الْغَرَامَةُ لِسَيِّدِهَا وَالْحَدُّ فِي زِنَائِهِ بِهَا،
وَلاَ يُبْطِلُ حَقٌّ حَقًّا، وَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِأَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَأَمَّا الْقَوَدُ بَيْنَ الْحُرِّ،
وَالْعَبْدِ فَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي "كِتَابِ
الْقِصَاصِ". وَأَمَّا مَا نَقَصَهُ فَلِلنَّاسِ هَاهُنَا اخْتِلاَفٌ،
وَكَذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ وَقَوْلُنَا فِي الْحَيَوَانِ هُوَ قَوْلُ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وقال أبو حنيفة: كَذَلِكَ إِلاَّ فِي
الإِبِلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالْخَيْلِ خَاصَّةً فِي
عُيُونِهَا خَاصَّةً، فَإِنَّهُ قَالَ فِي عَيْنِ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا رُبْعُ
ثَمَنِهِ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِأَثَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ
بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ يَعْلَى، حَدَّثَنَا أَبُو
الزِّنَادِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْضِ فِي الرَّأْسِ إِلاَّ فِي
ثَلاَثٍ: الْمُنَقِّلَةِ، وَالْمُوضِحَةِ، وَالآمَّةِ وَفِي عَيْنِ الْفَرَسِ
بِرُبْعِ ثَمَنِهِ. وَبِرِوَايَةٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ طَرِيقِ
سُفْيَانَ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَمَعْمَرٍ قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ جَابِرٍ
الْجُعْفِيُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٍ، عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ عَمْرُو
بْنُ دِينَارٍ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ أَنَّ شُرَيْحًا قَالَ لَهُ: قَالَ لِي عُمَرُ،
وَقَالَ مَعْمَرٌ: بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا
أَنَّهُ قَضَى فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ ثَمَنِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ
شُرَيْحٍ قَالَ: أَتَانِي عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ بِأَنَّ فِي
عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبْعَ ثَمَنِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي
الْمُهَلَّبِ، عَنْ عُمَرَ فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبْعُ ثَمَنِهَا.
(8/149)
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَضَى فِي
عَيْنِ الدَّابَّةِ بِرُبْعِ ثَمَنِهَا.
قَالَ عَلِيٌّ: الرِّوَايَةُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لاَ تَصِحُّ ;
لأََنَّهَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، وَهُمَا مَجْهُولاَنِ. ثُمَّ لَيْسَ
فِيهِ إِلاَّ الْفَرَسُ فَلاَ هُمْ خَصُّوهُ كَمَا جَاءَ مَخْصُوصًا، وَلاَ هُمْ
قَاسُوا عَلَيْهِ جَمِيعَ ذَوَاتِ الأَرْبَعِ. وَأَمَّا، عَنْ عَلِيٍّ، وَعُمَرَ
رضي الله عنهما فَمَرَاسِيلُ كُلُّهَا، ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ فِيهَا
حُجَّةٌ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِيمَنْ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم . وَالثَّانِي أَنَّهُ لاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ فِي خِلاَفِ
عُمَرَ، وَعَلِيٍّ إذَا خَالَفَا أَبَا حَنِيفَةَ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْهُمَا
آنِفًا مِنْ أَنَّهُمَا تَقَيَّآ مَا شَرِبَا إذْ عَلِمَا أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ.
ثُمَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ نَفْسِهَا كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ،
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَتَبَ
عُمَرُ مَعَ عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ إلَى شُرَيْحٍ فِي عَيْنِ الدَّابَّةِ رُبْعُ
ثَمَنِهَا وَأَحَقُّ مَا صَدَقَ بِهِ الرَّجُلُ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَنْتَفِيَ
مِنْ وَلَدِهِ أَوْ يَدَّعِيَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَمَّنْ
حَدَّثَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ
عَلِيًّا قَضَى فِي الْفَرَسِ تُصَابُ عَيْنُهُ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ
سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَضَى فِي عَيْنِ جَمَلٍ أُصِيبَ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ ثُمَّ نَظَرَ
إلَيْهِ بَعْدُ فَقَالَ: مَا أَرَاهُ نَقَصَ مِنْ قُوتِهِ، وَلاَ هِدَايَتِهِ
فَقَضَى فِيهِ بِرُبْعِ ثَمَنِهِ. فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي جَعَلَ إحْدَى
قَضِيَّتَيْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، أَوْلَى مِنْ الأُُخْرَى وَهَلَّا أَخَذُوا
بِهَذِهِ الْقَضِيَّةِ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِمْ: إنَّ فِي عَيْنِ الأَنِسَانِ
نِصْفَ ثَمَنِهِ، وَقَدْ أَضْعَفَ عُمَرُ عَلَى حَاطِبٍ قِيمَةَ النَّاقَةِ
الَّتِي انْتَحَرَهَا عَبِيدُهُ، وَجَاءَ بِذَلِكَ أَثَرٌ: كَمَا رُوِّينَا، عَنِ
ابْنِ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ " أَنَّ
رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ تَرَى
فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ قَالَ : هِيَ وَمِثْلُهَا وَالنَّكَالُ ". فَهَذَا
خَبَرٌ أَصَحُّ مِنْ خَبَرِهِمْ فِي عَيْنِ الْفَرَسِ رُبْعُ ثَمَنِهِ. وَأَصَحُّ
مِنْ خَبَرِهِمْ، عَنْ عُمَرَ، فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ.
وَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ الْمَالِكِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِتَقْلِيدِ الصَّاحِبِ،
وَأَنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ أَنْ يَقُولُوا بِهَذِهِ الآثَارِ، وَإِلَّا
فَقَدْ تَنَاقَضُوا.
وَأَمَّا مَا جُنِيَ عَلَى عَبْدٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، أَوْ عَلَى أَمَةٍ
كَذَلِكَ، فَقَالَ قَوْمٌ: كَمَا قلنا: إنَّمَا فِيهِ لِلسَّيِّدِ مَا نَقَصَ مِنْ
ثَمَنِهِ فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ.وَقَالَ قَوْمٌ: جِرَاحُ الْعَبْدِ مِنْ
ثَمَنِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ، بَالِغًا ثَمَنُ الْعَبْدِ وَالأَمَةِ
مَا بَلَغَ، فَفِي عَيْنِ الْعَبْدِ نِصْفُ ثَمَنِهِ، وَلَوْ أَنَّ ثَمَنَهُ
أَلْفَا دِينَارٍ وَفِي عَيْنِ الأَمَةِ نِصْفُ ثَمَنِهَا وَلَوْ بَلَغَ عَشَرَةَ
آلاَفِ دِينَارٍ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الأَعْضَاءِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ قَالَ: جِرَاحَاتُ الْعَبِيدِ
(8/150)
فِي أَثْمَانِهِمْ بِقَدْرِ
جِرَاحَاتِ الأَحْرَارِ فِي دِيَاتِهِمْ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَالنَّخَعِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ إِلاَّ أَنَّ
الْحَسَنَ قَالَ: إنْ بَلَغَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ إِلاَّ أَنْ
يُسَلِّمَهُ، وَيَأْخُذَ قِيمَتَهُ، أَوْ يَأْخُذَ مَا نَقَصَ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج،
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: وَعَقْلُ الْعَبْدِ فِي ثَمَنِهِ كَعَقْلِ
الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ. وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَمِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إنَّ
رِجَالاً مِنْ الْعُلَمَاءِ لَيَقُولُونَ: الْعَبِيدُ وَالإِمَاءُ سِلَعٌ،
فَيَنْظُرُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ أَثْمَانِهِمْ.
قال أبو محمد: وَهَذَا قَوْلُنَا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِيهِ مَا نَقَصَ إِلاَّ
أَنْ تَكُونَ الْجِنَايَةُ اسْتِهْلاَكًا كَقَطْعِ الْيَدَيْنِ، أَوْ
الرِّجْلَيْنِ، أَوْ فَقْءِ الْعَيْنَيْنِ، فَصَاحِبُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ
يَأْخُذَ مَا نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ قِيمَتِهِ، أَوْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْجَانِي
وَيَأْخُذَ مِنْهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ
بْنِ الْحَسَنِ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: جِرَاحُ الْعَبْدِ فِي ثَمَنِهِ كَجِرَاحِ
الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِمَّا لَوْ كَانَتْ عَلَى
حُرٍّ لَكَانَتْ فِيهِ الدِّيَةُ كُلُّهَا أَسْلَمَهُ إلَى الْجَانِي، وَلاَ
بُدَّ، وَأَلْزَمَهُ قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ،
وَالشَّعْبِيِّ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: يُدْفَعُ إلَى الْجَانِي وَتَلْزَمُهُ
قِيمَتُهُ صَحِيحًا وَهُوَ قَوْلُ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، وَقَتَادَةَ:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي
رَجُلٍ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ قَالَ: هُوَ لَهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ فِيمَنْ جَدَعَ أُذُنَ عَبْدٍ،
أَوْ أَنْفَهُ أَوْ أَشَلَّ يَدَهُ أَنَّهُ يُدْفَعُ إلَيْهِ وَيَغْرَمُ
لِصَاحِبِهِ مِثْلَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ
عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إنْ شَجَّ عَبْدًا، أَوْ فَقَأَ عَيْنَهُ، فَقِيمَتُهُ كَمَا
أَفْسَدَهُ: وَرَأَى فِي مُوضِحَتِهِ نِصْفَ عُشْرِ قِيمَتِهِ.
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ: مَنْ قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً فَقِيمَتُهُ
عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ
فَأَكْثَرَ، فَلَيْسَ فِيهِ إِلاَّ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ عَشَرَةِ
دَرَاهِمَ، وَفِي الأَمَةِ قِيمَتُهَا كَذَلِكَ مَا لَمْ تَبْلُغْ خَمْسَةَ آلاَفِ
دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، فَإِنْ بَلَغَتْهَا فَلَيْسَ فِيهَا إِلاَّ خَمْسَةُ آلاَفِ
دِرْهَمٍ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ عَلَى الْعَاقِلَةِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَحْدَهُ: وَأَمَّا مَا دُونَ النَّفْسِ فَمِنْ قِيمَتِهَا مِثْلُ مَا فِي
الْجِنَايَةِ، وَعَلَى الْحُرِّ مِنْ دِيَتِهِ، فَإِذَا بَلَغَ أَرْشَ ذَلِكَ مِنْ
الْحُرِّ، أَنْقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
هَكَذَا جُمْلَةٌ. ثُمَّ رَجَعَ، عَنِ الأُُذُنِ وَالْحَاجِبِ خَاصَّةً فَقَالَ:
فِيهِمَا مَا نَقْصُهُمَا فَقَطْ، فَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مُسْتَهْلَكَةً
فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ إمْسَاكُهُ، كَمَا هُوَ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ، أَوْ إسْلاَمُهُ
وَأَخَذَ مَا كَانَ يَأْخُذُ لَوْ قُتِلَ خَطَأً. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي
قَتْلِ الْعَبْدِ خَطَأً وَالْجِنَايَةِ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ
(8/151)
مَا بَلَغَتْ وَلَوْ
تَجَاوَزَتْ دِيَاتٍ وَوَافَقَهُ مُحَمَّدٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ. وَاتَّفَقُوا
كُلُّهُمْ فِي الْجِنَايَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ
الَّذِي ذَكَرْنَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّهُ إنْ أَمْسَكَهُ أَخَذَ
قِيمَةَ مَا نَقَصْته الْجِنَايَةُ الْمُسْتَهْلَكَةُ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ أَبِي
يُوسُفَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ خَاصَّةً مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَسَوَاءٌ
فِي ذَلِكَ الْحَاجِبُ، وَالأُُذُنُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَذُكِرَ ذَلِكَ فِي
اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ. وَرُوِيَ، عَنْ زُفَرَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مَرَّةً
مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الآخِرِ، وَمَرَّةً مِثْلُ قَوْلِهِ الأَوَّلِ،
وَوَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ فِي النَّفْسِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ جِرَاحُ الْعَبْدِ فِي قِيمَتِهِ كَجِرَاحِ الْحُرِّ فِي
دِيَتِهِ إِلاَّ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ
فَصَاعِدًا أَوْ تَبْلُغَ قِيمَةُ الأَمَةِ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا
فَلاَ تَبْلُغُ بِأَرْشِ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ مِقْدَارَهَا مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ،
أَوْ الْحُرَّةِ، لَكِنْ يَحُطُّ مِنْ ذَلِكَ حِصَّتَهَا مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
فِي الْعَبْدِ، وَحِصَّتَهَا مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فِي الأَمَةِ، إِلاَّ أَنْ
يَكُونَ قَطْعَ أُذُنٍ فَبَرِئَ، أَوْ نَتْفَ حَاجِبٍ فَبَرِئَ، وَلَمْ يَنْبُتْ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ مَا نَقَصَهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. فَإِنْ
بَلَغَ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ مَا لَوْ جَنَى عَلَى حُرٍّ لَوَجَبَتْ
فِيهِ الدِّيَةُ كُلُّهَا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ إمْسَاكُهُ كَمَا هُوَ، وَلاَ
شَيْءَ لَهُ أَوْ إسْلاَمُهُ إلَى الْجَانِي وَأَخْذُ جَمِيعِ قِيمَتِهِ مَا لَمْ
يَبْلُغْ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ عَشَرَةُ
آلاَفٍ غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَفِي الأَمَةِ نِصْفُ ذَلِكَ.
وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُ إنْ فَقَأَ عَيْنَ أَمَةٍ تُسَاوِي خَمْسَةَ آلاَفِ
دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَى مِائَةِ أَلْفِ فَأَكْثَرَ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ
إِلاَّ أَلْفَا دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ.
وَإِنْ فَقَأَ عَيْنَ عَبْدٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ آلاَفٍ فَمَا زَادَ فَلَيْسَ
عَلَيْهِ إِلاَّ خَمْسَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ، غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَهَكَذَا
فِي سَائِرِ الْجِرَاحَاتِ. فَلَوْ سَاوَتْ الأَمَةُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ،
وَالْعَبْدُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ إِلاَّ
خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَقَطْ، وَفِي عَيْنِ الأَمَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَقَطْ،
وَهَكَذَا الْعَمَلُ فِي سَائِرِ الْقِيَمِ. وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: إنَّ
مُنَقِّلَةَ الْعَبْدِ، وَمَأْمُومَتَهُ، وَجَائِفَتَهُ، وَمُوضِحَتَهُ مِنْ
ثَمَنِهِ، بَالِغًا مَا بَلَغَ فَهِيَ مِنْ الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ: فَفِي
مُوضِحَةِ الْعَبْدِ نِصْفُ عُشْرِ ثَمَنِهِ وَلَوْ أَنَّهُ أَلْفُ أَلْفِ
دِرْهَمٍ. وَفِي مُنَقِّلَتِهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ كَذَلِكَ وَنِصْفُ عُشْرِ
قِيمَتِهِ كَذَلِكَ. وَفِي جَائِفَتِهِ، وَمَأْمُومَتِهِ ثُلْثُ ثَمَنِهِ بَالِغٌ
مَا بَلَغَ. وَأَمَّا سَائِرُ الْجِرَاحَاتِ، وَقَطْعُ الأَعْضَاءِ فَإِنَّمَا
فِيهِ مَا نَقَصَهُ فَقَطْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ مَالِكٍ
أَيْضًا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَيْ عَبْدٍ أَوْ فَقَأَ عَيْنَيْهِ أُعْتِقَ
عَلَيْهِ وَغَرِمَ قِيمَتَهُ كَامِلَةً لِسَيِّدِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ
سَعْدٍ: مِنْ خَصَى عَبْدَ غَيْرِهِ
فَعَلَيْهِ
(8/152)
قِيمَتُهُ كُلُّهَا
لِسَيِّدِهِ، وَيَبْقَى الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ سَوَاءٌ زَادَ ذَلِكَ فِي قِيمَتِهِ
أَوْ نَقَصَ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ قَالَ: جِرَاحُ الْعَبْدِ فِي قِيمَتِهِ كَجِرَاحِ
الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ: فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ،
وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ، لَكِنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى
الْحُرِّ; لأََنَّهُ إنْسَانٌ مِثْلُهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنُ
الْبَاطِلِ; لأََنَّ كَثِيرًا مِنْ دِيَاتِ أَعْضَاءِ الْحُرِّ مُؤَقَّتٌ لاَ
زِيَادَةَ فِيهَا، وَلاَ نَقْصَ. وَقَدْ وَافَقْنَا مَنْ خَالَفْنَا هَاهُنَا
عَلَى أَنَّ دِيَةَ أَعْضَاءِ الْعَبْدِ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ لاَ خِلاَفَ فِي
ذَلِكَ، إذْ قَدْ يُسَاوِي الْعَبْدُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَتَكُونُ دِيَةُ
عَيْنِهِ عِنْدَهُمْ عَشْرَ دَنَانِيرَ. وَتُسَاوِي الأَمَةُ خَمْسَةَ آلاَفِ
دِرْهَمٍ فَتَكُونُ دِيَةُ عَيْنِهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ
غَيْرَ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفٍ أَوْ تَكُونُ دِيَةُ عَيْنِهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ
عَشَرَةَ آلاَفِ دِينَارٍ، فَقَدْ أَصْفَقُوا عَلَى أَنَّ الدِّيَاتِ فِي ذَلِكَ
غَيْرُ مَحْدُودَةٍ وَعَلَى جَوَازِ تَفْضِيلِ دِيَةِ عُضْوِ الْمَرْأَةِ عَلَى
دِيَةِ عُضْوِ الرَّجُلِ، بِخِلاَفِ الأَحْرَارِ وَالْحَرَائِرِ فَقَدْ ظَهَرَ
فَسَادُ قِيَاسِهِمْ جُمْلَةً بِهَذِهِ الدَّلاَئِلِ وَبِغَيْرِهَا أَيْضًا
فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ بِيَقِينِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ:
يُسَلِّمُهُ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهُ، فَوَجَدْنَاهُ أَيْضًا غَيْرَ صَحِيحٍ;
لأََنَّهُ لاَ يَحِلُّ إخْرَاجُ مَالٍ، عَنْ يَدِ صَاحِبِهِ إلَى غَيْرِهِ
بِغَيْرِ تَرَاضٍ مِنْهُمَا إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ نَصٌّ، وَلَمْ يَأْتِ
بِهَذَا هَاهُنَا نَصٌّ أَصْلاً، فَسَقَطَ أَيْضًا جُمْلَةً. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي
قَوْلِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَوَجَدْنَاهُمَا أَشَدَّ الأَقْوَالِ
فَسَادًا ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْهُ: قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ
رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ أَصْلاً، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ
لَهُ وَجْهٌ، بَلْ مَا نَعْرِفُ هَذَيْنِ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الأَئِمَّةِ قَبْلَ
هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: فَظُلْمٌ بَيِّنٌ لاَ
خَفَاءَ بِهِ أَنْ يَكُونَ يَقْطَعُ يَدَ جَارِيَةٍ تُسَاوِي عَشَرَةَ آلاَفِ
دِينَارٍ فَلاَ يَقْضِي لِصَاحِبِهَا إِلاَّ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ وَخَمْسِينَ
دِينَارًا غَيْرَ مَا تُسَاوِي مِنْ الذَّهَبِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا وَيَكُونُ
تُغْصَبُ لَهُ خَادِمٌ أُخْرَى قِيمَتُهَا أَلْفُ دِينَارٍ فَتَمُوتُ عِنْدَ
الْغَاصِبِ فَيَغْرَمُ لَهُ أَلْفَ دِينَارٍ كَامِلَةً، عَلَى هَذَا الْحُكْمِ
الدِّثَارُ وَالدَّمَارُ وَنَحْنُ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ فِي
الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ: فَتَقْسِيمٌ
فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَلَوْ عُكِسَ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ مَا تَخَلَّصُوا
مِنْهُ لَوْ قِيلَ لَهُمْ: بَلْ فِي الْمُنَقِّلَةِ، وَالْجَائِفَةِ،
وَالْمَأْمُومَةِ: مَا نَقَصَهُ فَقَطْ، وَأَمَّا سَائِرُ الْجِرَاحَاتِ فَمِنْ
ثَمَنِهِ بِقَدْرِهَا مِنْ الْحُرِّ فِي دِيَتِهِ، وَمِثْلُ هَذَا لاَ يَشْتَغِلُ
بِهِ إِلاَّ مَحْرُومٌ. وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنْ قَالَ: هَذِهِ
جِرَاحَاتٌ يُشْفَقُ عَلَيْهِ مِنْهَا، فَيُمْكِنُ أَنْ يَتْلَفَ، وَيُمْكِنُ أَنْ
يَبْرَأَ، وَلاَ يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ، وَلاَ ضَرَرٌ .فَقُلْنَا: نَعَمْ،
فَاجْعَلُوا هَذَا دَلِيلَكُمْ
(8/153)
فِي أَنْ لاَ يَكُونَ فِيهَا
إِلاَّ مَا نَقَصَ فَقَطْ.
قال أبو محمد: وَالْحُكْمُ عَلَى الْجَانِي بِمَا نَقَصَ فِيمَا جَنَاهُ عَلَى
الْعَبْدِ مِنْ خِصَاءٍ، أَوْ مَأْمُومَةٍ، أَوْ جَائِفَةٍ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ،
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا قَلَّ أَوْ كَثُرَ مِنْ الْجِنَايَاتِ إنَّمَا يَكُونُ
بِأَنْ يُقَوَّمَ صَحِيحًا، ثُمَّ يُقَوَّمَ فِي أَصْعَبِ مَا انْتَهَتْ إلَيْهِ
حَالُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ وَأَشَدِّ مَا كَانَ مِنْهَا مَرَضًا وَضَعْفًا
وَخَوْفًا عَلَيْهِ، وَيَغْرَمُ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ، وَلاَ يُنْتَظَرُ بِهِ
صِحَّةٌ، وَلاَ تَخَفُّفٌ أَصْلاً ; لأََنَّهُ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ
فِي تَأْثِيرِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَهُوَ الْجَانِي عَلَيْهِ فِي كُلِّ تِلْكَ
الأَحْوَالِ، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْهَا مَا نَقَصَ بِجِنَايَتِهِ مِنْ
مَالِ سَيِّدِهِ بِلاَ شَكٍّ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ
فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدَوْا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}.
فَإِنْ بَرِئَ الْعَبْدُ، أَوْ الأَمَةُ وَصَحَّا، وَزَادَتْ تِلْكَ الْجِنَايَاتُ
فِي أَثْمَانِهِمَا، كَالْخِصَاءِ فِي الْعَبْدِ، أَوْ قَطْعِ إصْبَعٍ زَائِدَةٍ;
أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَمِنْ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى لِلسَّيِّدِ، وَلاَ
رُجُوعَ لِلْجَانِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِمَّا غَرِمَ. وَكَذَلِكَ لَوْ
لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا حَتَّى صَحَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ
كَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ بُدَّ; لأََنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ أَدَاءُ مِثْلِ مَا
اعْتَدَى فِيهِ، فَلاَ يَسْقُطُ عَنْهُ بِبُرْءِ الْجِنَايَةِ. وَكَذَلِكَ مَنْ
قَطَعَ شَجَرَةً لأَِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا سَوَاءٌ نَبَتَتْ بَعْدَ
ذَلِكَ وَنَمَتْ أَوْ لَمْ تَنْبُتْ، وَلاَ نَمَتْ، لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا إنْ قَتَلَ الْمَرْءُ عَبْدًا لِغَيْرِهِ أَوْ أَمَةً عَمْدًا أَوْ
خَطَأً، فَقِيمَتُهُمَا، وَلاَ بُدَّ لِسَيِّدِهِمَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ لِمَا
ذَكَرْنَا وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَرُوِّينَا عَنْ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَبْدًا قُتِلَ
خَطَأً وَكَانَ ثَمَنُهُ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَجَعَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ
دِيَتَهُ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ. وَصَحَّ، عَنِ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، قَالاَ
جَمِيعًا: لاَ يَبْلُغُ بِدِيَةِ الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ. وَرُوِّينَاهُ
أَيْضًا، عَنْ عَطَاءٍ، وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي
سُلَيْمَانَ.وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، قَالَ: يَنْقُصُ مِنْهَا
الدِّرْهَمُ وَنَحْوُهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ يَتَجَاوَزُ بِهِ دِيَةَ الْحُرِّ
وَصَحَّ أَيْضًا عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة، وَزُفَرُ،
وَمُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ عَبْدًا فَقِيمَتُهُ مَا لَمْ يَبْلُغْ عَشَرَةُ آلاَفِ
دِرْهَمٍ، فَإِنْ بَلَغَهَا أَوْ تَجَاوَزَهَا بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ
يَغْرَمْ قَاتِلُهُ إِلاَّ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ، غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَقِيمَتُهَا مَا لَمْ تَبْلُغْ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ،
فَإِنْ بَلَغَتْهَا أَوْ تَجَاوَزَتْهَا بِمَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ لَمْ يَغْرَمْ
قَاتِلُهَا إِلاَّ خَمْسَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: يَغْرَمُ الْقِيمَةَ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: وَابْنِ
مَسْعُودٍ، وَشُرَيْحٍ قَالُوا: ثَمَنُهُ وَإِنْ خَالَفَ دِيَةَ الْحُرِّ وَصَحَّ
هَذَا أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ
وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَيْضًا وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ
وَالزُّهْرِيِّ.
(8/154)
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا عَنْ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَعَطَاءٍ وَمَكْحُولٍ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ السُّقُوطِ لأََنَّهُ
حَدَّ مَا يَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ بِحَدٍّ لاَ يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ رَأْيِهِ الْفَاسِدِ. وَقَالَ مُقَلِّدُوهُ: يَنْقُصُ مِنْ
ذَلِكَ مَا تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ قلنا: وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا ثُمَّ قَدْ
تَنَاقَضْتُمْ فَأَسْقَطْتُمْ مِنْ دِيَةِ الْمَرْأَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ
وَلَيْسَ تُقْطَعُ فِيهَا الْيَدُ فِي قَوْلِكُمْ، فَقَدْ أَبْطَلْتُمْ مَا
أَصَّلْتُمْ مِنْ كَثَبٍ. ثم نقول لَهُمْ: وَهَلَّا نَقَصْتُمْ مِنْ الدِّيَةِ مَا
نَقَصْتُمْ مِنْ الأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فِي جَعْلِ الآبِقِ إذَا كَانَ
يُسَاوِيهَا وَهَلَّا نَقَصْتُمْ مِنْ الدِّيَةِ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
وَهَلْ هَذَا إِلاَّ رَأْيٌ زَائِفٌ مُجَرَّدٌ وَكُلُّ قَوْلٍ لَمْ يَقُمْ
عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَصْلاً، وَلاَ كَانَ لَهُ سَلَفٌ فَأَوْلَى قَوْلٍ
بِالأَطِّرَاحِ. ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: لاَ يَبْلُغُ بِدِيَةِ
الْعَبْدِ دِيَةَ الْحُرِّ: فَوَجَدْنَاهُ قَوْلاً فَاسِدًا لاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ،
ثُمَّ هُمْ يَتَنَاقَضُونَ، فَيَقُولُونَ: فِيمَنْ قَتَلَ كَلْبًا يُسَاوِي
أَلْفَيْ دِينَارٍ أَنَّهُ يُعْطِي أَلْفَيْ دِينَارٍ، وَإِنْ عَقَرَ خِنْزِيرًا
لِذِمِّيٍّ يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ أَدَّى إلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَإِنْ
قَتَلَ نَصْرَانِيًّا يَجْعَلُ لِلَّهِ تَعَالَى الْوَلَدَ وَأُمَّ الْوَلَدِ
أَنَّهُ يُعْطِي فِيهِ دِيَةَ الْمُسْلِمِ فَيَا لِلْمُسْلِمِينَ أَيَبْلُغُ
كَلْبٌ، وَخِنْزِيرٌ، وَمَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ الْكَلْبِ، وَالْخِنْزِيرِ: دِيَةَ
الْمُسْلِمِ، وَلاَ يَبْلُغُ بِلاَلٌ لَوْ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُعْتَقَ دِيَةَ
مُسْلِمٍ نَعَمْ، وَلاَ دِيَةَ كَافِرٍ يَعْبُدُ الصَّلِيبَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ
كُلِّ مُسْلِمٍ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ الْيَوْمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى،
وَعِنْدَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ. ثُمَّ قَدْ تَنَاقَضُوا فَقَالُوا: مَنْ غَصَبَ
عَبْدًا فَمَاتَ عِنْدَهُ وَقِيمَتُهُ عَشَرَةُ آلاَفِ دِينَارٍ أَدَّى عَشَرَةَ
آلاَفِ دِينَارٍ فَهَلْ سُمِعَ بِأَسْخَفَ مِنْ هَذَا التَّنَاقُضِ ثُمَّ قَدْ
جَعَلُوا دِيَةَ الْعَبْدِ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ دِرْهَمٍ أَوْ غَيْرَ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَتَجَاوَزُوا بِهَا دِيَةَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ وَهَذِهِ
وَسَاوِسُ يُغْنِي ذِكْرُهَا، عَنْ تَكَلُّفِ الرَّدِّ عَلَيْهَا. وَقَدْ رُوِيَ
مَا ذَكَرْنَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٍّ، وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي ذَلِكَ فَخَالَفُوهُمَا. وَقَدْ
جَسَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: قَدْ أُجْمِعَ عَلَى الْمِقْدَارِ الَّذِي ذَكَرْنَا
وَاخْتُلِفَ فِيمَا زَادَ .فَقُلْنَا: كَذَبْت وَأَفَكْت هَذَا سَعِيدُ بْنُ
الْعَاصِ أَمِيرُ الْكُوفَةِ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه وَأَمِيرُ الْمَدِينَةِ،
وَمَكَّةَ لِمُعَاوِيَةَ، لاَ يَتَجَاوَزُ بِدِيَةِ الْعَبْدِ أَرْبَعَةُ آلاَفِ
دِرْهَمٍ.
قال أبو محمد: وَالْعَبْدُ، وَالأَمَةُ مَالٌ، فَعَلَى مُتْلِفِهِمَا مِثْلُ مَا
تَعَدَّى فِيهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.وَأَمَّا
جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَالِ غَيْرِهِ فَفِي مَالِ الْعَبْدِ إنْ كَانَ لَهُ
مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
(8/155)
لَهُ مَالٌ فَفِي ذِمَّتِهِ
يُتْبَعُ بِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مَالٌ فِي رِقِّهِ أَوْ بَعْدَ عِتْقِهِ،
وَلَيْسَ عَلَى سَيِّدِهِ فِدَاؤُهُ وَلاَ بِمَا قَلَّ، وَلاَ بِمَا كَثُرَ، وَلاَ
إسْلاَمُهُ فِي جِنَايَتِهِ، وَلاَ بَيْعُهُ فِيهَا. وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ
الْمُدَبَّرِ، وَالْمُكَاتَبِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ الْمَأْذُونِ، وَغَيْرِ
الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ، الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُؤْخَذَ أَحَدٌ
بِجَرِيرَةِ أَحَدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَقَالَ تَعَالَى {لاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً،
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَالْعَبْدُ مَالٌ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ، وَكَذَلِكَ
ثَمَنُهُ.وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَالِ السَّيِّدِ، فَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَنَا
هَاهُنَا بِأَيِّ كِتَابِ اللَّهِ، أَمْ بِأَيِّ سَنَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم اسْتَحْلَلْتُمْ إبَاحَةَ مَالِ السَّيِّدِ لِغَيْرِهِ وَلَمْ
يَجْنِ شَيْئًا وَلَعَلَّهُ صَغِيرٌ، أَوْ مَجْنُونٌ، أَوْ غَائِبٌ فِي أَرْضٍ
بَعِيدَةٍ، أَوْ نَائِمٌ، أَوْ فِي صَلاَةٍ، إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ عَجِيبٌ!.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُونَ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
مَرْوَانَ الْفَزَارِيّ، عَنْ دَهْثَمِ بْنِ قُرَّانَ الْيَمَامِيِّ عَنْ
نِمْرَانَ بْنِ جَارِيَةَ بْنِ ظَفَرٍ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ مَمْلُوكًا
قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ ثُمَّ لَقِيَ آخَرَ فَشَجَّهُ فَاخْتَصَمَ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
الْعَبْدَ إلَى الْمَقْطُوعِ يَدُهُ، ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْهُ فَدَفَعَهُ إلَى
الْمَشْجُوجِ، فَصَارَ لَهُ وَرَجَعَ سَيِّدُ الْعَبْدِ وَالْمَقْطُوعُ يَدُهُ
بِلاَ شَيْءٍ .
قال أبو محمد: هَذَا لاَ يَصِحُّ; لأََنَّ دَهْثَمَ بْنَ قُرَّانَ ضَعِيفٌ
مُتَّفَقٌ مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَى ضَعْفِهِ وَنِمْرَانُ مَجْهُولٌ، فَلَمْ
يَجُزْ الْقَوْلُ بِهِ، وَلَوْ صَحَّ لَمَا سَبَقُونَا إلَى الأَخْذِ بِهِ، وَقَدْ
ادَّعَى بَعْضُ مَنْ لاَ يُبَالِي بِالْكَذِبِ عَلَى أَهْلِ الإِسْلاَمِ
الإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ فِي رَقَبَتِهِ، وَقَدْ كَذَبَ هَذَا
الْجَاهِلُ وَأَفِكَ، مَا جَاءَ فِي هَذَا [الْخَبَرِ ]، عَنْ أَحَدٍ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم فِي عِلْمِنَا إِلاَّ مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى، وَمَا فَاتَنَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ شَيْءٌ
ثَابِتٌ أَصْلاً، وَلَعَلَّهُ لَمْ يَفُتْنَا أَيْضًا مَعْلُولٌ: رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنْ
حَجَّاجٍ، هُوَ ابْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ حُصَيْنٍ الْحَارِثِيِّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ،
عَنِ الْحَارِثِ هُوَ الأَعْوَرُ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:" مَا جَنَى الْعَبْدُ
فَفِي رَقَبَتِهِ، وَيَتَخَيَّرُ مَوْلاَهُ إنْ شَاءَ فَدَاهُ وَإِنْ شَاءَ
دَفَعَهُ". وَهَذِهِ فَضِيحَةُ الْحَجَّاجِ، وَالْحَارِثِ الأَعْوَرِ،
أَحَدُهُمَا كَانَ يَكْفِي. وَقَدْ خَالَفُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فِي
إسْلاَمِهِ الشَّاةَ إلَى أَوْلِيَاءِ الَّتِي نُطِحَتْ فَغَرِقَتْ فِي الْفُرَاتِ،
فَمَا الَّذِي جَعَلَ حُكْمَهُ هُنَالِكَ أَوْلَى مِنْ حُكْمِهِ هَاهُنَا لَوْ
صَحَّ عَنْهُ فَكَيْفَ وَهُوَ بَاطِلٌ نَعَمْ، وَقَدْ خَالَفُوا عَلِيًّا فِي
هَذِهِ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَا جَنَى الْعَبْدُ
مِنْ دَمٍ
(8/156)
عَمْدًا فَلَيْسَ فِي
رَقَبَتِهِ وَلاَ يَفْدِيه سَيِّدُهُ وَلاَ يَدْفَعُهُ إنَّمَا هُوَ الْقَوَدُ
أَوْ الْعَفْوُ أَوْ مَا تَصَالَحُوا عَلَيْهِ. وَمَالِكٌ يَقُولُ: جِنَايَةُ
الْعَبْدِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ
فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ إلَى سَيِّدِهِ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: لاَ يَلْزَمُ
السَّيِّدُ أَنْ يَفْدِيَ عَبْدَهُ وَلاَ أَنْ يُسَلِّمَهُ لَكِنْ يُبَاعُ فِي
جِنَايَتِهِ فَقَطْ.
وَحَدِيثُ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَحْيَى بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّ رَقِيقًا لِحَاطِبٍ سَرَقُوا نَاقَةً
لِرَجُلٍ مِنْ مُزَيْنَةَ فَنَحَرُوهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
فَأَمَرَ كَثِيرَ بْنَ الصَّلْتِ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ
لِحَاطِبٍ: إنِّي أَرَاك تُجِيعُهُمْ لاَُغَرِّمَنَّكَ غُرْمًا يَشُقُّ عَلَيْك
ثُمَّ قَالَ لِلْمُزَنِيِّ: كَمْ ثَمَنُ نَاقَتِك قَالَ: أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ
قَالَ: فَأَعْطِهِ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ. وَهُمْ يُخَالِفُونَ عُمَرَ فِي
هَذَا. فَلَيْتَ شِعْرِي مَا الَّذِي جَعَلَ بَعْضَ حُكْمِهِ فِي قَضِيَّةٍ
وَاحِدَةٍ حَقًّا وَبَعْضُهُ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ نَفْسِهَا بَاطِلاً، إنَّ
هَذَا لَهُوَ الضَّلاَلُ الْمُبِينُ. وَرِوَايَةٌ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنِ السَّلُولِيِّ الأَعْوَرِ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنْ
أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: جِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ عَلَى مَوْلاَهُ وَهَذَا بَاطِلٌ
; لأََنَّ السَّلُولِيَّ الأَعْوَرَ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ اللَّهِ
تَعَالَى. ثُمَّ قَدْ خَالَفُوا هَذِهِ الرِّوَايَةَ فَمَالِكٌ يَقُولُ: لاَ
يَغْرَمُ عَنْهُ سَيِّدُهُ مَا جَنَى، وَلاَ يَدْفَعُهُ، وَإِنَّمَا الْحُكْمُ
أَنْ يُسْتَخْدَمَ فِي جِنَايَتِهِ فَقَطْ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ
أَيْضًا فِيمَا جَنَى فِي الأَمْوَالِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، فَهُمْ
أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ، فَمَنْ أَقَلُّ حَيَاءً مِمَّنْ يَجْعَلُ
مِثْلَ هَذَا إجْمَاعًا ثُمَّ لاَ يَرَى صَوَابًا فَكَيْفَ سُنَّةً فَكَيْفَ
إجْمَاعًا دَفْعَهُمْ كُلَّهُمْ أَمْوَالَهُمْ بِخَيْبَرَ عَلَى نِصْفِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ تَمْرٍ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ، لَكِنْ
يُقِرُّونَهُمْ مَا أَقَرَّهُمْ اللَّهُ، وَيُخْرِجُونَهُمْ إذَا شَاءُوا مُدَّةَ
حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ مُدَّةَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ مُدَّةَ
عُمَرَ رضي الله عنهما لاَ أَحَدَ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، فَأَيُّ عَجَبٍ أَعْجَبُ
مِنْ هَذَا، وَلاَ يَرَى أَيْضًا آخِرَ صَلاَةٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم بِجَمِيعِ الْحَاضِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم وَلَمْ
يَخْفَ ذَلِكَ عَمَّنْ غَابَ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ بَدَأَ أَبُو بَكْرٍ بِالصَّلاَةِ
بِهِمْ صَوَابًا، وَلاَ سُنَّةً، وَلاَ إجْمَاعًا.
قال أبو محمد: ثُمَّ هُمْ مُخْتَلِفُونَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يُبَاعُ
الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي دِيَتِهِ وَلاَ يُسَلَّمُ وَلاَ يَفْدِيه
سَيِّدُهُ وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْذُونِ فَهُوَ الَّذِي يُبَاعُ أَوْ يُسَلَّمُ
أَوْ يُفْدَى. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يُبَاعُ الْمَأْذُونُ وَلاَ غَيْرُ
الْمَأْذُونِ فِي دَيْنٍ وَلاَ يُسَلَّمُ وَلاَ يُفْدَى وَأَمَّا جِنَايَتُهُمَا
فَيُبَاعَانِ فِيهِمَا أَوْ يُسَلَّمَانِ أَوْ يُفْدَيَانِ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الْمَأْذُونُ وَغَيْرُ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ، وَالدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ سَوَاءٌ،
كِلاَهُمَا يُبَاعُ فِي كُلِّ ذَلِكَ، أَوْ يُسَلِّمُهُ سَيِّدُهُ أَوْ يَفْدِيه.
فَهَذِهِ أَقْوَالٌ كَمَا تَرَوْنَهَا
(8/157)
مَا نَحْتَاجُ فِي رَدِّهَا
إلَى أَكْثَرَ مِنْ إيرَادِهَا; لأََنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ تُخَطِّئُ الأُُخْرَى،
وَتُبْطِلُ قَوْلَهَا وَكُلُّهَا بَاطِلٌ. وقال أبو حنيفة، وَأَصْحَابُهُ: إنْ
قَتَلَ الْعَبْدُ حُرًّا فَلَيْسَ إِلاَّ الْقَوَدُ أَوْ الْعَفْوُ، وَهُوَ
لِسَيِّدِهِ كَمَا كَانَ، إنْ عَفَا عَنْهُ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ
الْوَلَدِ. قَالُوا: فَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا خَطَأً، أَوْ
جَنَى عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً
قَلَّتْ الْجِنَايَةُ أَوْ كَثُرَتْ كُلِّفَ سَيِّدُهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى
الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ إلَى وَلِيِّهِ كَثُرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِمْ أَمْ
قَلُّوا أَوْ يَفْدِيه بِجَمِيعِ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ. قَالُوا: فَإِنْ جَنَى
فِي مَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى السَّيِّدِ إِلاَّ أَنْ يُبَاعَ فِي
جِنَايَتِهِ فَإِنْ وَفَّى ثَمَنُهُ بِالْجِنَايَاتِ فَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَفِ
بِهَا فَلاَ شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ، وَلاَ عَلَى الْعَبْدِ، وَإِنْ فَضَلَ
فَضْلٌ كَانَ لِلسَّيِّدِ. قَالُوا: فَإِنْ جَنَى الْمُدَبَّرُ فَقَتَلَ خَطَأً،
أَوْ جَنَى فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَعَلَى سَيِّدِهِ الأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ
أَوْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ، أَوْ الدِّيَةِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ، إِلاَّ
أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْجِنَايَةِ عَشَرَةَ آلاَفِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، فَلاَ
يَلْزَمُ السَّيِّدَ إِلاَّ عَشَرَةُ آلاَفٍ غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، فَإِنْ
قَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَلاَ شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ، لَكِنْ يَرْجِعُ كُلُّ مَنْ
جَنَى عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوَّلاً فَيُشَارِكُهُ
فِيمَا أَخَذَ، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَهَكَذَا أُمُّ الْوَلَدِ فِي جِنَايَتِهَا
فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ. وقال أبو حنيفة: فَإِنْ جَنَى
الْمُدَبَّرُ، وَأُمُّ الْوَلَدِ عَلَى مَالٍ فَعَلَيْهِمَا السَّعْيُ فِي قِيمَةِ
مَا جَنَيَا، وَلاَ شَيْءَ عَلَى سَيِّدِ أُمِّ الْوَلَدِ.
قال أبو محمد: هَذَا الْفَصْلُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِنَا، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ
تَكُونَ سَائِرُ جِنَايَاتِهِمَا، وَجِنَايَاتِ الْعَبِيدِ، وَلاَ فَرْقَ،
وَهَذِهِ تَفَارِيقُ لاَ تُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَوْ
ادَّعَى مُدَّعٍ فِي هَذِهِ التَّخَالِيطِ خِلاَفَ الإِجْمَاعِ لَمَا بَعُدَ، عَنِ
الصِّدْقِ. وَقَالُوا: إنْ جَنَى الْمُكَاتَبُ فَقَتَلَ خَطَأً، أَوْ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ مِنْ
أَرْشِ الْجِنَايَةِ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنْ جَنَى فِي
مَالٍ: سَعَى فِي قِيمَتِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ. وقال مالك: جِنَايَةُ الْعَبْدِ
فِي الدِّمَاءِ وَالأَمْوَالِ سَوَاءٌ، فَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ مَالٌ فَكُلُّ
ذَلِكَ فِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَسَيِّدُهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
أَنْ يَفْدِيَهُ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ أَوْ بِقَدْرِ الْمَالِ أَوْ يَدْفَعَهُ،
فَإِنْ جَنَى الْمُدَبَّرُ كَذَلِكَ فَفِي مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفِ اُسْتُخْدِمَ
فِي الْبَاقِي، فَإِنْ جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ فَعَلَى سَيِّدِهَا أَنْ
يَفْدِيَهَا بِالأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا أَوْ مِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَقَطْ،
ثُمَّ كُلَّمَا جَنَتْ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْدِيَهَا كَذَلِكَ، فَإِنْ جَنَى
الْمُكَاتَبُ كَذَلِكَ كُلِّفَ أَنْ يُؤَدِّيَ أَرْشَ مَا جَنَى، فَإِنْ عَجَزَ
أَوْ أَبَى رُقَّ وَعَادَ إلَى حُكْمِ الْعَبِيدِ.
وَهَذِهِ تَفَارِيقُ لاَ تُحْفَظُ أَيْضًا عَنْ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ قَبْلَهُ،
وَلَوْ ادَّعَى مُدَّعٍ خِلاَفَ الإِجْمَاعِ عَلَيْهَا لَمَا بَعُدَ عَنِ
الصِّدْقِ إِلاَّ قَوْلُهُ: إنَّ الْجِنَايَاتِ فِي مَالِ الْعَبْدِ
وَالْمُدَبَّرِ فَهُوَ صَحِيحٌ لَوْ لَمْ يَتْبَعْهُ بِمَا ذَكَرْنَا، وقال
الشافعي: كُلُّ مَا جَنَى الْمُدَبَّرُ، وَالْعَبْدُ مِنْ دَمٍ، أَوْ فِي مَالٍ
أَوْ مَا دُونَ النَّفْسِ
(8/158)
فَإِنَّمَا يَلْزَمُ
السَّيِّدَ بَيْعُهُ فِيهَا فَقَطْ فَإِنْ وَفَّى فَذَلِكَ فَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ
فَلِلسَّيِّدِ وَإِنْ لَمْ يَفِ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلاَ عَلَى الْعَبْدِ
غَيْرُ ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ وَلاَ أَنْ يَفْدِيَهُ. فَإِنْ
جَنَتْ أُمُّ الْوَلَدِ فِدَاهَا سَيِّدُهَا بِالأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ
أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ جَنَتْ ثَانِيَةً فَقَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا:
يَفْدِيهَا أَيْضًا، وَهَكَذَا أَبَدًا. وَالثَّانِي: يَرْجِعُ الآخَرُ عَلَى
الَّذِي قَبْلَهُ فَيُشَارِكُهُ فِيمَا أَخَذَ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى السَّيِّدِ
وَهَذَا أَيْضًا قَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَكُلُّ هَذِهِ
الأَقْوَالِ لَيْسَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا دَلِيلٌ لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ
مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ
مِنْ قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ يَجُوزُ
الْقَوْلُ بِهِ. فَإِنْ مَوَّهُوا بِأَنَّ الْعَبْدَ لاَ مَالَ لَهُ، وَلاَ
يَمْلِكُ شَيْئًا قلنا: هَذَا بَاطِلٌ، بَلْ يَمْلِكُ كَمَا يَمْلِكُ الْحُرُّ،
وَلَكِنْ هَبْكُمْ الآنَ أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ كَمَا تَدَّعُونَ عُدُّوهُ
فَقِيرًا، وَأَتْبِعُوهُ بِهِ إذَا مَلَكَ يَوْمًا مَا كَمَا يُتْبَعُ الْفَقِيرُ
سَوَاءٌ بِسَوَاءٍ، وَلاَ فَرْقَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فَقَدْ وَعَدَهُمْ اللَّهُ أَوْ مَنْ شَاءَ
مِنْهُمْ بِالْغِنَى، فَانْتَظَرُوا بِهِمْ ذَلِكَ الْغِنَى، فَكَيْفَ
وَالْبَرَاهِينُ عَلَى صِحَّةِ مِلْكِ الْعَبْدِ ظَاهِرَةٌ؟ رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
قَالَ: وَيُقَادُ لِلْمَمْلُوكِ مِنْ الْمَمْلُوكِ فِي كُلِّ عَمْدٍ يَبْلُغُ
نَفْسَهُ فَمَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْجِرَاحِ، فَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى الْعَقْلِ
فَقِيمَةُ الْمَقْتُولِ عَلَى مَالِ الْقَاتِلِ أَوْ الْجَارِحِ.
قال أبو محمد: هَذَا قَوْلُنَا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ، وَبَيَانُ هَذَا
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَرَى الْعَبْدَ مَالِكًا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ أُخِذَ عَبْدٌ
أَسْوَدُ آبِقٌ قَدْ عَدَا عَلَى رَجُلٍ فَشَجَّهُ لِيَذْهَبَ بِرَقَبَتِهِ،
فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَلَمْ يَرَ لَهُ شَيْئًا.
وَهَذَا قَوْلُنَا: وَقَدْ جَاءَ هَذَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ
حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيُّ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ،
عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ " أَنَّ غُلاَمًا
لأَُنَاسٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ غُلاَمٍ لأَُنَاسٍ أَغْنِيَاءَ فَأَتَى
أَهْلُهُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ
إنَّا أُنَاسٌ فُقَرَاءَ فَلَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَلَيْهِ شَيْئًا .
قال أبو محمد: لَمْ يُسَلِّمْهُ، وَلاَ بَاعَهُ، وَلاَ أَلْزَمَهُ مَالاً
يَمْلِكُهُ، وَلاَ أَلْزَمَ سَادَاتِهِ فِدَاءَهُ وَهَذَا قَوْلُنَا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. تَمَّ " كِتَابُ الْغَصْبِ وَالأَسْتِحْقَاقِ
وَالْجِنَايَاتِ عَلَى الأَمْوَالِ ".
(8/159)
كتاب الصلح
لا يحل الصلح البتة على الانكار ولا على السكوت الذي لا انكار معه ولا اقرار ولا
على اسقاط يمين قد وجبت
...
بسم الله الرحمن الرحيم كِتَابُ الصُّلْحِ
1269 – مَسْأَلَةٌ- لاَ يَحِلُّ الصُّلْحُ أَلْبَتَّةَ عَلَى الإِنْكَارِ، وَلاَ
عَلَى السُّكُوتِ الَّذِي لاَ إنْكَارَ مَعَهُ، وَلاَ إقْرَارَ، وَلاَ عَلَى
إسْقَاطِ يَمِينٍ قَدْ وَجَبَتْ، وَلاَ عَلَى أَنْ يُصَالِحَ مُقِرٌّ عَلَى
غَيْرِهِ
(8/160)
وَذَلِكَ الَّذِي صُولِحَ
عَنْهُ مُنْكِرٌ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الإِقْرَارِ بِالْحَقِّ
فَقَطْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إِلاَّ أَنَّهُ جَوَّزَ الصُّلْحَ عَلَى
السُّكُوتِ الَّذِي لاَ إقْرَارَ مَعَهُ، وَلاَ إنْكَارَ. وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ إِلاَّ أَنَّهُ جَوَّزَ الصُّلْحَ عَلَى إسْقَاطِ الْيَمِينِ،
وَأَنْ يُقِرَّ إنْسَانٌ، عَنْ غَيْرِهِ وَيُصَالِحَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ
وَهَذَا نَقْضٌ لأََصْلِهِ وَهُوَ أَيْضًا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ، إِلاَّ
أَنَّهُ جَوَّزَ الصُّلْحَ عَلَى إسْقَاطِ الْيَمِينِ وَهَذَا نَقْضٌ لأََصْلِهِ:
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ
فَصَالَحَهُ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ فَخَاصَمَهُ إلَى شُرَيْحٍ، فَقَالَ لَهُ
شُرَيْحٌ: شَاهِدَانِ ذَوَا عَدْلٍ أَنَّهُ تَرَكَهُ وَلَوْ شَاءَ أَدَّيْتَهُ
إلَيْهِ. فَهَذَا شُرَيْحٌ لَمْ يُجِزْ الصُّلْحَ إِلاَّ مَعَ قُدْرَةِ صَاحِبِ
الْحَقِّ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ بِأَدَاءِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ إلَيْهِ
حَقَّهُ، وَفَسْخِهِ إنْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُنَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ شُرَيْحٌ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ صُولِحَتْ،
عَنْ ثَمَنِهَا وَلَمْ يُبَيَّنْ لَهَا مَا تَرَكَ زَوْجُهَا، فَتِلْكَ الرِّيبَةُ
كُلُّهَا. وَهَذَا أَيْضًا بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ إِلاَّ عَلَى
إقْرَارٍ بِمَعْلُومٍ. وقال أبو حنيفة وَمَالِكٌ: الصُّلْحُ عَلَى الإِنْكَارِ
وَعَلَى السُّكُوتِ الَّذِي لاَ إقْرَارَ مَعَهُ وَلاَ إنْكَارَ جَائِزٌ.
قال أبو محمد: بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً،
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "
إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ
مَالٍ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِ صَاحِبِهِ وَيَحْرُمُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يُبِيحَهُ
لِغَيْرِهِ إِلاَّ حَيْثُ أَبَاحَ الْقُرْآنُ، وَالسُّنَّةُ إخْرَاجَهُ، أَوْ
أَوْجَبَا إخْرَاجَهُ. وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِجَوَازِ الصُّلْحِ عَلَى شَيْءٍ
مِمَّا ذَكَرْنَا. وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: "جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا
بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى
هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَقَالُوا لِي عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ فَفَدَيْتُ
ابْنِي بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ
فَقَالُوا: إنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَإِنَّمَا
الرَّجْمُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لاََقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا الْوَلِيدَةُ، وَالْغَنَمُ
فَرَدٌّ عَلَيْكَ وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَذَكَرَ
بَاقِيَ الْخَبَرِ فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصُّلْحَ
الْمَذْكُورَ وَفَسَخَهُ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ الْمُتَأَخِّرُونَ الْمُجِيزُونَ لِلصُّلْحِ عَلَى
الإِنْكَارِ وَعَلَى سَائِرِ مَا ذَكَرْنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى
{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} . وَبِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ
(8/161)
طَرِيقِ كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ وَهُوَ كَثِيرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، وَعَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كِلاَهُمَا أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ
الْمُسْلِمِينَ إِلاَّ صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً
وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ". وَبِمَا حَدَّثَنَاهُ أَحْمَدُ بْنُ
عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، حَدَّثَنَا أَبُو ذَرٍّ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا الْخَلِيلُ
بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى
بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ،
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ
الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
إلَى أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ: وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
إِلاَّ صُلْحًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا. وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ
طُرُقٍ كَثِيرَةٍ مِنْهَا، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَوَكِيعٍ،
وَهُشَيْمٍ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، كُلُّهُمْ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي
خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أُتِيَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي شَيْءٍ فَقَالَ:
إنَّهُ لَجَوْرٌ، وَلَوْ لاَ أَنَّهُ صُلْحٌ لَرَدَدْته. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ} قَالُوا: وَالصُّلْحُ عَلَى الإِنْكَارِ تِجَارَةٌ، عَنْ تَرَاضٍ
مِنْهُمَا.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ وَكُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي
شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ كُلُّهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} : و {أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ} فَالْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَجَمِيعُ أَهْلِ
الإِسْلاَمِ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ كِلْتَا هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ
لَيْسَتَا عَلَى عُمُومِهِمَا، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ قَطُّ كُلَّ
صُلْحٍ، وَلاَ كُلَّ عَقْدٍ، وَأَنَّ امْرَأً لَوْ صَالَحَ عَلَى إبَاحَةِ
فَرْجِهِ، أَوْ فَرْجِ امْرَأَتِهِ، أَوْ عَلَى خِنْزِيرٍ، أَوْ عَلَى خَمْرٍ،
أَوْ عَلَى تَرْكِ صَلاَةٍ، أَوْ عَلَى إرْقَاقِ حُرٍّ، أَوْ عَقَدَ عَلَى
نَفْسِهِ كُلَّ هَذَا لَكَانَ هَذَا صُلْحًا بَاطِلاً لاَ يَحِلُّ، وَعَقْدًا
فَاسِدًا مَرْدُودًا، فَإِذْ لاَ شَكَّ فِي هَذَا فَلاَ يَكُونُ صُلْحٌ، وَلاَ
عَقْدٌ يَجُوزُ إمْضَاؤُهُمَا، إِلاَّ صُلْحٌ، أَوْ عَقْدٌ: شَهِدَ الْقُرْآنُ
وَالسُّنَّةُ بِجَوَازِهِمَا. فَإِنْ قَالُوا: نَعَمْ لَكِنْ كُلُّ صُلْحٍ وَكُلُّ
عَقْدٍ فَلاَزِمَانِ إِلاَّ صُلْحًا أَوْ عَقْدًا جَاءَ الْقُرْآنُ أَوْ
السُّنَّةُ بِإِبْطَالِهِمَا قلنا: نَعَمْ، وَهُوَ قَوْلُنَا وَقَدْ جَاءَ
الْقُرْآنُ بِالطَّاعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ عليه
السلام:" كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ".
فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ فَحُكْمُهُ الإِبْطَالُ، إِلاَّ شَرْطًا جَاءَ
بِإِبَاحَتِهِ الْقُرْآنُ أَوْ السُّنَّةُ، وَكُلُّ عَقْدٍ، وَكُلُّ صُلْحٍ فَهُوَ
بِلاَ شَكٍّ شَرْطٌ، فَحُكْمُهُمَا الإِبْطَالُ أَبَدًا حَتَّى يُصَحِّحَهُمَا
قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ، وَلاَ فِي السُّنَّةِ تَصْحِيحُ
الصُّلْحِ عَلَى الإِنْكَارِ، وَلاَ عَلَى السُّكُوتِ، وَلاَ عَلَى إسْقَاطِ
الْيَمِينِ، وَلاَ صُلْحِ إنْسَانٍ، عَنْ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ، وَلاَ إقْرَارِهِ
عَلَى غَيْرِهِ، فَبَطَلَ كُلُّ ذَلِكَ بِيَقِينٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الصُّلْحِ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَلاَمُ عُمَرَ رضي
الله عنه فَكِلاَهُمَا لاَ يَجُوزُ
(8/162)
الْحُكْمُ بِهِ أَمَّا الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَاقِطَةٌ لأََنَّهُ انْفَرَدَ بِهَا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ سَاقِطٌ مُتَّفَقٌ عَلَى اطِّرَاحِهِ وَأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْهُ لاَ تَحِلُّ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ عَنْ عُمَرَ فَانْفَرَدَ بِهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ وَكِلاَهُمَا لاَ شَيْءَ، ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَكَانَا حُجَّةً لَنَا; لأََنَّ الصُّلْحَ عَلَى الإِنْكَارِ وَعَلَى السُّكُوتِ لاَ يَخْلُو ضَرُورَةً مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ طَالِبَ حَقٍّ وَالْمَطْلُوبُ مَانِعُ حَقٍّ أَوْ مُمَاطِلاً لِحَقٍّ أَوْ يَكُونَ الطَّالِبُ طَالِبَ بَاطِلٍ وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ مُحِقًّا فَحَرَامٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ أَنْ يَمْنَعَهُ حَقَّهُ أَوْ أَنْ يَمْطُلَهُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إنْصَافِهِ حَتَّى يَضْطَرَّهُ إلَى إسْقَاطِهِ بَعْضَ حَقِّهِ أَوْ أَخْذِ غَيْرِ حَقِّهِ فَالْمَطْلُوبُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ أَكَلَ مَالَ الطَّالِبِ بِالْبَاطِلِ وَبِالظُّلْمِ وَالْمَطْلِ وَالْكَذِبِ وَهُوَ حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ مُبْطِلاً فَحَرَامٌ عَلَيْهِ الطَّلَبُ بِالْبَاطِلِ وَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَطْلُوبِ بِغَيْرِ حَقٍّ، بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ وَبِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَالطَّالِبُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ: أَكَلَ مَالَ الْمَطْلُوبِ بِالْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَهَذَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ. وَلَعَمْرِي إنَّنَا لَيَطُولُ عَجَبُنَا كَيْفَ خَفِيَ هَذَا الَّذِي هُوَ أَشْهُرُ مِنْ الشَّمْسِ عَلَى مَنْ أَجَازَ الصُّلْحَ بِغَيْرِ الإِقْرَارِ إذْ لاَ بُدَّ فِيهِ ضَرُورَةً مِنْ أَكْلِ مَالٍ مُحَرَّمٍ بِالْبَاطِلِ لأََحَدِ الْمُتَصَالِحَيْنِ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ. وَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى تَرْكِ الْيَمِينِ فَلاَ تَخْلُو تِلْكَ الْيَمِينُ الَّتِي يُطْلَبُ بِهَا الْمُنْكِرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً إنْ حَلَفَ بِهَا أَوْ تَكُونَ كَاذِبَةً إنْ حَلَفَ بِهَا وَلاَ سَبِيلَ إلَى ثَالِثٍ. فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ كَاذِبًا إنْ حَلَفَ: فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ آكِلٌ مَالَ خَصْمِهِ بِالْبَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَلاَ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ صَادِقًا إنْ حَلَفَ فَحَرَامٌ عَلَى الطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ فَلْسًا فَمَا فَوْقَهُ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا لاَ خَفَاءَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ يَتَأَمَّلُهُ وَيَسْمَعُهُ. وَأَمَّا مُصَالَحَةُ الْمَرْءِ عَلَى غَيْرِهِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَهَذَا أَبْطَلُ الْبَاطِلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فَإِقْرَارُ الْمَرْءِ عَلَى غَيْرِهِ كَسْبٌ عَلَى غَيْرِ نَفْسِهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَمُصَالَحَتُهُ، عَنْ غَيْرِهِ لاَ تَخْلُو أَيْضًا مِمَّا قَدَّمْنَا إمَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي صُولِحَ عَنْهُ مَطْلُوبًا بِبَاطِلٍ، أَوْ مَطْلُوبًا بِحَقٍّ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ كَانَ مَطْلُوبًا بِبَاطِلٍ فَحَرَامٌ عَلَى الطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ فَلْسًا فَمَا فَوْقَهُ أَوْ شَيْئًا أَصْلاً بِطَلَبِ بَاطِلٍ فَيَكُونُ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي صُولِحَ عَنْهُ مَطْلُوبًا بِحَقٍّ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَبَرِّعُ بِالصُّلْحِ عَنْهُ ضَامِنًا لِمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ فَهَذَا جَائِزٌ، وَالْحَقُّ قَدْ تَحَوَّلَ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُقِرِّ، فَإِنَّمَا صَالَحَ حِينَئِذٍ، عَنْ نَفْسِهِ لاَ، عَنْ غَيْرِهِ، وَعَنْ حَقٍّ يَأْخُذُهُ بِهِ الطَّالِبُ كُلُّهُ إنْ شَاءَ، وَهَذَا جَائِزٌ حَسَنٌ لاَ نَمْنَعُ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ إنْ ضَمِنَ عَنْهُ بَعْضَ مَا عَلَيْهِ وَلاَ فَرْقَ. وَإِنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُصَالِحَ، عَنْ غَيْرِهِ دُونَ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَقَدْ صَحَّ بِهَذَا أَنَّ كُلَّ صُلْحٍ عَلَى غَيْرِ الإِقْرَارِ
(8/163)
فَهُوَ مُحِلٌّ حَرَامًا
وَمُحَرِّمٌ حَلاَلاً، ذَانِكَ الأَثَرَانِ لَوْ صَحَّا لَكَانَا حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ
قَاطِعَةً.
وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَإِنْ شُرُوطَ الْمُسْلِمِينَ هِيَ
الشُّرُوطُ الَّتِي جَاءَ الْقُرْآنُ وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِإِيجَابِهَا
وَإِبَاحَتِهَاوَأَمَّا كُلُّ شَرْطٍ لَمْ يَأْتِ النَّصُّ بِإِبَاحَتِهِ أَوْ
إيجَابِهِ فَلَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الْمُسْلِمِينَ، بَلْ هُوَ مِنْ شُرُوطِ
الْكَافِرِينَ أَوْ الْفَاسِقِينَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ " وَلَيْسَ
الْبَاطِلُ مِنْ شُرُوطِ الْمُسْلِمِينَ بِلاَ شَكٍّ.
وَأَمَّا خَبَرُ عَلِيٍّ فَهُوَ خَبَرُ سُوءٍ يُعِيذُ اللَّهُ عَلِيًّا فِي
سَابِقَتِهِ وَفَضْلِهِ وَإِمَامَتِهِ مِنْ أَنْ يُنْفِذَ الْجَوْرَ وَهُوَ
يُقِرُّ أَنَّهُ جَوْرٌ. وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ هَلْ يَجُوزُ لِمُسْلِمٍ أَنْ
يُنْفِذَ جَوْرًا لَئِنْ صَحَّ هَذَا لَيُنْفِذَنَّ الرِّبَا وَالزِّنَى
وَالْغَارَةُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لأََنَّهُ كُلُّهُ جَوْرٌ. وَالآفَةُ فِي
هَذَا الْخَبَرِ وَالْبَلِيَّةُ مِنْ قِبَلِ الإِرْسَالِ; لأََنَّ الشَّعْبِيَّ
لَمْ يَسْمَعْ قَطُّ مِنْ عَلِيٍّ كَلِمَةً وَإِنَّمَا أَخَذَ هَذَا الْخَبَرَ
بِلاَ شَكٍّ، مِنْ قِبَلِ الْحَارِثِ وَأَشْبَاهِهِ، وَهَذَا عَيْبُ الْمُرْسَلِ.
ثُمَّ الْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِهَذِهِ الْبَلِيَّةِ، وَهُمْ أَوَّلُ
مُخَالِفٍ لَهَا فَلاَ يَرَوْنَ إنْفَاذَ الْجَوْرِ، لاَ فِي صُلْحٍ، وَلاَ
غَيْرِهِ، وَهَذَا تَلاَعُبٌ بِالدِّيَانَةِ، وَضَلاَلٌ، وَإِضْلاَلٌ. فَإِنْ
قَالُوا: قَدْ جَاءَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: رَدِّدُوا الْخُصُومَ حَتَّى
يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُوَرِّثُ بَيْنَ الْقَوْمِ الضَّغَائِنَ
قلنا: هَذَا لاَ يَصِحُّ عَنْ عُمَرَ أَصْلاً; لأََنَّنَا إنَّمَا رُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ، عَنْ عُمَرَ، وَعُمَرُ لَمْ يُدْرِكْهُ
مُحَارِبٌ، وَمُحَارِبٌ ثِقَةٌ، فَهُوَ مُرْسَلٌ. وَيُعِيذُ اللَّهُ عُمَرَ مِنْ
أَنْ يَقُولَ هَذَا الْقَوْلَ فَيَأْمُرُ بِتَرْدِيدِ ذِي الْحَقِّ، وَلاَ يَقْضِي
لَهُ بِحَقِّهِ، هَذَا الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ اللَّذَانِ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى
عُمَرَ فِي إمَامَتِهِ وَدِينِهِ وَصَرَامَتِهِ فِي الْحَقِّ مِنْ أَنْ يَفُوهَ
بِهِ. ثُمَّ لَيْتَ شِعْرِي أَيُّهَا الْمُحْتَجُّونَ بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي
لَمْ يَصِحَّ قَطُّ عَرِّفُونَا مَا حَدُّ هَذَا التَّرْدِيدِ الَّذِي
تُضِيفُونَهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنه وَتَحْتَجُّونَ بِهِ
وَتَأْمُرُونَ بِهِ أَتَرْدِيدُ سَاعَةٍ فَإِنَّهُ تَرْدِيدٌ فِي اللُّغَةِ بِلاَ
شَكٍّ، أَمْ تَرْدِيدُ يَوْمٍ، أَمْ تَرْدِيدُ جُمُعَةٍ، أَمْ تَرْدِيدُ شَهْرٍ،
أَوْ تَرْدِيدُ سَنَةٍ، أَمْ تَرْدِيدُ بَاقِي الْعُمْرِ فَكُلُّ ذَلِكَ
تَرْدِيدٌ، وَلَيْسَ بَعْضُ ذَلِكَ بِاسْمِ التَّرْدِيدِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ،
وَكُلُّ مَنْ حَدَّ فِي هَذَا التَّرْدِيدِ حَدًّا فَهُوَ كَذَّابٌ، قَائِلٌ بِالْبَاطِلِ
فِي دَيْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ تَرْكَ الْحُكْمِ
بَيْنَهُمْ حَتَّى يَنْزِلَ الْمُحِقُّ عَلَى حُكْمِ الْبَاطِلِ، أَوْ يَتْرُكَ
الطَّلَبَ، أَوْ يَمَلَّ مِنْ طَلَبِ الْمُبْطِلِ فَيُعْطِيَهُ مَالَهُ
بِالْبَاطِلِ أَشَدُّ تَوْرِيثًا لِلضَّغَائِنِ بَيْنَ الْقَوْمِ مِنْ فَصْلِ
الْقَضَاءِ بِلاَ شَكٍّ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الإِسْنَادَ فِي
دِينِنَا فَصْلاً بَيْنَ الْحَقِّ وَالْكَذِبِ.
فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ الْخَبَرَ الصَّحِيحَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ عَنْ آدَمَ بْنِ أَبِي إيَاسٍ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ
عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ:
(8/164)
إذا صح الإقرار بالصلح فيفصل
فيه
...
1270 - مَسْأَلَةٌ - فَإِذَا صَحَّ الإِقْرَارُ بِالصُّلْحِ،
فأما أَنْ يَكُونَ فِي الْمَالِ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ
ثَالِثَ لَهُمَا إمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ بَعْضَ مَا لَهُ عَلَيْهِ وَيُبْرِئَهُ
الَّذِي لَهُ الْحَقُّ مِنْ بَاقِيهِ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يَأْخُذَ
مَا أَبْرَأَهُ مِنْهُ لَفَعَلَ: فَهَذَا حَسَنٌ جَائِزٌ بِلاَ خِلاَفٍ، وَهُوَ
فِعْلُ خَيْرٍ.
وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الْمُقَرُّ بِهِ عَيْنًا مُعَيَّنَةً حَاضِرَةً
أَوْ غَائِبَةً فَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَبِيعَهَا مِنْهُ، فَهَذَا بَيْعٌ
صَحِيحٌ يَجُوزُ فِيهِ مَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَيَحْرُمُ فِيهِ مَا يَحْرُمُ
فِي الْبَيْعِ، وَلاَ مَزِيدَ، أَوْ بِالإِجَارَةِ حَيْثُ تَجُوزُ الإِجَارَةُ،
لأََمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُؤَاجَرَةِ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الأَعْرَجِ:
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ
لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ مَالٌ فَمَرَّ بِهِمَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَيَا كَعْبُ فَأَشَارَ بِيَدِهِ كَأَنَّهُ
يَقُولُ: النِّصْفَ، فَأَخَذَ نِصْفَ مَا عَلَيْهِ وَتَرَكَ نِصْفَهُ.
(8/164)
1271- مَسْأَلَةٌ - وَلَا
يَجُوزُ فِي الصُّلْحِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ إبْرَاءٌ مِنْ الْبَعْضِ شَرْطُ
تَأْجِيلٍ أَصْلًا ;
لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَهُوَ بَاطِلٌ، لَكِنَّهُ يَكُونُ
حَالًّا فِي الذِّمَّةِ يُنْظِرُهُ بِهِ مَا شَاءَ بِلَا شَرْطٍ ; لِأَنَّهُ
فِعْلُ خَيْرٍ .
(8/165)
1272 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى مَالٍ مَجْهُولِ الْقَدْرِ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً، عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالرِّضَا لاَ يَكُونُ
فِي مَجْهُولٍ أَصْلاً، إذْ قَدْ يَظُنُّ الْمَرْءُ أَنَّ حَقَّهُ قَلِيلٌ
فَتَطِيبُ نَفْسُهُ بِهِ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَثِيرٌ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ
بِهِ وَلَكِنْ
(8/165)
1273 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ الصُّلْحُ فِي غَيْرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الأَمْوَالِ الْوَاجِبَةِ
الْمَعْلُومَةِ بِالإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ،
إِلاَّ فِي أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فَقَطْ: فِي الْخُلْعِ وَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي:( كِتَابِ النِّكَاحِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَإِنْ
امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلاَ جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}. أَوْ فِي
كَسْرِ سِنٍّ عَمْدًا، فَيُصَالِحُ الْكَاسِرُ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ أَوْ فِي
جِرَاحَةٍ عَمْدًا عِوَضًا مِنْ الْقَوَدِ أَوْ فِي قَتْلِ نَفْسٍ عِوَضًا مِنْ
الْقَوَدِ بِأَقَلَّ مِنْ الدِّيَةِ، أَوْ بِأَكْثَرَ، وَبِغَيْرِ مَا يَجِبُ فِي
الدِّيَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً،
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"
إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَلاَ يَحِلُّ
إعْطَاءُ مَالٍ إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ النَّصُّ بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ أَوْ إيجَابِهِ.
وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ " وَالصُّلْحُ شَرْطٌ فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ
حَيْثُ أَبَاحَهُ نَصٌّ، وَلاَ مَزِيدَ، وَلَمْ يُبِحْ النَّصُّ إِلاَّ حَيْثُ
ذَكَرْنَا فَقَطْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ،
حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:" كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ أُخْتُ أَنَسِ بْنِ
النَّضْرِ ثَنِيَّةَ امْرَأَةٍ فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَضَى
بِكِتَابِ
(8/166)
اللَّهِ الْقِصَاصَ فَقَالَ
ابْنُ النَّضْرِ: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا
الْيَوْمَ، قَالَ: يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ، فَرَضُوا بِأَرْشٍ
أَخَذُوهُ". فإن قيل: فَإِنَّ هَذَا الْخَبَرَ رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ
أَنَّهَا كَانَتْ جِرَاحَةٌ، وَأَنَّهُمْ أَخَذُوا الدِّيَةَ. وَرَوَيْتُمُوهُ
مِنْ طَرِيقِ بِشْرِ بْنِ الْمُفَضَّلِ، وَخَالِدٍ الْحَذَّاءِ، وَكِلاَهُمَا،
عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، فَذَكَرَ أَنَّهُمْ عَفَوْا وَلَمْ
يَذْكُرْ دِيَةً، وَلاَ أَرْشًا. وَرَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي خَالِدٍ
الأَحْمَرِ، وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيِّ، كِلاَهُمَا، عَنْ
حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ فَذَكَرَ أَمَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِالْقِصَاصِ فَقَطْ قلنا: نَعَمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ
وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مُخَالِفًا لِسَائِرِ ذَلِكَ; لأََنَّ سُلَيْمَانَ،
وَثَابِتًا، وَبِشْرًا، وَخَالِدًا، زَادُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَبِي خَالِدٍ،
وَالأَنْصَارِيِّ: الْعَفْوَ، عَنِ الْقِصَاصِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الأَنْصَارِيُّ،
وَلاَ أَبُو خَالِدٍ عَفْوًا، وَلاَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْفُوا، وَزِيَادَةُ
الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَزَادَ سُلَيْمَانُ، وَثَابِتٌ عَلَى الأَنْصَارِيِّ،
وَأَبِي خَالِدٍ، وَبِشْرٍ، ذِكْرَ قَبُولِ الأَرْضِ وَلَمْ يَذْكُرْ هَؤُلاَءِ
خِلاَفَ ذَلِكَ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَقَالَ ثَابِتٌ: دِيَةٌ،
وَقَالَ سُلَيْمَانُ: أَرْشٌ؛ وَهَذَا لَيْسَ اخْتِلاَفًا; لأََنَّ كُلَّ دِيَةٍ
أَرْشٌ وَكُلَّ أَرْشٍ دِيَةٌ، إِلاَّ أَنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مُؤَقَّتًا
مَحْدُودًا، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ، وَلاَ مَحْدُودٍ،
وَالتَّوْقِيتُ لاَ يُؤْخَذُ إِلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ بِهِ، فَوَجَبَ حَمْلُ مَا
رُوِّينَاهُ عَلَى عُمُومِهِ، وَجَوَازُ مَا تَرَاضَوْا عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا اخْتِلاَفُ ثَابِتٍ، وَسُلَيْمَانَ، فَقَالَ
أَحَدُهُمَا وَهُوَ ثَابِتٌ: جِرَاحَةٌ، وَأَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ الَّتِي
أَقْسَمَتْ أَنْ لاَ يُقْتَصَّ مِنْهَا، وَقَالَ سُلَيْمَانُ: كَسْرُ سِنٍّ،
وَأَنَّ أَنَسَ بْنَ النَّضْرِ أَقْسَمَ أَنْ لاَ يُقْتَصَّ مِنْهَا فَيُمْكِنُ
أَنْ يَكُونَا حَدِيثَيْنِ فِي قَضِيَّتَيْنِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَدِيثٌ
وَاحِدٌ فِي قَضِيَّةٍ وَاحِدَةٍ; لأََنَّ كَسْرَ السِّنِّ جِرَاحَةٌ; لأََنَّهُ
يُدْمِي وَيُؤَثِّرُ فِي اللِّثَةِ فَهِيَ جِرَاحَةٌ، فَزَادَ سُلَيْمَانُ
بَيَانًا إذْ بَيَّنَ أَنَّهُ كَسْرُ سِنٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْجِرَاحَةُ: فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُد بْنِ
سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ،
عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ:" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ مُصَدِّقًا فَلاَجَّهُ
رَجُلٌ فِي صَدَقَتِهِ، فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ فَشَجَّهُ فَأَتَوْا رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: الْقَوَدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَكُمْ كَذَا وَكَذَا
(8/167)
فَلَمْ يَرْضَوْا، فَقَالَ:
لَكُمْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَرْضَوْا، فَقَالَ: لَكُمْ كَذَا وَكَذَا، فَرَضُوا
". فَهَذَا الصُّلْحُ عَلَى الشَّجَّةِ بِمَا يَتَرَاضَى بِهِ الْفَرِيقَانِ.
فإن قيل: فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ
رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بِالإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ فِيهِ، وَفِيه:
"فَضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ" وَلَمْ يَذْكُرْ شَجَّهُ قلنا: هَذِهِ بِلاَ
شَكٍّ قِصَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَخَبَرٌ وَاحِدٌ، وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُد
بَيَانَ ذِكْرِ شَجِّهِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَزِيَادَةُ
الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ.
وَأَمَّا الصُّلْحُ فِي النَّفْسِ: فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ
قَالَ:، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ،
حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ حَدَّثَنِي أَبُو
هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَعْدَ فَتْحِ
مَكَّةَ: وَمَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمَّا أَنْ
يَفْدِيَ، وَأَمَّا أَنْ يَقْتُلَ . فإن قيل: فَهَذَا خَبَرٌ رَوَيْتُمُوهُ مِنْ
طَرِيقِ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقَالَتِي هَذِهِ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ
خِيرَتَيْن: بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ، وَبَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوهُ . قلنا:
نَعَمْ، كِلاَهُمَا صَحِيحٌ وَحَقٌّ وَجَائِزٌ أَنْ يُلْزِمَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ
الْقَاتِلَ الدِّيَةَ وَجَائِزٌ أَنْ يُصَالِحَهُ حِينَئِذٍ الْقَاتِلُ بِمَا
يُرْضِيه بِهِ، فَكِلاَ الْخَبَرَيْنِ صَحِيحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/168)
من صالح عن دم أو كسر سن أو
جراحه فذلك جائز
...
1274 – مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ صَالَحَ، عَنْ دَمٍ، أَوْ كَسْرِ سِنٍّ، أَوْ
جِرَاحَةٍ، أَوْ، عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، فَذَلِكَ جَائِزٌ،
فَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ، أَوْ كُلَّهُ بَطَلَتْ الْمُصَالَحَةُ وَعَادَ عَلَى
حَقِّهِ فِي الْقَوَدِ وَغَيْرِهِ; لأََنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ حَقَّهُ بِشَيْءٍ
لَمْ يَصِحَّ لَهُ وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ لَهُ
ذَلِكَ الشَّيْءُ فَلَمْ يَتْرُكْ حَقَّهُ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ مِنْ سِلْعَةٍ
بِعَيْنِهَا بِسُكْنَى دَارٍ، أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ فَمَاتَ الْعَبْدُ،
وَانْهَدَمَتْ الدَّارُ، أَوْ اسْتَحَقَّا بَطَلَ الصُّلْحُ وَعَادَ عَلَى حَقِّهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(تَمَّ كِتَابُ الصُّلْحِ بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ)
(8/168)
كتاب المداينات والتفليس
من ثبت للناس عليه حق من مال أو مما يوجب غرم مال ببينة عدل أو باقرار منه صحيح
بيع عليه كل ما يوجد له و أنصف الغرماء ولا يحل أن يسجن أصلا
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْمُدَايِنَاتِ وَالتَّفْلِيسِ
1275 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ ثَبَتَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ حُقُوقٌ مِنْ مَالٍ أَوْ
مِمَّا يُوجِبُ غُرْمَ مَالٍ بِبَيِّنَةِ عَدْلٍ، أَوْ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ
صَحِيحٍ: بِيعَ عَلَيْهِ كُلُّ مَا يُوجَدُ لَهُ، وَأُنْصِفَ الْغُرَمَاءَ، وَلاَ
يَحِلُّ أَنْ يُسْجَنَ أَصْلاً،
إِلاَّ أَنْ يُوجَدَ لَهُ مِنْ نَوْعٍ مَا عَلَيْهِ فَيُنْصَفُ النَّاسُ مِنْهُ
بِغَيْرِ بَيْعٍ، كَمَنْ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ وَوُجِدَتْ لَهُ دَرَاهِمُ، أَوْ
عَلَيْهِ طَعَامٌ وَوُجِدَ لَهُ طَعَامٌ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى:
(8/168)
1276 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ
لَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ، فَإِنْ كَانَتْ الْحُقُوقُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ
أُلْزِمَ الْغُرْمَ وَسُجِنَ حَتَّى يُثْبِتَ الْعَدَمَ، وَلاَ يُمْنَعُ مِنْ
الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ شُهُودٍ لَهُ بِذَلِكَ،
وَلاَ يُمْنَعُ خَصْمُهُ مِنْ لُزُومِهِ وَالْمَشْيِ مَعَهُ حَيْثُ مَشَى، أَوْ
وَكِيلُهُ عَلَى الْمَشْيِ مَعَهُ، فَإِنْ أَثْبَتَ عَدَمَهُ سُرِّحَ بَعْدَ أَنْ
يُحَلِّفَهُ: مَا لَهُ مَالٌ بَاطِنٌ، وَمُنِعَ خَصْمُهُ مِنْ لَزَوْمه، وَأُوجِرَ
لِخُصُومِهِ، وَمَتَى ظَهَرَ لَهُ مَالٌ أُنْصِفَ مِنْهُ. فَإِنْ كَانَتْ
الْحُقُوقُ مِنْ نَفَقَاتٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ ضَمَانٍ أَوْ جِنَايَةٍ،
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فِي أَنَّهُ عَدِيمٌ، وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ،
حَتَّى يُثْبِتَ خَصْمُهُ أَنَّ لَهُ مَالاً، لَكِنْ يُؤَاجَرُ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَإِنْ صَحَّ أَنَّ لَهُ مَالاً غَيَّبَهُ أُدِّبَ وَضُرِبَ حَتَّى يُحْضِرَهُ
أَوْ يَمُوتَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ} . وَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ غُنْدَرٌ،
حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ
قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم يَقُولُ: مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ
فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ
وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ
حَدَّثَهُمْ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ الأَنْصَارِيِّ "أَنَّهُ سَمِعَ
(8/172)
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم يَقُولُ: لاَ يُجْلَدُ أَحَدٌ فَوْقَ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ إِلاَّ فِي
حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ ". فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِتَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ بِالْيَدِ، وَمِنْ الْمُنْكَرِ مَطْلُ الْغَنِيِّ، فَمَنْ
صَحَّ غِنَاهُ وَمَنَعَ خَصْمَهُ فَقَدْ أَتَى مُنْكَرًا وَظُلْمًا، وَكُلُّ
ظُلْمٍ مُنْكَرٌ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْحَاكِمِ تَغْيِيرُهُ بِالْيَدِ، وَمَنَعَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ يُجْلَدَ أَحَدٌ فِي غَيْرِ حَدٍّ
أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَسْوَاطٍ; فَوَاجِبٌ أَنْ يُضْرَبَ عَشَرَةً; فَإِنْ
أَنْصَفَ فَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ، وَإِنْ تَمَادَى عَلَى الْمَطْلِ فَقَدْ أَحْدَثَ
مُنْكَرًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي ضُرِبَ عَلَيْهِ فَيُضْرَبُ أَيْضًا عَشَرَةً،
وَهَكَذَا أَبَدًا حَتَّى يُنْصِفَ، وَيَتْرُكَ الظُّلْمَ، أَوْ يَقْتُلَهُ
الْحَقُّ وَأَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا التَّفْرِيقُ بَيْنَ وُجُوهِ الْحُقُوقِ: فَإِنَّ مَنْ كَانَ أَصْلُ
الْحَقِّ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ بَيْعٍ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ
مَالاً، وَمَنْ صَحَّ أَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَالاً فَوَاجِبٌ أَنْ يُنْصَفَ مِنْ
ذَلِكَ الْمَالِ حَتَّى يَصِحَّ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ قَدْ تَلِفَ وَهُوَ فِي
تَلَفِهِ مُدَّعِي وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِي . وَمَنْ كَانَ أَصْلُ الْحَقِّ عَلَيْهِ مِنْ
ضَمَانٍ، أَوْ جِنَايَةٍ، أَوْ صَدَاقٍ، أَوْ نَفَقَةٍ، فَالْيَقِينُ الَّذِي لاَ
شَكَّ فِيهِ عِنْدَ أَحَدٍ: هُوَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ وُلِدَ عُرْيَانَ لاَ شَيْءَ
لَهُ، فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ قَدْ صَحَّ لَهُمْ الْفَقْرُ، فَهُمْ عَلَى مَا صَحَّ
مِنْهُمْ حَتَّى يَصِحَّ أَنَّهُمْ كَسَبُوا مَالاً وَهُوَ فِي أَنَّهُ قَدْ
كَسَبَ مَالاً مُدَّعًى عَلَيْهِ، وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي سُلَيْمَانَ،
وَمُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الْبَلْخِيّ، وَغَيْرِهِمَا. وَخَالَفَ فِي هَذَا بَعْضُ
الْمُتَعَسِّفِينَ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ
ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَزَقَ
الْجَمِيعَ.
قال أبو محمد: لَمْ نُخَالِفْهُ فِي الرِّزْقِ، بَلْ الرِّزْقُ مُتَيَقَّنٌ،
وَأَوَّلُهُ لَبَنُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، فَلَوْلاَ رِزْقُ اللَّهِ تَعَالَى مَا
عَاشَ أَحَدٌ يَوْمًا فَمَا فَوْقَهُ، وَلَيْسَ مِنْ كُلِّ الرِّزْقِ يُنْصَفُ
الْغُرَمَاءُ، وَإِنَّمَا يُنْصَفُونَ مِنْ فُضُولِ الرِّزْقِ وَهِيَ الَّتِي لاَ
يَصِحُّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى آتَاهَا الإِنْسَانَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. وَأَمَّا
الْمُؤَاجَرَةُ: فَلِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
لِهَذِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/173)
فيها إيراد قوله تعالى: {وإن
كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} والجواب عنه
...
1278 - مَسْأَلَةٌ - فإن قيل: إنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ}
يَمْنَعُ مِنْ اسْتِئْجَارِهِ قلنا: بَلْ يُوجِبُ اسْتِئْجَارَهُ; لأََنَّ
الْمَيْسَرَةَ لاَ تَكُونُ إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا بِسَعْيٍ، وَأَمَّا
بِلاَ سَعْيٍ; وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} فَنَحْنُ
نُجْبِرُهُ عَلَى ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي أَمَرَهُ تَعَالَى
بِابْتِغَائِهِ، فَنَأْمُرُهُ وَنُلْزِمُهُ التَّكَسُّبَ لِيُنْصِفَ غُرَمَاءَهُ
وَيَقُومَ بِعِيَالِهِ وَنَفْسِهِ، وَلاَ نَدَعُهُ يُضَيِّعُ نَفْسَهُ وَعِيَالَهُ
وَالْحَقَّ اللَّازِمَ لَهُ.
(8/173)
بيان أن المطلوب بالدين لا
يخلوا من أن يوجد له ما يفي بما عليه ويفضل له أو ما يوجد له يفي بما عليه ولا
يفضل له شيء أو لا يفي بما عليه
...
1279 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَخْلُو الْمَطْلُوبُ بِالدَّيْنِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
يُوجَدُ لَهُ مَا يَفِي بِمَا عَلَيْهِ وَيَفْضُلُ لَهُ، فَهَذَا يُبَاعُ مِنْ
مَالِهِ مَا يَفْضُلُ، عَنْ حَاجَتِهِ فَيُنْصَفُ مِنْهُ غُرَمَاؤُهُ،
وَمَا تَلِفَ مِنْ عَيْنِ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ فَمِنْ مُصِيبَتِهِ لاَ
مِنْ مُصِيبَةِ الْغُرَمَاءِ; لأََنَّ حُقُوقَهُمْ فِي ذِمَّتِهِ لاَ فِي، شَيْءٍ
بِعَيْنِهِ مِنْ مَالِهِ، أَوْ يَكُونَ كُلُّ مَا يُوجَدُ لَهُ يَفِي بِمَا
عَلَيْهِ، وَلاَ يَفْضُلُ لَهُ شَيْءٌ، أَوْ لاَ يَفِي بِمَا عَلَيْهِ: فَهَذَانِ
يَقْضِي بِمَا وُجِدَ لَهُمَا لِلْغُرَمَاءِ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم ثُمَّ يُبَاعُ لَهُمْ إنْ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ، فَمَا تَلِفَ
بَعْدَ الْقَضَاءِ لَهُمْ بِمَالِهِ فَمِنْ مُصِيبَةِ الْغُرَمَاءِ وَيَسْقُطُ
عَنْهُ مِنْ دَيْنِهِمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ ; لأََنَّ عَيْنَ مَالِهِ قَدْ صَارَ لَهُمْ
إنْ شَاءُوا اقْتَسَمُوهُ بِالْقِيمَةِ، وَإِنْ اتَّفَقُوا عَلَى، بَيْعِهِ بِيعَ
لَهُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا وَفَّى بَعْضَ مَالِهِ بِمَا عَلَيْهِ فَلَيْسَ
شَيْءٌ مِنْهُ أَوْلَى بِأَنْ يُبَاعَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِهِ،
فَيُنْظَرُ: أَيُّ مَالِهِ هُوَ عَنْهُ فِي غِنًى فَيُبَاعُ، وَمَا لاَ غِنًى بِهِ
عَنْهُ فَلاَ يُبَاعُ ; لأََنَّ هَذَا هُوَ التَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى وَتَرْكُ الْمُضَارَّةِ، فَإِنْ كَانَ كُلُّهُ لاَ غِنًى بِهِ عَنْهُ
أُقْرِعَ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَالِ، فَأَيُّهَا خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ بِيعَ فِيمَا
أُلْزِمَهُ.
(8/174)
1280- مَسْأَلَةٌ -
وَيُقَسَّمُ مَالُ الْمُفْلِسِ الَّذِي يُوجَدُ لَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ
بِالْحِصَصِ بِالْقِيمَةِ كَمَا يُقَسَّمُ الْمِيرَاثُ عَلَى الْحَاضِرِينَ
الطَّالِبِينَ الَّذِينَ حَلَّتْ آجَالُ حُقُوقِهِمْ فَقَطْ،
وَلاَ يَدْخُلُ فِيهِمْ حَاضِرٌ لاَ يَطْلُبُ، وَلاَ غَائِبٌ لَمْ يُوَكِّلْ،
وَلاَ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ لَمْ يَحِلَّ أَجَلُ حَقِّهِ طَلَبَ أَوْ لَمْ
يَطْلُبْ ; لأََنَّ مَنْ لَمْ يَحِلَّ أَجَلُ حَقِّهِ فَلاَ حَقَّ لَهُ بَعْدُ،
وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ فَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يُعْطَى مَا لَمْ يَطْلُبْ، وَقَدْ
وَجَبَ فَرْضًا إنْصَافُ الْحَاضِرِ الطَّالِبِ فَلاَ يَحِلُّ مَطْلُهُ بِفَلْسٍ
فَمَا فَوْقَهُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْغُرَمَاءِ
الْحَاضِرِينَ: " خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ " فَإِذَا أَخَذُوهُ فَقَدْ
مَلَكُوهُ فَلاَ يَحِلُّ أَخْذُ شَيْءٍ مِمَّا مَلَكُوهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
سُلَيْمَانَ، وَأَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَمَّا الْمَيِّتُ بِفَلَسْ: فَإِنَّهُ يَقْضِي لِكُلِّ مِنْ حَضَرَ أَوْ غَابَ
طَلَبَا أَوْ لَمْ يَطْلُبَا وَلِكُلِّ ذِي دَيْنٍ كَانَ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
أَوْ حَالًّا; لأََنَّ الآجَالَ تَحِلُّ كُلُّهَا بِمَوْتِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ،
أَوْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي " كِتَاتِ الْقَرْضِ
". وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَطْلُبْ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي
الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَلاَ مِيرَاثَ
إِلاَّ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، فَوَاجِبٌ إخْرَاجُ الدُّيُونِ إلَى
أَرْبَابِهَا وَالْوَصَايَا إلَى أَصْحَابِهَا، ثُمَّ يُعْطَى الْوَرَثَةُ
حُقُوقَهُمْ فِيمَا أَبْقَى، وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/174)
اقرار المفلس بالدين لازم
مقبولي ويدخل مع الغرماء
...
1281 - مَسْأَلَةٌ - وَإِقْرَارُ الْمُفْلِسِ بِالدَّيْنِ لاَزِمٌ مَقْبُولٌ
وَيَدْخُلُ مَعَ الْغُرَمَاءِ;
لأََنَّ الإِقْرَارَ وَاجِبٌ قَبُولُهُ وَلَيْسَ لأََحَدٍ إبْطَالُهُ بِغَيْرِ
نَصِّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ، فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ بِمَالِهِ
لِلْغُرَمَاءِ لَزِمَهُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلاَ يَدْخُلْ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي
مَالٍ قَدْ قُضِيَ لَهُمْ بِهِ وَمَلَكُوهُ قَبْلَ
(8/174)
1282 - مَسْأَلَةٌ -
وَحُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى مُقَدَّمَةٌ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ فَيَبْدَأُ بِمَا
فَرَّطَ فِيهِ مِنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ فِي الْحَيِّ، وَالْمَيِّتِ،
وَبِالْحَجِّ فِي الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَعُمَّ: قَسَّمَ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ هَذِهِ
الْحُقُوقِ بِالْحِصَصِ لاَ يُبَدَّى مِنْهَا شَيْءٌ عَلَى شَيْءٍ. وَكَذَلِكَ
دُيُونُ النَّاسِ إنْ لَمْ يَفِ مَالُهُ بِجَمِيعِهَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ
بِقَدْرِ مَالِهِ مِمَّا وُجِدَ.لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَجِّ
" مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " دَيْنُ اللَّهِ
أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى "، " وَاقْضُوا اللَّهَ فَهُوَ أَحَقُّ
بِالْوَفَاءِ"، " كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ
".
(8/175)
1283 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ
فَلَّسَ مِنْ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فَوَجَدَ إنْسَانٌ سِلْعَتَهُ الَّتِي بَاعَهَا
بِعَيْنِهَا فَهُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا،
فَإِنْ كَانَ قَبَضَ مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا أَكْثَرَهُ أَوْ أَقَلَّهُ رَدَّهُ،
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَكَانَ أُسْوَةَ الْغُرَمَاءِ. فَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهَا لاَ
كُلَّهَا فَسَوَاءٌ وَجَدَ أَكْثَرَهَا أَوْ أَقَلَّهَا لاَ حَقَّ لَهُ فِيهَا
وَهُوَ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ. وَلاَ يَكُونُ مُفْلِسًا مَنْ لَهُ مِنْ أَيْنَ
يُنْصِفُ جَمِيعَ الْغُرَمَاءِ وَيَبْقَى لَهُ فَضْلٌ، إنَّمَا الْمُفْلِسُ مَنْ
لاَ يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ. وَأَمَّا مَنْ وَجَدَ
وَدِيعَتَهُ، أَوْ مَا غُصِبَ مِنْهُ، أَوْ مَا بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا، أَوْ
أُخِذَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهُوَ لَهُ ضَرُورَةً، وَلاَ خِيَارَ لَهُ فِي
غَيْرِهِ; لأََنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ قَطُّ، عَنْ هَذَا. وَأَمَّا مَنْ وَجَدَ
سِلْعَتَهُ الَّتِي بَاعَهَا بَيْعًا صَحِيحًا أَوْ أَقْرَضَهَا، فَمُخَيَّرٌ
كَمَا ذَكَرْنَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ،
وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَمَالِكٍ، وَهُشَيْمٍ، وَحَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ،
وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَحَفْصِ بْنِ
غِيَاثٍ، كُلُّهُمْ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي
أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ أَخْبَرَهُ: أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ
بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَوْ إنْسَانٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ
غَيْرِهِ " اللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ، وَلَفْظُ سَائِرِهِمْ نَحْوُهُ لاَ
يُخَالِفُهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعْنَى.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَتَاعِهِ عِنْدَ
رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ سِوَاهُ مِنْ الْغُرَمَاءِ
". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا
هِشَامُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي ابْنُ
أَبِي حُسَيْنٍ أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَهُ، عَنْ حَدِيثِ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ
(8/175)
من غصب آخر مالا أو خانه فيه
أو أقرضه فمات ولم يشهد له به ولا بينة له ففرض عليه أن يأخذه ويجتهد في معرفة
ثمنه
...
1284 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ غَصَبَ آخَرَ مَالاً، أَوْ خَانَهُ فِيهِ، أَوْ
أَقْرَضَهُ فَمَاتَ وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُ بِهِ، وَلاَ بَيِّنَةَ لَهُ، أَوْلَهُ
بَيِّنَةٌ فَظَفَرَ لِلَّذِي حَقُّهُ قَبْلَهُ بِمَالٍ،
أَوْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ نَوْعِ مَالِهِ عِنْدَهُ، أَوْ مِنْ
غَيْرِ نَوْعِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ سَوَاءٌ وَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَهُ
وَيَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ ثَمَنِهِ، فَإِذَا عَرَفَ أَقْصَاهُ بَاعَ مِنْهُ
بِقَدْرِ حَقِّهِ، فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ ضَرَرٌ: فَإِنْ شَاءَ بَاعَهُ وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ حَلاَلاً. وَسَوَاءٌ كَانَ مَا ظَفَرَ لَهُ بِهِ
جَارِيَةً، أَوْ عَبْدًا، أَوْ عَقَارًا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنْ وَفَّى
بِمَالِهِ قَبْلَهُ فَذَاكَ وَإِنْ لَمْ يَفِ بَقِيَ حَقُّهُ فِيمَا لَمْ
يَنْتَصِفْ مِنْهُ، وَإِنْ فَضَلَ فَضْلٌ رَدَّهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ أَنْ
يُحَلِّلَهُ وَيُبْرِيَهُ فَهُوَ مَأْجُورٌ. وَسَوَاءٌ كَانَ قَدْ خَاصَمَهُ أَوْ
لَمْ يُخَاصِمْهُ، اسْتَحْلَفَهُ أَوْ لَمْ يَسْتَحْلِفْهُ فَإِنْ طُولِبَ
بِذَلِكَ وَخَافَ إنْ أَقَرَّ أَنْ يَغْرَمَ فَلْيُنْكِرْ وَلْيَحْلِفْ، وَهُوَ
مَأْجُورٌ فِي ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِهِمَا. وَكَذَلِكَ عِنْدَنَا كُلُّ مَنْ ظَفَرَ لِظَالِمٍ بِمَالٍ
فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَخْذُهُ وَإِنْصَافُ الْمَظْلُومِ مِنْهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وَقَوْله تَعَالَى {وَلَمَنْ انْتَصَرَ بَعْدَ
ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} .
وَقَوْله تَعَالَى {وَاَلَّذِينَ إذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ
عَلَى اللَّهِ} . وَقَوْله تَعَالَى {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . وَقَوْله تَعَالَى
{فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى
عَلَيْكُمْ}. وَقَوْله تَعَالَى {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا
ظُلِمُوا} . وَمِنْ طَرِيق أَبِي دَاوُد حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ
حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ هِنْدًا أُمَّ مُعَاوِيَةَ
جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أَبَا سُفْيَانَ
رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَإِنَّهُ لاَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَبَنِي، فَهَلْ عَلَيَّ
مِنْ جُنَاحٍ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا قَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ
وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ . وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم لِغُرَمَاءِ الَّذِي أُصِيبَ فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا: خُذُوا مَا
وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ وَهَذَا إطْلاَقٌ مِنْهُ صلى الله عليه
وسلم لِصَاحِبِ الْحَقِّ عَلَى مَا وَجَدَ لِلَّذِي لَهُ عَلَيْهِ الْحَقُّ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، -هُوَ ابْنُ سَعْدٍ- حَدَّثَنِي
(8/180)
يَزِيدُ - هُوَ ابْنُ أَبِي
حَبِيبٍ - عَنْ أَبِي الْخَيْرِ هُوَ مَرْثَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَزَنِيِّ،
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ [قَالَ]:"قلنا لِرَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم إنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلَ بِقَوْمٍ لاَ يَقْرُونَا، فَمَا
تَرَى فِيهِ فَقَالَ لَنَا عليه السلام: إنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأُمِرَ لَكُمْ
بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ
حَقَّ الضَّيْفِ " وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنِ
سِيرِينَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إنْ
أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْك شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: إنْ أَخَذَ
مِنْك شَيْئًا فَخُذْ مِنْهُ مِثْلَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ الْمُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ
عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ تَخُنْ مَنْ خَانَك
فَإِنْ أَخَذْت مِنْهُ مِثْلَ مَا أَخَذَ مِنْك فَلَيْسَ عَلَيْك بَأْسٌ. وَعَنْ
عَطَاءٍ حَيْثُ وَجَدْت مَتَاعَك فَخُذْهُ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ
تَعَالَى فَلِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَمَنْ ظَفَرَ
بِمِثْلِ مَا ظُلِمَ فِيهِ هُوَ، أَوْ مُسْلِمٌ، أَوْ ذِمِّيٌّ، فَلَمْ يُزِلْهُ،
عَنْ يَدِ الظَّالِمِ وَيَرُدَّ إلَى الْمَظْلُومِ حَقَّهُ فَهُوَ أَحَدُ
الظَّالِمِينَ، لَمْ يُعِنْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى بَلْ أَعَانَ عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، هَذَا أَمْرٌ يُعْلَمُ ضَرُورَةً. وَكَذَلِكَ أَمْرُ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا أَنْ
يُغَيِّرَهُ بِيَدِهِ إنْ اسْتَطَاعَ " فَمَنْ قَدَرَ عَلَى كَفِّ الظُّلْمِ
وَقَطْعِهِ وَإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ قَدَرَ
عَلَى إنْكَارِ الْمُنْكَرِ فَلَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
وَخَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَنْ يُحَلِّلَهُ مِنْ
حَقِّ نَفْسِهِ فَقَدْ أَحْسَنَ بِلاَ خِلاَفٍ، وَالدَّلاَئِلُ عَلَى هَذَا
تَكْثُرُ جِدًّا. وَخَالَفَنَا فِي هَذَا قَوْمٌ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ
يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ ظَفَرَ بِعَيْنِ مَالِهِ
فَلْيَأْخُذْهُ وَإِلَّا فَلاَ يَأْخُذْ غَيْرَهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ
وَجَدَ مِنْ نَوْعِ مَا أُخِذَ مِنْهُ فَلْيَأْخُذْ وَإِلَّا فَلاَ يَأْخُذْ
غَيْرَ نَوْعِهِ. وَاحْتَجَّتْ هَذِهِ الطَّوَائِفُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ قَالَ: كُنْت أَكْتُبُ لِفُلاَنٍ نَفَقَةَ أَيْتَامٍ
كَانَ وَلِيَّهُمْ فَغَالَطُوهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَدَّاهَا إلَيْهِمْ،
فَأَدْرَكَتْ لَهُمْ مِنْ مَالِهِمْ مِثْلُهَا، قُلْت: اقْبِضْ الأَلْفَ الَّذِي
ذَهَبُوا بِهَا مِنْك ; قَالَ: لاَ حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: أَدِّ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ
مَنْ خَانَكَ وَنَحْوُهُ: عَنْ طَلْقِ بْنِ غَنَّامٍ عَنْ شَرِيكٍ، وَقَيْسٍ هُوَ
ابْنُ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " أَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ
ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ
حُمَيْدٍ، عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ
الْحَسَنِ قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " كَانَ لِي حَقٌّ
عَلَى رَجُلٍ فَجَحَدَنِي فَدَانَ لَهُ عِنْدِي حَقٌّ أَفَأَجْحَدُهُ قَالَ: لاَ،
أَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ".
(8/181)
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَدُوسٍ يُقَالُ لَهُ: دَيْسَمٌ
قلنا لِبَشِيرِ بْنِ الْخَصَاصِيَةِ: لَنَا جِيرَانٌ مَا تَشِذُّ لَنَا قَاصِيَةٌ
إِلاَّ ذَهَبُوا بِهَا وَإِنَّهُ يَمْضِي لَنَا مِنْ أَمْوَالِهِ أَشْيَاءُ
فَنَذْهَبُ بِهَا قَالَ: لاَ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا وَكُلُّ هَذَا
لاَ شَيْءَ: أَمَّا حَدِيثُ فُلاَنٍ، عَنْ أَبِيهِ نَاهِيَك بِهَذَا السَّنَدِ،
لَيْتَ شِعْرِي مِنْ فُلاَنٍ وَنَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ دِينٍ
أُخِذَ عَنْ فُلاَنٍ الَّذِي لاَ يَدْرِي مَنْ هُوَ وَلاَ مَا اسْمُهُ وَلاَ مَنْ
أَبُوهُ وَلاَ اسْمُهُ. وَالآخَرُ طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ عَنْ شَرِيكٍ، وَقَيْسِ
بْنِ الرَّبِيعِ وَكُلُّهُمْ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثُ مُرْسَلٌ وَفِيهِ الْمُبَارَكُ
بْنُ فَضَالَةَ وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ. وَحَدِيثُ بَشِيرٍ عَنْ رَجُلٍ يُسَمَّى
دَيْسَمًا مَجْهُولٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَمَا كَانَ فِيهَا حُجَّةٌ ; لأََنَّ
نَصَّهَا لاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ وَأَدِّ الأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ
وَلَيْسَ انْتِصَافُ الْمَرْءِ مِنْ حَقِّهِ خِيَانَةً بَلْ هُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ
وَإِنْكَارُ مُنْكِرٍ وَإِنَّمَا الْخِيَانَةُ أَنَّ تَخُونَ بِالظُّلْمِ
وَالْبَاطِلِ مَنْ لاَ حَقَّ لَك عِنْدَهُ وَلاَ مِنْ افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ أَنْ يُخْرِجَ إلَيْك مِنْ حَقِّك أَوْ مِنْ مِثْلِهِ إنْ عَدَمَ حَقَّك،
وَلَيْسَ رَدُّ الْمَظْلَمَةِ أَدَاءَ أَمَانَةٍ، بَلْ هُوَ عَوْنٌ عَلَى
الْخِيَانَةِ. ثُمَّ لاَ حُجَّةَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ إِلاَّ لِمَنْ مَنَعَ
مِنْ الأَنْتِصَافِ جُمْلَةً، وَأَمَّا مَنْ قَسَّمَ فَأَبَاحَ أَخَذَ مَا وَجَدَ
مِنْ نَوْعِ مَالِهِ فَقَطْ فَمُخَالِفٌ لِهَذِهِ الآثَارِ وَلِغَيْرِهَا.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. تَمَّ "كِتَابُ التَّفْلِيسِ"
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(8/182)
كتاب الاجارات والاجراء
الإجارة جائزة في كل شيء له منفعة فيؤاجر لينتفع به ولا يستهلك عينه
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الإِجَارَاتِ وَالأُُجَرَاءِ
1285 - مَسْأَلَةٌ - الإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ مَنْفَعَةٌ
فَيُؤَاجِرُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ،
وَلاَ يَسْتَهْلِكَ عَيْنَهُ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ أَنَّهُمْ سَمِعُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقِلٍ
يَقُولُ: زَعَمَ ثَابِتٌ، هُوَ ابْنُ الضَّحَّاكِ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنِ الْمُزَارَعَةِ وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ
وَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا ".
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ صَحَّ سَمَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ مِنْ ثَابِتِ
بْنِ الضَّحَّاكِ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي الإِجَارَاتِ آثَارٌ، وَبِإِبَاحَتِهَا
يَقُولُ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلاَّ أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ عُلَيَّةَ قَالَ:
لاَ تَجُوزُ لأََنَّهَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ.
قال علي: هذا بَاطِلٌ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم ابْنَ أُرَْقِطٍ دَلِيلاً إلَى مَكَّةَ.
(8/182)
1286 - مَسْأَلَةٌ -
وَالإِجَارَةُ لَيْسَتْ بَيْعًا،
وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ مَا لاَ يَحِلُّ بَيْعُهُ كَالْحُرِّ، وَالْكَلْبِ،
وَالسِّنَّوْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَوْ كَانَتْ بَيْعًا لَمَا جَازَتْ إجَارَةُ
الْحُرِّ، وَالْقَائِلُونَ إنَّهَا بَيْعٌ يُجِيزُونَ إجَارَةَ الْحُرِّ
فَتَنَاقَضُوا. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الإِجَارَةَ إنَّمَا هِيَ
الأَنْتِفَاعُ بِمَنَافِعِ الشَّيْءِ الْمُؤَاجَرِ الَّذِي لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ،
وَلاَ يَحِلُّ بَيْعُ مَا لَمْ يُخْلَقْ بَعْدُ، فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ.
(8/183)
لا يجوز إجارة ما تلف عينه
أصلا
...
1287 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ إجَارَةُ مَا تُتْلَفُ عَيْنُهُ أَصْلاً،
مِثْلَ الشَّمْعِ لِلْوَقِيدِ، وَالطَّعَامِ لِلأَكْلِ، وَالْمَاءِ لِلسَّقْيِ
بِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لأََنَّ هَذَا بَيْعٌ لاَ إجَارَةٌ، وَالْبَيْعُ هُوَ
تَمَلُّكُ الْعَيْنِ، وَالإِجَارَةُ لاَ تُمْلَكُ بِهَا الْعَيْنُ.
(8/183)
من الإجارات مالا بد فيه من
ذكر العمل الذي يستأجر عليه فقط ولا يذكر فيه مدة
...
1288 - مَسْأَلَةٌ - وَمِنْ الإِجَارَاتِ مَا لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْعَمَلِ
الَّذِي يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ فَقَطْ،
وَلاَ يُذْكَرُ فِيهِ مُدَّةٌ كَالْخِيَاطَةِ وَالنَّسْجِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ
إلَى مَكَان مُسَمًّى، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمِنْهَا مَا لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ
ذِكْرِ الْمُدَّةِ كَسُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ،
وَمِنْهُ مَا لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ الأَمْرَيْنِ مَعًا كَالْخِدْمَةِ وَنَحْوِهَا
فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ، لأََنَّ الإِجَارَةَ بِخِلاَفِ
مَا ذَكَرْنَا مَجْهُولَةٌ وَإِذَا كَانَتْ مَجْهُولَةً فَهِيَ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ. وَالإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ جَائِزَةٌ،
لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِالْمُؤَاجَرَةِ.
(8/183)
1289 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ
اسْتَأْجَرَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا مِنْ سَيِّدِهِ لِلْخِدْمَةِ مُدَّةً مُسَمَّاةً
بِأُجْرَةٍ مُسَمَّاةٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ،
وليستعملهما فِيمَا يُحْسِنَانِهِ وَيُطِيقَانِهِ بِلاَ إضْرَارٍ بِهِمَا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ،
حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَقِيلٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رضي
الله عنها قَالَتْ: "اسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو
بَكْرٍ رَجُلاً مِنْ بَنِي الدِّيلِ هَادِيًا خِرِّيتًا وَهُوَ عَلَى دِينِ [كُفَّار]ِ
قُرَيْشٍ وَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ
ثَلاَثِ لَيَالٍ".
(8/183)
1290 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ اشْتِرَاطُ تَعْجِيلِ الأُُجْرَةِ، وَلاَ تَعْجِيلِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلاَ
اشْتِرَاطُ تَأْخِيرِهَا إلَى أَجَلٍ، وَلاَ تَأْخِيرِ شَيْءٍ مِنْهَا كَذَلِكَ.
وَلاَ يَجُوزُ أَيْضًا اشْتِرَاطُ تَأْخِيرِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَلاَ
تَأْخِيرِ الْعَمَلِ الْمُسْتَأْجَرِ لَهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ،
لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ. وَمِنْ
هَذَا اسْتِئْجَارُ دَارٍ مُكْتَرَاةٍ، أَوْ عَبْدٍ مُسْتَأْجَرٍ، أَوْ دَابَّةٍ
مُسْتَأْجَرَةٍ، أَوْ عَمَلٍ مُسْتَأْجَرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قَبْلَ تَمَامِ
الإِجَارَةِ الَّتِي هُوَ مَشْغُولٌ فِيهَا، لأََنَّ فِي الْعَقْدِ اشْتِرَاطَ
تَأْخِيرِ قَبْضَةِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، أَوْ الْعَمَلِ الْمُسْتَأْجَرِ
لَهُ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّاسِ إجَارَةَ مَا ذَكَرْنَا قَبْلَ انْقِضَاءِ
مُدَّتِهِ بِالْيَوْمَيْنِ، وَمَنَعَ مِنْهُ أَكْثَرُ وَهَذَا تَحَكُّمٌ فَاسِدٌ
وَدَعْوَى بَاطِلٍ بِلاَ بُرْهَانٍ،
(8/183)
موت الأجير أو موت المستأجر
أو عتق العبد المستأجر يبطل عقد الإجارة فيما بقي من المدة وينفذ العتق
...
1291 - مَسْأَلَةٌ - وَمَوْتُ الأَجِيرِ، أَوْ مَوْتُ الْمُسْتَأْجِرِ، أَوْ
هَلاَكُ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ، أَوْ عِتْقُ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ، أَوْ
بَيْعُ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ مِنْ الدَّارِ، أَوْ الْعَبْدِ، أَوْ
الدَّابَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، أَوْ خُرُوجُهُ، عَنْ مِلْكِ مُؤَاجِرِهِ
بِأَيِّ وَجْهٍ خَرَجَ كُلُّ ذَلِكَ يُبْطِلُ عَقْدَ الإِجَارَةِ فِيمَا بَقِيَ
مِنْ الْمُدَّةِ خَاصَّةً قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ، وَالْبَيْعُ،
وَالإِخْرَاجُ، عَنِ الْمِلْكِ بِالْهِبَةِ وَالإِصْدَاقِ، وَالصَّدَقَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا} . وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَإِذَا مَاتَ
الْمُؤَاجِرُ فَقَدْ صَارَ مِلْكُ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ لِوَرَثَتِهِ أَوْ
لِلْغُرَمَاءِ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَ الْمُسْتَأْجِرُ مَنَافِعَ ذَلِكَ
الشَّيْءِ، وَالْمَنَافِعُ إنَّمَا تَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَلاَ يَحِلُّ
لَهُ الأَنْتِفَاعُ بِمَنَافِعَ حَادِثَةٍ فِي مِلْكِ مَنْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ
مِنْهُ شَيْئًا قَطُّ، وَهَذَا هُوَ أَكْلُ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ جِهَارًا، وَلاَ
يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ فِي أَمْوَالِهِمْ عَقْدُ مَيِّتٍ قَدْ بَطَلَ مِلْكُهُ،
عَنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَلَوْ أَنَّهُ آجَرَ مَنَافِعَ حَادِثَةً فِي مِلْكِ
غَيْرِهِ لَكَانَ ذَلِكَ بَاطِلاً بِلاَ خِلاَفٍ وَهَذَا هُوَ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ.
وَأَمَّا مَوْتُ الْمُسْتَأْجِرِ: فَإِنَّمَا كَانَ عَقْدُ صَاحِبِ الشَّيْءِ
مَعَهُ لاَ مَعَ وَرَثَتِهِ فَلاَ حَقَّ لَهُ عِنْدَ الْوَرَثَةِ، وَلاَ عَقْدَ
لَهُ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرِثُ الْوَرَثَةُ مَنَافِعَ لَهُمْ تُخْلَقُ بَعْدُ، وَلاَ
مَلَكَهَا مُوَرِّثُهُمْ قَطُّ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ،
وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَصْحَابِهِمَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ
قَالَ: لَيْسَ لِمَيِّتٍ شَرْطٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، هُوَ ابْنُ
عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَكَمِ
بْنِ عُتَيْبَةَ فِيمَنْ آجَرَ دَارِهِ عَشْرَ سِنِينَ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ
قَالَ: تُنْتَقَضُ الإِجَارَةِ. وَقَالَ مَكْحُولٌ: قَالَ ابْنُ سِيرِينَ،
وَإِيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: لاَ تُنْتَقَضُ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ،
وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَصْحَابُهُمَا: لاَ تُنْتَقَضُ الإِجَارَةُ
بِمَوْتِهِمَا، وَلاَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا. وَأَقْصَى مَا احْتَجُّوا بِهِ أَنْ
قَالُوا: عَقْدُ الإِجَارَةِ قَدْ صَحَّ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُنْتَقَضَ إِلاَّ
بِبُرْهَانٍ. قلنا: صَدَقْتُمْ، وَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْبُرْهَانِ. وَقَالُوا:
فَكَيْفَ تَصْنَعُونَ فِي الأَحْبَاسِ قلنا:
(8/184)
رَقَبَةُ الشَّيْءِ
الْمُحْبَسِ لاَ مَالَك لَهَا إِلاَّ اللَّهُ، وَإِنَّمَا لِلْمُحْبَسِ عَلَيْهِمْ
الْمَنَافِعُ فَقَطْ، فَلاَ تُنْتَقَضُ الإِجَارَةُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمْ، وَلاَ
بِوِلاَدَةِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بَعْضَ الْمَنْفَعَةِ، لَكِنْ إنْ مَاتَ الْمُسْتَأْجِرُ
اُنْتُقِضَتْ الإِجَارَةُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ عَقْدَهُ قَدْ بَطَلَ
بِمَوْتِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ غَيْرُهُ، إذْ النَّصُّ مِنْ الْقُرْآنِ قَدْ أَبْطَلَ
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}
. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ سَاقَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ
الْيَهُودَ، وَمَلَّكَهَا لِلْمُسْلِمِينَ، بِلاَ شَكٍّ فَقَدْ مَاتَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ قَوْمٌ وَمِنْ الْيَهُودِ قَوْمٌ وَالْمُسَاقَاةُ بَاقِيَةٌ. قلنا:
إنَّ هَذَا الْخَبَرَ حَقٌّ، وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، بَلْ وَهُوَ حُجَّةٌ
لَنَا عَلَيْهِمْ لِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ:
أَوَّلُهَا أَنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ إلَى أَجَلٍ مَحْدُودٍ، بَلْ كَانَ
مُجْمَلاً يُخْرِجُونَهُمْ إذَا شَاءُوا، وَيُقِرُّونَهُمْ مَا شَاءُوا، كَمَا
نَذْكُرُهُ فِي "الْمُسَاقَاةِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَتْ
الإِجَارَةُ هَكَذَا.
وَالثَّانِي أَنَّهُ إنْ كَانَ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا تَجْدِيدُ عَقْدِهِ صلى
الله عليه وسلم أَوْ عَامِلِهِ النَّاظِرِ عَلَى تِلْكَ الأَمْوَالِ مَعَ وَرَثَةِ
مَنْ مَاتَ مِنْ الْيَهُودِ، وَوَرَثَةِ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ
يَأْتِ أَيْضًا، وَلاَ نُقِلَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِالْعَقْدِ الأَوَّلِ، عَنْ
تَجْدِيدِ آخَرَ، فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ، وَلاَ لَنَا، بَلْ لاَ شَكَّ فِي
صِحَّةِ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ فِي ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ، وَمِنْ
الْبَاطِلِ احْتِجَاجُ قَوْمٍ بِخَبَرٍ لاَ يَقُولُونَ بِهِ عَلَى مَنْ يَقُولُ
بِهِ، وَهَذَا مَعْكُوسٌ.
وَالرَّابِعُ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ إنَّمَا هُوَ فِي "الْمُسَاقَاةِ
وَالْمُزَارَعَةِ" وَكَلاَمُنَا هَهُنَا فِي الإِجَارَةِ وَهِيَ أَحْكَامٌ
مُخْتَلِفَةٌ، وَأَوَّلُ مَنْ يُخَالِفُ بَيْنَهُمَا، فَالْمَالِكِيُّونَ
وَالشَّافِعِيُّونَ الْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي هَذَا الْمَكَانِ، فَلاَ يُجِيزَانِ
الْمُزَارَعَةَ أَصْلاً، قِيَاسًا عَلَى الإِجَارَةِ، وَلاَ يَرَيَانِ لِلْمُسَاقَاةِ
حُكْمَ الإِجَارَةِ، فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ لاَ يَقِيسُوا الإِجَارَةَ
عَلَيْهِمَا وَهُمْ أَهْلُ الْقِيَاسِ ثُمَّ يُلْزَمُونَنَا أَنْ نَقِيسَهَا
عَلَيْهِمَا وَنَحْنُ نُبْطِلُ الْقِيَاسَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْبَيْعُ، وَالْهِبَةُ، وَالْعِتْقُ، وَالإِصْدَاقُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} وَيَقُولُ
{الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} . وَيَقُولُ {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} . وَحَضَّ عَلَى الْعِتْقِ، فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ
يَخُصَّ، فَكُلُّ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ، فَإِذَا نَفَذَ
كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ فَقَدْ خَرَجَ، عَنْ مِلْكِ مَالِكِهِ، فَإِذَا خَرَجَ، عَنْ
مِلْكِهِ فَقَدْ بَطَلَ عَقْدُهُ فِيهِ، إذْ لاَ حُكْمَ لَهُ فِي مَالِ غَيْرِهِ.
وَلاَ يَحِلُّ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَنَافِعُ حَادِثَةٌ فِي مِلْكِ غَيْرِ
مُؤَاجِرِهِ، وَخِدْمَةُ حُرٍّ لَمْ يُعَاقِدْهُ قَطُّ، لأََنَّهَا حَرَامٌ
عَلَيْهِ، لأََنَّهَا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ مَالِكِهَا، وَبِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ
الْحُرِّ، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ
تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وَهَذَا عَقْدٌ لاَزِمٌ حَقٌّ. قلنا: نَعَمْ،
هُوَ مَأْمُورٌ بِالْوَفَاءِ بِالْعَقْدِ فِي مَالِهِ لاَ فِي مَالِ غَيْرِهِ،
بَلْ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ. فَإِنْ قَالُوا:
إخْرَاجُهُ لِلشَّيْءِ الَّذِي آجَرَ مِنْ مِلْكِهِ إبْطَالٌ لِلْوَفَاءِ
بِالْعَقْدِ الَّذِي هُوَ مَأْمُورٌ بِالْوَفَاءِ بِهِ. قلنا: وَقَوْلُكُمْ لاَ
يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ لاَ ثَالِثَ لَهُمَا أَصْلاً إمَّا أَنْ
تَمْنَعُوهُ مِنْ إخْرَاجِهِ عَنْ
(8/185)
مِلْكِهِ بِالْوُجُوهِ
الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ إخْرَاجَهُ بِهَا عَنْ مِلْكِهِ بِسَبَبِ
عَقْدِ الإِجَارَةِ. وَأَمَّا أَنْ تُبِيحُوا لَهُ إخْرَاجَهُ، عَنْ مِلْكِهِ
بِالْوُجُوهِ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ إخْرَاجَهُ بِهَا، عَنْ
مِلْكِهِ لاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَإِنْ مَنَعْتُمُوهُ إخْرَاجَهُ، عَنْ
مِلْكِهِ بِالْوُجُوهِ الَّتِي أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ إخْرَاجَهُ بِهَا،
عَنْ مِلْكِهِ كُنْتُمْ قَدْ خَالَفْتُمْ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَرَّمْتُمْ
مَا أَحَلَّ، وَهَذَا بَاطِلٌ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ،
عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ
وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ
". فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ شَرْطَهُمَا فِي عَقْدِ الإِجَارَةِ لاَ يَمْنَعُ
مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ إبَاحَةِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ
وَالصَّدَقَةِ وَالإِصْدَاقِ، وَأَنَّ شَرْطَ اللَّهِ تَعَالَى فِي إبَاحَةِ كُلِّ
ذَلِكَ أَحَقُّ مِنْ شَرْطِهِمَا فِي عَقْدِ الإِجَارَةِ وَأَوْثَقُ،
وَمُتَقَدِّمٌ لَهُ، فَإِنَّمَا يَكُونُ عَقْدُهُمَا الإِجَارَةَ عَلَى جَوَازِ
مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، لاَ عَلَى الْمَنْعِ مِنْهُ وَمُخَالَفَتِهِ.
وَإِنْ قُلْتُمْ: بَلْ نُجِيزُ لَهُ كُلَّ ذَلِكَ وَيَبْقَى عَقْدُ الإِجَارَةِ
مَعَ كُلِّ ذَلِكَ. قلنا: خَالَفْتُمْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} فَأَوْجَبْتُمْ أَنْ تَكْسِبَ عَلَى غَيْرِهِ،
وَأَنْ يَنْفُذَ عَقْدُهُ فِي مَالِ غَيْرِهِ. وَخَالَفْتُمْ قَوْلَ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ " فَأَبَحْتُمْ لِلْمُسْتَأْجَرِ مَالَ غَيْرِهِ، وَأَبَحْتُمْ لَهُ
مَالَ مَنْ لَمْ يَعْقِدْ مَعَهُ قَطُّ فِيهِ عَقْدًا، وَمَنَعْتُمْ صَاحِبَ الْحَقِّ
مِنْ حَقِّهِ وَهَذَا حَرَامٌ، وَأَوْجَبْتُمْ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ إجَارَةً
عَلَى مَنَافِعَ حَادِثَةٍ فِي مَالٍ غَيْرِهِ، وَعَنْ خِدْمَةِ حُرٍّ لاَ مِلْكَ
لَهُ عَلَيْهِ ; وَهَذَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَأَكْلُ إجَارَةِ مَالٍ
حَرَامٍ عَلَيْهِ عَيْنُهُ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ وَهَذَا كُلُّهُ ظُلْمٌ وَبَاطِلٌ
بِلاَ شَكٍّ وَقَوْلُنَا هَذَا هُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ
الْبَصْرِيِّ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَغَيْرِهِمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ
الثَّقَفِيُّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِيمَنْ
دَفَعَ غُلاَمَهُ إلَى رَجُلٍ يُعَلِّمُهُ ثُمَّ أَخْرَجَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ
شَرْطِهِ، قَالَ: يَرُدُّ عَلَى مُعَلِّمِهِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِيمَنْ أَجَّرَ غُلاَمَهُ سَنَةً فَأَرَادَ أَنْ
يُخْرِجَهُ، قَالَ: لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ. قَالَ حَمَّادٌ: لَيْسَ لَهُ إخْرَاجُهُ
إِلاَّ مِنْ مَضَرَّةٍ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: الْبَيْعُ يَقْطَعُ الإِجَارَةَ. قَالَ أَيُّوبُ
لاَ يَقْطَعُهَا، قَالَ مَعْمَرٌ: وَسَأَلْت ابْنَ شُبْرُمَةَ، عَنِ الْبَيْعِ
أَيَقْطَعُ الإِجَارَةَ قَالَ نَعَمْ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَقَالَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ: الْمَوْتُ وَالْبَيْعُ يَقْطَعَانِ الإِجَارَةَ.
قال أبو محمد: وقال مالك وَأَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ: إنْ عَلِمَ
الْمُشْتَرِي بِالإِجَارَةِ فَالْبَيْع صَحِيحٌ وَلاَ يَأْخُذُ الشَّيْءَ الَّذِي
اشْتَرَى إِلاَّ بَعْدَ تَمَامِ مُدَّةِ الإِجَارَةِ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ
(8/186)
نَافِذٌ وَالْهِبَةُ، وَعَلَى
الْمُعْتِقِ إبْقَاءُ الْخِدْمَةِ، وَتَكُونُ الأُُجْرَةُ فِي كُلِّ ذَلِكَ
لِلْبَائِعِ، وَالْمُعْتِقِ وَالْوَاهِبِ قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ
بِالْبَيْعِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إنْفَاذِ الْبَيْعِ وَتَكُونُ الإِجَارَةُ
لِلْبَائِعِ أَوْ رَدُّهُ، لأََنَّهُ لاَ يَمْتَنِعُ مِنْ الأَنْتِفَاعِ بِمَا
اشْتَرَى وَهَذَا فَاسِدٌ بِمَا أَوْرَدْنَا آنِفًا. وقال أبو حنيفة قَوْلَيْنِ
أَحَدُهُمَا: أَنَّ لِلْمُسْتَأْجَرِ نَقْضَ الْبَيْعِ. وَالآخَرُ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ
بَيْنَ الرِّضَا بِالْبَيْعِ وَبَيْنَ أَنْ لاَ يَرْضَى بِهِ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ
بَطَلَتْ إجَارَتُهُ. وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِهِ كَانَ الْمُشْتَرِي مُخَيَّرًا
بَيْنَ إمْضَاءِ الْبَيْعِ وَالصَّبْرِ حَتَّى تَنْقَضِيَ مُدَّةُ الإِجَارَةِ،
وَبَيْنَ فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ الْقَبْضِ.
قال أبو محمد: هَذَانِ قَوْلاَنِ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَالتَّخْلِيطِ، لاَ
يَعْضُدُهُمَا قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ
أَحَدٍ نَعْلَمُهُ قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ سَدِيدٌ.
وَلَيْتَ شِعْرِي إذَا جَعَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْخِيَارَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ،
أَتَرَوْنَهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ الْخِيَارَ أَيْضًا فِي رَدِّ الْمُعْتَقِ أَوْ
إمْضَائِهِ إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ أَوَ يَتَنَاقَضُونَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ يَحِلُّ
فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ خُرُوجِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجِرِ، عَنْ مِلْكِ
الْمُؤَاجِرِ بِبَيْعٍ، أَوْ عِتْقٍ، أَوْ هِبَةٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ إصْدَاقٍ
أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُعْتَقِ، وَعَلَى مَنْ صَارَ إلَيْهِ الْمِلْكُ:
بَقَاءَ الإِجَارَةِ، لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَهُوَ بَاطِلٌ.
(8/187)
تنفسخ الإجارة إذا اضطر
المستأجر إلى الرحيل عن البلد أو اضطر المؤاجر إلى ذلك
...
1292 - مَسْأَلَةٌ - وَكَذَلِكَ إنْ اضْطَرَّ الْمُسْتَأْجِرُ إلَى الرَّحِيلِ،
عَنِ الْبَلَدِ، أَوْ اضْطَرَّ الْمُؤَاجِرُ إلَى ذَلِكَ،
فَإِنَّ الإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ إذَا كَانَ فِي بَقَائِهَا ضَرَرٌ عَلَى
أَحَدِهِمَا، كَمَرَضٍ مَانِعٍ أَوْ خَوْفٍ مَانِعٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا
اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي
الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: سُئِلَ
الشَّعْبِيُّ، عَنْ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَان فَقَضَى حَاجَتَهُ
دُونَ ذَلِكَ الْمَكَانِ. قَالَ: لَهُ مِنْ الأُُجْرَةِ بِقَدْرِ الْمَكَانِ
الَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
قَتَادَةَ فِيمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً إلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ فَأَبَى أَنْ يَخْرُجَ.
قَالَ قَتَادَةَ: إذَا حَدَثَ نَازِلَةٌ يُعْذَرُ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ
الْكِرَاءُ.
(8/187)
وكذلك تنفسخ الاجارة بهلاك
الشيء المستأجر
...
1293 - مَسْأَلَةٌ - وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَ الشَّيْءُ الْمُسْتَأْجَرُ فَإِنَّ
الإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ
وَوَافَقَنَا عَلَى هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ
أَبُو ثَوْرٍ: لاَ تَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ بِهَذَا أَيْضًا، بَلْ هِيَ بَاقِيَةٌ
إلَى أَجَلِهَا، الأُُجْرَةُ كُلُّهَا وَاجِبَةٌ لِلْمُؤَاجِرِ عَلَى
الْمُسْتَأْجِرِ.
(8/187)
1294 - مَسْأَلَةٌ -
وَجَائِزٌ اسْتِئْجَارُ الْعَبِيدِ وَالدُّورِ وَالدَّوَابِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ،
إلَى مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ أَوْ طَوِيلَةٍ،
إذَا كَانَتْ مِمَّا يُمْكِنُ بَقَاءُ الْمُؤَاجَرَةِ وَالْمُسْتَأْجِرِ
وَالشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ إلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ لاَ يُمْكِنُ أَلْبَتَّةَ
بَقَاءُ أَحَدِهِمْ إلَيْهَا، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ الْعَقْدُ، وَكَانَ مَفْسُوخًا
أَبَدًا.بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ بَيَانَ الْمُدَّةِ وَاجِبٌ فِيمَا اُسْتُؤْجِرَ
لاَ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ، فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مُدَّةٍ مَا
وَبَيْنَ مَا أَقَلَّ مِنْهَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا; وَالْمُفَرِّقُ بَيْنَ
ذَلِكَ مُخْطِئٌ بِلاَ شَكٍّ، لأََنَّهُ فَرَّقَ بِلاَ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ،
وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ أَصْلاً، وَلاَ قَوْلِ تَابِعٍ
نَعْلَمُهُ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ يُعْقَلُ، وَالْمَخَاوِفُ
لاَ تُؤْمَنُ فِي قَصِيرِ الْمُدَدِ كَمَا لاَ تُؤْمَنُ فِي طَوِيلِهَا. وَأَمَّا
إنْ عُقِدَتْ الإِجَارَةُ إلَى مُدَّةٍ يُوقِنُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ أَنْ
يُخْتَرَمَ أَحَدُهُمَا دُونَهَا، أَوْ لاَ بُدَّ مِنْ ذَهَابِ الشَّيْءِ
الْمُؤَاجَرِ دُونَهَا، فَهُوَ شَرْطٌ مُتَيَقَّنُ الْفَسَادِ بِلاَ شَكٍّ،
لأََنَّهُ إمَّا عَقْدٌ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا، وَهَذَا لاَ يَجُوزُ
وَأَمَّا عَقْدٌ فِي مَعْدُومٍ، وَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ يَرَى الإِجَارَةَ لاَ تُنْتَقَضُ بِمَوْتِ
أَحَدِهِمَا مِنْ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ، أَوْ لاَ تُنْتَقَضُ
بِهَلاَكِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ مِمَّنْ ذَهَبَ مَذْهَبَ أَبِي ثَوْرٍ، أَنْ
يُجِيزَ عَقْدَ الإِجَارَةِ فِي الأَرْضِ وَغَيْرِهَا إلَى أَلْفِ عَامٍ، وَإِلَى
عَشَرَةِ آلاَفِ عَامٍ، وَأَكْثَرَ، وَلَكِنْ هَذَا مِمَّا تَنَاقَضُوا فِيهِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ. وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِالإِجَارَةِ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى، كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ
(8/188)
بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ[رضي الله عنه] قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَمِثْلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةٍ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ إلَى صَلاَةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ فَأَنْتُمْ هُمْ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
(8/189)
يجوز استئجار المرأة ذات
اللبن لارضاع الصغير مدة مسماة
...
1295 - مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ اسْتِئْجَارُ الْمَرْأَةِ ذَاتِ اللَّبَنِ
لأَِرْضَاعِ الصَّغِيرِ مُدَّةً مُسَمَّاةً.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ} .
(8/189)
لا يجوز استئجار شاة أو بقرة
أو غير ذلك للحلب أصلا
...
1296 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ نَاقَةٍ
أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ لاَ وَاحِدَةٍ، وَلاَ أَكْثَرَ لِلْحَلْبِ أَصْلاً;
لأََنَّ الإِجَارَةَ إنَّمَا هِيَ فِي الْمَنَافِعِ خَاصَّةً، لاَ فِي تَمَلُّكِ
الأَعْيَانِ، وَهَذَا تَمَلُّكُ اللَّبَنِ، وَهُوَ عَيْنٌ قَائِمَةٌ، فَهُوَ
بَيْعٌ لاَ إجَارَةٌ، وَبَيْعُ مَا لَمْ يُرَ قَطُّ، وَلاَ تُعْرَفُ صِفَتُهُ
بَاطِلٌ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ. وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ
إجَارَةَ الشَّاةِ، وَلاَ الشَّاتَيْنِ لِلْحَلْبِ، وَأَجَازَ إجَارَةَ الْقَطِيعِ
مِنْ ذَوَاتِ اللَّبَنِ لِلْحَلْبِ وَأَجَازَ اسْتِئْجَارَ الْبَقَرَةِ
لِلْحَرْثِ، وَاشْتِرَاطَ لَبَنِهَا وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ وَتَنَاقُضٌ ;
لأََنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلاَ بُرْهَانٍ أَصْلاً. ثُمَّ
لَمْ يَأْتِ بِحَدٍّ بَيْنَ مَا حُرِّمَ وَمَا حُلِّلَ، فَمَزَجَ الْحَرَامَ
بِالْحَلاَلِ بِغَيْرِ بَيَانٍ، وَهَذَا كَمَا تَرَى
وَفَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ حَلَّلَ وَحَرَّمَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِمَّا يَحِلُّ لَهُمْ إنْ كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ، فَإِنْ
لَمْ يَعْرِفْهُ فَالسُّكُوتُ هُوَ الْوَاجِبُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ غَيْرُهُ.
ثُمَّ أَجَازَ ذَلِكَ فِي الرَّأْسِ الْوَاحِدِ مِنْ الْبَقَرِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ
فَاحِشٌ. وَكَذَلِكَ أَجَازَ كِرَاءً تَكُونُ فِيهَا الشَّجَرَةُ أَوْ النَّخْلَةُ
وَاسْتِثْنَاءَ ثَمَرَتِهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا حِينَ الإِجَارَةِ ثَمَرَةٌ
إذَا كَانَتْ الثَّمَرَةُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الْكِرَاءِ وَإِلَّا فَلاَ يَجُوزُ،
وَلاَ يُعْرَفُ هَذَا التَّقْسِيمُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ دَلِيلَ عَلَى
صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَئِنْ كَانَ الْكَثِيرُ مِمَّا ذَكَرْنَا حَلاَلاً
فَالْقَلِيلُ مِنْ الْحَلاَلِ حَلاَلٌ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا فَالْقَلِيلُ مِنْ
الْحَرَامِ حَرَامٌ. وَهَذَا بِعَيْنِهِ أَنْكَرُوا عَلَى الْحَنِيفِيِّينَ إذَا
أَبَاحُوا الْقَلِيلَ مِمَّا يُسْكِرُ كَثِيرُهُ وَقَدْ وَافَقُونَا عَلَى أَنَّهُ
لاَ يَحِلُّ كِرَاءُ الطَّعَامِ لِيُؤْكَلَ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ
وَبَيْنَ مَا أَبَاحُوهُ مِنْ كِرَاءِ الدَّارِ بِالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ
تُخْلَقْ فِيهَا لِتُؤْكَلَ، وَبَيْنَ كِرَاءِ الْغَنَمِ لِتَحْلُبَ. فَإِنْ
قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ. قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ
بَاطِلٌ، ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَهُنَا بَاطِلاً لأََنَّ أَصَحَّ
الْقِيَاسِ هَهُنَا: أَنْ يُقَاسَ اسْتِئْجَارُ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ لِلْحَلْبِ
عَلَى اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ الْوَاحِدَةِ
(8/189)
لا يجوز إجارة الأرض أصلا لا
للحرث فيها ولا للغرس
...
1297 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ إجَارَةُ الأَرْضِ أَصْلاً، لاَ لِلْحَرْثِ
فِيهَا، وَلاَ لَلْغَرْسِ فِيهَا،
وَلاَ لِلْبِنَاءِ فِيهَا، وَلاَ لِشَيْءٍ مِنْ الأَشْيَاءِ أَصْلاً، لاَ
لِمُدَّةٍ مُسَمَّاةٍ قَصِيرَةٍ، وَلاَ طَوِيلَةٍ، وَلاَ لِغَيْرٍ مُدَّةٍ
مُسَمَّاةٍ، لاَ بِدَنَانِيرَ وَلاَ بِدَرَاهِمَ، وَلاَ بِشَيْءٍ أَصْلاً فَمَتَى
وَقَعَ فَسْخٌ أَبَدًا. وَلاَ يَجُوزُ فِي الأَرْضِ إِلاَّ الْمُزَارَعَةُ
بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، أَوْ الْمُغَارَسَةُ كَذَلِكَ فَقَطْ،
فَإِنْ كَانَ فِيهَا بِنَاءٌ قَلَّ أَوْ كَثُرَ جَازَ اسْتِئْجَارُ ذَلِكَ
الْبِنَاءِ وَتَكُونُ الأَرْضُ تَبَعًا لِذَلِكَ الْبِنَاءِ غَيْرِ دَاخِلَةٍ فِي
الإِجَارَةِ أَصْلاً.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ
جَدِّي ثَنِيّ عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي
سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَقِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ فَسَأَلَهُ. فَقَالَ لَهُ رَافِعٌ: سَمِعْت عَمِّي
وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا يُحَدِّثَانِ [أَهْلَ الدَّارِ]: أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ
وَفِيهِ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ".
قال أبو محمد: أَهْلُ بَدْرٍ كُلُّهُمْ عُدُولٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ يَحْيَى
بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ
جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ أَوْ مَلَكٌ إلَى رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " مَا تَعُدُّونَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا
فِيكُمْ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: خِيَارُنَا قَالَ: كَذَلِكَ
هُمْ عِنْدَنَا ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ الْمَنْعَ مِنْ كِرَاءِ الأَرْضِ
جُمْلَةً جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَابْنُ عُمَرَ،
وطَاوُوس، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَعِنْدَ ذِكْرِنَا "لِلْمُزَارَعَةِ" إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى نَتَقَصَّى مَا شَغَبَ بِهِ مَنْ أَبَاحَ كِرَاءَ الأَرْضِ وَنَقَضَ
كُلَّ ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ.
(8/190)
لا يجوز استئجار دار ولا عبد
ولا دابة ولا شيء أصلا ليوم غير معين ولا شهر كذلك
...
1298 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ دَارٍ، وَلاَ عَبْدٍ، وَلاَ
دَابَّةٍ، وَلاَ شَيْءٍ أَصْلاً لِيَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ،
وَلاَ لِشَهْرٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَغَلاَ لِعَامٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ; لأََنَّ
الْكِرَاءَ لَمْ يَصِحَّ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَعْرِفْ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ
حَقَّهُ فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ وَعَقْدٌ فَاسِدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/190)
1299 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ
مَا عَمِلَ الأَجِيرُ شَيْئًا مِمَّا اُسْتُؤْجِرَ لِعَمَلِهِ اسْتَحَقَّ مِنْ
الأُُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ
فَلَهُ طَلَبُ ذَلِكَ وَأَخْذُهُ وَلَهُ تَأْخِيرُهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ حَتَّى يُتِمَّ
عَمَلَهُ أَوْ يُتِمَّ
(8/190)
1300 - مَسْأَلَةٌ -
وَجَائِزٌ الأَسْتِئْجَارُ بِكُلِّ مَا يَحِلُّ مِلْكُهُ وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ
بَيْعُهُ
كَالْكَلْبِ، وَالْهِرِّ، وَالْمَاءِ، وَالثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ يَبْدُ
صَلاَحُهَا، وَالسُّنْبُلِ الَّذِي لَمْ يَيْبَسْ فَيَسْتَأْجِرُ الدَّارَ
بِكَلْبٍ مُعَيَّنٍ أَوْ كَلْبٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، وَبِثَمَرَةٍ قَدْ
ظَهَرَتْ وَلَمْ يَبْدُ صَلاَحُهَا، وَبِمَاءٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ أَوْ
مُعَيَّنٍ مُحَرَّزٍ، أَوْ بِهِرٍّ كَذَلِكَ; لأََنَّ الإِجَارَةَ لَيْسَتْ بَيْعًا،
وَإِنَّمَا نُهِيَ فِي هَذِهِ الأَشْيَاءِ، عَنِ الْبَيْعِ وَقِيَاسُ الإِجَارَةِ
عَلَى الْبَيْعِ بَاطِلٌ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا، فَكَيْفَ وَهُوَ كُلُّهُ
بَاطِلٌ لأََنَّهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى إجَارَةِ الْحُرِّ نَفْسَهُ،
وَتَحْرِيمِهِمْ لِبَيْعِهِ، وَلأََنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ لِلأَعْيَانِ
بِالنَّقْلِ لَهَا، عَنْ مِلْكٍ آخَرَ، وَالإِجَارَةُ تَمْلِيكُ مَنَافِعَ لَمْ
تَحْدُثْ بَعْدُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ
(8/191)
الاجارة الفاسدة إن أدركت
فسخت كلها أو ما أدرك منها
...
1301 - مَسْأَلَةٌ - وَالإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ إنْ أُدْرِكَتْ فُسِخَتْ، أَوْ
مَا أُدْرِكَ مِنْهَا،
فَإِنْ فَاتَتْ أَوْ فَاتَ شَيْءٌ مِنْهَا قُضِيَ فِيهَا أَوْ فِيمَا فَاتَ
بِأَجْرِ الْمِثْلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فَمَنْ
اسْتَغَلَّ مَالَ غَيْرٍ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهِيَ حُرْمَةٌ انْتَهَكَهَا فَعَلَيْهِ
أَنْ يُقَاصَّ بِمِثْلِهِ مِنْ مَالِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/191)
لا تجوز الاجارة على الصلاة
والأذان
...
1302 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى الصَّلاَةِ، وَلاَ عَلَى
الأَذَانِ،
لَكِنْ إمَّا أَنْ يُعْطِيَهُمَا الإِمَامُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى
وَجْهِ الصِّلَةِ، وَأَمَّا أَنْ يَسْتَأْجِرَهُمَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ عَلَى
الْحُضُورِ مَعَهُمْ عِنْد حُلُولِ أَوْقَاتِ الصَّلاَةِ فَقَطْ مُدَّةً
مُسَمَّاةً، فَإِذَا حَضَرَ تَعَيَّنَ الأَذَانُ وَالإِقَامَةُ عَلَى مَنْ يَقُومُ
بِهِمَا. وَكَذَلِكَ لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى كُلِّ وَاجِبٍ تَعَيَّنَ عَلَى
الْمَرْءِ مِنْ صَوْمٍ، أَوْ صَلاَةٍ، أَوْ حَجٍّ، أَوْ فَتِيًّا، أَوْ غَيْرِ
ذَلِكَ، وَلاَ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَصْلاً; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ; لأََنَّ الطَّاعَةَ الْمُفْتَرَضَةَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِهَا،
وَالْمَعْصِيَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ اجْتِنَابُهَا فَأَخْذُ الأُُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ
لاَ وَجْهَ لَهُ، فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَكَذَلِكَ تَطَوُّعُ
الْمَرْءِ عَنْ نَفْسِهِ لاَ يَجُوزُ أَيْضًا اشْتِرَاطُ أَخْذِ مَالٍ عَلَيْهِ ;
لأََنَّهُ يَكُونُ حِينَئِذٍ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ،
عَنْ أَشْعَثَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحُمْرَانِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ،
عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ إلَيَّ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ لاَ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا يَأْخُذُ عَلَى
أَذَانِهِ أَجْرًا.
(8/191)
1303 - مَسْأَلَةٌ -
وَجَائِزٌ لِلْمَرْءِ أَنْ يَأْخُذَ الأُُجْرَةَ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ عَنْ
غَيْرِهِ
مِثْلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ التَّطَوُّعَ، أَوْ يُصَلِّي عَنْهُ التَّطَوُّعَ أَوْ
يُؤَذِّنَ عَنْهُ التَّطَوُّعَ أَوْ يَصُومَ عَنْهُ التَّطَوُّعَ لأََنَّ كُلَّ
ذَلِكَ لَيْسَ وَاجِبًا عَلَى أَحَدِهِمَا وَلاَ عَلَيْهِمَا فَالْعَامِلُ
يَعْمَلُهُ عَنْ غَيْرِهِ لاَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَمْ يُطِعْ وَلاَ عَصَى وَأَمَّا
الْمُسْتَأْجِرُ فَأَنْفَقَ مَالَهُ فِي ذَلِكَ تَطَوُّعًا لِلَّهِ تَعَالَى،
فَلَهُ أَجْرُ مَا اكْتَسَبَ بِمَالِهِ.
(8/192)
1304 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
تَجُوزُ الإِجَارَةُ فِي أَدَاءِ فَرْضٍ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ، عَنْ عَاجِزٍ، أَوْ
مَيِّتٍ.
لِمَا ذَكَرْنَا فِي " كِتَابِ الْحَجِّ " " وَكِتَابِ الصِّيَامِ
" مِنْ النُّصُوصِ فِي ذَلِكَ وَجَوَازِ أَنْ يَعْمَلَهُ الْمَرْءُ، عَنْ
غَيْرِهِ فَالأَسْتِئْجَارُ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ
نَهْيٌ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
بِالْمُؤَاجَرَةِ. وَأَمَّا الصَّلاَةُ الْمَنْسِيَّةُ، وَالْمَنُومُ عَنْهَا;
وَالْمَنْذُورَةُ فَهِيَ لاَزِمَةٌ لِلْمَرْءِ إلَى حِينِ مَوْتِهِ فَهَذِهِ
تُؤَدَّى، عَنِ الْمَيِّتِ، فَالإِجَارَةُ فِي أَدَائِهَا عَنْهُ جَائِزَةٌ ;
وَأَمَّا الْمُتَعَمِّدُ تَرْكَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا، إذْ
لَيْسَ قَادِرًا عَلَيْهَا، إذْ قَدْ فَاتَتْ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُؤَدَّى عَنْهُ
مَا لَيْسَ هُوَ مَأْمُورًا بِأَدَائِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/192)
لا تجوز الاجارة على النوح
ولا على الكهانة
...
1305- مَسْأَلَةٌ – ولاتجوز الاجارة على النوح ولاعلى الكهانة
لانهما معصيتان منهى عنهما لايحل فعلهما ولا العون عليهما فالاجارة على ذلك. أو العطاء
عليه معصية. وتعاون على الاثم والعدوان.
(8/192)
1306 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى الْحِجَامَةِ وَلَكِنْ يُعْطَى عَلَى سَبِيلِ طِيبِ
النَّفْسِ وَلَهُ طَلَبُ ذَلِكَ،
فَإِنْ رَضِيَ وَإِلَّا قُدِّرَ عَمَلُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ
وَأُعْطِي مَا يُسَاوِي. وَكَذَلِكَ لاَ تَحِلُّ الإِجَارَةُ عَلَى إنْزَاءِ
الْفَحْلِ أَصْلاً، لاَ نَزْوَةً، وَلاَ نَزَوَاتٍ مَعْلُومَةً، فَإِنْ كَانَ
الْعَقْدُ إلَى أَنْ تَحْمِلَ الأُُنْثَى كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْحَرَامِ
وَالْبَاطِلِ وَأَكْلِ السُّحْتِ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: سَمِعْت
أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ
كَسْبِ الْحَجَّامِ وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَعَسْبِ الْفَحْلِ ".
وَرُوِّينَا النَّهْيَ، عَنْ عَسْبِ الْفَحْلِ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ مِنْ طُرُقٍ
كَثِيرَةٍ ثَابِتَةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وقال أبو حنيفة
وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى
ضِرَابِ الْفَحْلِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ شَوْذَبٍ أَبِي مُعَاذٍ قَالَ: قَالَ لِي
الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: لاَ يَحِلُّ عَسْبُ الْفَحْلِ. وَمِنْ طَرِيقِ
الأَعْمَشِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
" أَرْبَعٌ مِنْ السُّحْتِ، ضِرَابُ الْفَحْلِ، وَثَمَنُ الْكَلْبِ، وَمَهْرُ
الْبَغْيِ، وَكَسْبُ الْحَجَّامِ ". وَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ تُعْطِهِ عَلَى
طِرَاقِ الْفَحْلِ أَجْرًا
(8/192)
1307 - مَسْأَلَةٌ:
وَالإِجَارَةُ جَائِزَةٌ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَعَلَى تَعْلِيمِ الْعِلْمِ
مُشَاهَرَةً وَجُمْلَةً،
وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَعَلَى الرَّقْيِ، وَعَلَى نَسْخِ الْمَصَاحِفِ، وَنَسْخِ
كُتُبِ الْعِلْمِ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي النَّهْيِ، عَنْ ذَلِكَ نَصٌّ، بَلْ
قَدْ جَاءَتْ الإِبَاحَةُ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ،
حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ سِيدَانُ بْنُ مُضَارِبٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا
أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَاءُ [هُوَ صَدُوقٌ] يُوسُفُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنِي
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ أَبُو مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ
(8/193)
صلى الله عليه وسلم مَرُّوا بِمَاءٍ فِيهِمْ لَدِيغٌ أَوْ سَلِيمٌ فَعَرَضَ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ فَقَالَ: هَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ إنَّ فِي [الْمَاءِ رَجُلاً لَدِيغًا أَوْ سَلِيمًا] فَانْطَلَقَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ عَلَى شَاءٍ فَبَرَأَ فَجَاءَ بِالشَّاءِ إلَى أَصْحَابِهِ فَكَرِهُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: أَخَذْتَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا [حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ] فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ . وَالْخَبَرُ الْمَشْهُورُ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ رَجُلٍ بِمَا مَعَهُ مِنْ الْقُرْآنِ " أَيْ لِيُعَلِّمَهَا إيَّاهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال أبو حنيفة، وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: لاَ تَجُوزُ الأُُجْرَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ، وَاحْتَجَّ لَهُ مُقَلِّدُوهُ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوْحٍ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، هُوَ ابْنُ وَرْقَاءَ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَلاَءِ الشَّامِيُّ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ قَالَ: كَانَ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ نَاسٌ يُقْرِئُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَأَعْطَاهُ أَحَدُهُمْ قَوْسًا يَتَسَلَّحُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" أَتُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَ بِهَا فِي عُنُقِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا ". وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، وَحُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ [الرُّؤَاسِيِّ]، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ زِيَادٍ الْمَوْصِلِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ قَاضِي الأُُرْدُنِّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قِصَّةُ الْقَوْسِ وَأَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ زَيْتُونٍ، عَنِ الطُّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ عَرَضَ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقَوْسِ مَعَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَفِيهِ زِيَادَةٌ: أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِمْ. قَالَ: " أَمَّا طَعَامٌ صُنِعَ لِغَيْرِكَ فَحَضَرْتَهُ فَلاَ بَأْسَ أَنْ تَأْكُلَهُ وَأَمَّا مَا صُنِعَ لَكَ فَإِنْ أَكَلْتَهُ فَإِنَّمَا تَأْكُلُهُ بِخِلاَفِكَ ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَيْسَرٍ أَبُو سَعْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ غَدَّاهُ رَجُلٌ كَانَ يُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنْ كَانَ شَيْءٌ يُتْحِفُكَ بِهِ فَلاَ خَيْرَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَعَامِهِ وَطَعَامِ أَهْلِهِ فَلاَ بَأْسَ ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ الْعَطَّارُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ زَيْدٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي سَلَّامٍ، عَنْ أَبِي سَلَّامٍ هُوَ مَمْطُورٌ الْحَبَشِيُّ، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ شِبْلٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
(8/194)
صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ، وَلاَ تَعْلُوا عَنْهُ، وَلاَ تَجْفُوا فِيهِ، وَلاَ
تَأْكُلُوا بِهِ، وَلاَ تَسْتَكْبِرُوا بِهِ، وَلاَ تَسْتَكْثِرُوا بِهِ .
وَرُوِّينَاهُ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مِنْ قَوْلِهِ مِثْلَ هَذَا، أَنَّهُ
قَالَ فِي قَوْسٍ أَهْدَاهَا إنْسَانٌ إلَى مَنْ كَانَ يُقْرِئُهُ أَتُرِيدُ أَنْ
تُعَلِّقَ قَوْسًا مِنْ نَارٍ ". وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ
أَنَّهُ أَعْطَاهُ الأَمِيرُ مَالاً لِقِيَامِهِ بِالنَّاسِ فِي رَمَضَانَ فَأَبَى
وَقَالَ: إنَّا لاَ نَأْخُذُ لِلْقُرْآنِ أَجْرًا.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
هُوَ الطَّحَّانُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إيَاسٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
يَكْرَهُونَ بَيْعَ الْمَصَاحِفِ وَتَعْلِيمِ الْغِلْمَانِ بِالأَرْشِ
وَيُعَظِّمُونَ ذَلِكَ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَشْتَرِطَ
الْمُعَلِّمُ وَأَنْ يَأْخُذَ أَجْرًا عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. وَمِنْ طَرِيقِ
شُعْبَةَ، وَسُفْيَانَ، كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ
أُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ: إنَّ عَمَّارَ بْنَ
يَاسِرٍ أَعْطَى قَوْمًا قَرَءُوا الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ فَبَلَغَ ذَلِكَ
عُمَرَ فَكَرِهَهُ وَقَالَ سُفْيَانُ فِي رِوَايَتِهِ: إنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي
وَقَّاصٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ أَلْحَقْته عَلَى أَلْفَيْنِ. فَقَالَ
عُمَرُ أَوَ يُعْطَى عَلَى كِتَابِ اللَّه ثَمَنًا. وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ يَزِيدَ، وَشُرَيْحٍ: لاَ تَأْخُذْ لِكِتَابِ اللَّهِ ثَمَنًا. وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ
الْقُرَشِيِّ، عَنْ بِلاَلِ بْنِ سَعْدٍ الدِّمَشْقِيِّ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ،
أَنَّهُ قَالَ لِمُؤَذِّنٍ مُعَلِّمٍ كِتَابَ اللَّهِ: إنِّي لاََبْغَضُك فِي
اللَّهِ لأََنَّك تَتَغَنَّى فِي أَذَانِك وَتَأْخُذُ لِكِتَابِ اللَّهِ أَجْرًا.
وَكَرِهَ ابْنُ سِيرِينَ الأُُجْرَةَ عَلَى كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ. وَعَنْ
عَلْقَمَةَ أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ أَيْضًا.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنْ سَعْدٍ،
وَعَمَّارٍ الآنَ أَنَّهُمَا أَعْطَيَا عَلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ صَدَقَةَ الدِّمَشْقِيِّ عَنِ الْوَضِينِ
بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ ثَلاَثَةُ مُعَلِّمِينَ يُعَلِّمُونَ
الصِّبْيَانَ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَرْزُقُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
خَمْسَةَ عَشَرَ كُلَّ شَهْرٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانَ
بِالْمَدِينَةِ مُعَلِّمٌ عِنْدَهُ مِنْ أَبْنَاءِ أَوْلِيَاءِ الْفِخَامِ
فَكَانُوا يَعْرِفُونَ حَقَّهُ فِي النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ.
قال أبو محمد: مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ أَدْرَكَ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ
عَنْهُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَأَبُو قَتَادَةَ فَمَنْ دُونَهُمَا. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ
الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ: مَا عَلِمْت أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ
الْمُعَلِّمِ. وَصَحَّ عَنْ عَطَاءٍ، وَأَبِي قِلاَبَةَ إبَاحَةَ أَجْرِ
الْمُعَلِّمِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ. وَأَجَازَ الْحَسَنُ، وَعَلْقَمَةُ فِي
أَحَدِ قَوْلَيْهِ الأُُجْرَةَ عَلَى نَسْخِ الْمَصَاحِفِ.
قال أبو محمد: أَمَّا الأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم فَلاَ يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ. أَمَّا حَدِيثُ أَبِي إدْرِيسَ
الْفُلاَنِيِّ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَمُنْقَطِعٌ، لاَ يُعْرَفُ لأََبِي
إدْرِيسَ سَمَاعٌ مَعَ أُبَيٍّ. وَالآخَرُ
(8/195)
أَيْضًا مُنْقَطِعٌ; لأََنَّ عَلِيَّ بْنَ رَبَاحٍ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فَأَحَدُ طُرُقِهِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، وَغَيْرُهُ: وَالآخَرُ مِنْ طَرِيقِ بَقِيَّةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثُ مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ; ثُمَّ هُوَ مُنْقَطِعٌ أَيْضًا. وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ شِبْلٍ فَفِيهِ أَبُو رَاشِدٍ الْحُبْرَانِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ كُلُّهَا قَدْ خَالَفَهَا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ; لأََنَّهَا كُلَّهَا إنَّمَا جَاءَتْ فِيمَا أُعْطِيَ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ، وَلاَ مُشَارَطَةٍ، وَهُمْ يُجِيزُونَ هَذَا الْوَجْهَ فَمَوَّهُوا بِإِيرَادِ أَحَادِيثَ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِمَّا مَنَعُوا وَهُمْ مُخَالِفُونَ لِمَا فِيهَا فَبَطَلَ كُلُّ مَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَالصَّحَابَةُ رضي الله عنهم قَدْ اخْتَلَفُوا، فَبَقِيَ الأَثَرَانِ الصَّحِيحَانِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ اللَّذَانِ أَوْرَدْنَا لاَ مُعَارِضَ لَهُمَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/196)
1308- مَسْأَلَةٌ - وَالإِجَارَةُ
جَائِزَةٌ عَلَى التِّجَارَةِ مُدَّةً مُسَمَّاةً فِي مَالٍ مُسَمًّى
أَوْ هَكَذَا جُمْلَةً كَالْخِدْمَةِ.وَالْوَكَالَةِ. وَعَلَى نَقْلِ جَوَابِ
الْمُخَاصِمِ طَالِبًا كَانَ أَوْ مَطْلُوبًا وَعَلَى جَلْبِ الْبَيِّنَةِ
وَحَمْلِهِمْ إلَى الْحَاكِمِ وَعَلَى تَقَاضِي الْيَمِينِ وَعَلَى طَلَبِ
الْحُقُوقِ وَعَلَى الْمَجِيءِ بِمَنْ وَجَبَ إحْضَارُهُ، لأََنَّ هَذِهِ كُلَّهَا
أَعْمَالٌ مَحْدُودَةٌ دَاخِلَةٌ تَحْتَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم بِالْمُؤَاجَرَةِ.
(8/196)
أجرة الأمير من يقضي بين الناس
مشاهرة جائزة
...
1309 - مَسْأَلَةٌ - وَإِجَارَةُ الأَمِيرِ مَنْ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ
مُشَاهَرَةً جَائِزَةٌ
لِمَا ذَكَرْنَا.
(8/196)
لا تجوز مشارطة على البرء
أصلا
...
1310 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ مُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ أَصْلاً
لأََنَّهُ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ بِيَدِ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا الطَّبِيبُ
مُعَالِجٌ وَمُقَوٍّ لِلطَّبِيعَةِ بِمَا يُقَابِلُ الدَّاءَ، وَلاَ يَعْرِفُ
كَمِّيَّةَ قُوَّةِ الدَّوَاءِ مِنْ كَمِّيَّةِ قُوَّةِ الدَّاءِ، فَالْبُرْءُ لاَ
يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلاَّ اللَّهُ تَعَالَى.
(8/196)
يجوز أن يستأجر الطبيب لخدمة
أيام معلومة
...
1311 - مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ أَنْ يُسْتَأْجَرَ الطَّبِيبُ لِخِدْمَةِ أَيَّامٍ
مَعْلُومَةٍ،
لأََنَّهُ عَمَلٌ مَحْدُودٌ فَإِنْ أُعْطِيَ شَيْئًا عِنْدَ الْبُرْءِ بِغَيْرِ
شَرْطٍ فَحَلاَلٌ، لأََمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَخْذِ مَا أُعْطِي
الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
(8/196)
1312 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
تَجُوزُ الإِجَارَةُ عَلَى حَفْرِ بِئْرٍ أَلْبَتَّةَ،
سَوَاءٌ كَانَتْ الأَرْضُ مَعْرُوفَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ; لأََنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ
فِيهَا الصَّفَاةُ الصَّلْدَةُ، وَالأَرْضُ الْمُنْحَلَّةُ الرَّخْوَةُ
وَالصَّلِيبَةُ، وَهَذَا عَمَلٌ مَجْهُولٌ، وَقَدْ يَبْعُدُ الْمَاءُ فِي مَوْضِعٍ
وَيَقْرُبُ فِيمَا هُوَ إلَى جَانِبِهِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي
اسْتِئْجَارِ مُيَاوَمَةٍ ثُمَّ يَسْتَعْمِلُهُ فِيهَا فِي حَفْرِ الْبِئْرِ;
لأََنَّهُ عَمَلٌ مَحْدُودٌ مَعْلُومٌ يَتَوَلَّى مِنْهُ حَسَبَ مَا يَقْدِرُ
عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/196)
1313 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِيَاطَةِ إحْضَارَ
الْخُيُوطِ، وَلاَ عَلَى الْوَرَّاقِ الْقِيَامَ بِالْحِبْرِ،
وَلاَ عَلَى الْبَنَّاءِ الْقِيَامَ بِالطِّينِ أَوْ الصَّخْرِ، أَوْ الْجَيَّارِ،
وَهَكَذَا
(8/196)
من استأجر دارا أو عبدا أو
دابة ثم أجره بأكثر مما استأجره به أو بأقل فهو حلال جائز
...
1314 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا أَوْ عَبْدًا، أَوْ دَابَّةً، أَوْ
شَيْئًا مَا ثُمَّ أَجَّرَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ بِهِ أَوْ بِأَقَلَّ
أَوْ بِمِثْلِهِ، فَهُوَ حَلاَلٌ جَائِزٌ.
وَكَذَلِكَ الصَّائِغُ الْمُسْتَأْجَرُ لِعَمَلِ شَيْءٍ فَيَسْتَأْجِرُ هُوَ
غَيْرَهُ لِيَعْمَلَهُ لَهُ بِأَقَلَّ أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ بِمِثْلِهِ فَكُلُّ
ذَلِكَ حَلاَلٌ، وَالْفَضْلُ جَائِزٌ لَهُمَا، إِلاَّ أَنْ تَكُونَ الْمُعَاقَدَةُ
وَقَعَتْ عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ يَرْكَبَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ
يَعْمَلَ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ، فَلاَ يَجُوزُ غَيْرُ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ
الإِجَارَةُ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَهْيٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
عَنْ ذَلِكَ، وَهِيَ مُؤَاجَرَةٌ وَقَدْ أَمَرَ عليه السلام بِالْمُؤَاجَرَةِ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/197)
1315 - مَسْأَلَةٌ -
وَالإِجَارَةُ بِالإِجَارَةِ جَائِزَةٌ:
كَمَنْ أَجَّرَ سُكْنَى دَارٍ بِسُكْنَى دَارٍ أَوْ خِدْمَةِ عَبْدٍ بِخِدْمَةِ
عَبْدٍ، أَوْ سُكْنَى بِخِدْمَةِ عَبْدٍ أَوْ بِخِيَاطَةٍ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ،
لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِالنَّهْيِ، عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وقال
أبو حنيفة: لاَ يَجُوزُ كِرَاءُ دَارٍ بِكِرَاءِ دَارٍ وَيَجُوزُ بِخِدْمَةِ
عَبْدٍ وَهَذَا تَقْسِيمٌ فَاسِدٌ.
(8/197)
بَقِيَّةُ الْكَلاَمِ فِي
الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ
قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ
بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَأَجَّرَهُ بِأَكْثَرَ
مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْفَضْلُ لِلأَوَّلِ. وَمِنْ طَرِيقِ
وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ
كَرِهَهُ. وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ: أَنَّهُ قَالَ: يُرَدُّ الْفَضْلُ هُوَ رِبًا
وَلَمْ يُجِزْهُ مُجَاهِدٌ وَلاَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ وَلاَ عِكْرِمَةُ،
وَكَرِهَهُ الزُّهْرِيُّ بَعْدَ أَنْ كَانَ يُبِيحُهُ. وَكَرِهَهُ مَيْمُونُ بْنُ
مِهْرَانَ وَابْنُ سِيرِينَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَشُرَيْحٌ وَمَسْرُوقٌ
وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالشَّعْبِيُّ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمنِ
(8/197)
1316 - مَسْأَلَةٌ -
وَتَنْقِيَةُ الْمِرْحَاضِ عَلَى الَّذِي مَلاََهُ لاَ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ،
وَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ; لأََنَّ عَلَى مَنْ وَضَعَ
كُنَاسَةً أَوْ زِبْلاً أَوْ مَتَاعًا فِي أَرْضِ غَيْرِهِ الَّتِي هِيَ مَالُ
غَيْرِهِ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُزِيلَهُ، عَنِ الْمَكَانِ
الَّذِي لاَ حَقَّ لَهُ فِيهِ، وَاشْتِرَاطُهُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ بَاطِلٌ
مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ
بَاطِلٌ. وَالثَّانِي أَنَّهُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/198)
على صاحب الخان احضار مكان
فارغ للخلاء لمن ينزل عنده ويرحل
...
1317 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ كَانَ خَانًا يَبِيتُونَ فِيهِ لَيْلَةً ثُمَّ
يَرْحَلُونَ، فَعَلَى صَاحِبِ الْخَانِ إحْضَارُ مَكَان فَارِغٍ لِلْخَلاَءِ
إنْ شَاءَ، وَإِلَّا يَتَبَرَّزُوا فِي الصُّعُدَاتِ إنْ أَبَى مِنْ ذَلِكَ.
(8/198)
1318 - مَسْأَلَةٌ -
وَالأُُجْرَةُ عَلَى كَنْسِ الْكُنُفِ جَائِزَةٌ
وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ أَقْوَالِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ،
وَأَبِي سُلَيْمَانَ، لِعُمُومِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِالْمُؤَاجَرَةِ. عَلَى أَنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ طَلْحَةَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ
قَالَ لِرَجُلٍ كَنَّاسٍ لِلْعَذِرَةِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مِنْهُ تَزَوَّجَ
وَمِنْهُ كَسَبَ وَمِنْهُ حَجَّ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: أَنْتَ خَبِيثٌ، وَمَا
كَسَبْت خَبِيثٌ; وَمَا تَزَوَّجْت خَبِيثٌ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْهُ كَمَا دَخَلْت
فِيهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ
وَاصِلٍ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ، عَنْ عَبْدِ
الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَدْ قَالَ لَهُ
رَجُلٌ: إنِّي كُنْت رَجُلاً كَنَّاسًا أَكْسَحُ هَذِهِ الْحُشُوشَ فَأَصَبْت
مَالاً فَتَزَوَّجْت مِنْهُ، وَوُلِدَ لِي فِيهِ، وَحَجَجْت فِيهِ. فَقَالَ لَهُ
ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنْتَ وَمَالُك خَبِيثٌ وَوَلَدُك خَبِيثٌ، وَلاَ يُعْرَفُ
لَهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَأَيْنَ الْحَنَفِيُّونَ،
وَالْمَالِكِيُّونَ، عَنْ هَذَا إنْ طَرَدُوا أَقْوَالَهُمْ، وَلاَ حُجَّةَ فِي
قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم .
(8/198)
يجوز اعطاء الغزل للنسيج بجزء
مسمى منه
...
1319 - مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ إعْطَاءُ الْغَزْلِ لِلنَّسْجِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى
مِنْهُ
كَرُبُعٍ . أَوْ ثُلُثٍ . أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ
يَنْسِجَهُ النَّسَّاجُ مَعًا وَيَكُونَا مَعًا شَرِيكَيْنِ فِيهِ: جَازَ ذَلِكَ
(8/198)
جائز اكراء السفن بجزء مسمى
مما يحمل فيها مشاع أو متميز
...
1320 - مَسْأَلَةٌ - وَجَائِزٌ كِرَاءُ السُّفُنِ كِبَارِهَا وَصِغَارِهَا
بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يُحْمَلُ فِيهَا مُشَاعٌ فِي الْجَمِيعِ أَوْ
مُتَمَيِّزٌ.
وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ، وَالْعِجْلُ، وَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُ السَّفِينَةِ مِنْ
الْكِرَاءِ بِقَدْرِ مَا قَطَعَ مِنْ الطَّرِيقِ عَطِبَ أَوْ سَلِمَ ; لأََنَّهُ
عَمَلٌ مَحْدُودٌ. وقال مالك: لاَ كِرَاءَ لَهُ إِلاَّ إنْ بَلَغَ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ وَاسْتِحْلاَلُ تَسْخِيرِ السَّفِينَةِ بِلاَ أُجْرَةٍ،
وَبِلاَ طِيبِ نَفْسِ صَاحِبِهَا. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّفِينَةِ وَالدَّابَّةِ
فِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُ فِي هَذَا قَوْلٌ لاَ يَعْضُدُهُ قُرْآنٌ وَلاَ سُنَّةٌ
(8/199)
وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ أَحَدٍ قَبْلَهُ نَعْلَمُهُ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ لَهُ وَجْهٌ. وَكَذَلِكَ اسْتِئْجَارُ خِدْمَةِ الْمَرْكَبِ جَائِزٌ وَلَهُمْ مِنْ الأُُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلُوا عَطِبَ الْمَرْكَبُ أَوْ سَلِمَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/200)
حكم ما إذا هال البحر وخيف
العطب فليخفف الأثقل فالأثقل ولا ضمان فيه على أهل المركب
...
1321- مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ هَالَ الْبَحْرُ وَخَافُوا الْعَطَبَ فَلْيُخَفِّفُوا
الأَثْقَلَ فَالأَثْقَلَ، وَلاَ ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَهْلِ الْمَرْكَبِ
لأََنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِتَخْلِيصِ أَنْفُسِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلاَ
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} . وَقَالَ تَعَالَى {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى
التَّهْلُكَةِ} . فَمَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ فَهُوَ مُحْسِنٌ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} .
وقال مالك: يَضْمَنُ مَا كَانَ لِلتِّجَارَةِ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا سِيقَ
لِلأَكْلِ، وَالْقُنْيَةِ، وَلاَ يَضْمَنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَنْ لاَ مَالَ
لَهُ فِي الْمَرْكَبِ وَهَذَا كُلُّهُ تَخْلِيطٌ لاَ يَعْضُدُهُ دَلِيلٌ أَصْلاً،
وَقَوْلٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا تَقَدَّمَهُ قَبْلَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. فَإِنْ كَانَ دُونَ الأَثْقَلِ مَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ، فَإِنْ
كَانَ فِي رَمْيِ الأَثْقَلِ كُلْفَةٌ يَطُولُ أَمْرُهَا، وَيُخَافُ غَرَقُ
السَّفِينَةِ فِيهَا، وَيُرْجَى الْخَلاَصُ، بِرَمْيِ الأَخَفِّ رُمِيَ الأَخَفُّ
حِينَئِذٍ لِمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا مَنْ رَمَى الأَخَفَّ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى
رَمْيِ الأَثْقَلِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا رَمَى مِنْ ذَلِكَ لاَ يَضْمَنُهُ مَعَهُ
غَيْرُهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَلاَ يُرْمَى حَيَوَانٌ إِلاَّ
لِضَرُورَةٍ يُوقِنُ مَعَهَا بِالنَّجَاةِ بِرَمْيِهِ، وَلاَ يُلْقَى إنْسَانٌ
أَصْلاً لاَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ كَافِرٌ ; لأََنَّهُ لاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ دَفْعُ
ظُلْمٍ، عَنْ نَفْسِهِ بِظُلْمِ مَنْ لَمْ يَظْلِمْهُ، وَالْمَانِعُ مِنْ إلْقَاءِ
مَالِهِ الْمُثْقِلِ لِلسَّفِينَةِ ظَالِمٌ لِمَنْ فِيهَا، فَدَفْعُ الْهَلاَكِ،
عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِمَنْعِهِ مِنْ ظُلْمِهِمْ فَرْضٌ.
(8/200)
استئجار الحمام جائز ويكون
البئر والساقية تبعا ولا يجوز عقد اجارة مع الداخل فيه ولكن يعطى مكارمة
...
1322 - مَسْأَلَةٌ - وَاسْتِئْجَارُ الْحَمَّامِ جَائِزٌ وَيَكُونُ الْبِئْرُ
وَالسَّاقِيَةُ تَبَعًا وَلاَ يَجُوزُ عَقْدُ إجَارَةٍ مَعَ الدَّاخِلِ فِيهِ،
لَكِنْ يُعْطَى مُكَارَمَةً، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ بِمَا
أُعْطِي أُلْزِمَ بَعْدَ الْخُرُوجِ مَا يُسَاوِي بَقَاؤُهُ فِيهِ فَقَطْ لأََنَّ
مُدَّةَ بَقَائِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ مَجْهُولَةٌ، وَلاَ يَجُوزُ عَقْدُ
الْكِرَاءِ عَلَى مَجْهُولٍ; لأََنَّهُ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ لِجَهْلِهِمَا،
بِمَا يَتَرَاضَيَانِ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/200)
من استأجر دار وكان فيها
دالية أو شجرة لم يجز دخولها في الكراء أصلا
...
1323 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا فَإِنْ كَانَتْ فِيهَا دَالِيَةٌ،
أَوْ شَجَرَةٌ، لَمْ يَجُزْ دُخُولُهَا فِي الْكِرَاءِ أَصْلاً
قَلَّ خَطَرُهَا أَمْ كَثُرَ، ظَهَرَ حَمْلُهَا أَوْ لَمْ يَظْهَرْ طَابَ أَوْ
لَمْ يَطِبْ: لأََنَّهَا قَبْلَ أَنْ تُخْلَقَ الثَّمَرَةُ، وَقَبْلَ أَنْ تَطِيبَ
لاَ يَحِلُّ فِيهَا عَقْدٌ أَصْلاً إِلاَّ الْمُسَاقَاةُ فَقَطْ وَبَعْدَ ظُهُورِ
الطِّيبِ لاَ يَجُوزُ فِيهَا إِلاَّ الْبَيْعُ، لاَ الإِجَارَةُ ; لأََنَّ
الإِجَارَةَ لاَ تُمْلَكُ بِهَا الْعَيْنُ، وَلاَ تُسْتَهْلَكُ أَصْلاً،
وَالْبَيْعُ تُمْلَكُ بِهِ الْعَيْنُ وَالرَّقَبَةُ، فَهُوَ بَيْعٌ بِثَمَنٍ
مَجْهُولٍ، وَإِجَارَةٌ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ، فَهُوَ حَرَامٌ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ ;
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
(8/200)
اجارة المشاريع جائزة فيما
ينقسم وما لا ينقسم من الشريك وغيره
...
1324 - مَسْأَلَةٌ - وَإِجَارَةُ الْمُشَاعِ جَائِزَةٌ فِيمَا يَنْقَسِمُ، وَمَا
لاَ يَنْقَسِمُ مِنْ الشَّرِيكِ وَمِنْ غَيْرِ الشَّرِيكِ، وَمَعَ الشَّرِيكِ
وَدُونَهُ
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ،
(8/200)
لا ضمان على أجير مشترك وغير
مشترك ولا على صانع إلا ما ثبت أنه تعدى فيه وأضاعه
...
1325 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ ضَمَانَ عَلَى أَجِيرٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ غَيْرِ
مُشْتَرَكٍ، وَلاَ عَلَى صَانِعٍ أَصْلاً،
وَلاَ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَدَّى فِيهِ أَوْ أَضَاعَهُ وَالْقَوْلُ فِي كُلِّ
ذَلِكَ مَا لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، فَإِنْ
قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالتَّعَدِّي، أَوْ الإِضَاعَةِ ضَمِنَ، وَلَهُ فِي
كُلِّ ذَلِكَ الأُُجْرَةُ فِيمَا أَثْبَتَ أَنَّهُ كَانَ عَمِلَهُ، فَإِنْ لَمْ
تَقُمْ بَيِّنَةٌ حَلَفَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ أَنَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَمِلَ
مَا يَدَّعِي أَنَّهُ عَمِلَهُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ. وَبُرْهَانُ
ذَلِكَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} فَمَالُ الصَّانِعِ وَالأَجِيرِ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِنْ
اعْتَدَى أَوْ أَضَاعَ لَزِمَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى، وَالإِضَاعَةُ لِمَا يَلْزَمُهُ حِفْظُهُ تَعَدٍّ وَهُوَ مُلْزَمٌ
حِفْظَ مَا اُسْتُعْمِلَ فِيهِ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، لِنَهْيِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَحُكْمِهِ عليه السلام
بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ ادَّعَى عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا أَنْكَرَ، وَمَنْ
طُلِبَ بِغَرَامَةِ مَالٍ أَوْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ غَرَامَةً فَهُوَ
الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ الْيَمِينُ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ، وَالْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقًّا فِي مَالِ
غَيْرِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَمَا قلنا: رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ قَالَ: لاَ يَضْمَنُ الصَّائِغُ، وَلاَ الْقَصَّارُ، أَوْ قَالَ
الْخَيَّاطُ وَأَشْبَاهُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا جَبَلَةُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ
يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ فِي حَمَّالٍ اُسْتُؤْجِرَ
لِحَمْلِ قُلَّةِ عَسَلٍ فَانْكَسَرَتْ قَالَ: لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَزْهَرُ السَّمَّانُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَضْمَنُ
الأَجِيرُ إِلاَّ مِنْ تَضْيِيعٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ عَنِ
الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَيْسَ عَلَى أَجِيرِ الْمُشَاهَرَةِ
(8/201)
ضَمَانٌ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ يَضْمَنُ الْقَصَّارُ
إِلاَّ مَا جَنَتْ يَدُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
يَضْمَنُ الصَّانِعُ مَا أَعْنَتَ بِيَدِهِ، وَلاَ يَضْمَنُ مَا سِوَى ذَلِكَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ أَشْعَثَ،
عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَضْمَنُ الْمَلَّاحُ
غَرَقًا وَلاَ حَرَقًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
الأَعْلَى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا
أَفْسَدَ الْقَصَّارُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَكَانَ لاَ يُضَمِّنُهُ غَرَقًا، وَلاَ
حَرَقًا، وَلاَ عَدُوًّا مُكَابِرًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا: وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ،
عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ طَاوُوس أَنَّهُ لَمْ
يُضَمِّنْ الْقَصَّارَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ
قَالَ: قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: لاَ يَضْمَنُ الصَّانِعُ إِلاَّ مَا أَعْنَتَ
بِيَدِهِ وَقَالَ قَتَادَةُ: يَضْمَنُ إذَا ضَيَّعَ.
وبه إلى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَنَّ حَمَّادَ
بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ كَانَ لاَ يُضَمِّنُ أَحَدًا مِنْ الصُّنَّاعِ وَهُوَ
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَزُفَرَ، وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَحْمَدَ،
وَإِسْحَاقَ، وَالْمُزَنِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
الصُّنَّاعُ كُلُّهُمْ ضَامِنُونَ مَا جَنَوْا وَمَا لَمْ يَجْنُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ضَمَّنَ
الصُّنَّاعَ يَعْنِي: مَنْ عَمِلَ بِيَدِهِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خِلاَسِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ عَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ يُضَمِّنُ الأَجِيرَ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ
أَنَّ عَلِيًّا كَانَ يُضَمِّنُ الْقَصَّارَ، وَالصَّوَّاغَ، وَقَالَ: لاَ
يُصْلِحُ النَّاسَ إِلاَّ ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ ضَمَّنَ نَجَّارًا.
وَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ تَضْمِينُ الأَجِيرِ وَالْقَصَّارِ. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ
أَيْضًا تَضْمِينُ الصُّنَّاعِ وَكَذَلِكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
بْنِ مَسْعُودٍ وَعَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ كَانَ يُضَمِّنُ كُلَّ أَجِيرٍ حَتَّى
صَاحِبَ الْفُنْدُقِ الَّذِي يَحْبِسُ لِلنَّاسِ دَوَابَّهُمْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى حَتَّى إنَّهُ يُضَمِّنُ صَاحِبَ السَّفِينَةِ إذَا عَطِبَتْ
الأَمْتِعَةُ الَّتِي تَلِفَتْ فِيهَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَضْمَنُ كُلُّ مَنْ
أَخَذَ أَجْرًا وَرُوِيَ ذَلِكَ، عَنْ عَلِيٍّ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
يَزِيدَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَضْمَنُ الأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ
وَهُوَ الْعَامُّ وَهُوَ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الأَعْمَالِ وَلاَ يَضْمَنُ
الْخَاصُّ، وَهُوَ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ لِمُدَّةٍ مَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي
يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رُوِيَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ يَضْمَنُ الأَجِيرُ
الْمُشْتَرَكُ، وَلَمْ يَأْتِ عَنْهُ لاَ يَضْمَنُ الْخَاصُّ. وَقَالَتْ
طَائِفَةٌ: يَضْمَنُ الصَّانِعُ مَا غَابَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَنْ يُقِيمَ بَيِّنَةً
أَنَّهُ تَلِفَ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ فَلاَ يَضْمَنُ، وَلاَ يَضْمَنُ
مَا ظَهَرَ أَصْلاً، إِلاَّ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ تَعَدَّى
وَهُوَ قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.
(8/202)
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ
مَالِكٍ فَمَا نَعْلَمُ لَهُ حُجَّةً أَصْلاً، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ،
وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ قَوْلِ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ،
وَمَا كَانَ هَكَذَا فَلاَ وَجْهَ لَهُ وَلَمْ نَجِدْ لَهُمْ شُبْهَةً إِلاَّ أَنَّهُمْ
قَالُوا: إنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِلنَّاسِ.فَقُلْنَا لَهُمْ:
فَضَمَّنُوا الْوَدَائِعَ احْتِيَاطًا لِلنَّاسِ فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَنَّهُ ضَمَّنَهَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ. وَأَيْضًا فَمَنْ جَعَلَ
الْمُسْتَصْنِعِينَ أَوْلَى بِالأَحْتِيَاطِ لَهُمْ مِنْ الصُّنَّاعِ وَالْكُلُّ
مُسْلِمُونَ، وَلَوْ عَكَسَ عَاكِسٌ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ لَمَا كَانَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ فَضْلٌ كَمَنْ قَالَ: بَلْ أَضْمَنُ مَا ظَهَرَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ
بَيِّنَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ تَلِفَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ وَتَعَدِّيهِ، وَلاَ
أَضْمَنُ مَا بَطَنَ إِلاَّ أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةُ عَدْلٍ بِأَنَّهُ هَلَكَ مِنْ
تَعَدِّيهِ، بَلْ لَعَلَّ هَذَا الْقَوْلَ أَحْوَطُ فِي النَّظَرِ. وَكَذَلِكَ
قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ. وَهَذَا كَمَا تَرَى خَالَفُوا
فِيهِ عُمَرَ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا مِنْ
الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ رضي الله عنهم، وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا
وَافَقَ آرَاءَهُمْ وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ. وَقَدْ قَالَ
بَعْضُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ: وَجَدْنَا مَا يَدْفَعُهُ النَّاسُ
بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا ثَلاَثَةً لاَ
رَابِعَ لَهَا: فَقِسْمٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الدَّافِعُ وَحْدَهُ لاَ الْمَدْفُوعُ
إلَيْهِ فَقَدْ اتَّفَقْنَا أَنَّهُ لاَ ضَمَانَ فِي بَعْضِهِ كَالْوَدِيعَةِ،
فَوَجَبَ رَدُّ كُلِّ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا إلَيْهَا. وَقِسْمٌ يَنْتَفِعُ
بِهِ الدَّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ فَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ لاَ
ضَمَانَ فِي بَعْضِهِ كَالْقِرَاضِ، فَوَجَبَ رَدُّ مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ إلَيْهِ
وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الرَّهْنُ وَمَا دُفِعَ إلَى الصُّنَّاعِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ
يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ وَحْدَهُ فَقَدْ اتَّفَقْنَا فِي بَعْضِهِ
عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ كَالْقَرْضِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْعَارِيَّةُ
مِثْلَهُ.
قال أبو محمد: لَوْ صَحَّ قِيَاسٌ فِي الْعَالَمِ لَكَانَ هَذَا وَلَكِنَّهُمْ لاَ
الآثَارَ اتَّبَعُوا وَلاَ الْقِيَاسَ عَرَفُوا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/203)
1326 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
تَجُوزُ الإِجَارَةُ إِلاَّ بِمَضْمُونٍ مُسَمًّى مَحْدُودٍ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ
بِعَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ مُتَمَيِّزَةٍ مَعْرُوفَةِ الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ
وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ رضي الله عنه وَغَيْرِهِ.
قال أبو محمد: وقال مالك: يَجُوزُ كِرَاءُ الأَجِيرِ بِطَعَامِهِ وَاحْتَجُّوا
بِخَبَرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُنْت أَجِيرًا لأَبْنَةِ غَزْوَانَ بِطَعَامِ
بَطْنِي، وَعُقْبَةِ رِجْلِي.
قال أبو محمد: قَدْ يَكُونُ هَذَا تَكَارُمًا مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ لاَزِمٍ وَأَمَّا
الْعُقُودُ الْمَقْضِيُّ بِهَا فَلاَ تَكُونُ إِلاَّ بِمَعْلُومٍ، وَالطَّعَامُ
يَخْتَلِفُ: فَمِنْهُ اللَّيِّنُ، وَمِنْهُ الْخَشِنُ وَمِنْهُ الْمُتَوَسِّطُ
وَيَخْتَلِفُ الأُُدْمُ، وَتَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي الأَكْلِ اخْتِلاَفًا
مُتَفَاوِتًا فَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَمَّتْ "الإِجَارَةُ" بِحَمْدِ اللَّهِ
(8/203)
كتاب الجعل في الآبق وغيره
لا يجوز الحكم بالجعل على أحد
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْجُعْلِ فِي الآبِقِ وَغَيْرِهِ
1327 - مَسْأَلَةٌ - لاَ يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْجُعْلِ عَلَى أَحَدٍ،
فَمَنْ قَالَ لأَخَرَ: إنْ جِئْتنِي بِعَبْدِي الآبِقِ فَلَكَ عَلَيَّ دِينَارٌ،
أَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا وَكَذَا فَلَكَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ، أَوْ مَا
أَشْبَهَ هَذَا فَجَاءَهُ بِذَلِكَ أَوْ هَتَفَ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ: مَنْ
جَاءَنِي بِكَذَا فَلَهُ كَذَا، فَجَاءَهُ بِهِ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ،
وَيُسْتَحَبُّ لَوْ وَفَّى بِوَعْدِهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ جَاءَهُ بِآبِقٍ فَلاَ
يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ عَرَفَ بِالْمَجِيءِ بِالإِبَاقِ أَوْ لَمْ
يُعْرَفْ بِذَلك، إِلاَّ أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ عَلَى طَلَبِهِ مُدَّةً مَعْرُوفَةً،
أَوْ لِيَأْتِيَهُ بِهِ مِنْ مَكَان مَعْرُوفٍ، فَيَجِبُ لَهُ مَا اسْتَأْجَرَهُ
بِهِ. وَأَوْجَبَ قَوْمٌ الْجُعْلَ وَأَلْزَمُوهُ الْجَاعِلَ وَاحْتَجُّوا
بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وَبِقَوْلِ يُوسُفَ صلى الله
عليه وسلم وَخَدَمَتُهُ عَنْهُ: قَالُوا: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ
جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} . وَبِحَدِيثِ الَّذِي رَقَى
عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي "الإِجَارَاتِ"
فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ: أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ
تَعَالَى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَبْشَارَكُمْ
عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ
مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ
الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يَعْقِدَ فِي
دَمِهِ، وَلاَ فِي مَالِهِ، وَلاَ فِي عِرْضِهِ، وَلاَ فِي بَشَرَتِهِ عَقْدًا،
وَلاَ أَنْ يَلْتَزِمَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُكْمًا، إِلاَّ مَا جَاءَ النَّصُّ
بِإِيجَابِهِ بِاسْمِهِ، أَوْ بِإِبَاحَتِهِ بِاسْمِهِ. فَصَحَّ أَنَّ الْعُقُودَ
الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِهَا إنَّمَا هِيَ الْعُقُودُ
الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا بِأَسْمَائِهَا، وَأَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهَا فَحَرَامٌ
عَقْدُهُ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: {وَلاَ تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . فَصَحَّ
أَنَّ مَنْ الْتَزَمَ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا وَلَمْ يَقُلْ: إنْ شَاءَ اللَّهُ،
فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى
لَمْ يَلْزَمْهُ عَقْدٌ خَالَفَ فِيهِ أَمْرَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ هُوَ
مَعْصِيَةٌ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ. قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ
أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ " فَإِنْ قَالَ: إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَقَدْ
عَلِمْنَا يَقِينًا عِلْمَ ضَرُورَةٍ إذْ قَدْ عَقَدَ ذَلِكَ الْعَقْدَ
بِمَشِيئَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ لَمْ يُنَفِّذْهُ، وَلاَ فَعَلَهُ،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَشَأْهُ، إذْ لَوْ شَاءَهُ اللَّهُ لاََنْفَذَهُ
وَأَتَمَّهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَمَّا الْتَزَمَ مِنْ كَوْنِ ذَلِكَ الْعَقْدِ إنْ
شَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْفَذَهُ وَأَتَمَّهُ وَإِلَّا فَلاَ. وَأَيْضًا:
فَإِنَّ الْمُخَالِفِينَ لَنَا فِي هَذَا لاَ يَرَوْنَ جَمِيعَ الْعُقُودِ لاَزِمَةً،
وَلاَ يَأْخُذُونَ بِعُمُومِ الآيَةِ الَّتِي احْتَجُّوا بِهَا، بَلْ يَقُولُونَ
فِيمَنْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَصْبُغَ ثَوْبَهُ أَصْفَرَ، أَوْ أَنْ
يَمْشِيَ إلَى السُّوقِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ، فَقَدْ
نَقَضُوا احْتِجَاجَهُمْ بِعُمُومِهَا، وَلَزِمَهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْحَدِّ
الْمُفَرِّقِ بَيْنَ
(8/204)
مَا يَلْزَمُونَهُ مِنْ
الْعُقُودِ وَبَيْنَ مَا لاَ يَلْزَمُونَهُ، وَبِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ
ذَلِكَ الْحَدِّ، وَذَلِكَ الْفَرْقُ وَإِلَّا فَقَوْلُهُمْ مَرْدُودٌ، لأََنَّهُ
دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ، وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وَالْعَجَبُ: أَنَّ الْمُخَالِفِينَ لَنَا: يَقُولُونَ: إنْ وَكَّدَ كُلَّ عَقْدٍ
عَقَدَهُ بِيَمِينٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ
الْكَفَّارَةُ إنْ لَمْ يَفِ بِهِ فَقَطْ، ثُمَّ يُلْزِمُونَهُ إيَّاهُ إذَا لَمْ
يُؤَكِّدْهُ، فَتَرَاهُمْ كُلَّمَا أَكَّدَ الْعَاقِدُ عَقْدَهُ انْحَلَّ عَنْهُ،
وَإِذَا يُؤَكِّدُهُ لَزِمَهُ، وَهَذَا مَعْكُوسٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُ يُوسُفَ عليه السلام فَلاَ يَلْزَمُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ
شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا مِنْ الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام لاَ تَلْزَمُنَا، قَالَ
تَعَالَى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} . وَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ،
فَذَكَرَ عليه السلام مِنْهَاوَأُرْسِلْتُ إلَى النَّاسِ كَافَّةً ". وَقَالَ
عليه السلام أَيْضًا: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي
فَذَكَرَ عليه السلام مِنْهَا: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ
خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً " رُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ
جَابِرٍ، وَاَلَّذِي قَبْلَهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ. فَإِذْ قَدْ صَحَّ
هَذَا فَلَمْ يُبْعَثُوا إلَيْنَا، وَإِذْ لَمْ يُبْعَثُوا إلَيْنَا فَلاَ يَلْزَمُنَا
شَرْعٌ لَمْ نُؤْمَرْ بِهِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا الإِيمَانُ بِأَنَّهُمْ رُسُلُ
اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنَّ مَا أَتَوْا بِهِ لاَزِمٌ لِمَنْ بُعِثُوا إلَيْهِ
فَقَطْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمُحْتَجِّينَ بِهَذِهِ الآيَةِ أَوَّلُ مُخَالِفٍ
لَهَا; لأََنَّهُمْ لاَ يُلْزِمُونَ مَنْ قَالَ: لِمَنْ جَاءَنِي بِكَذَا حِمْلُ
بَعِيرٍ الْوَفَاءَ بِمَا قَالَ لأََنَّ هَذَا الْحِمْلَ لاَ يُدْرَى مِمَّ هُوَ
أَمِنْ اللُّؤْلُؤِ، أَوْ مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ مِنْ رَمَادٍ، أَوْ مِنْ تُرَابٍ،
وَلاَ أَيُّ الْبُعْرَانِ هُوَ وَمِنْ الْبُعْرَانِ الضَّعِيفُ الَّذِي لاَ
يَسْتَقِلُّ بِعِشْرِينَ صَاعًا، وَمِنْهُمْ الْقَوِيُّ وَالصَّحِيحُ الَّذِي
يَسْتَقِلُّ بِثَلاَثِمِائَةِ صَاعٍ، وَلاَ أَشَدَّ مُجَاهِرَةً بِالْبَاطِلِ
مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِشَيْءٍ هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ عَلَى مَنْ لَمْ
يَلْتَزِمْ قَطُّ ذَلِكَ الأَصْلَ. وَأَيْضًا: فَحَتَّى لَوْ كَانَ فِي
شَرِيعَتِنَا لَمَا كَانَ حُجَّةً عَلَيْنَا; لأََنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الآيَةِ
إلْزَامُ الْقَضَاءِ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا فِيهَا أَنَّهُ جُعِلَ ذَلِكَ الْجُعْلُ
فَقَطْ، وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا خَالَفْنَاهُمْ فِيهِ. فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ
بِالآيَتَيْنِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ الرَّاقِي فَصَحِيحٌ إِلاَّ
أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلاَّ إبَاحَةُ أَخْذِ
مَا أَعْطَى الْجَاعِلَ عَلَى الرُّقْيَةِ فَقَطْ وَهَكَذَا نَقُولُ وَلَيْسَ
فِيهِ الْقَضَاءُ عَلَى الْجَاعِلِ بِمَا جَعَلَ إنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ
فَسَقَطَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوفِيقُ.
فإن قيل إنَّهُ وَعْدٌ. قلنا: قَدْ تَكَلَّمْنَا فِي الْوَعْدِ وَالإِخْلاَفِ فِي
آخِرِ "كِتَابِ النُّذُور" بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَكَلاَمُنَا هَهُنَا
فِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ وَعْدٍ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَإِنَّمَا
يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ بِالْوَاجِبِ الَّذِي افْتَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى
فَقَطْ، وَلاَ يُلْزِمُ أَحَدًا مَا الْتَزَمَهُ، لَكِنْ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى
(8/205)
عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى
الله عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ سَوَاءٌ الْتَزَمَهُ الْمَرْءُ أَوْ لَمْ
يَلْتَزِمْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَمِنْ الْعَجَائِبِ أَنَّ الْمُلْزِمِينَ الْوَفَاءَ بِالْجُعْلِ يَقُولُونَ:
إنَّهُ لاَ يَلْزَمُ الْمَجْعُولُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا جُعِلَ لَهُ فِيهِ
ذَلِكَ الْجُعْلُ، وَهُمْ بِزَعْمِهِمْ أَصْحَابُ أُصُولٍ يَرُدُّونَ إلَيْهَا
فُرُوعَهُمْ فَفِي أَيِّ الأُُصُولِ وَجَدُوا عَقْدًا مُتَّفَقًا عَلَيْهِ، أَوْ
مَنْصُوصًا عَلَيْهِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَلْزَمُ أَحَدُهُمَا، وَلاَ يَلْزَمُ
الآخَرُ. وقال مالك: مَا جَاءَ بِالآبِقِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعْرَفُ بِطَلَبِ
الإِبَاقِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ لَهُ عَلَى قَدْرِ قُرْبِ الْمَوْضِعِ وَبُعْدِهِ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَأْنُهُ، وَلاَ عَمَلُهُ، فَلاَ جُعْلَ لَهُ، لَكِنْ
يُعْطَى مَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ فَقَطْ. وقال أبو حنيفة: لاَ يَجِبُ الْجُعَلُ فِي
شَيْءٍ إِلاَّ فِي رَدِّ الآبِقِ فَقَطْ الْعَبْدُ وَالأَمَةُ سَوَاءٌ فَمَنْ
رَدَّ آبِقًا، أَوْ آبِقَةً مِنْ مَسِيرَةِ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَصَاعِدًا فَلَهُ
عَلَى كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، فَإِنْ رَدَّهُمَا مَنْ أَقَلَّ مِنْ
ثَلاَثٍ رُضِخَ لَهُ، وَلاَ يَبْلُغُ بِذَلِكَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ
جَاءَ بِأَحَدِهِمَا مِنْ مَسِيرَةِ ثَلاَثِ لَيَالٍ فَصَاعِدًا، وَهُوَ يُسَاوِي
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَأَقَلَّ نَقْصٍ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ فَقَطْ.
ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ هَذَا الْقَوْلِ،
فَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَنْقُصُ مِنْ قِيمَتِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، قَالَ أَبُو
يُوسُفَ: لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَلَوْ لَمْ يُسَاوِ إِلاَّ دِرْهَمًا
وَاحِدًا.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَخَطَأٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ
أَصْلاً; لأََنَّهُ تَفْرِيقٌ بَيْنَ مَا لاَ فَرْقَ بَيْنَهُ بِلاَ بُرْهَانٍ،
لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ
مِنْ قَوْلِ صَاحِبٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ، وَمَا نَعْلَمُ
هَذَا الْقَوْلَ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ كَانَ
بَنَّاءً فَمَرَّ عَلَى حَائِطٍ مَائِلٍ فَأَصْلَحَهُ وَبَنَاهُ: أَنَّ لَهُ
أُجْرَةً عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَنَّاءً وَبَنَاهُ فَلاَ أَجْرَ لَهُ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَسَجَ غَزْلاً لأَخَرَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ
نَسَّاجًا فَلَهُ الأُُجْرَةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسَّاجًا فَلاَ أُجْرَةَ لَهُ
وَالْبَابُ يَتَّسِعُ هَهُنَا جِدًّا، فأما أَنْ يَتَزَيَّدُوا مِنْ التَّحَكُّمِ
فِي أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَأَمَّا أَنْ يَتَنَاقَضُوا، لاَ بُدَّ
مِنْ أَحَدِهِمَا. وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ: فَفِي غَايَةِ
الْفَسَادِ وَالتَّخْلِيطِ ; لأََنَّهُمْ حَدُّوا حَدًّا لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ
قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ
تَابِعٍ، وَلاَ أَحَدٍ قَبْلَهُمْ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ رَأْيٌ يُعْقَلُ. ثُمَّ
فِيهِ مِنْ التَّخَاذُلِ مَا لاَ يَخْفَى عَلَى ذِي مُسْكَةِ عَقْلٍ، وَهُمْ قَدْ
قَالُوا: مَنْ قَتَلَ جَارِيَةً تُسَاوِي مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا،
أَوْ أَقَلَّ إلَى خَمْسَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إِلاَّ خَمْسَةُ
آلاَفٍ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا يُسَاوِي عِشْرِينَ
أَلْفَ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا، أَوْ أَقَلَّ إلَى عَشَرَةِ آلاَفِ دِرْهَمٍ لَمْ
يَكُنْ عَلَيْهِ إِلاَّ عَشَرَةُ آلاَفِ دِرْهَمٍ غَيْرَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ.
ثُمَّ سَوَّوْا فِي جُعْلِ الآبِقِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ، وَأَسْقَطَ
أَبُو حَنِيفَةَ دِرْهَمًا مِنْ قِيمَتِهِ إنْ لَمْ يُسَاوِ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا، فَهَلاَّ أَسْقَطَ مِنْ ثَمَنِ الذَّكَرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَمِنْ
ثَمَنِ الأَمَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ كَمَا فَعَلَ فِي الْقَتْلِ؟ أَوْ هَلَّا
أَسْقَطَ هُنَالِكَ
(8/206)
دِرْهَمًا كَمَا أَسْقَطَ
هُنَا؟ وَلَيْتَ شِعْرِي مِنْ أَيْنَ قَصَدُوا إلَى الدِّرْهَمِ؟ وَلَعَلَّهُ
بَغْلِيٌّ أَيْضًا كَاَلَّذِي حَدَّ بِهِ النَّجَاسَاتِ، وَهَلَّا حَدَّ بِنِصْفِ
دِرْهَمٍ أَوْ بِرُبُعِ دِرْهَمٍ أَوْ بِفَلْسٍ؟ ثُمَّ إيجَابُ أَبِي يُوسُفَ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فِي جُعْلِهِ وَإِنْ لَمْ يُسَاوِ إِلاَّ دِرْهَمًا فَيَا
لِلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ مَنْ أَضَلُّ طَرِيقَةً، أَوْ أَبْعَدُ، عَنِ
الْحَقِيقَةِ، أَوْ أَقَلُّ مُرَاقَبَةً مِمَّنْ يُعَارِضُ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم فِي الْمُصَرَّاةِ فِي أَنْ تُرَدَّ وَصَاعِ تَمْرٍ
لِحَمَاقَتِهِمْ وَآرَائِهِمْ الْمُنْتِنَةِ فَقَالُوا: أَرَأَيْت إنْ كَانَ
اشْتَرَاهَا بِنِصْفِ صَاعِ تَمْرٍ ثُمَّ يُوجِبُ مِثْلَ هَذَا فِي الْجُعْلِ
الَّذِي لَمْ يَصِحَّ فِيهِ سُنَّةٌ قَطُّ. وَهَلَّا إذْ حَمَّقُوا هَهُنَا
قَالُوا فِي الْمُصَرَّاةِ: يَرُدُّهَا وَقِيمَتَهَا مِنْ صَاعِ تَمْرٍ إنْ
كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ صَاعٍ إِلاَّ تَمْرَتَيْنِ، أَوْ إِلاَّ نِصْفَ مُدٍّ أَوْ
نَحْوَ ذَلِكَ. ثُمَّ مَوَّهُوا بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ أَثَرًا
مُرْسَلاً، وَرِوَايَاتٍ، عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ
كُلِّهِ، بَلْ خَالَفُوا الأَثَرَ الْمُرْسَلَ فِي ذَلِكَ، وَخَالَفُوا كُلَّ
رِوَايَةٍ رُوِيَتْ فِي ذَلِكَ، عَنْ صَاحِبٍ أَوْ تَابِعٍ عَلَى مَا نَذْكُرُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وأعجب شَيْءٍ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الإِجْمَاعَ قَدْ صَحَّ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ
إجْمَاعًا فَقَدْ خَالَفُوهُ، وَمَنْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ عِنْدَهُمْ كَفَرَ
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأََصْحَابِ السَّعِيرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
إجْمَاعًا فَقَدْ كَذَبُوا عَلَى الأُُمَّةِ كُلِّهَا، وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ
اُنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ
عَطَاءٍ أَوْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالاَ جَمِيعًا:
مَا زِلْنَا نَسْمَعُ " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى فِي
الْعَبْدِ الآبِقِ يُوجَدُ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ دِينَارًا أَوْ عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ ". وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالاَ جَمِيعًا: جَعَلَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الآبِقِ إذَا جِيءَ بِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ
دِينَارًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ عَمْرِو
بْنِ دِينَارٍ قَالَ: " قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الآبِقِ
يُوجَدُ فِي الْحَرَمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ". وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ
الطَّائِفَتَيْنِ مَعَ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ، وَلاَ
مُرْسَلَ أَصَحَّ مِنْ هَذَا; لأََنَّ عَمْرًا، وَعَطَاءً، وَابْنَ أَبِي
مُلَيْكَةَ ثِقَاتٌ أَئِمَّةٌ نُجُومٌ، وَكُلُّهُمْ أَدْرَكَ الصَّحَابَةَ،
فَعَطَاءٌ أَدْرَكَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَصَحِبَهَا فَمَنْ دُونَهَا،
وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَدْرَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنَ عُمَرَ، وَأَسْمَاءَ
بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنَ الزُّبَيْرِ، وَسَمِعَ مِنْهُمْ وَجَالَسَهُمْ.
وَعَمْرٌو أَدْرَكَ جَابِرًا، وَابْنَ عَبَّاسٍ وَصَحِبَهُمَا، لاَ سِيَّمَا مَعَ
قَوْلِ اثْنَيْنِ مِنْهُمَا لاَ نُبَالِي أَيَّهُمَا كَانَا أَنَّهُمَا مَا زَالاَ
يَسْمَعَانِ ذَلِكَ. فَهَانَ عِنْدَ هَؤُلاَءِ مُخَالَفَةُ كُلِّ ذَلِكَ تَقْلِيدًا
لِخَطَأِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَسَهُلَ عِنْدَهُمْ فِي رَدِّ السُّنَنِ
الثَّابِتَةِ بِتَقْلِيدِ رِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ:
الْبَيْعُ، عَنْ صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ وَسَائِرُ الْمُرْسَلاَتِ الْوَاهِيَةِ
إذَا وَافَقَتْ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، فَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هَذِهِ
طَرِيقَتُهُ فِي دِينِهِ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَمِنْ طَرِيقِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ
(8/207)
عَنْ أَيُّوبَ أَبِي
الْعَلاَءِ، عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي هَاشِمٍ، كِلاَهُمَا قَالَ: إنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَضَى فِي جُعْلِ الآبِقِ إذَا أُصِيبَ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، فَإِنْ أُصِيبَ فِي الْمِصْرِ فَعِشْرِينَ دِرْهَمًا، أَوْ
عَشَرَةَ دَرَاهِمَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي،
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فِي جُعْلِ الآبِقِ دِينَارٌ، أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا وَهَذَا
كُلُّهُ خِلاَفَ قَوْلِ الْمَالِكِيِّينَ وَالْحَنَفِيِّينَ. وَمِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، قَالاَ جَمِيعًا: حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ الأَعْوَرِ، عَنْ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي جُعْلِ الآبِقِ دِينَارٌ، أَوْ اثْنَا
عَشَرَ دِرْهَمًا زَادَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَتِهِ: إذَا كَانَ خَارِجًا مِنْ
الْمِصْرِ وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ قَوْلِ الْمَالِكِيِّينَ وَالْحَنَفِيِّينَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: أُعْطِيت الْجُعَلَ فِي زَمَنِ
مُعَاوِيَةَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِ الْحَنَفِيِّينَ
وَالْمَالِكِيِّينَ. ثُمَّ لَيْسَ فِيهِ: أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَضَى بِذَلِكَ، وَلاَ
أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ عَلَى أَبِي إِسْحَاقَ، وَلاَ فِي أَيِّ شَيْءٍ أَعْطَاهُ،
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَطَوَّعَ بِذَلِكَ، وَلاَ يُدْرَى فِي أَيِّ شَيْءٍ، فَلاَ
مُتَعَلِّقَ لَهُمْ بِهَذَا أَصْلاً وَلَعَلَّهُ أَعْطَاهُ فِي جُعْلٍ شَرْطِيٍّ
وَكَّلَهُ عَلَيْهِ زِيَادٌ ظُلْمًا. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
السَّلاَمِ الْخُشَنِيِّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ ابْنِ
رَبَاحٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ:
أَتَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ بِإِبَاقٍ، أَوْ بِآبِقٍ فَقَالَ: الأَجْرُ
وَالْغَنِيمَةُ قُلْت: هَذَا الأَجْرُ، فَمَا الْغَنِيمَةُ قَالَ: مِنْ كُلِّ
رَأْسٍ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ: أَنَّ رَجُلاً أَصَابَ آبِقًا
بِعَيْنِ التَّمْرِ فَجَاءَ بِهِ فَجَعَلَ فِيهِ ابْنُ مَسْعُودٍ أَرْبَعِينَ
دِرْهَمًا.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ،
حَدَّثَنَا شَيْخٌ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ
سُئِلَ، عَنْ جُعْلِ الآبِقِ فَقَالَ: إذَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْكُوفَةِ فَأَرْبَعِينَ،
وَإِذَا كَانَ بِالْكُوفَةِ فَعَشَرَةً هَذَا كُلُّ مَا رُوِيَ فِيهِ، عَنِ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَكُلُّهُ مُخَالِفٌ لأََبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ،
وَلَمْ يَحِدَّ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَلاَ أَحَدٌ قَبْلَهُ مَسِيرَةَ ثَلاَثٍ
بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ كُلُّ ذَلِكَ لاَ يَصِحُّ.
أَمَّا عَنْ عُمَرَ فَأَحَدُ الطَّرِيقَيْنِ مُنْقَطِعٌ وَالأُُخْرَى وَاَلَّتِي
عَنْ عَلِيٍّ فَكِلاَهُمَا عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ
وَاَلَّتِي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ شَيْخٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ وَعَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْقُرَشِيِّ وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ: فَصَحَّ عَنْ شُرَيْحٍ، وَزِيَادٍ: أَنَّ الآبِقَ إنْ
وُجِدَ فِي الْمِصْرِ فَجُعْلُ وَاجِدِهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ وُجِدَ
خَارِجَ الْمِصْرِ فَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَرُوِيَ هَذَا أَيْضًا، عَنِ
الشَّعْبِيِّ .وَبِهِ يَقُولُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَهَذَا خِلاَفُ
(8/208)
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمَالِكٍ. وَصَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ
قَضَى فِي جُعْلِ الآبِقِ إذْ أُخِذَ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ ثَلاَثَةُ
دَنَانِيرَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ قَضَى عُمَرُ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي الآبِقِ فِي يَوْمٍ دِينَارًا، وَفِي يَوْمَيْنِ
دِينَارَيْنِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ، فَمَا زَادَ عَلَى
أَرْبَعَةٍ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَرْبَعَةٌ وَهَذَا كُلُّهُ خِلاَفُ قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
قَالَ: جُعْلُ الآبِقِ قَدْ كَانَ يُجْعَلُ فِيهِ وَهُوَ الَّذِي يُعْمَلُ فِيهِ
أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَهَذَا عُمُومٌ، وَخِلاَفُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَمَالِكٍ وَقَدْ جَاءَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ خِلاَفُ هَذَا، وَمِثْلُ قَوْلِنَا.
وقال أحمد بْنُ حَنْبَلٍ: إنْ وُجِدَ فِي الْمِصْرِ فَلاَ شَيْءَ، وَإِنْ وُجِدَ
خَارِجَ الْمِصْرِ فَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
قال أبو محمد: فَهُمْ ثَلاَثَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ لَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ
مِنْهُمْ، وَهُمْ أَيْضًا مُخْتَلِفُونَ، وَهُمْ خَمْسَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ
مُخْتَلِفُونَ، فَلَمْ يَسْتَحِ الْحَنَفِيُّونَ مِنْ دَعْوَى الإِجْمَاعِ مِنْ
الصَّحَابَةِ عَلَى جُعْلِ الآبِقِ، وَلَمْ يَصِحَّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ قَطُّ،
وَلاَ جَاءَ إِلاَّ، عَنْ ثَلاَثَةٍ فَقَطْ كَمَا ذَكَرْنَا، وَقَدْ خَالَفُوهُمْ
مَعَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إجْمَاعًا إجْمَاعُهُمْ بِيَقِينٍ
عَلَى الْمُسَاقَاةِ فِي خَيْبَرَ إلَى غَيْرِ أَجَلٍ، وَقَدْ اتَّفَقُوا بِلاَ
شَكٍّ، عَلَى ذَلِكَ عَصْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعَصْرُ أَبِي بَكْرٍ،
وَعُمَرَ رضي الله عنهم، وَلاَ بَالَوْا بِمُخَالَفَةِ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِ هَذَا
الْعَدَدِ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: صَحَّ عَنْهُمْ الْقِصَاصُ مِنْ
اللَّطْمَةِ، وَمِنْ ضَرْبَةٍ بِالسَّوْطِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ،
وَالْعِمَامَةِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. ثُمَّ قَدْ رُوِّينَا خِلاَفَ هَذَا كُلِّهِ،
عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ،
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ
فِي الإِبَاقِ قَالَ: الْمُسْلِمُونَ يَرُدُّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَمِنْ
طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ إسْرَائِيلَ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: الْمُسْلِمُ
يَرُدُّ عَلَى الْمُسْلِمِ: يَعْنِي فِي الآبِقِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ قَالَ فِي
الآبِقِ: الْمُسْلِمُ يَرُدُّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ،
وَالأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وَأَحَدُ قَوْلَيْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ كُلُّهُمْ يَقُولُ: لاَ جُعْلَ فِي
الآبِقِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، هُوَ ابْنُ
كَدَّامٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ قَالَ: قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ:
أَيُجْتَعَلُ فِي الآبِقِ قَالَ: نَعَمْ، قُلْت: الْحُرُّ قَالَ: لاَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا إسْرَائِيلُ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ
(8/209)
بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: إنْ
لَمْ يُعْطِهِ جُعْلاً فَلْيُرْسِلْهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي أَخَذَهُ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وَنَهَى رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَفَرَضَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمِ حِفْظَ
مَالِ أَخِيهِ إذَا وَجَدَهُ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَالِهِ بِغَيْرِ طِيبِ
نَفْسِهِ فَلاَ شَيْءَ لِمَنْ أَتَى بِآبِقٍ ; لأََنَّهُ فَعَلَ فِعْلاً هُوَ
فَرْضٌ عَلَيْهِ، كَالصَّلاَةِ، وَالصِّيَامِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَوْ أَعْطَاهُ بِطِيبِ نَفْسِهِ لَكَانَ حَسَنًا، وَلَوْ أَنَّ الإِمَامَ
يُرَتِّبُ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَطَاهُ لَكَانَ حَسَنًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. تَمَّ "كِتَابُ الْجُعْلِ" بِحَمْدِ اللَّهِ وَعَوْنِهِ.
(8/210)
كتاب المزارعة والمغارسة
مدخل
الاكثار من الزرع والغرس حسن وأجر مالم يشغل ذلك عن الجهاد
...
كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُغَارَسَةِ
1329 - مَسْأَلَةٌ - الإِكْثَارُ مِنْ الزَّرْعِ وَالْغَرْسِ حَسَنٌ وَأَجْرٌ، مَا
لَمْ يُشْغِلْ ذَلِكَ، عَنِ الْجِهَادِ
وَسَوَاءٌ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ، أَوْ الأَرْضِ الَّتِي
أَسْلَمَ أَهْلُهَا عَلَيْهَا، أَوْ أَرْضِ الصُّلْحِ، أَوْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ
الْمَقْسُومَةِ عَلَى أَهْلِهَا أَوْ الْمَوْقُوفَةِ بِطِيبِ الأَنْفُسِ
لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا
قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " مَا
مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَائِرٌ
أَوْ إنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ
أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ فَعَمَّ
عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ. وَكَرِهَ مَالِكٌ الزَّرْعَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ
وَهَذَا خَطَأٌ، وَتَفْرِيقٌ بِلاَ دَلِيلٍ وَاحْتَجَّ لِهَذَا بَعْضُ
مُقَلِّدِيهِ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَالِمٍ الْحِمْصِيُّ،
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الأَلْهَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ
الْبَاهِلِيِّ أَنَّهُ رَأَى سِكَّةً وَشَيْئًا مِنْ آلَةِ الْحَرْثِ فَقَالَ:
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لاَ يَدْخُلُ هَذَا بَيْتَ
قَوْمٍ إِلاَّ دَخَلَهُ الذُّلُّ ".
قال أبو محمد: لَمْ تَزَلْ الأَنْصَارُ كُلُّهُمْ، وَكُلُّ مَنْ قَسَّمَ لَهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَرْضًا مِنْ فُتُوحِ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَمَنْ
أَقْطَعَهُ أَرْضًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَزْرَعُونَ وَيَغْرِسُونَ بِحَضْرَتِهِ
صلى الله عليه وسلموَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ،
وَعُمَانَ، وَالْيَمَنِ، وَالطَّائِفِ، فَمَا حَضَّ عليه السلام قَطُّ عَلَى
تَرْكِهِ. وهذا الخبر عُمُومٌ كَمَا تَرَى لَمْ يَخُصَّ بِهِ غَيْرَ أَهْلِ
بِلاَدِ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ
(8/210)
بِلاَدِ الْعَرَبِ،
وَكَلاَمُهُ عليه السلام لاَ يَتَنَاقَضُ. فَصَحَّ أَنَّ الزَّرْعَ الْمَذْمُومَ
الَّذِي يُدْخِلُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَهْلِهِ الذُّلَّ هُوَ مَا تُشُوغِلَ
بِهِ، عَنِ الْجِهَادِ، وَهُوَ غَيْرُ الزَّرْعِ الَّذِي يُؤَجِّرُ صَاحِبَهُ،
وَكُلُّ ذَلِكَ حَسَنُهُ وَمَذْمُومُهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ أَوْ
فِي أَرْضِ الْعَجَمِ إذْ السُّنَنُ فِي ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهَا. وَاحْتَجُّوا
أَيْضًا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
رَاشِدٍ، عَنْ مَكْحُولٍ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ زَرَعُوا بِالشَّامِ، فَبَلَغَ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، فَأَمَرَ بِإِحْرَاقِهِ وَقَدْ ابْيَضَّ، فَأُحْرِقَ،
وَأَنَّ مُعَاوِيَةَ تَوَلَّى حَرْقَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ أَسَدِ بْنِ مُوسَى، عَنْ
شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ الْمُرَادِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ قَالَ لِقَيْسِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الْمَرَادِيِّ: لاَ آذَنُ لَك
بِالزَّرْعِ إِلاَّ أَنْ تُقِرَّ بِالذُّلِّ، وَأَمْحُو اسْمَك مِنْ الْعَطَاءِ،
وَأَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الشَّامِ مَنْ زَرَعَ وَاتَّبَعَ أَذْنَابَ
الْبَقَرِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ جَعَلْت عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ.
قال أبو محمد: هَذَا مُرْسَلٌ، وَأَسَدٌ ضَعِيفٌ، وَيُعِيذُ اللَّهُ أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يُحْرِقَ زُرُوعَ الْمُسْلِمِينَ وَيُفْسِدَ
أَمْوَالَهُمْ، وَمِنْ أَنْ يَضْرِبَ الْجِزْيَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِهَذَا، وَهُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لَهُ.
(8/211)
لا يجوز اكراء الأرض بشيء
أصلا
...
1330 - مَسْأَلَةٌ - لاَ يَجُوزُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِشَيْءٍ أَصْلاً لاَ
بِدَنَانِيرَ، وَلاَ بِدَرَاهِمَ، وَلاَ بِعَرْضٍ، وَلاَ بِطَعَامِ مُسَمًّى،
وَلاَ بِشَيْءٍ أَصْلاً.،
وَلاَ يَحِلُّ فِي زَرْعِ الأَرْضِ إِلاَّ أَحَدُ ثَلاَثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ
يَزْرَعَهَا الْمَرْءُ بِآلَتِهِ وَأَعْوَانِهِ وَبَذْرِهِ وَحَيَوَانِهِ.
وَأَمَّا أَنْ يُبِيحَ لِغَيْرِهِ زَرْعَهَا، وَلاَ يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا،
فَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الآلَةِ وَالْحَيَوَانِ، وَالْبَذْرِ، وَالأَعْوَانِ دُونَ
أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ لِلأَرْضِ كِرَاءً فَحَسَنُ. وَأَمَّا أَنْ يُعْطِيَ
أَرْضَهُ لِمَنْ يَزْرَعُهَا بِبَذْرِهِ وَحَيَوَانِهِ وَأَعْوَانِهِ وَآلَتِهِ
بِجُزْءٍ وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الأَرْضِ مِمَّا يُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا
مُسَمًّى، إمَّا نِصْفٌ، وَأَمَّا ثُلُثٌ، أَوْ رُبُعٌ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ
أَكْثَرُ أَوْ أَقَلُّ، وَلاَ يُشْتَرَطُ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ أَلْبَتَّةَ
شَيْءٌ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ، وَيَكُونُ الْبَاقِي لِلزَّارِعِ قَلَّ مَا أَصَابَ
أَوْ كَثُرَ فَإِنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ جَائِزَةٌ، فَمَنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّنَا قَدْ رُوِّينَا، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: " مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا
فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ ". وَمِنْ طَرِيقِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ،
عَنْ عَمِّهِ ظُهَيْرِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مِثْلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ رَافِعٍ، عَنْ عَمٍّ لَهُ بَدْرِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم مِثْلُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ
حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ
نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله
(8/211)
عنهما أَنَّهُ كَانَ يُكْرِي مَزَارِعَهُ قَالَ: فَذَهَبَ إلَى رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَذَهَبْتُ مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَافِعٌ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ الرَّازِيّ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ وَهُوَ الْحَذَّاءُ، حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَخْنَسِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ ". وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ هُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ، هُوَ ابْنُ سَلَّامٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ مَوْلَى ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ قَالَ: وَالْمُحَاقَلَةُ كِرَاءُ الأَرْضِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَقُولُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ . فَهَؤُلاَءِ شَيْخَانِ بَدْرِيَّانِ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَجَابِرٌ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عُمَرَ كُلُّهُمْ يَرْوِي، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام النَّهْيَ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ جُمْلَةً، وَأَنَّهُ لَيْسَ إِلاَّ أَنْ يَزْرَعَهَا صَاحِبُهَا أَوْ يَمْنَحَهَا غَيْرَهُ أَوْ يَمْسِكَ أَرْضَهُ فَقَطْ، فَهُوَ نَقْلُ تَوَاتُرٍ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ الْمُتَيَقَّنِ فَأَخَذَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ أَنَّ بُكَيْرًا، هُوَ ابْنُ الأَشَجِّ حَدَّثَهُ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: كُنَّا نُكْرِي أَرْضَنَا، ثُمَّ تَرَكْنَا ذَلِكَ حِينَ سَمِعْنَا حَدِيثَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ كَرِهَ كِرَاءَ الأَرْضِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ قَرَأْت عَلَى سَعِيدِ بْنِ يَعْقُوبَ الطَّالَقَانِيِّ قُلْت: أُحَدِّثُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدٍ أَبِي شُجَاعٍ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ سَهْلِ بْنِ رَافِعٍ قَالَ: إنِّي يَتِيمٌ فِي حِجْرِ جَدِّي رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَحَجَجْت مَعَهُ، فَجَاءَهُ أَخِي عِمْرَانُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: أَكْرَيْنَا أَرْضَنَا فُلاَنَةَ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ
(8/212)
فَقَالَ: دَعْهُ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ وَعَنْ عَمِّي
رَافِعٍ نَحْوُهُ.
وَمِنْ التَّابِعِينَ: كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
لاَ يَصْلُحُ مِنْ الزَّرْعِ إِلاَّ أَرْضٌ تُمَلَّكُ رَقَبَتُهَا، أَوْ أَرْضٌ
يَمْنَحُكَهَا رَجُلٌ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ
بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ كَرِهَ إجَارَةَ الأَرْضِ. وبه إلى
وَكِيعٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ
الْحَسَنِ أَنَّهُ كَرِهَ كِرَاءَ الأَرْضِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ كِرَاءَ
الأَرْضِ الْبَيْضَاءِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ أَنَّ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
لاَ يَصْلُحُ كِرَاءُ الأَرْضِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا
عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ
مُرَّةَ قَالَ: سَأَلْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ،
عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ فَقَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ.
قال أبو محمد: فَأَفْتَى مَنْ اسْتَفْتَاهُ بِالنَّهْيِ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، حَدَّثَنَا
خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ
حَسَّانَ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ كِرَاءَ الأَرْضِ
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وبه إلى إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيِّ، حَدَّثَنَا دَاوُد
بْنُ رَشِيدٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ
قَالَ: كَانَ عَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ
يَقُولُونَ: لاَ تَصْلُحُ الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ بِالدَّرَاهِمِ، وَلاَ
بِالدَّنَانِيرِ، وَلاَ مُعَامَلَةً إِلاَّ أَنْ يَزْرَعَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ
يَمْنَحَهَا. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ،
عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الزَّرْعَ. قَالَ
الشَّعْبِيُّ: فَذَلِكَ الَّذِي مَنَعَنِي وَلَقَدْ كُنْت مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ
السَّوَادِ ضَيْعَةً وَهَذَا يَقْتَضِي، وَلاَ بُدَّ ضَرُورَةً أَنَّهُمَا كَانَا
يَكْرَهَانِ إجَارَةَ الأَرْضِ جُمْلَةً.
فَهَؤُلاَءِ: عَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَمَسْرُوقٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وطَاوُوس،
وَالْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، كُلُّهُمْ، لاَ يَرَى
كِرَاءَ الأَرْضِ أَصْلاً لاَ بِدَنَانِيرَ، وَلاَ بِدَرَاهِمَ، وَلاَ بِغَيْرِ
ذَلِكَ. فَصَحَّ النَّهْيُ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ جُمْلَةً، ثُمَّ وَجَدْنَا قَدْ
صَحَّ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ
الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ
زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ
إسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، هُوَ ابْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يُعْمِلُوهَا وَيَزْرَعُوهَا وَلَهُمْ شَطْرُ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ رُمْحٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
نَافِعٍ عَنِ
(8/213)
ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ دَفَعَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ
وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَلِرَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم نِصْفُ ثَمَرِهَا . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا ابْنُ
جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى خَيْبَرَ أَرَادَ
إخْرَاجَ الْيَهُودِ عَنْهَا، فَسَأَلُوهُ عليه السلام أَنْ يُقِرَّهُمْ بِهَا
عَلَى أَنْ يَكْفُوا عَمَلَهَا وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نُقِرُّكُمْ بِهَا عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا
فَقَرُّوا بِهَا حَتَّى أَجَلاَهُمْ عُمَرُ. فَفِي هَذَا أَنَّ آخِرَ فِعْلِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى أَنْ مَاتَ كَانَ إعْطَاءَ الأَرْضِ
بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ الزَّرْعِ وَمِنْ الثَّمَرِ وَمِنْ الشَّجَرِ،
وَعَلَى هَذَا مَضَى أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَجَمِيعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
مَعَهُمْ، فَوَجَبَ اسْتِثْنَاءُ الأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ
جُمْلَةِ مَا صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ أَنْ تُكْرَى الأَرْضُ أَوْ يُؤْخَذُ
لَهَا أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ، وَكَانَ هَذَا الْعَمَلُ الْمُتَأَخِّرُ نَاسِخًا
لِلنَّهْيِ الْمُتَقَدِّمِ، عَنْ إعْطَاءِ الأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ
مِنْهَا; لأََنَّ النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ قَدْ صَحَّ، فَلَوْلاَ أَنَّهُ قَدْ
صَحَّ لَقُلْنَا: لَيْسَ نَسْخًا، لَكِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ
النَّهْيِ، وَلَوْلاَ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم مَاتَ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ لَمَا قَطَعْنَا بِالنَّسْخِ، لَكِنْ ثَبَتَ
أَنَّهُ آخِرُ عَمَلِهِ عليه السلام. فَصَحَّ أَنَّهُ نَسْخٌ صَحِيحٌ مُتَيَقَّنٌ
لاَ شَكَّ فِيهِ، وَبَقِيَ النَّهْيُ، عَنِ الإِجَارَةِ جُمْلَةً بِحَسَبِهِ، إذْ
لَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يَنْسَخُهُ، وَلاَ يُخَصِّصُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ بِالْكَذِبِ
الْبَحْتِ، أَوْ الظَّنِّ السَّاقِطِ الَّذِي لاَ يَحِلُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي
الدِّينِ.
فإن قيل: إنَّمَا صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ عَنْ أَنْ
يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ، وَعَنْ أَنْ تُكْرَى بِثُلُثٍ أَوْ
بِرُبُعٍ، وَصَحَّ أَنَّهُ أَعْطَاهُ بِالنِّصْفِ فَأَجِيزُوا إعْطَاءَهَا
بِالنِّصْفِ خَاصَّةً وَامْنَعُوا مِنْ إعْطَائِهَا بِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ قلنا:
لاَ يَجُوزُ هَذَا; لأََنَّهُ إذَا أَبَاحَ عليه السلام إعْطَاءَهَا بِالنِّصْفِ
لَهُمْ وَالنِّصْفِ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَهُ عليه السلام، فَبِضَرُورَةِ الْحِسِّ،
وَالْمُشَاهَدَةِ يَدْرِي كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الثُّلُثَ، وَالرُّبُعَ، وَمَا دُونَ
ذَلِكَ، وَفَوْقَ ذَلِكَ مِنْ الأَجْزَاءِ مِمَّا دُونَ النِّصْفِ دَاخِلٌ فِي
النِّصْفِ، فَقَدْ أَعْطَاهَا عليه السلام بِالرُّبُعِ وَزِيَادَةٍ وَبِالثُّلُثِ
وَزِيَادَةٍ.فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ
تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَمِمَّنْ أَجَازَ إعْطَاءَ الأَرْضِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهَا.رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ
زَائِدَةَ، عَنْ حَجَّاجٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ:
عَامَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ ثُمَّ
أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ
(8/214)
قَالَ: عَامَلَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَى إنْ جَاءَ عُمَرُ بِالْبَذْرِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَهُ
الشَّطْرُ وَإِنْ جَاءُوا بِالْبَذْرِ فَلَهُمْ كَذَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ حُصَيْرَةَ
حَدَّثَنِي صَخْرُ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ صُلَيْعٍ أَنَّ رَجُلاً
قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَخَذْت أَرْضًا بِالنِّصْفِ أَكْرِي
أَنْهَارَهَا وَأُصْلِحُهَا وَأَعْمُرُهَا قَالَ عَلِيٌّ: لاَ بَأْسَ بِهَا. قَالَ
عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كِرَاءُ الأَنْهَارِ هُوَ حَفْرُهَا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ أَنَّهُ سَمِعَ طَاوُوسًا يَقُولُ:
قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ فَأَعْطَى الأَرْضَ عَلَى الثُّلُثِ
وَالرُّبُعِ، فَنَحْنُ نَعْمَلُهَا إلَى الْيَوْمِ.
قال أبو محمد: مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمُعَاذٌ بِالْيَمَنِ
عَلَى هَذَا الْعَمَلِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قَالَ سُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ
ابْنُ عُمَرَ يُعْطِي أَرْضَهُ بِالثُّلُثِ، وَهَذَا عَنْهُ فِي غَايَةِ
الصِّحَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْهُ رُجُوعَهُ، عَنْ إبَاحَةِ كِرَاءِ الأَرْضِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ فَقُلْت: أَرْضٌ تَقَبَّلْتهَا
لَيْسَ فِيهَا نَهْرٌ جَارٍ، وَلاَ نَبَاتٌ عَشْرَ سِنِينَ بِأَرْبَعَةِ آلاَفِ
دِرْهَمٍ كُلَّ سَنَةٍ كَرَيْت أَنْهَارَهَا، وَعَمَّرْت فِيهَا قُرَاهَا،
وَأَنْفَقْت فِيهَا نَفَقَةً كَثِيرَةً، وَزَرَعْتهَا لَمْ تَرُدَّ عَلَيَّ رَأْسَ
مَالِي زَرَعْتهَا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَأُضْعِفُ قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ
يَصْلُحُ لَك إِلاَّ رَأْسُ مَالِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، وَأَبُو الأَحْوَصِ، كِلاَهُمَا، عَنْ
كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ قُلْت لأَبْنِ عُمَرَ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ، وَمَاءٌ، لَيْسَ
لَهُ بَذْرٌ، وَلاَ بَقَرٌ، فَأَعْطَانِي أَرْضَهُ بِالنِّصْفِ، فَزَرَعْتهَا بِبَذْرِي
وَبَقَرِي، ثُمَّ قَاسَمْته قَالَ: حَسَنٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إيَادِ بْنِ
لَقِيطٍ كِلاَهُمَا، عَنْ كُلَيْبِ بْنِ وَائِلٍ مِثْلُهُ أَيْضًا فَهَذَانِ
إسْنَادَانِ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ كُلَيْبُ
بْنُ وَائِلٍ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالدَّرَاهِمِ فَلَمْ يُجِزْهُ، وَلاَ
أَجَازَ مَا أَصَابَ فِيهَا زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ مَا أَنْفَقَ، وَسَأَلَهُ،
عَنْ أَخْذِهَا بِالنِّصْفِ مِمَّا يَخْرُجُ فِيهَا، لاَ يَجْعَلُ صَاحِبُهَا
فِيهَا لاَ بَذْرًا، وَلاَ عَمَلاً وَيَكُونُ الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ
وَالْبَذْرُ فَأَجَازَهُ وَهَذَا هُوَ نَفْسُ قَوْلِنَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، وَأَبِي عَوَانَةَ وَأَبِي الأَحْوَصِ وَغَيْرِهِمْ كُلُّهُمْ،
عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ، عَنْ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنُ عُبَيْدِ
اللَّهِ أَنَّهُ شَاهَدَ جَارَيْهِ سَعْدِ
(8/215)
بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ،
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُعْطِيَانِ أَرْضَهُمَا عَلَى الثُّلُثِ.وَمِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عُثْمَانَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ: أَنَّ خَبَّابَ
بْنَ الأَرَتِّ، وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ، وَابْنَ مَسْعُودٍ كَانُوا
يُعْطُونَ أَرْضَهُمْ الْبَيَاضَ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. فَهَؤُلاَءِ أَبُو
بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَسَعْدٌ، وَابْنُ مَسْعُودٍ،
وَخَبَّابٌ، وَحُذَيْفَةُ، وَمُعَاذٌ بِحَضْرَةِ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ.
وَمِنْ التَّابِعِينَ: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ
أَخْبَرَنِي مَنْ سَأَلَ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ، عَنِ الأَرْضِ تُعْطَى بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ
بِهِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ نَهْيَهُ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ وَهَذَا نَصُّ
قَوْلِنَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ
عِيَاضٍ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُمَا كَانَا لاَ يَرَيَانِ
بَأْسًا أَنْ يُعْطِيَ أَرْضَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الثُّلُثَ، أَوْ الرُّبُعَ،
وَالْعُشْرَ، وَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ شَيْءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ عَدِيٍّ،
حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ
طَاوُوس يَكْرَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلاَ يَرَى
بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ بَأْسًا وَهَذَا نَصُّ قَوْلِنَا. وَمِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ،
وَابْنَ سِيرِينَ كَانَا لاَ يَرَيَانِ بَأْسًا بِالإِجَارَةِ عَلَى الثُّلُثِ
وَالرُّبُعِ يَعْنِي فِي الأَرْضِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا نَهْيَ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ
كِرَاءِ الأَرْضِ فَقَوْلُهُ هُوَ قَوْلُنَا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ
الْعَزِيزِ كَتَبَ: أَنْ أَعْطُوا الأَرْضَ عَلَى الرُّبُعِ، وَالثُّلُثِ
وَالْخُمُسِ، إلَى الْعُشْرِ، وَلاَ تَدَعُوا الأَرْضَ خَرَابًا. وَرُوِّينَاهُ
أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ
غِيَاثٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ قَالَ حَفْصٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ
سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ
ثُمَّ اتَّفَقَ يَحْيَى، وَخَالِدٌ عَلَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمَرَ
بِإِعْطَاءِ الأَرْضِ بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى قَالَ: كَانَ لِعَبْدِ
الرَّحْمَن بْنِ أَبِي لَيْلَى أَرْضٌ بِالْفَوَّارَةِ فَكَانَ يَدْفَعُهَا
بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ فَيُرْسِلُنِي فَأُقَاسِمُهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ سَأَلْت الزُّهْرِيَّ، عَنْ إعْطَاءِ الأَرْضِ
بِالثُّلُثِ، وَالرُّبُعِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَخْبَرَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ قَالَ: مَا بِالْمَدِينَةِ أَهْلُ بَيْتِ هِجْرَةٍ إِلاَّ وَهُمْ
يُعْطُونَ أَرْضَهُمْ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ
(8/216)
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ
أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَوْهَبٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا جَعْفَرٍ
مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: آلُ أَبِي بَكْرٍ، وَآلُ
عُمَرَ، وَآلُ عَلِيٍّ يَدْفَعُونَ أَرْضَهُمْ بِالثُّلُثِ، أَوْ الرُّبُعِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ
بُكَيْرِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ
قَالَ كُنْت أُزَارِعُ بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَأَحْمِلُهُ إلَى عَلْقَمَةَ،
وَالأَسْوَدِ، فَلَوْ رَأَيَا بِهِ بَأْسًا لَنَهَيَانِي عَنْهُ.
وَرُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ يَزِيدَ، وَمُوسَى
بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى،
وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَالأَوْزَاعِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدِ بْنِ
الْحَسَنِ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَاخْتُلِفَ فِيهَا، عَنِ اللَّيْثِ،
وَأَجَازَهَا أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ إِلاَّ أَنَّهُمَا قَالاَ: إنَّ الْبَذْرَ
يَكُونُ مِنْ عِنْدِ صَاحِبِ الأَرْضِ وَإِنَّمَا عَلَى الْعَامِلِ الْبَقَرُ،
وَالآلَةُ، وَالْعَمَلُ وَأَجَازَهَا بَعْضُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَلَمْ يُبَالِ
مَنْ جَعَلَ الْبَذْرَ مِنْهُمَا.
قال أبو محمد: فِي اشْتِرَاطِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ
خَيْبَرَ أَنْ يَعْمَلُوهَا بِأَمْوَالِهِمْ: بَيَانٌ أَنَّ الْبَذْرَ
وَالنَّفَقَةَ كُلُّهَا عَلَى الْعَامِلِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ، فَإِنْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الأَرْضِ
بِأَنْ يُقْرِضَ الْعَامِلَ الْبَذْرَ، أَوْ بَعْضَهُ أَوْ مَا يَبْتَاعُ بِهِ
الْبَقَرَ، أَوْ الآلَةَ، أَوْ مَا يَتَّسِعُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فِي
الْعَقْدِ فَهُوَ جَائِزٌ; لأََنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ، وَالْقَرْضُ أَجْرٌ وَبِرٌّ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاتَّفَقَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ،
وَمُحَمَّدٌ، وَزُفَرُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ عَلَى جَوَازِ كِرَاءِ الأَرْضِ،
وَاخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْضًا، وَفِي الْمُزَارَعَةِ فَأَجَازَ كُلُّ مَنْ
ذَكَرْنَا حَاشَا مَالِكًا وَحْدَهُ كِرَاءَ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ،
وَبِالطَّعَامِ الْمُسَمَّى كَيْلُهُ فِي الذِّمَّةِ مَا لَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ
يَكُونَ مِمَّا تَخْرُجُهُ تِلْكَ الأَرْضُ وَبِالْعُرُوضِ كُلِّهَا. وقال مالك
بِمِثْلِ ذَلِكَ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُجِزْ كِرَاءَ الأَرْضِ بِشَيْءٍ مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهَا، وَلاَ بِشَيْءٍ مِنْ الطَّعَامِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا:
كَالْعَسَلِ، وَالْمِلْحِ، وَالْمُرِّيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَجَازَ كِرَاءَهَا
بِالْخَشَبِ وَالْحَطَبِ وَإِنْ كَانَا يَخْرُجَانِ مِنْهَا وَهَذَا تَقْسِيمٌ لاَ
نَعْرِفُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَتَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ وَمَا نَعْلَمُ لِقَوْلِهِ
هَذَا مُتَعَلَّقًا، لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ مُتَقَدِّمٍ، وَلاَ قِيَاسٍ، وَلاَ رَأْيٍ
لَهُ وَجْهٌ يَعْنِي اسْتِثْنَاءَهُ الْعَسَلَ، وَالْمِلْحَ، وَإِجَازَتَهُ
الْخَشَبَ، وَالْحَطَبَ. وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ إعْطَاءَ الأَرْضِ
بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يُزْرَعُ فِيهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وقال مالك:
لاَ يَجُوزُ إعْطَاءُ الأَرْضِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا تُخْرِجُ الأَرْضُ،
إِلاَّ أَنْ تَكُونَ أَرْضٌ وَشَجَرٌ، فَيَكُونُ مِقْدَارُ الْبَيَاضِ مِنْ
الأَرْضِ ثُلُثَ مِقْدَارِ الْجَمِيعِ، وَيَكُونُ السَّوَادُ مِقْدَارَ
الثُّلُثَيْنِ مِنْ
(8/217)
الْجَمِيعِ، فَيَجُوزُ
حِينَئِذٍ أَنْ تُعْطَى بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالنِّصْفِ عَلَى مَا يُعْطَى
بِهِ ذَلِكَ السَّوَادُ. وقال الشافعي: لاَ يَجُوزُ إعْطَاءُ الأَرْضِ بِجُزْءٍ
مُسَمًّى مِمَّا تُخْرِجُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي خِلاَلِ الشَّجَرِ لاَ يُمْكِنُ
سَقْيُهَا، وَلاَ عَمَلُهَا إِلاَّ بِعَمَلِ الشَّجَرِ وَحَفْرِهَا وَسَقْيِهَا،
فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ إعْطَاؤُهَا بِثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ أَوْ نِصْفٍ عَلَى مَا
تُعْطَى بِهِ الشَّجَرُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد: لاَ يَجُوزُ إعْطَاءُ
الأَرْضِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا إِلاَّ أَنْ تُعْطَى هِيَ
وَالشَّجَرُ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجُوزُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ.
قال أبو محمد: حُجَّةُ جَمِيعِهِمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ نَهْيُ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ إعْطَاءِ الأَرْضِ بِالنِّصْفِ، وَالثُّلُثِ،
وَالرُّبُعِ
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَسْنَا نُخَارِجُهُمْ الآنَ فِي أَلْفَاظِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ
بَلْ يَقُولُ: نَعَمْ، قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ
نَهَى، عَنْ أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ، قَالَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ
أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ
وَهَذَا نَهْيٌ، عَنْ إعْطَائِهَا بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، لَكِنْ
فِعْلُهُ عليه السلام فِي خَيْبَرَ هُوَ النَّاسِخُ عَلَى مَا بَيَّنَّا قَبْلُ.
فأما أَبُو حَنِيفَةَ فَخَالَفَ النَّاسِخَ وَأَخَذَ بِالْمَنْسُوخِ. وَأَمَّا
مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ: فَحَيَّرَهُمْ فِعْلُ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم فِي أَرْضِ خَيْبَرَ فَأَخْرَجُوهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
عَنْهُمْ وَكُلُّ تِلْكَ الْوُجُوهِ تَحَكُّمٌ. وَيُقَالُ لِمَنْ قَلَّدَ
مَالِكًا: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ تَحْدِيدُ الْبَيَاضِ بِالثُّلُثِ وَلَمْ يَأْتِ
قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ تَحْدِيدُ ثُلُثٍ، وَلاَ دَلِيلَ عَلَيْهِ،
وَمِثْلُ هَذَا فِي الدِّينِ لاَ يَجُوزُ. وَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تُرِيدُونَ
بِالثُّلُثِ أَثُلُثَ الْمِسَاحَةِ أَوْ ثُلُثَ الْغَلَّةِ أَمْ ثُلُثَ الْقِيمَةِ
فَإِلَى أَيِّ وَجْهٍ مَالُوا مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ قِيلَ لَهُمْ: وَمِنْ أَيْنَ
خَصَّصْتُمْ هَذَا الْوَجْهَ دُونَ غَيْرِهِ وَالْغَلَّةُ قَدْ تَقِلُّ
وَتَكْثُرُ، وَالْقِيمَةُ كَذَلِكَ وَأَمَّا الْمِسَاحَةُ فَقَدْ تَكُونُ
مِسَاحَةً قَلِيلَةَ أَعْظَمَ غَلَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ قِيمَةٍ مِنْ أَضْعَافِهَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ خَيْبَرَ لَمْ تَكُنْ حَائِطًا وَاحِدًا، وَلاَ مَحْشَرًا
وَاحِدًا، وَلاَ قَرْيَةً وَاحِدَةَ، وَلاَ حِصْنًا وَاحِدًا، بَلْ كَانَتْ
حُصُونًا كَثِيرَةً بَاقِيَةً إلَى الْيَوْمِ لَمْ تَتَبَدَّلْ مِنْهَا
الْوَطِيحُ، وَالسَّلاَلِمُ، وَنَاعِمٌ، وَالْقُمُوصُ، وَالْكَتِيبَةُ،
وَالشَّقُّ، وَالنَّطَاةُ، وَغَيْرُهَا وَمَا الظَّنُّ بِبَلَدٍ أَخَذَ فِيهِ
الْقِسْمَةَ مِائَتَا فَارِسٍ وَأَضْعَافُهُمْ مِنْ الرِّجَالِ فَتَمَوَّلُوا
مِنْهَا وَصَارُوا أَصْحَابَ ضِيَاعٍ فَمِنْ أَيْنَ لِمَالِكٍ تَحْدِيدُ الثُّلُثِ
وَقَدْ كَانَ فِيهَا بَيَاضٌ لاَ سَوَادَ فِيهِ، وَسَوَادٌ لاَ بَيَاضَ فِيهِ،
وَبَيَاضُ سَوَادٍ، فَمَا جَاءَ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ تَخْصِيصُ مَا
خَصَّهُ. فَإِنْ قَالَ: قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الثُّلُثُ
وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ. قلنا: نَعَمْ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمْ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ الثُّلُثَ قَلِيلاً بِخِلاَفِ الأَثَرِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ
وَلِلشَّافِعِيِّ: مِنْ أَيْنَ لَكُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
(8/218)
صلى الله عليه وسلم إنَّمَا
أَعْطَى أَرْضَ خَيْبَرَ بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا; لأََنَّهَا كَانَتْ
تَبَعًا لِلسَّوَادِ؟ وَهَلْ يَعْلَمُ هَذَا أَحَدٌ إِلاَّ مَنْ أَخْبَرَهُ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، عَنْ نَفْسِهِ، وَإِلَّا فَهُوَ
غَفْلَةٌ مِمَّنْ قَالَهُ وَقَطْعٌ بِالظَّنِّ وَأَمَّا بَعْدَ التَّنْبِيهِ
عَلَيْهِ فَمَا هُوَ إِلاَّ الْكَذِبُ الْبَحْتُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم .
وَإِنَّمَا الْحَقُّ الْوَاضِحُ فَهُوَ أَنَّهُ عليه السلام أَعْطَى أَرْضَهَا
بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ وَأَعْطَى نَخْلَهَا وَثِمَارَهَا
كَذَلِكَ، فَنَحْنُ نَقُولُ: هَذَا سُنَّةٌ، وَحَقٌّ أَبَدًا، وَلاَ نَزِيدُ،
وَنَعْلَمُ أَنَّهُ نَاسِخٌ لِمَا تَقَدَّمَهُ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا بِظَاهِرِهِمَا. وَكَذَلِكَ أَيْضًا يُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِقَوْلِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد سَوَاءً بِسَوَاءٍ، وَالْعَجَبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَالَ:
الْمُخَابَرَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ خَيْبَرَ، فَدَلَّ أَنَّهَا بَعْدَ خَيْبَرَ.
قال أبو محمد: وَلَوْ عَلِمَ هَذَا الْقَائِلُ قَبِيحَ مَا أَتَى بِهِ
لاَسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى مِنْهُ، وَلَتَقَنَّعَ حَيَاءً مِنْهُ، أَمَّا
عِلْمُ الْجَاهِلِ أَنَّ خَيْبَرَ كَانَ هَذَا اسْمَهَا قَبْلَ مَوْلِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْمُخَابَرَةَ كَانَتْ تُسَمَّى بِهَذَا
الأَسْمِ كَذَلِكَ، وَأَنَّ إعْطَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ
بِنِصْفِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ كَانَ إلَى يَوْمِ
مَوْتِهِ عليه السلام، وَاتَّصَلَ كَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ عليه السلام فَكَيْف
يَسُوغُ لِذِي عَقْلٍ أَوْ دِينٍ أَنْ يَقُولَ: إنَّ نَهْيَهُ عليه السلام، عَنِ
الْمُخَابَرَةِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أَتَرَى عَهْدَهُ عليه السلام أَتَانَا مِنْ
الآخِرَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عليه السلام بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَمَّا هَذَا مِنْ
السُّخْفِ، وَالتَّلَوُّثِ، وَالْعَارِ مِمَّنْ يُنْسَبُ إلَى الْعِلْمِ،
وَيَأْتِي بِمِثْلِ هَذَا الْجُنُونِ فَصَحَّ يَقِينًا كَالشَّمْسِ أَنَّ
النَّهْيَ، عَنِ الْمُخَابَرَةِ وَعَنْ إعْطَاءِ الأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا
كَانَ قَبْلَ أَمْرِ خَيْبَرَ بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ الْمُجِيزُونَ لِلْكِرَاءِ بِحَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ
"أَ نَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُزَارَعَةِ
وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ وَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهَا ". وَبِالْخَبَرِ
الَّذِي رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ
رَاهْوَيْهِ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ حَدَّثَنِي حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ
الزُّرَقِيُّ قَالَ: سَأَلْت رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ، عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ
بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَقَالَ: لاَ بَأْسَ بِهِ إنَّمَا كَانَ النَّاسُ
يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى
الْمَاذِيَانَاتِ، وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ،
فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا فَلَمْ
يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلاَّ هَذَا فَلِذَلِكَ زَجَرَ عَنْهُ فأما شَيْءٌ
مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَهَذَانِ خَبَرَانِ صَحِيحَانِ، وَبِمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ
(8/219)
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ هُوَ ابْنُ
عُيَيْنَةَ قَالَ عَمْرٌو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ: قُلْت لِطَاوُسٍ: لَوْ تُرِكَتْ
الْمُخَابَرَةُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا فَمَا
يَزْعُمُونَ فَقَالَ لِي طَاوُوس: إنَّ أَعْلَمَهُمْ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ
أَخْبَرَنِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْهَ عَنْهَا، وَلَكِنْ
قَالَ: لاََنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ
عَلَيْهَا خَرْجًا مَعْلُومًا وَهَذَا أَيْضًا خَبَرٌ صَحِيحٌ. وَبِخَبَرٍ
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَمَّارِ بْنِ
يَاسِرٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، عَنِ
الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ
زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَا وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِمِنْهُ، إنَّمَا أَتَاهُ رَجُلاَنِ قَدْ اقْتَتَلاَ فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنْ كَانَ هَذَا شَأْنُكُمْ فَلاَ تُكْرُوا
الْمَزَارِعَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَقُلْنَا لَهُمْ: أَمَّا حَدِيثُ زَيْدٍ فَلاَ يَصِحُّ،
وَلَكِنَّا نُسَامِحُكُمْ فِيهِ فَنَقُولُ: هَبْكُمْ أَنَّهُ قَدْ صَحَّ فَإِنَّ
رَافِعًا لاَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوَهْمُ بِمِثْلِ هَذَا، بَلْ نَقُولُ: صَدَقَ
زَيْدٌ، وَصَدَقَ رَافِعٌ، وَكِلاَهُمَا أَهْلُ الصِّدْقِ وَالثِّقَةِ، وَإِذْ
حَفِظَ زَيْدٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتَ مَا لَمْ يَسْمَعْهُ رَافِعٌ فَقَدْ سَمِعَ
رَافِعٌ أَيْضًا مَرَّةً أُخْرَى مَا لَمْ يَسْمَعْهُ زَيْدٌ، وَلَيْسَ زَيْدٌ
بِأَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ مِنْ رَافِعٍ، وَلاَ رَافِعٌ أَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ
مِنْ زَيْدٍ، بَلْ كِلاَهُمَا صَادِقٌ. وَقَدْ رَوَى النَّهْيَ، عَنِ الْكِرَاءِ
جُمْلَةً لِلأَرْضِ: جَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَابْنُ
عُمَرَ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ زَيْدٍ. ثم نقول لَهُمْ: إنْ
غَلَّبْتُمْ هَذَا الْخَبَرَ عَلَى حَدِيثِ النَّهْيِ، عَنِ الْكِرَاءِ
فَغَلِّبُوهُ عَلَى النَّهْيِ، عَنِ الْمُخَابَرَةِ، وَلاَ فَرْقَ. وَهَكَذَا
الْقَوْلُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ; لأََنَّهُ يَقُولُ: لَمْ يَنْهَ عَنْهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُ جَابِرٌ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَبُو
سَعِيدٍ، وَابْنُ عُمَرَ: نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
فَكُلٌّ صَادِقٌ، وَكُلٌّ إنَّمَا أَخْبَرَ بِمَا عِنْدَهُ. وَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ
يَسْمَع النَّهْيَ وَهَؤُلاَءِ سَمِعُوهُ، فَمَنْ أَثْبَتَ أَوْلَى مِمَّنْ نَفَى،
وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ عَلِمَ أَوْلَى مِمَّنْ قَالَ: لاَ أَعْلَمُ. وَأَمَّا خَبَرُ
حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ رَافِعٍ، فَاَلَّذِي فِيهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ
كَلاَمِ رَافِعٍ يَعْنِي قَوْلَهُ: وَأَمَّا شَيْءٌ مَضْمُونٌ فَلاَ. وَقَدْ
اُخْتُلِفَ، عَنْ رَافِعٍ فِي ذَلِكَ كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ، وَرَوَى عَنْهُ
سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ النَّهْيَ، عَنْ كِرَائِهَا بِطَعَامٍ مُسَمًّى فَلِمَ
أَجَزْتُمُوهُ وَرِوَايَةُ حَنْظَلَةَ، عَنْ رَافِعٍ شَدِيدَةُ الأَضْطِرَابِ
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالزَّائِدُ عِلْمًا أَوْلَى. وَقَدْ رَوَى عِمْرَانُ بْنُ
سَهْلِ بْنِ رَافِعٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَنَافِعٌ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ،
وَأَبُو النَّجَاشِيِّ وَغَيْرُهُمْ: النَّهْيَ، عَنْ كَرْيِ الأَرْضِ جُمْلَةً،
عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
(8/220)
خِلاَفَ مَا رَوَى عَنْهُ
حَنْظَلَةُ، وَكُلُّهُمْ أَوْثَقُ مِنْ حَنْظَلَةَ فَالزَّائِدُ أَوْلَى. وَأَمَّا
حَدِيثُ أَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ فَنَعَمْ، هُوَ صَحِيحٌ، وَقَدْ صَحَّ نَهْيُهُ
صلى الله عليه وسلم وَخَبَرُ الإِبَاحَةِ مُوَافِقٌ لِمَعْهُودِ الأَصْلِ،
وَخَبَرُ النَّهْيِ زَائِدٌ، فَالزَّائِدُ أَوْلَى، وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ
أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حِينَ نَهَى، عَنِ الْكِرَاءِ فَقَدْ حَرَّمَ مَا
كَانَ مُبَاحًا مِنْ ذَلِكَ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ يَحِلُّ أَنْ يُتْرَكَ الْيَقِينُ
لِلظَّنِّ، وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الإِبَاحَةَ الَّتِي قَدْ تَيَقَّنَّا
بُطْلاَنَهَا قَدْ عَادَتْ فَهُوَ مُبْطِلٌ وَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَلاَ يَجُوزُ
تَرْكُ الْيَقِينِ بِالدَّعْوَى الْكَاذِبَةِ، وَلَيْسَ إِلاَّ تَغْلِيبُ
النَّهْيِ، فَبَطَلَ الْكِرَاءُ جُمْلَةً، وَالْمُخَابَرَةُ جُمْلَةً، أَوْ
تَغْلِيبُ الإِبَاحَةِ، فَيَثْبُتُ الْكِرَاءُ جُمْلَةً، وَالْمُخَابَرَةُ
جُمْلَةً، كَمَا يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ، وَغَيْرُهُمَا.
وَأَمَّا التَّحَكُّمُ فِي تَغْلِيبِ النَّهْيِ فِي جِهَةٍ، وَتَغْلِيبُ
الإِبَاحَةِ فِي أُخْرَى بِلاَ بُرْهَانٍ فَتَحَكُّمُ الصِّبْيَانِ، وَقَوْلٌ لاَ
يَحِلُّ فِي الدِّينِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ:
فَإِنَّ مُقَلِّدِيهِ احْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ أُسَيْدَ بْنِ ظُهَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ قلنا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ إذًا نُكْرِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْحَبِّ قَال: لاَ، قَالَ:
نُكْرِيهَا بِالتِّبْنِ فَقَالَ: لاَ: قَالَ: وَكُنَّا نُكْرِيهَا عَلَى
الرَّبِيعِ السَّاقِي قَالَ: لاَ، ازْرَعْهَا، أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ .
وَبِحَدِيثِ مُجَاهِدٍ، قَالَ رَافِعٌ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم أَنْ نَتَقَبَّلَ الأَرْضَ بِبَعْضِ خَرْجِهَا. وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقٍ، عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَافِعَ
بْنَ خَدِيجٍ قَالَ: إنَّ بَعْضَ عُمُومَتِهِ أَتَاهُمْ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ
لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلاَ يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ، وَلاَ بِرُبُعٍ، وَلاَ
بِطَعَامٍ مُسَمًّى ". وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ
شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
عَمِّي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِكْرِمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ لَبِيبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ
سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ الْمَزَارِعِ يُكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ
فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَكُونُ عَلَى السَّوَاقِي
مِنْ الزَّرْعِ فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْتَصِمُونَ،
فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ وَقَالَ:
أَكْرُوا بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ . وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ
بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ سَعْدِ
بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: أَرْخَصَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي
كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ، وَالْوَرِقِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا
حَنْظَلَةُ بْنُ قَيْسٍ الزُّرَقِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ
يَقُولُ: كُنَّا نَقُولُ لِلَّذِي نُخَابِرُهُ: لَك هَذِهِ الْقِطْعَةُ
(8/221)
وَلَنَا هَذِهِ الْقِطْعَةُ
نَزْرَعُهَا فَرُبَّمَا أَخْرَجَتْ هَذِهِ وَلَمْ تُخْرِجْ هَذِهِ فَنَهَانَا
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فأما بِوَرِقٍ فَلَمْ يَنْهَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ طَارِقِ
بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إنَّمَا يَزْرَعُ
ثَلاَثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا أَوْ رَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا
فَهُوَ يَزْرَعُهَا أَوْ رَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.
قال أبو محمد: أَمَّا الْحَدِيثُ الأَوَّلُ فَسَنَدُهُ لَيْسَ بِالنَّيِّرِ، ثُمَّ
لَوْ صَحَّ لَكَانَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ لاَ حُجَّةً لَهُمْ; لأََنَّ الَّذِي
فِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ النَّهْيُ عَنْ كِرَاءِ
الأَرْضِ جُمْلَةً، وَالْمَنْعُ مِنْ غَيْرِ زَرِيعَتِهَا مِنْ قِبَلِ صَاحِبِهَا،
أَوْ مِنْ قِبَلِ مَنْ مَنَحَهَا، وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ
مُجَاهِدٍ، عَنْ رَافِعٍ فَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ رَافِعٍ،
ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِبَعْضِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا، وَهُوَ خِلاَفٌ لِقَوْلِهِمْ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ
مِنْ كِرَائِهَا بِالْعَسَلِ، وَالْمِلْحِ، وَلَيْسَا مِمَّا يَخْرُجَانِ مِنْهَا،
وَيُجِيزُونَ كِرَاءَهَا بِالْحَطَبِ، وَالْخَشَبِ، وَهُمَا مِنْ بَعْضِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا، فَقَدْ خَالَفُوهُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَزَادُوا فِيهِ مَا لَيْسَ
فِيهِ وَأَخْرَجُوا مِنْهُ مَا فِيهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الذَّهَبَ، وَالْفِضَّةَ
مِنْ بَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الأَرْضِ، وَهُمْ يُجِيزُونَ الْكِرَاءَ بِهِمَا،
وَبِالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَكُلُّ ذَلِكَ خَارِجٌ مِنْهَا. فَإِنْ قَالُوا:
إنَّمَا مَنَعَ النَّبِيُّ عليه السلام مِنْ كِرَائِهَا بِمَا يَخْرُجُ مِنْ
تِلْكَ الأَرْضِ بِعَيْنِهَا قلنا: هَاتُوا دَلِيلَكُمْ عَلَى هَذَا التَّخْصِيصِ،
وَإِلَّا فَلَفْظُ الْخَبَرِ عَلَى عُمُومِهِ، فَسَقَطَ قَوْلُهُمْ جُمْلَةً فِي
هَذَا الْخَبَرِ. ثُمَّ أَيْضًا فَنَحْنُ نَقُولُ بِمَا فِيهِ ثُمَّ نَسْتَثْنِي
مِنْهُ مَا صَحَّ نَسْخُهُ بِيَقِينٍ مِنْ إعْطَائِنَا الأَرْضَ بِجُزْءٍ مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهَا مُسَمًّى، وَنَمْنَعُ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا
لاَ لَهُمْ. وَأَمَّا خَبَرُ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: فَعَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ;
لأََنَّ فِيهِ أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يُزْرِعَهَا فَقَطْ. وَهَكَذَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَيُّوبَ،
حَدَّثَنَا ابْنِ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ
يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ
أَنَّ رَجُلاً مِنْ عُمُومَتِهِ قَالَ لَهُمْ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم أَنْ نُحَاقِلَ بِالأَرْضِ أَوْ نُكْرِيَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ
وَالطَّعَامُ مُسَمًّى، وَأَمَرَ رَبَّ الأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا، أَوْ
يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا، وَمَا سِوَى ذَلِكَ.
وَأَمَّا خَبَرُ حَنْظَلَةَ عَنْ رَافِعٍ: فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ
رَافِعٍ يَعْنِي قَوْلَهُ: فأما بِوَرِقٍ فَلَمْ يَنْهَ وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَافِعٍ
مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ رَافِعٍ قَبْلُ مِنْ نَهْيِهِ صلى الله عليه
وسلم عَنْ ذَلِكَ حَتَّى أَبْطَلَ كِرَاءَ أَرْضِ بَنِي أَبِيهِ بِالدَّرَاهِمِ
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهَا مُسْنَدَةٌ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتِلْكَ مَوْقُوفَةٌ عَلَى رَافِعٍ،
وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ غَيْرُ مُضْطَرَبٍ فِيهَا، وَتِلْكَ مُضْطَرَبٍ فِيهَا
(8/222)
عَلَى رَافِعٍ. وَثَالِثُهَا
أَنَّ الَّذِينَ رَوَوْا عُمُومَ النَّهْيِ، عَنْ رَافِعٍ: ابْنُ عُمَرَ،
وَعُثْمَانُ، وَعِمْرَانُ، وَعِيسَى ابْنَا سَهْلِ بْنِ رَافِعٍ، وَسُلَيْمَانُ
بْنُ يَسَارٍ، وَأَبُو النَّجَاشِيِّ، وَكُلُّهُمْ أَوْثَقُ مِنْ حَنْظَلَةَ بْنِ
قَيْسٍ فَسَقَطَ تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ. وَأَمَّا خَبَرُ سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ فَأَحَدُ طَرِيقَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ
الأَنْدَلُسِيِّ وَهُوَ هَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَهُوَ
ضَعِيفٌ. وَالأُُخْرَى مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
لَبِيبَةَ وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ فَسَقَطَ التَّعْلِيقُ بِهِ.
وَأَمَّا خَبَرُ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ رَافِعٍ فَإِنَّ ابْنَ أَبِي
شَيْبَةَ رَوَاهُ كَمَا أَوْرَدْنَا، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ فَوَهَمَ فِيهِ،
لأََنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ، وَالْفَضْلِ بْنِ
دُكَيْنٍ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ
طَارِقِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ رَافِعِ
بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ
الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، وَقَالَ:" إنَّمَا يَزْرَعُ ثَلاَثَةٌ:
رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا، أَوْ رَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا فَهُوَ
يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، أَوْ رَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ
" فَكَانَ هَذَا الْكَلاَمُ مَخْزُولاً، عَنْ كَلاَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فَظَنَّ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ كَلاَمِ
رَسُولٍ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَزَلَهُ وَأَبْقَى السَّنَدَ. وَقَدْ جَاءَ
هَذَا الْخَبَرُ، عَنْ طَارِقٍ مِنْ طَرِيقِ مَنْ هُوَ أَحْفَظُ مِنْ أَبِي
الأَحْوَصِ مُبَيِّنًا أَنَّهُ مِنْ كَلاَمِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيٍّ[وهو ابن ميمون]، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ
طَارِقٍ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ لاَ يَصْلُحُ مِنْ
الزَّرْعِ غَيْرُ ثَلاَثٍ، أَرْضٌ تَمْلِكُ رَقَبَتُهَا، أَوْ مِنْحَةٌ، أَوْ أَرْضٌ
بَيْضَاءُ تَسْتَأْجِرُهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَيْضًا فَلَوْ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ كَلاَمِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهُ لأََنَّ فِيهِ النَّهْيَ، عَنْ كِرَاءِ
الأَرْضِ إِلاَّ بِذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ، وَأَنْتُمْ تُبِيحُونَهَا بِكُلِّ عَرْضٍ
فِي الْعَالَمِ حَاشَا الطَّعَامَ، أَوْ مَا أَنْبَتَتْ الأَرْضُ فَقَدْ
خَالَفْتُمُوهَا كُلَّهَا. فَإِنْ ادَّعَوْا هَهُنَا إجْمَاعًا مِنْ الْقَائِلِينَ
بِكِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، عَلَى أَنَّ مَا عَدَا الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَمَا يَبْعُدُ عَنْهُمْ التَّجَاسُرُ
وَالْهُجُومُ عَلَى مِثْلِ هَذَا: أَكْذَبُهُمْ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ
الْجَزَرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ
تُكْرَى الأَرْضُ الْبَيْضَاءُ إِلاَّ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَهَذَا إسْنَادٌ
صَحِيحٌ جَيِّدٌ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا
عَدَاهُمَا قلنا: فَقِيسُوا إعْطَاءَهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ عَلَى
الْمُضَارَبَةِ،
فَإِنْ قَالُوا:
(8/223)
قَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ
ذَلِكَ قلنا: فَقَدْ صَحَّ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ
حَظٌّ، وَنَصَّ عليه السلام عَلَى أَنْ لَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يَزْرَعَهَا
صَاحِبُهَا أَوْ يَمْنَحَهَا أَوْ يُمْسِكَ أَرْضَهُ فَقَطْ. فَظَهَرَ فَسَادُ
هَذَا الْقَوْلِ جُمْلَةً، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقُوا بِشَيْءٍ أَصْلاً،
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ كِرَاءُ الأَرْضِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، عَنْ
أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ إِلاَّ، عَنْ سَعْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّ عَنْ
رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، وَابْنِ عُمَرَ، ثُمَّ صَحَّ رُجُوعُ ابْنِ عُمَرَ عَنْهُ،
وَصَحَّ عَنْ رَافِعٍ الْمَنْعُ مِنْهُ أَيْضًا.
قال أبو محمد: فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ تَغْلِيبُ الإِبَاحَةِ فِي كِرَائِهَا بِكُلِّ
عَرْضٍ وَكُلِّ شَيْءٍ مَضْمُونٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالثُّلُثِ
وَالرُّبُعِ كَمَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبُو يُوسُفَ ;
وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ،
وَغَيْرُهُمْ. أَوْ تَغْلِيبُ الْمَنْعِ جُمْلَةً، كَمَا فَعَلَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ،
وَعَطَاءٌ، وَمَكْحُولٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَغَيْرُهُمْ.
أَوْ أَنْ يُغَلَّبَ النَّهْيُ حَيْثُ لَمْ يُوقَنْ أَنَّهُ نُسِخَ وَيُؤْخَذُ
بِالنَّاسِخِ إذَا تُيُقِّنَ، كَمَا فَعَلَ ابْنُ عُمَرَ، وطَاوُوس، وَالْقَاسِمُ
بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، وَغَيْرُهُمْ. فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ
فَوَجَدْنَا مَنْ غَلَّبَ الإِبَاحَةَ قَدْ أَخْطَأَ، لأََنَّ مَعْهُودَ الأَصْلِ
فِي ذَلِكَ هُوَ الإِبَاحَةُ عَلَى مَا رَوَى رَافِعٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ
صلى الله عليه وسلم قَدِمَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ يُكْرُونَ مَزَارِعَهُمْ وَقَدْ
كَانَتْ الْمَزَارِعُ بِلاَ شَكٍّ تُكْرَى قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم وَبَعْدَ مَبْعَثِهِ، هَذَا أَمْرٌ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَشُكَّ فِيهِ ذُو
عَقْلٍ، ثُمَّ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ،
وَرَافِعٍ، وَظُهَيْرٍ الْبَدْرِيُّ وَآخَرَ مِنْ الْبَدْرِيِّينَ، وَابْنِ عُمَرَ
" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ جُمْلَةً
" فَبَطَلَتْ الإِبَاحَةُ بِيَقِينٍ لاَ شَكَّ فِيهِ. فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمَنْسُوخَ
قَدْ رَجَعَ، وَأَنَّ يَقِينَ النَّسْخِ قَدْ بَطَلَ، فَهُوَ كَاذِبٌ مُكَذِّبٌ،
قَائِلٌ مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَهَذَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إِلاَّ
أَنْ يَأْتِيَ عَلَى ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ، وَلاَ سَبِيلَ لَهُ إلَى وُجُودِهِ
أَبَدًا، إِلاَّ فِي إعْطَائِهَا بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا،
فَإِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ
بِخَيْبَرَ بَعْدَ النَّهْيِ بِأَعْوَامٍ، وَأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى ذَلِكَ إلَى
أَنْ مَاتَ عليه السلام. فَصَحَّ أَنَّ النَّهْيَ، عَنْ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ
بِيَقِينٍ، وَأَنَّ النَّهْيَ عَمَّا عَدَا ذَلِكَ بَاقٍ بِيَقِينٍ وَقَالَ
تَعَالَى {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ
يُنْسَخَ حُكْمٌ قَدْ بَطَلَ وَنُسِخَ ثُمَّ لاَ يُبَيِّنُ اللَّهُ تَعَالَى
عَلَيْنَا أَنَّهُ قَدْ بَطَلَ، وَأَنَّ الْمَنْسُوخَ قَدْ عَادَ، وَإِلَّا
فَكَأَنَّ الدِّينَ غَيْرُ مُبَيَّنٍ وَهَذَا بَاطِلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. فَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا.
(8/224)
التبين في المزارعة بين صاحب
الأرض والعامل على ما تعامالا عليه
...
1331 - مَسْأَلَةٌ - وَالتِّبْنُ فِي الْمُزَارَعَةِ بَيْنَ صَاحِبِ الأَرْضِ
وَبَيْنَ الْعَامِلِ عَلَى مَا تَعَامَلاَ عَلَيْهِ،
لأََنَّهُ مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا.
(8/224)
إن تطوع صاحب الأرض بأن يسلف
العامل بذرا أو دراهم أو يعينه بغير شرط جاز ذلك
...
1332 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الأَرْضِ بِأَنْ يُسَلِّفَ
الْعَامِلَ بَذْرًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ يُعِينَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ جَازَ;
لأََنَّهُ فِعْلُ خَيْرٍ وَتَعَاوُنٌ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى، فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ
مِنْ ذَلِكَ
(8/224)
إن اتفقا تطوعا على شيء يزرع
في الأرض فحسن وإن لم يذكر شيئا فحسن
...
1333 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ اتَّفَقَا تَطَوُّعًا عَلَى شَيْءٍ يُزْرَعُ فِي
الأَرْضِ فَحَسَنٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرَا شَيْئًا فَحَسَنٌ،
لأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ
ذَلِكَ، وَلاَ نَهَى، عَنْ ذِكْرِهِ، فَهُوَ مُبَاحٌ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ
يُزْرَعَ فِيهَا شَيْءٌ مَا فَلاَ بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ، إِلاَّ أَنَّهُ إنْ شُرِطَ
شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ، فَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَعَقْدٌ فَاسِدٌ
لأََنَّهُ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ
يَشْتَرِطَ صَاحِبُ الأَرْضِ أَنْ لاَ يَزْرَعَ فِيهَا مَا يَضُرُّ بِأَرْضِهِ
أَوْ شَجَرِهِ إنْ كَانَ لَهُ فِيهَا شَجَرٌ فَهَذَا وَاجِبٌ، وَلاَ بُدَّ،
لأََنَّ خِلاَفَهُ فَسَادٌ وَإِهْلاَكٌ لِلْحَرْثِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ
اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. وَقَالَ تَعَالَى {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاَللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} . فَإِهْلاَكُ الْحَرْثِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ لاَ يَحِلُّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ، فَهَذَا شَرْطٌ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ صَحِيحٌ لاَزِمٌ.
(8/225)
1334 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَحِلُّ عَقْدُ الْمُزَارَعَةِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، لَكِنْ هَكَذَا مُطْلَقًا،
لأََنَّ هَكَذَا عَقَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى هَذَا مَضَى
جَمِيعُ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُمْ عُمَرُ رضي الله عنه
إذْ شَاءَ فِي آخِرِ خِلاَفَتِهِ، فَكَانَ اشْتِرَاطُ مُدَّةٍ فِي ذَلِكَ شَرْطًا
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ وَخِلاَفٌ لِعَمَلِهِ عليه السلام،
وَقَدْ قَالَ عليه السلام: " مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا
فَهُوَ رَدٌّ "; وَقَدْ قَالَ مُخَالِفُونَ بِذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ.
(8/225)
إذا شاء صاحب الأرض أو العامل
عليها ترك العمل فله ذلك وتبطل المعاملة بموت أحدها
...
1335 - مَسْأَلَةٌ - وَأَيُّهُمَا شَاءَ تَرْكَ الْعَمَلِ فَلَهُ ذَلِكَ لِمَا
ذَكَرْنَا، وَأَيُّهُمَا مَاتَ بَطَلَتْ الْمُعَامَلَةُ
لأََنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ
عَلَيْهَا} . فَإِنْ أَقَرَّ وَارِثُ صَاحِبِ الأَرْضِ الْعَامِلَ وَرَضِيَ
الْعَامِلُ، فَهُمَا عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ
صَاحِبُ الأَرْضِ وَرَثَةَ الْعَامِلِ بِرِضَاهُمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى مَا
جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ
الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/225)
إذا أراد صاحب الأرض إخراج
العامل بعد أن زرع أو أراد العامل الخروج بعد أن زرع بموت أحدهما أو في حياتهما
فجائز
...
1336 - مَسْأَلَةٌ - وَإِذَا أَرَادَ صَاحِبُ الأَرْضِ إخْرَاجَ الْعَامِلِ بَعْدَ
أَنْ زَرَعَ أَوْ أَرَادَ الْعَامِلُ الْخُرُوجَ بَعْدَ أَنْ زَرَعَ بِمَوْتِ
أَحَدِهِمَا، أَوْ فِي حَيَاتِهِمَا فَذَلِكَ جَائِزٌ،
وَعَلَى الْعَامِلِ خِدْمَةُ الزَّرْعِ كُلِّهِ، وَلاَ بُدَّ، وَعَلَى وَرَثَتِهِ
حَتَّى يَبْلُغَ مَبْلَغَ الأَنْتِفَاعِ بِهِ مِنْ كِلَيْهِمَا; لأََنَّهُمَا
عَلَى ذَلِكَ تَعَاقَدَا الْعَقْدَ الصَّحِيحَ فَهُوَ لاَزِمٌ لأََنَّهُ عَمِلَ
بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى،
فَهُوَ صَحِيحٌ لاَزِمٌ، وَعَقْدٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَمَا عَدَاهُ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ، وَإِفْسَادٌ لِلْحَرْثِ، وَقَدْ
صَحَّ النَّهْيُ عَنْهُ.
(8/225)
إن أراد أحدهما ترك العمل وقد
حرث وقلب وزبل ولم يزرع ذلك فجائز ويكلف صاحب الأرض للعامل أجر مثله
...
1337 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا تَرْكَ الْعَمَلِ وَقَدْ حَرَثَ،
وَقَلَبَ، وَزَبَلَ، وَلَمْ يَزْرَعْ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَيُكَلَّفُ صَاحِبُ
الأَرْضِ لِلْعَامِلِ أَجْرَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ،
وَقِيمَةَ زِبْلِهِ إنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ زِبْلاً مِثْلَهُ، إنْ أَرَادَ صَاحِبُ
الأَرْضِ إخْرَاجَهُ، لأََنَّهُ لَمْ تَتِمَّ بَيْنَهُمَا الْمُزَارَعَةُ الَّتِي
يَكُونُ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا مُلْغًى بِتَمَامِهَا، وَقَالَ تَعَالَى
{وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فَعَمَلُهُ حُرْمَةٌ، فَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ
يَقْتَصَّ بِمِثْلِهَا، وَالزِّبْلُ مَالُهُ فَلاَ يُحْمَلُ إِلاَّ بِطِيبِ
نَفْسِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/226)
1338 - مَسْأَلَةٌ - فَلَوْ
كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْمَرِيدُ لِلْخُرُوجِ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ
فِيمَا عَمِلَ،
وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَخْذُ زِبْلِهِ بِعَيْنِهِ أَخَذَهُ، وَإِلَّا فَلاَ شَيْءَ
لَهُ; لأََنَّهُ مُخْتَارٌ لِلْخُرُوجِ وَلَمْ يَتَعَدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ
الأَرْضِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ مَنَعَهُ حَقًّا لَهُ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ
إتْمَامِ عَمَلِهِ وَتَمَامِ شَرْطِهِ وَالْخُرُوجِ بِاخْتِيَارِهِ، وَلاَ شَيْءَ
لَهُ ; لأََنَّهُ لَمْ يَتَعَدَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/226)
من أصاب منهما ما تجب فيه
الزكاة فعليه الزكاة ولا يحل اشتراطها من أحدهما على الآخر
...
1339 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ أَصَابَ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ
فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ،
وَمَنْ قَصُرَ نُصِيبُهُ، عَنْ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ فَلاَ زَكَاةَ عَلَيْهِ.
وَلاَ يَحِلُّ اشْتِرَاطُ الزَّكَاةِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخَرِ، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}، {وَلاَ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَلِكُلِّ أَحَدٍ حُكْمُهُ. وَاشْتِرَاطُ إسْقَاطِ
الزَّكَاةِ، عَنْ نَفْسِهِ وَوَضْعِهَا عَلَى غَيْرِهِ شَرْطٌ لِلشَّيْطَانِ
وَمُخَالَفَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَحِلُّ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ. وَقَدْ كَانَا قَادِرَيْنِ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَا يُرِيدَانِ
مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ الْمَلْعُونِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَا
يَتَعَاقَدَانِ عَلَى أَنَّ لأََحَدِهِمَا أَرْبَعَةَ أَعْشَارِ الزَّرْعِ أَوْ
أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الثُّلُثِ، أَوْ نَحْوَ هَذَا فَيَصِحُّ الْعَقْدُ.
(8/226)
إذا وقعت المعاملة فاسدة رد
إلى المزارعة مثل تلك الأرض فيما يزرع
...
1340 - مَسْأَلَةٌ - وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةً،
رَدَّ إلَى مُزَارِعِهِ مِثْلَ تِلْكَ الأَرْضِ فِيمَا زَرَعَ فِيهَا سَوَاءٌ
كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا تَعَاقَدَ أَوْ أَقَلَّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ فِي الأَرْضِ أَخْذُ أَجْرٍ، وَلاَ حَظٍّ
إِلاَّ الْمُزَارَعَةُ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مُسَمًّى بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ تَعَالَى
مِنْهَا، فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَقُّ الأَرْضِ فَلاَ تَجُوزُ إبَاحَةُ
الأَرْضِ وَمَا أَخْرَجَتْ لِلْعَامِلِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِ صَاحِبِ الأَرْضِ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} ، وَلاَ يَجُوزُ إبَاحَةُ بَذْرِ الْعَامِلِ وَعَمَلِهِ لِصَاحِبِ
الأَرْضِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسِهِ ذَلِكَ أَيْضًا، فَيُرَدَّانِ إلَى مِثْلِ حَقِّ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} . فَالأَرْضُ حُرْمَةٌ مُحَرَّمَةٌ
مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا، وَبَشَرَتِهِ، فَلَهُ وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقْتَصَّ
بِمِثْلِ حَقِّ مِثْلِهَا مِمَّا أَبَاحَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُعَامَلَةِ
فِيهَا وَبَذْرُ الزَّارِعِ وَعَمَلُهُ حُرْمَةٌ مُحَرَّمَةٌ
(8/226)
المغارسة
من دفع أرضا له بيضاء إلى إنسان ليغرسها له لم يجز ذلك إلا بأحد وجهين
...
المغارسة
1341 – مَسْأَلَةٌ - مَنْ دَفَعَ أَرْضًا لَهُ بَيْضَاءَ إلَى إنْسَانٍ
لِيَغْرِسَهَا لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إِلاَّ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ
إمَّا بِأَنْ تَكُونَ النُّقُولُ أَوْ الأَوْتَادُ أَوْ النَّوَى أَوْ
الْقُضْبَانُ لِصَاحِبِ الأَرْضِ فَقَطْ، فَيَسْتَأْجِرَ الْعَامِلَ لِغَرْسِهَا
وَخِدْمَتِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا مُدَّةً مُسَمَّاةً، وَلاَ بُدَّ بِشَيْءٍ
مُسَمًّى، أَوْ بِقِطْعَةٍ مِنْ تِلْكَ الأَرْضِ مُسَمَّاةً مَحُوزَةً، أَوْ
مَنْسُوبَةَ الْقَدْرِ مُشَاعَةً فِي جَمِيعِهَا، فَيَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ
بِعَمَلِهِ فِي كُلِّ مَا يَمْضِي مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ مَا يُقَابِلُهَا مِمَّا
اُسْتُؤْجِرَ بِهِ، فَهَذِهِ إجَارَةٌ كَسَائِرِ الإِجَارَاتِ. وَأَمَّا بِأَنْ
يَقُومَ الْعَامِلُ بِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا وَبِغَرْسِهِ وَبِخَدَمِهِ وَلَهُ مِنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ مَا تَعَامَلاَ عَلَيْهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبُعٍ أَوْ
جُزْءٍ مُسَمًّى كَذَلِكَ، وَلاَ حَقَّ لَهُ فِي الأَرْضِ أَصْلاً فَهَذَا جَائِزٌ
حَسَنٌ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ مُطْلَقًا لاَ إلَى مُدَّةٍ أَصْلاً
وَحُكْمُهُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ حُكْمُ الْمُزَارَعَةِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ
فِي كُلِّ شَيْءٍ لاَ تُحَشْ مِنْهَا شَيْئًا.
(8/227)
1342 - مَسْأَلَةٌ - فَإِنْ
أَرَادَ الْعَامِلُ الْخُرُوجَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَفِعَ فِيمَا غَرَسَ بِشَيْءٍ،
وَقَبْلَ أَنْ تُنْمَى لَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَيَأْخُذُ كُلَّ مَا غَرَسَ.
وَكَذَلِكَ إنْ أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الأَرْضِ; لأََنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ،
فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى انْتَفَعَ وَنَمَا مَا غَرَسَ فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ
مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ; لأََنَّهُ قَدْ انْتَفَعَ بِالأَرْضِ فَعَلَيْهِ
حَقُّهَا، وَحَقُّهَا هُوَ مَا تَعَاقَدَا عَلَيْهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي أَوَّلِ كَلاَمِنَا فِي
"الْمُزَارَعَةِ" مِنْ إعْطَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
خَيْبَرَ الْيَهُودَ عَلَى أَنْ يُعْمِلُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَلَهُمْ نِصْفُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ وَنِصْفُ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا، هَكَذَا مُطْلَقًا. وَكَذَلِكَ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ
بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ: " أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ
لِلْيَهُودِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ الشَّطْرَ مِنْ كُلِّ زَرْعٍ وَنَخْلٍ وَشَيْءٍ
". وَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ مَا خَرَجَ مِنْهَا بِعَمَلِهِ مِنْ شَجَرٍ أَوْ
زَرْعٍ أَوْ ثَمَرٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْعَمَلِ بِأَنْفُسِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ غَرْسٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ عِمَارَةِ شَجَرٍ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي تَمْيِيزٍ أَنَّ خَيْبَرَ وَفِيهَا نَحْوُ
أَلْفَيْ عَامِلٍ وَيُصَابُ فِيهَا نَحْوُ ثَمَانِينَ أَلْفَ وَسْقِ تَمْرٍ
وَبَقِيَتْ بِأَيْدِيهِمْ أَزْيَدَ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا: أَرْبَعَةِ
أَعْوَامٍ مِنْ حَيَاةِ النَّبِيِّ
(8/227)
من عقد مزارعة أو معاملة في
شجر أو مغرسة فزرع العامل وعمل في الشجر وغرس ثم انتقل ملك الأرض أو الشجر إلى غير
المعاقد بميراث أوهبة أو غير ذلك فالزرع ظهر أو لم يظهر فللزارع
...
1343 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ عَقَدَ مُزَارَعَةً أَوْ مُعَامَلَةً فِي شَجَرٍ أَوْ
مُغَارَسَةً، فَزَرَعَ الْعَامِلُ وَعَمِلَ فِي الشَّجَرِ وَغَرَسَ، ثُمَّ
انْتَقَلَ مِلْكُ الأَرْضِ أَوْ الشَّجَرِ إلَى غَيْرِ الْمُعَاقِدِ بِمِيرَاثٍ
أَوْ بِهِبَةٍ أَوْ بِصَدَقَةٍ أَوْ بِإِصْدَاقٍ أَوْ بِبَيْعٍ: فأما الزَّرْعُ:
ظَهَرَ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ فَهُوَ كُلُّهُ لِلزَّارِعِ وَاَلَّذِي كَانَتْ
الأَرْضُ لَهُ عَلَى شَرْطِهِمَا،
وَلِلَّذِي انْتَقَلَ مِلْكُ الأَرْضِ إلَيْهِ أَخْذُهُمَا بِقَطْعِهِ أَوْ
قَلْعِهِ فِي أَوَّلِ إمْكَانِ الأَنْتِفَاعِ بِهِ، لاَ قَبْلَ ذَلِكَ ; لأََنَّهُ
لَمْ يَزْرَعْ إِلاَّ بِحَقٍّ وَالزَّرْعُ بِلاَ خِلاَفٍ هُوَ غَيْرُ الأَرْضِ
الَّتِي انْتَقَلَ مِلْكُهَا إلَى غَيْرِ مَالِكِهَا الأَوَّلِ. وَأَمَّا
الْمُعَامَلَةُ فِي الشَّجَرِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا، فَهُوَ مَا لَمْ
يَخْرُجْ غَيْرَ مُتَمَلَّكٍ لأََحَدٍ، فَإِذَا خَرَجَ فَهُوَ لِمَنْ الشَّجَرُ
لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ إبْقَاءَ الْعَامِلِ عَلَى مُعَامَلَتِهِ فَلَهُ ذَلِكَ،
وَإِنْ أَرَادَ تَجْدِيدَ مُعَامَلَةٍ فَلَهُمَا ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ
إخْرَاجَهُ فَلَهُ ذَلِكَ وَلِلْعَامِلِ عَلَى الَّذِي كَانَ الْمِلْكُ لَهُ
أُجْرَةُ مِثْلِ عَمَلِهِ ; لأََنَّهُ عَمِلَ فِي مِلْكِهِ بِأَمْرِهِ. وَأَمَّا
الْغَرْسُ: فَلِلَّذِي انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ إقْرَارُهُ عَلَى تِلْكَ
الْمُعَامَلَةِ، أَوْ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى تَجْدِيدِ أُخْرَى، فَإِنْ أَرَادَ
إخْرَاجَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَلِلْغَارِسِ قَلْعُ حِصَّتِهِ مِمَّا غَرَسَ، كَمَا
لَوْ أَخْرَجَهُ الَّذِي كَانَ عَامِلُهُ أَوَّلاً، عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَبْلُ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا إذَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ بَعْدَ
ظُهُورِ الثَّمَرَةِ، فَالثَّمَرَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ الَّذِي
(8/228)
كَانَ الْمِلْكُ لَهُ عَلَى
شَرْطِهِمَا لاَ شَيْءَ فِيهَا لِلَّذِي انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَيْهِ.
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَمَّ "كِتَابُ الْمُزَارَعَةِ، وَالْمُغَارَسَةِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ
(8/229)
كتاب المعاملة في الثمار
المعاملة في الثمار سنة وبيانها وكيفية التعامل
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْمُعَامَلَةِ فِي الثِّمَارِ
1344 - مَسْأَلَةٌ - الْمُعَامَلَةُ فِيهَا سُنَّةٌ،
وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ الْمَرْءُ أَشْجَارَهُ أَيَّ شَجَرٍ كَانَ مِنْ نَخْلٍ، أَوْ
عِنَبٍ، أَوْ تِينٍ، أَوْ يَاسَمِينٍ، أَوْ مَوْزٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، لاَ
تُحَاشِ شَيْئًا مِمَّا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ وَيُطْعَمُ سَنَةً بَعْدَ سَنَةٍ
لِمَنْ يَحْفِرُهَا وَيُزَبِّلُهَا وَيَسْقِيهَا إنْ كَانَتْ مِمَّا يُسْقَى
بِسَانِيَةٍ، أَوْ نَاعُورَةٍ، أَوْ سَاقِيَّةٍ، وَيُؤَبِّرُ النَّخْلَ،
وَيُزْبِرُ الدَّوَالِيَ، وَيَحْرُثُ مَا احْتَاجَ إلَى حَرْثِهِ وَيَحْفَظُهُ
حَتَّى يَتِمَّ وَيُجْمَعُ، أَوْ يَيْبَسُ إنْ كَانَ مِمَّا يَيْبَسُ، أَوْ
يُخْرِجُ دُهْنَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُخْرَجُ دُهْنُهُ، أَوْ حَتَّى يَحِلَّ
بَيْعُهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُبَاعُ كَذَلِكَ، عَلَى سَهْمٍ مُسَمًّى مِنْ ذَلِكَ
الثَّمَرِ، أَوْ مِمَّا تَحْمِلُهُ الأُُصُولُ كَنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ رُبُعٍ،
أَوْ أَكْثَرَ، أَوْ أَقَلَّ، كَمَا قلنا فِي " الْمُزَارَعَةِ "
سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم بِخَيْبَرَ، وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ،
حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى
ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ
لِلنَّاسِ " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
كَانَ عَامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّنَا نُخْرِجُهُمْ إذَا شِئْنَا، فَمَنْ
كَانَ لَهُ مَالٌ فَلْيَلْحَقْ بِهِ، فَإِنِّي مُخْرِجٌ يَهُودَ، فَأَخْرَجَهُمْ
".
قال أبو محمد: وَبِهَذَا يَقُولُ جُمْهُورُ النَّاسِ، إِلاَّ أَنَّنَا رُوِّينَا،
عَنِ الْحَسَنِ، وَإِبْرَاهِيمَ كَرَاهَةَ ذَلِكَ وَلَمْ يُجِزْهُ أَبُو
حَنِيفَةَ، وَلاَ زُفَرُ. وَأَجَازَهُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسُفْيَانُ
الثَّوْرِيُّ، وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ،
وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَغَيْرُهُمْ. وَأَجَازَهُ مَالِكٌ
فِي كُلِّ شَجَرٍ قَائِمِ الأَصْلِ إِلاَّ فِيمَا يُخْلَفُ وَيُجْنَى مَرَّةً
بَعْدَ أُخْرَى كَالْمَوْزِ، وَالْقَصَبِ، وَالْبُقُولِ، فَلَمْ يُجِزْ فِيهَا،
وَلاَ أَجَازَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْبُقُولِ إِلاَّ فِي السَّقْيِ خَاصَّةً.
وَلَمْ يُجِزْهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِ، إِلاَّ فِي النَّخْلِ،
وَالْعِنَبِ فَقَطْ وَمِنْ أَصْحَابِ أَبِي سُلَيْمَانَ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ،
إِلاَّ فِي النَّخْلِ فَقَطْ.
قال أبو محمد : مَنْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ فِي النَّخْلِ وَحْدَهُ، أَوْ فِي
النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، أَوْ فِي بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ فِي سَقْيٍ دُونَ
بَعْلٍ، فَقَدْ خَالَفَ الْحَدِيثَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا
ذَكَرْنَا قَبْلُ وَدَخَلُوا فِي الَّذِينَ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ
فَلاَ مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمُقَلِّدِينَ
(8/229)
لأََبِي حَنِيفَةَ بِأَنْ
قَالُوا: لاَ تَجُوزُ الإِجَارَةُ إِلاَّ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ.
قال أبو محمد : لَيْسَتْ الْمُزَارَعَةُ، وَلاَ إعْطَاءُ الشَّجَرِ بِبَعْضِ مَا
يَخْرُجُ مِنْهَا: إجَارَةٌ، وَالتَّسْمِيَةُ فِي الدِّينِ إنَّمَا هِيَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ تَعَالَى {إنْ هِيَ
إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} . وَيُقَالُ لَهُمْ: هَلَّا أَبْطَلْتُمْ بِهَذَا
الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ الْمُضَارَبَةَ، وَقُلْتُمْ: إنَّهَا إجَارَةٌ بِأُجْرَةٍ
مَجْهُولَةٍ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْمُضَارَبَةَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا قلنا:
وَدَفْعُ الأَرْضِ بِجُزْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَدَفْعُ الشَّجَرِ مِمَّا
يَخْرُجُ مِنْهَا: مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ مِنْ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَعَمَلِ جَمِيعِ أَصْحَابِهِ رضي الله عنهم، وَلاَ تُحَاشِ
مِنْهُمْ أَحَدًا، فَمَا غَابَ مِنْهُمْ، عَنْ خَيْبَرَ إِلاَّ مَعْذُورٌ بِمَرَضٍ
أَوْ ضَعْفٍ أَوْ وِلاَيَةٍ تَشْغَلُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَكُلُّ مَنْ غَابَ
بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَدْ عَرَفَ أَمْرَ خَيْبَرَ، وَاتَّصَلَ الأَمْرُ
فِيهَا عَامًا بَعْدَ عَامٍ إلَى آخِرِ خِلاَفَةِ عُمَرَ فَهَذَا هُوَ الإِجْمَاعُ
الْمُتَيَقَّنُ الْمَقْطُوعُ عَلَيْهِ، لاَ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ الْبَاطِلِ
وَالظَّنِّ الْكَاذِبِ فِي الإِجْمَاعِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ الَّتِي لاَ تُرْوَى
إِلاَّ، عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، فَاعْتَرَضُوا فِي أَمْرِ
خَيْبَرَ بِأَنْ قَالُوا: لاَ يَخْلُو أَهْلُ خَيْبَرَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا
عَبِيدًا أَوْ أَحْرَارًا، فَإِنْ كَانُوا عَبِيدًا فَمُعَامَلَةُ الْمَرْءِ
لِعَبْدِهِ بِمِثْلِ هَذَا جَائِزٌ، وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَيَكُونُ الَّذِي
أُخِذَ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ ; لأََنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي شَيْءٍ
مِنْ الأَخْبَارِ أَنَّهُ عليه السلام قَدْ أَخَذَ مِنْهُمْ جِزْيَةً، وَلاَ
زَكَاةً.
قال أبو محمد : وَهَذَا مِمَّا جَرَوْا فِيهِ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبَهْتِ
وَالتَّوَقُّحِ الْبَارِدِ: أَمَّا قَوْلُهُمْ: لاَ يَخْلُو أَهْلُ خَيْبَرَ مِنْ أَنْ
يَكُونُوا عَبِيدًا، فَكَيْفَ انْطَلَقَتْ أَلْسِنَتُهُمْ بِهَذَا، وَهُمْ أَوَّلُ
مُخَالِفٍ لِهَذَا الْحُكْمِ فَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ أَهْلَ الْعَنْوَةِ
أَحْرَارٌ، وَأَنَّهُ إنْ رَأَى الإِمَامُ إرْقَاقَهُمْ فَلاَ بُدَّ فِيهِمْ مِنْ
التَّخْمِيسِ، وَالْبَيْعِ لِقِسْمَةِ أَثْمَانِهِمْ. ثُمَّ كَيْفَ اسْتَجَازُوا
أَنْ يَقُولُوا: لَعَلَّهُمْ كَانُوا عَبِيدًا وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ
أَجْلاَهُمْ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، عَنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم بِإِخْرَاجِ الْيَهُودِ، عَنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ فَكَيْفَ
يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَجِيزَ عُمَرُ تَفْوِيتَ عَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِمْ
حَظٌّ لِلْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ إنَّ مَنْ نَسَبَ هَذَا إلَى عُمَرَ لَضَالٌّ
مُضِلٌّ، بَلْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ
عليه السلام أَرَادَ إجْلاَءَهُمْ فَرَغِبُوا فِي إقْرَارِهِمْ فَأَقَرَّهُمْ
عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُمْ إذَا شَاءَ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ عليه السلام لاَ
يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ تَضْيِيعُ رَقِيقِ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ
الْمُحَالِ أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا لَهُ عليه السلام خَاصَّةً; لأََنَّهُ عليه
السلام لَيْسَ لَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ إِلاَّ خُمُسُ الْخُمُسِ وَسَهْمُهُ مَعَ
الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: وَالصَّفِيُّ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ
أَهْلِ الإِسْلاَمِ: إنَّ جَمِيعَ مَنْ مَلَكَ عَنْوَةً عَبِيدٌ لَهُ عليه السلام.
ثُمَّ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ مَا زَعَمُوا مِنْ الْبَاطِلِ وَكَانُوا لَهُ
عَبِيدًا لَكَانَ قَدْ أَعْتَقَهُمْ بِلاَ شَكٍّ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
الْبُخَارِيِّ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ
(8/230)
ابْنُ الْحَرِثِ، حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ، هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ
الْجُعْفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
الْحَارِثِ خَتْنِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَخِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ جُوَيْرِيَةَ
بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَ: " مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عِنْدَ مَوْتِهِ دِينَارًا، وَلاَ دِرْهَمًا، وَلاَ عَبْدًا، وَلاَ أَمَةً، وَلاَ
شَيْئًا إِلاَّ بَغْلَتَهُ الْبَيْضَاءَ، وَسِلاَحَهُ، وَأَرْضًا جَعَلَهَا
صَدَقَةً ". وَقَدْ قَسَمَ عليه السلام مَنْ أُخِذَ عَنْوَةً بِخَيْبَرَ:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ،
حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ،
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ وَفِيهِ: قَالَ: فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً وَجَمَعَ السَّبْيَ فَجَاءَهُ
دِحْيَةُ فَقَالَ:" يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ
قَالَ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً، فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ
"وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
قال أبو محمد : وَكَانَتْ الأَرْضُ كُلُّهَا عَنْوَةً، وَصَالَحَ أَهْلَ بَعْضِ
الْحُصُونِ عَلَى الأَمَانِ، فَنَزَلُوا ذِمَّةً أَحْرَارًا وَقَدْ صَحَّ مِنْ
حَدِيثِ عُمَرَ قَوْلُهُ كَمَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
خَيْبَرَ.فَصَحَّ أَنَّ الْبَاقِينَ بِهَا أَحْرَارٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ
ذَلِكَ الْمَأْخُوذَ مِنْهُمْ كَانَ مَكَانَ الْجِزْيَةِ، فَكَلاَمُ مَنْ لاَ
يَتَّقِي اللَّهَ تَعَالَى، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ النِّصْفُ
مَكَانَ الْجِزْيَةِ وَإِنَّمَا كَانَ حُقُوقَ أَرْبَابِ الضِّيَاعِ
الْمَقْسُومَةِ عَلَيْهِمْ الَّذِي عُومِلَ الْيَهُودُ عَلَى كِفَايَتِهِمْ
الْعَمَلَ، وَاَلَّذِينَ خَطَبَهُمْ عُمَرُ كَمَا ذَكَرْنَا وَأَمَرَهُمْ أَنْ
يَلْحَقُوا بِأَمْوَالِهِمْ فَلْيَنْظُرُوا فِيهَا إذَا أَرَادَ إجْلاَءَ
الْيَهُودِ عَنْهَا. وَالآثَارُ بِهَذَا مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ كَالْمَالِ
الَّذِي حَصَلَ لِعُمَرَ بِهَا فَجَعَلَهُ صَدَقَةً وَكَقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي
سَبَبِ إجْلاَءِ الْيَهُودِ: خَرَجْنَا إلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقْنَا فِي
أَمْوَالِنَا وَكَانَ إعْطَاءُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَ الأَرْضِ
وَالْمَاءِ، وَبَعْضِهِنَّ الأَوْسَاقَ، وَأَنَّ بَقَايَا أَبْنَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا إلَى الْيَوْمِ عَلَى مَوَارِيثِهِمْ، فَظَهَرَ
هَذَيَانُ هَؤُلاَءِ النَّوْكَى. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَوْ كَانَ
إجْمَاعًا لَكَفَرَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَذُفَرُ! فَقُلْنَا: عُذْرًا بِجَهْلِهِمَا
كَمَا يُعْذَرُ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فَأَخْطَأَ فِيهِ وَبَدَّلَهُ وَزَادَ
وَنَقَصَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ عَلَى صَوَابٍ، وَأَمَّا مَنْ قَامَتْ الْحُجَّةُ
عَلَيْهِ وَتَمَادَى مُعَانِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ
كَافِرٌ بِلاَ شَكٍّ. وَشَغَبَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ قَالُوا: لَمَّا
صَحَّتْ الْمُسَاقَاةُ فِي النَّخْلِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا فِي الْعِنَبِ;
لأََنَّ كِلَيْهِمَا فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلاَ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي شَيْءٍ مِنْ
الثِّمَارِ غَيْرَهُمَا.
قال أبو محمد : وَهَذَا فَاسِدٌ وَقِيَاسٌ بَارِدٌ، وَيُقَالُ لَهُمْ: لَمَّا
كَانَ ثَمَرُ النَّخْلِ ذَا نَوًى وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ ذِي نَوًى،
أَوْ لَمَّا كَانَ ثَمَرُ النَّخْلِ حُلْوًا وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ
حُلْوٍ، وَإِلَّا فَمَا الَّذِي جَعَلَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ حُجَّةً فِي
إعْطَائِهَا بِسَهْمٍ مِنْ ثِمَارِهَا وَقَالَ أَيْضًا: إنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ
ظَاهِرٌ يُحَاطُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ .
(8/231)
وَقَالَ عَلِيٌّ: وَكَذَلِكَ التِّينُ، وَالْفُسْتُقُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَأَمَّا مَنْعُ الْمَالِكِيِّينَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَوْزِ وَالْبَقْلِ فَدَعْوَى بِلاَ دَلِيلٍ. فَإِنْ قَالُوا: لَفْظُ " الْمُسَاقَاةِ " يَدُلُّ عَلَى السَّقْيِ .فَقُلْنَا: وَمَنْ سَمَّى هَذَا الْعَمَلَ " مُسَاقَاةً " حَتَّى تَجْعَلُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ حُجَّةً؟ مَا عَلِمْنَاهَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَإِنَّمَا نَقُولُهَا مَعَكُمْ مُسَاعَدَةً فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَقَدْ كَانَ بِخَيْبَرَ بِلاَ شَكٍّ بَقْلٌ وَكُلُّ مَا يَنْبُتُ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ مِنْ الرُّمَّانِ، وَالْمَوْزِ، وَالْقَصَبِ، وَالْبُقُولِ، فَعَامَلَهُمْ عليه السلام عَلَى نِصْفِ كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/232)
لا يجوز أن يشترط على صاحب
الأرض في المزارعة والمغارسة والمعاملة في ثمار الأشجار لا أجير ولا عبد ولا سانية
...
1345 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِ الأَرْضِ فِي
" الْمُزَارَعَةِ " " وَالْمُغَارَسَةِ " "
وَالْمُعَامَلَةِ فِي ثِمَارِ الشَّجَرِ " لاَ أَجِيرٌ، وَلاَ عَبْدٌ، وَلاَ
سَانِيَةٌ،
وَلاَ قَادُوسٌ، وَلاَ حَبْلٌ، وَلاَ دَلْوٌ، وَلاَ عَمَلٌ، وَلاَ زِبْلٌ، وَلاَ
شَيْءٌ أَصْلاً وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ لِشَرْطِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم عَلَيْهِمْ أَنْ يُعْمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَوَجَبَ
الْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ، فَلَوْ تَطَوَّعَ صَاحِبُ الأَصْلِ بِكُلِّ
ذَلِكَ أَوْ بِبَعْضِهِ فَهُوَ حَسَنٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلاَ
تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} .
(8/232)
كل ماثبت في المزارعة يثبت
هنا
...
1346 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَا قُلْنَاهُ فِي " الْمُزَارَعَةِ "
فَهُوَ كَذَلِكَ هَهُنَا
لاَ تُحَاشِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْمَسَائِلِ فَأَغْنَى عَنْ تَكْرَارِهَا
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/232)
1347 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي " الْمُزَارَعَةِ " وَإِعْطَاءِ الأُُصُولِ
بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا مُشَاعٌ فِي جَمِيعِهَا عَلَى
الْعَامِلِ: بِنَاءُ حَائِطٍ، وَلاَ سَدُّ ثُلْمَةٍ،
وَلاَ حَفْرُ بِئْرٍ، وَلاَ تَنْقِيَتُهَا، وَلاَ حَفْرُ عَيْنٍ، وَلاَ
تَنْقِيَتُهَا، وَلاَ حَفْرُ سَانِيَةٍ، وَلاَ تَنْقِيَتُهَا، وَلاَ حَفْرُ
نَهْرٍ، وَلاَ تَنْقِيَتُهُ، وَلاَ عَمَلُ صِهْرِيجٍ، وَلاَ إصْلاَحُهُ، وَلاَ
بِنَاءُ دَارٍ، وَلاَ إصْلاَحُهَا، وَلاَ بِنَاءُ بَيْتٍ، وَلاَ إصْلاَحُهُ، وَلاَ
آلَةٌ سَانِيَةٌ، وَلاَ خَطَّارَةٌ، وَلاَ نَاعُورَةٌ ; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ
شَرْطٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنْ تَطَوَّعَ
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ شَرْطٍ جَازَ; لأََنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا وَرَدَتْ
بِأَنَّ الشَّرْطَ عَلَيْهِمْ أَنَّ يَعْتَمِلُوهَا بِأَمْوَالِهِمْ،
وَبِأَنْفُسِهِمْ فَقَطْ: وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ مِنْ عَمَلِ الأَرْضِ، وَلاَ مِنْ
عَمَلِ الشَّجَرِ فِي شَيْءٍ. وَأَمَّا آلَةُ الْحَرْثِ، وَالْحَفْرِ كُلُّهَا
وَآلَةُ السَّقْيِ كُلُّهَا، وَآلَةُ التَّقْلِيمِ، وَآلَةُ التَّزْبِيلِ،
وَالدَّوَابِّ، وَالأُُجَرَاءِ فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ، وَلاَ بُدَّ ;
لأََنَّهُ لاَ يَكُونُ الْعَمَلُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إِلاَّ بِذَلِكَ، فَهُوَ
عَلَيْهِمْ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
تَمَّ كِتَابُ الْمُعَامَلَةِ فِي الثِّمَارِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ.
(8/232)
كتاب إحياء الموات
مدخل
كل أرض لا مالك لها ولا يعرف أنها عمرت في الإسلام فهي لمن سبق إليها وأحياها
...
كِتَابُ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ. وَالإِقْطَاعِ. وَالْحِمَى. وَالصَّيْدِ
يَتَوَحَّشُ. وَمَنْ تَرَكَ مَالَهُ بِمَضْيَعَةٍ، أَوْ عَطِبَ مَالُهُ فِي
الْبَحْرِ
1348 - مَسْأَلَةٌ - كُلُّ أَرْضٍ لاَ مَالِكَ لَهَا، وَلاَ يُعْرَفُ أَنَّهَا
عُمِّرَتْ فِي الإِسْلاَمِ فَهِيَ لِمَنْ سَبَقَ إلَيْهَا وَأَحْيَاهَا
سَوَاءٌ بِإِذْنِ الإِمَامِ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ لاَ إذْنَ فِي
ذَلِكَ لِلإِمَامِ، وَلاَ لِلأَمِيرِ وَلَوْ أَنَّهُ بَيْنَ الدُّورِ فِي
الأَمْصَارِ، وَلاَ لأََحَدٍ أَنْ يَحْمِيَ شَيْئًا مِنْ الأَرْضِ عَمَّنْ سَبَقَ
إلَيْهَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَوْ أَنَّ الإِمَامَ
أَقْطَعَ إنْسَانًا شَيْئًا لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ
يَحْمِيَهُ مِمَّنْ سَبَقَ إلَيْهِ; فَإِنْ كَانَ إحْيَاؤُهُ لِذَلِكَ مُضِرًّا
بِأَهْلِ الْقَرْيَةِ ضَرَرًا ظَاهِرًا لَمْ يَكُنْ لأََحَدٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ
لاَ بِإِقْطَاعِ الإِمَامِ، وَلاَ بِغَيْرِهِ، كَالْمِلْحِ الظَّاهِرِ، وَالْمَاءِ
الظَّاهِرِ، وَالْمَرَاحِ وَرَحْبَةِ السُّوقِ وَالطَّرِيقِ، وَالْمُصَلَّى، وَنَحْوِ
ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا مُلِكَ يَوْمًا مَا بِإِحْيَاءٍ أَوْ بِغَيْرِهِ ثُمَّ
دَثَرَ وَأُشْغِرَ حَتَّى عَادَ كَأَوَّلِ حَالِهِ فَهُوَ مِلْكٌ لِمَنْ كَانَ
لَهُ، لاَ يَجُوزُ لأََحَدٍ تَمَلُّكُهُ بِالإِحْيَاءِ أَبَدًا، فَإِنْ جُهِلَ
أَصْحَابُهُ فَالنَّظَرُ فِيهِ إلَى الإِمَامِ، وَلاَ يُمْلَكُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا: فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ تَكُونُ
الأَرْضُ لِمَنْ أَحْيَاهَا إِلاَّ بِإِذْنِ الإِمَامِ لَهُ فِي ذَلِكَ. وقال
مالك: أَمَّا مَا يَتَشَاحُّ النَّاسُ فِيهِ مِمَّا يَقْرُبُ مِنْ الْعُمْرَانِ
فَإِنَّهُ لاَ يَكُونُ لأََحَدٍ إِلاَّ بِقَطِيعَةِ الإِمَامِ، وَأَمَّا حِمَى مَا
كَانَ فِي الصَّحَارِي وَغَيْرِ الْعُمْرَانِ فَهُوَ لِمَنْ أَحْيَاهُ فَإِنْ
تَرَكَهُ يَوْمًا مَا حَتَّى عَادَ كَمَا كَانَ، فَقَدْ صَارَ أَيْضًا لِمَنْ أَحْيَاهُ
وَسَقَطَ عَنْهُ مِلْكُهُ وَهَكَذَا قَالَ فِي الصَّيْدِ يُتَمَلَّكُ ثُمَّ
يَتَوَحَّشُ فَإِنَّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي أُذُنِهِ شَنْفٌ أَوْ
نَحْوُ ذَلِكَ فَالشَّنْفُ الَّذِي كَانَ لَهُ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: لَيْسَ الْمَوَاتُ إِلاَّ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ
فَقَطْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَنْ أَحْيَا الْمَوَاتَ فَهُوَ لَهُ، وَلاَ
مَعْنَى لأَِذْنِ الإِمَامِ، إِلاَّ أَنَّ حَدَّ الْمَوَاتِ عِنْدَهُ مَا إذَا
وَقَفَ الْمَرْءُ فِي أَدْنَى الْمِصْرِ إلَيْهِ ثُمَّ صَاحَ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ،
فَمَا سُمِعَ فِيهِ الصَّوْتُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِإِذْنِ الإِمَامِ. وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَالشَّافِعِيُّ،
وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابُهُ: كَقَوْلِنَا. فأما مَنْ ذَهَبَ
مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ فَاحْتَجُّوا بِخَبَرٍ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ
وَاقِدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي
أُمَيَّةَ قَالَ: نَزَلْنَا دَابِقَ وَعَلَيْنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
الْجَرَّاحِ فَقَتَلَ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَتِيلاً مِنْ الرُّومِ فَأَرَادَ
أَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يُخَمِّسَ سَلَبَهُ فَقَالَ لَهُ حَبِيبٌ: إنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِ، فَقَالَ لَهُ
(8/233)
مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: مَهْ
يَا حَبِيبُ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إنَّمَا
لِلْمَرْءِ مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ وَقَالُوا: لَمَّا كَانَ الْمَوَاتُ
لَيْسَ أَحَدٌ أَوْلَى بِهِ مِنْ أَحَدٍ أَشْبَهَ مَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، مَا
نَعْلَمُ لَهُمْ شُبْهَةً غَيْرَ هَذَا.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا الأَثَرُ فَمَوْضُوعٌ; لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ
وَاقِدٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالآثَارِ ثُمَّ
هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ; لأََنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَهُ فَأَبَاحُوا
الصَّيْدَ لِمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الإِمَامِ، فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا
كَذَبُوا لأََنَّ فِي التَّابِعِينَ مَنْ مَنَعَ مِنْ الصَّيْدِ فِي دَارِ
الْحَرْبِ وَجَعَلَهُ مِنْ الْمَغْنَمِ، وَلاَ يُعَارَضُ بِمِثْلِ هَذَا الأَثَرِ
الْكَاذِبِ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ،
وَبِالأَرْضِ لِمَنْ أَحْيَاهَا. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُمْ ذَلِكَ بِمَا فِي بَيْتِ
الْمَالِ فَهُوَ قِيَاسٌ وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; لأََنَّ مَا فِي بَيْتِ
الْمَالِ أَمْوَالٌ مَمْلُوكَةٌ، أُخِذَتْ بِجِزْيَةٍ أَوْ بِصَدَقَةٍ أَوْ مِنْ
بَيْتِ مَالٍ كَانَ لَهُ رَبٌّ فَلَمْ يَعْرِفْهُ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُشَبَّهَ
مَا لَمْ يُعْرَفْ أَكَانَ لَهُ رَبٌّ أَمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَبٌّ بِمَا يُوقَنُ
أَنَّهُ كَانَ لَهُ رَبٌّ. لَوْ كَانَ الأَمْرُ بِالْقِيَاسِ حَقًّا لَكَانَ
قِيَاسُ الأَرْضِ الْمَوَاتِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ لَهَا رَبٌّ بِالصَّيْدِ
وَالْحَطَبُ أَوْلَى وَأَشْبَهُ، وَلَكِنْ لاَ النُّصُوصَ يَتَّبِعُونَ، وَلاَ
الْقِيَاسَ يُحْسِنُونَ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ الْمَوْضُوعُ لَكَانَ
حُجَّةً لَنَا; لأََنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَضَى بِالْمَوَاتِ
لِمَنْ أَحْيَاهُ، وَهُوَ عليه السلام الإِمَامُ الَّذِي لاَ إمَامَةَ لِمَنْ لَمْ
يَأْتَمَّ بِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ فِيهِ تَعَالَى {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ
أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} فَهُوَ إمَامُنَا نُشْهِدُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ
وَجَمِيعَ عِبَادِهِ، لاَ إمَامَ لَنَا دُونَهُ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لاَ
يَدْعُونَا مَعَ إمَامٍ غَيْرِهِ فَمَنْ اتَّخَذَ إمَامًا دُونَهُ عليه السلام
يُغَلِّبُ حُكْمَهُ عَلَى حُكْمِهِ عليه السلام فَسَيُرَدُّ وَيُعْلَمُ وَنَحْنُ
إلَى اللَّهِ مِنْهُ بُرَآءُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَظَاهِرُ الْفَسَادِ; لأََنَّهُ قَسَّمَ تَقْسِيمًا لاَ
نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلاَ جَاءَ بِهِ قُرْآنٌ، وَلاَ سَنَةٌ، وَلاَ
رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قِيَاسٌ. وأعجب شَيْءٍ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ
الْمَوَاتَ الْقَرِيبَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَطُّ مَالِكٌ لِمَنْ أَحْيَاهُ،
وَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم
ثُمَّ جَعَلَ الْمَالَ الْمُتَمَلَّكَ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي
الْقُرْآنِ، وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إذْ يَقُولُ "
إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " فَجَعَلَهَا مِلْكًا
لِمَنْ أَخَذَهَا كَالْقَوْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي الْمَوَاتِ يُعَمَّرُ
ثُمَّ يُتَشَغَّرُ، وَمِثْلُ الصَّيْدِ يَتَوَحَّشُ، وَمَا وَجَبَ سُقُوطُ الْمِلْكِ
بِالتَّوَعُّرِ وَالتَّوَحُّشِ لاَ بِقُرْآنٍ، وَلاَ بِسُنَّةٍ، وَلاَ بِرِوَايَةٍ
سَقِيمَةٍ، وَلاَ بِقِيَاسٍ، وَلاَ بِرَأْيٍ لَهُ وَجْهٌ. وَأَيْضًا فَلاَ يَخْلُو
مَا قَرُبَ مِنْ الْعُمْرَانِ أَوْ تَشَاحَّ فِيهِ النَّاسُ مِنْ أَنْ يَكُونَ
فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ وَالْمِصْرِ، أَوْ لاَ ضَرَرَ فِيهِ
عَلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَمَا لِلإِمَامِ أَنْ يَقْطَعَهُ أَحَدًا،
وَلاَ أَنْ يَضُرَّ بِهِمْ وَإِنْ
(8/234)
كَانَ لاَ ضَرَرَ فِيهِ
عَلَيْهِمْ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَعِيدِ، عَنِ الْعُمْرَانِ؟
فَصَحَّ أَنْ لاَ مَعْنَى لِلإِمَامِ فِي ذَلِكَ أَصْلاً،وَكَذَلِكَ تَقْسِيمُ
أَبِي يُوسُفَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ فَفَاسِدٌ أَيْضًا; لأََنَّهُ قَوْلٌ بِلاَ
بُرْهَانٍ، فَهُوَ سَاقِطٌ.
قال أبو محمد : وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ النَّسَائِيّ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى،
حَدَّثَنَا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ هُوَ أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً لَيْسَتْ
لأََحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم قَالَ:" مَنْ عَمَّرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأََحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ
بِهَا " قَالَ عُرْوَةُ: وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
قال أبو محمد : هَذَا الْخَبَرُ هُوَ نَصُّ قَوْلِنَا، وَهُوَ الْمُبْطِلُ
لِقَوْلِ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ إِلاَّ بِإِذْنِ غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم إمَّا عُمُومًا وَأَمَّا فِي مَكَان دُونَ مَكَان، وَلِقَوْلِ مَنْ
قَالَ: مَنْ عَمَّرَ أَرْضًا قَدْ عُمِّرَتْ ثُمَّ أُشْغِرَتْ فَهِيَ لِلَّذِي
عَمَّرَهَا آخِرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ
مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ
الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ قَضِيَّةٍ قَضَاهَا رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكُلَّ عَطِيَّةٍ أَعْطَاهَا عليه السلام فَلَيْسَ
لأََحَدٍ يَأْتِي بَعْدَهُ لاَ إمَامٍ، وَلاَ غَيْرِهِ أَنْ يَعْتَرِضَ فِيهَا،
وَلاَ أَنْ يُدْخِلَ فِيهَا حُكْمًا وَقَدْ اتَّصَلَ كَمَا تَرَى أَنَّ عُمَرَ
قَضَى بِذَلِكَ ; وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى،
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ
وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ ". وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ،
حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي
حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ،
عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ: الْعِرْقُ الظَّالِمُ هُوَ
الرَّجُلُ يَعْمُرُ الأَرْضَ الْخَرِبَةَ وَهِيَ لِلنَّاسِ قَدْ عَجَزُوا عَنْهَا
فَتَرَكُوهَا حَتَّى خَرِبَتْ.
قال أبو محمد : فَهَذَا عُرْوَةُ سَمَّى هَذِهِ الصِّفَةَ عِرْقَ ظَالِمٍ،
وَصَدَقَ عُرْوَةُ وَهَذَا هُوَ الَّذِي أَبَاحَهُ الْمَالِكِيُّونَ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى
بْنُ أَيُّوبَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ،
حَدَّثَنَا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ:
حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ الْمُهَلَّبِيُّ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَيُّوبُ،
وَعَبَّادٌ كِلاَهُمَا
(8/235)
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،
عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَلَهُ
فِيهَا أَجْرٌ، وَمَا أَكَلَتْ الْعَوَافِي مِنْهَا فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ ".
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ مَعْنَى لأََخْذِ رَأْيِ الإِمَامِ فِي الصَّدَقَةِ، وَلاَ مَا
فِيهِ أَجْرٌ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ
تَعَالَى. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ
الآمِلِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ:" أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى أَنَّ الأَرْضَ أَرْضُ اللَّهِ، وَالْعِبَادَ
عِبَادُ اللَّهِ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ جَاءَنَا بِهَذَا،
عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السَّرْحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي
يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّعْبِ بْنِ
جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
لاَ حِمَى إِلاَّ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ". فَصَحَّ أَنْ لَيْسَ لِلإِمَامِ
أَنْ يَحْمِيَ شَيْئًا مِنْ الأَرْضِ، عَنْ أَنْ تَحْيَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
دَاوُد، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ
جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً غَرَسَ نَخْلاً فِي أَرْضِ
غَيْرِهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبِ الأَرْضِ
بِأَرْضِهِ وَأَمَرَ صَاحِبَ النَّخْلِ أَنْ يُخْرِجَ نَخْلَهُ مِنْهَا. قَالَ
عُرْوَةُ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَأَكْبَرُ ظَنِّي أَنَّهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَأَنَا رَأَيْتُ
الرَّجُلَ يَضْرِبُ فِي أُصُولِ النَّخْلِ.
قال أبو محمد: هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لاَ يَجُوزُ غَيْرُهُ، وَعُرْوَةُ لاَ
يَخْفَى عَلَيْهِ مَنْ صَحَّتْ صُحْبَتُهُ مِمَّنْ لَمْ تَصِحَّ، وَقَدْ اعْتَمَرَ
مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَدْرَكَهُ
فَمَنْ دُونَهُ، لاَ قَوْلَ مَالِكٍ: إنَّهُ إنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالشَّجَرِ إنْ
قُلِعَتْ كَانَ لِغَارِسِهَا قِيمَتُهَا مَقْلُوعَةً أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ، وَتُرِكَتْ
لِصَاحِبِ الأَرْضِ أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ، وَمَا يَزَالُونَ يَقْضُونَ لِلنَّاسِ
بِأَمْوَالِ النَّاسِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ،
وَالْمُتَعَدِّي وَإِنْ ظَلَمَ فَظُلْمُهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يَظْلِمَ فَيُؤْخَذَ
مِنْ مَالِهِ مَا لَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه
وسلم أَخْذَهُ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي عُبَيْدٍ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ الْحِمْصِيُّ، عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ عَلَى
هَذَا الْمِنْبَرِ يَقُولُ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ أَحْيَا أَرْضًا
مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ"، وَجَاءَ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ فَهَذَا بِحَضْرَةِ
الصَّحَابَةِ عَلاَنِيَةً لاَ يُنْكِرُهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْمُبَارَكِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ زُرَيْقٍ قَالَ: قَرَأْت كِتَابَ عُمَرَ بْنِ
عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى أَبِي: مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً بِبُنْيَانٍ أَوْ
حَرْثٍ مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ أَمْوَالِ قَوْمٍ
(8/236)
ابْتَاعُوهَا أَوْ أَحْيَوْا
بَعْضًا وَتَرَكُوا بَعْضًا فَأَجَازَ لِلْقَوْمِ إحْيَاءَهُمْ وَأَمَّا مَا كَانَ
مَكْشُوفًا فَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ الْمَاءَ أَوْ
الْمِلْحَ، أَوْ يُرِيحُونَ فِيهِ دَوَابَّهُمْ، فَلأََنَّهُمْ قَدْ مَلَكُوهُ
فَلَيْسَ لأََحَدٍ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى
بْنِ قَيْسٍ الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبْيَضَ بْنِ حَمَالٍ هُوَ
الْمَازِنِيُّ قَالَ: " اسْتَقْطَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
مَعْدِنَ الْمِلْحِ الَّذِي بِمَأْرِبَ فَأَقْطَعَنِيهِ، فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الْعِدِّ قَالَ: فَلاَ إذًا .
قال أبو محمد: فإن قيل: فَقَدْ أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَأَقْطَعَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، وَمُعَاوِيَةُ فَمَا مَعْنَى
إقْطَاعِهِمْ قلنا: أَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ الَّذِي
لَهُ الْحِمَى وَالإِقْطَاعُ، وَاَلَّذِي لَوْ مَلَّكَ إنْسَانًا رَقَبَةَ حُرٍّ
لَكَانَ لَهُ عَبْدًا وَأَمَّا مَنْ دُونَهُ عليه السلام فَقَدْ يَفْعَلُونَ
ذَلِكَ قَطْعًا لِلتَّشَاحِّ وَالتَّنَازُعِ، وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَهُ
عليه السلام.
قال أبو محمد: وَلَيْسَ الْمَرْعَى مُتَمَلَّكًا، بَلْ مَنْ أَحْيَا فِيهِ فَهُوَ
لَهُ، وَيُقَالُ لأََهْلِ الْمَاشِيَةِ: أَعْزِبُوا وَأَبْعِدُوا فِي طَلَبِ
الْمَرْعَى، وَإِنَّمَا التَّمَلُّكُ بِالإِحْيَاءِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ وَالرَّعْيُ لَيْسَ إحْيَاءً، وَلَوْ كَانَ إحْيَاءً لَمَلَكَ
الْمَكَانَ مَنْ رَعَاهُ، وَهَذَا بَاطِلٌ مُتَيَقَّنٌ فِي اللُّغَةِ وَفِي
الشَّرِيعَةِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ لِقَوْلِهِمْ فِي الصَّيْدِ
الْمُتَوَحِّشِ بِأَسْخَفِ مُعَارَضَةٍ سُمِعَتْ، وَهُوَ، أَنَّهُ قَالَ:
الصَّيْدُ إذَا تَوَحَّشَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ مَاءً مِنْ بِئْرٍ
مُتَمَلَّكَةٍ فِي وِعَائِهِ فَانْهَرَقَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ، أَيَكُونُ
شَرِيكًا بِذَلِكَ فِي الْمَاءِ الَّذِي فِي الْبِئْرِ؟.
قال أبو محمد: الْبِئْرُ وَأَخْذُ الْمَاءِ مِنْهَا لاَ يَخْلُو أَنْ تَكُونَ
مُبَاحَةً أَوْ مُتَمَلَّكَةً، فَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةً فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ
مِنْهَا أَضْعَافَ مَا انْهَرَقَ لَهُ إنْ شَاءَ، وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ إنْ شَاءَ،
كَمَا يَتْرُكُ النَّاسُ مَا لاَ قِيمَةَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ
وَيُبِيحُونَهُ لِمَنْ أَخَذَهُ، كَالنَّوَى، وَالتِّبْنِ، وَالزِّبْلِ، وَنَحْوِ
ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّ صَاحِبَ كُلِّ ذَلِكَ لَمْ يُطْلِقْهُ، وَلاَ أَبَاحَ
أَخْذَهُ لأََحَدٍ، لَكَانَ ذَلِكَ لَهُ، وَلَمَا حَلَّ لأََحَدٍ أَخْذُهُ، فَلاَ
يَحِلُّ مَالُ أَحَدٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إِلاَّ بِإِبَاحَتِهِ لَهُ، أَوْ حَيْثُ
أَبَاحَتْهُ الدِّيَانَةُ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ مَنْ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ حَقَّ مُسْلِمٍ
أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَلَوْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ، فَأَيُّمَا
أَكْثَرُ عِنْدَهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ قَضِيبُ أَرَاكٍ، أَوْ
أُيَّلٌ، أَوْ حِمَارُ وَحْشٍ، يُسَاوِي كُلُّ وَاحِدِ مِنْهَا مَالاً، أَوْ
أَرْضٌ تُسَاوِي الأَمْوَالَ، وَإِنْ كَانَتْ الْبِئْرُ مُتَمَلَّكَةً، فَلاَ
يَخْلُو آخِذُ الْمَاءِ مِنْهَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَا أَخَذَ أَوْ
غَيْرَ مُحْتَاجٍ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مِثْلَ
مَا انْهَرَقَ لَهُ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَضْعَافَهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ، وَإِنْ
(8/237)
كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَائِهَا لاَ مَا قَلَّ، وَلاَ مَا كَثُرَ فَظَهَرَ هَذَرُ هَذَا الْجَاهِلِ وَتَخْلِيطُهُ.
(8/238)
تفسير الأحياء
...
1349 - مَسْأَلَةٌ - وَالإِحْيَاءُ
هُوَ قَلْعُ مَا فِيهَا مِنْ عُشْبٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ نَبَاتٍ، بِنِيَّةِ
الإِحْيَاءِ، لاَ بِنِيَّةِ أَخْذِ الْعُشْبِ وَالأَحْتِطَابِ فَقَطْ، أَوْ جَلْبِ
مَاءٍ إلَيْهَا مِنْ نَهْرٍ، أَوْ مِنْ عَيْنٍ، أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ فِيهَا
لِسَقْيِهَا مِنْهُ، أَوْ حَرْثِهَا، أَوْ غَرْسِهَا، أَوْ تَزْبِيلِهَا، أَوْ مَا
يَقُومُ مَقَامَ التَّزْبِيلِ مِنْ نَقْلِ تُرَابٍ إلَيْهَا، أَوْ رَمَادٍ، أَوْ قَلْعِ
حِجَارَةٍ، أَوْ جَرْدِ تُرَابِ مِلْحٍ، عَنْ وَجْهِهَا حَتَّى يُمْكِنَ بِذَلِكَ
حَرْثُهَا، أَوْ غَرْسُهَا، أَوْ أَنْ يُخْتَطَّ عَلَيْهَا بِحَظِيرٍ لِلْبِنَاءِ
فَهَذَا كُلُّهُ إحْيَاءٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ الَّتِي بِهَا خَاطَبَنَا اللَّهُ
تَعَالَى عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَكُونُ لَهُ بِذَلِكَ مَا
أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي فَوْرِهِ وَكَثْرَتِهِ فِي جَمِيعِ جِهَاتِ الْبِئْرِ، أَوْ
الْعَيْنِ، أَوْ النَّهْرِ، أَوْ السَّاقِيَّةِ، قَدْ مَلَكَهُ وَاسْتَحَقَّهُ;
لأََنَّهُ أَحْيَاهُ .وَلاَ خِلاَفَ فِي ضَرُورَةِ الْحِسِّ وَاللُّغَةِ أَنَّ
الأَحْتِطَابَ وَأَخْذَ الْعُشْبِ لِلرَّعْيِ لَيْسَ إحْيَاءً وَمَا تَوَلَّى
الْمَرْءُ مِنْ ذَلِكَ بِأُجَرَائِهِ وَأَعْوَانِهِ، فَهُوَ لَهُ، لاَ لَهُمْ
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا الأَعْمَالُ
بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ".
(8/238)
من خرج في أرضه معدن فهو له
ويورث عنه ولا حق للإمام معه فيه ولا لغيره
...
1350 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ خَرَجَ فِي أَرْضِهِ مَعْدِنُ فِضَّةٍ، أَوْ ذَهَبٍ،
أَوْ نُحَاسٍ أَوْ حَدِيدٍ، أَوْ رَصَاصٍ، أَوْ قَزْدِيرٍ، أَوْ زِئْبَقٍ، أَوْ
مِلْحٍ، أَوْ شَبٍّ، أَوْ زِرْنِيخٍ، أَوْ كُحْلٍ، أَوْ يَاقُوتٍ، أَوْ زُمُرُّدٍ،
أَوْ بَجَادِيٍّ، أَوْ رهوبي، أَوْ بِلَّوْرٍ، أَوْ كَذَّانٍ، أَوْ أَيِّ شَيْءٍ
كَانَ فَهُوَ لَهُ، وَيُورَثُ عَنْهُ، وَلَهُ بَيْعُهُ، وَلاَ حَقَّ لِلإِمَامِ
مَعَهُ فِيهِ، وَلاَ لِغَيْرِهِ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك:
تَصِيرُ الأَرْضُ لِلسُّلْطَانِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا بَاطِلٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {لاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ ".
وَلِقَوْلِهِ عليه السلام " مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ الأَرْضِ طَوَّقَهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ " وَلِقَوْلِهِ عليه السلام:
" إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". فَلَيْتَ
شِعْرِي بِأَيِّ وَجْهٍ تَخْرُجُ أَرْضُهُ الَّتِي مَلَكَ بِإِرْثٍ، أَوْ الَّتِي
أَحْيَا، عَنْ يَدِهِ مِنْ أَجْلِ وُجُودِ الْمَعْدِنِ فِيهَا وَمَا عَلِمْنَا
لِهَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلَّقًا لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ، وَلاَ
رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ، وَلاَ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ قَبْلَهُ نَعْلَمُهُ، وَلاَ مِنْ
قِيَاسٍ، وَلاَ مِنْ رَأْيٍ سَدِيدٍ، وَنَسْأَلُهُ، عَنْ مَسْجِدٍ ظَهَرَ فِيهِ
مَعْدِنٌ، أَوْ لَوْ ظَهَرَ مَعْدِنٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي
مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ فِي مَقْبَرَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ
أَيَكُونُ لِلإِمَامِ أَخْذُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَأَخْذُ مَسْجِدِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمَقْبَرَةِ فَيَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ
(8/238)
من ساق ساقية أو حفر بئرا أو
عينا فله ماسقي ولا يحفر أحد بحيث يضر بتلك العين أو تلك البئر
...
1351 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ سَاقَ سَاقِيَةً، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا، أَوْ عَيْنًا
فَلَهُ مَا سَقَى كَمَا قَدَّمْنَا.
وَلاَ يَحْفِرُ أَحَدٌ بِحَيْثُ يَضُرُّ بِتِلْكَ الْعَيْنِ، أَوْ بِتِلْكَ
الْبِئْرِ، أَوْ بِتِلْكَ السَّاقِيَةِ، أَوْ ذَلِكَ النَّهْرِ، أَوْ بِحَيْثُ
يَجْلِبُ شَيْئًا مِنْ مَائِهَا عَنْهَا فَقَطْ، لاَ حَرِيمَ لِذَلِكَ أَصْلاً
غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا ; لأََنَّهُ إذَا مَلَكَ تِلْكَ الأَرْضَ فَقَدْ مَلَكَ مَا
فِيهَا مِنْ الْمَاءِ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذُ مَالِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ. وَرُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ
يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ "أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: حَرِيمُ الْبِئْرِ الْمُحْدَثَةِ
خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ الْبِئْرِ الْعَادِيَةِ خَمْسُونَ
ذِرَاعًا ". وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأَنْصَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِمَا مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
وَالشَّعْبِيِّ، وَالْحَسَنِ: حَرِيمُ الْبِئْرِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا لأََعْطَانِ
الإِبِلِ، وَالْغَنَمِ. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: حَرِيمُ بِئْرِ الزَّرْعِ
ثَلاَثُمِائَةِ ذِرَاعٍ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْت النَّاسَ يَقُولُونَ:
حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: حَرِيمُ مَا بَيْنَ
الْعَيْنَيْنِ مِائَتَا ذِرَاعٍ وَلَيْسَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ حَدٌّ. وقال
أبو حنيفة: حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحَرِيمُ بِئْرِ
النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ حَبْلُهُمَا
أَطْوَلَ، وَحَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَلاَ يُعْلَمُ لأََبِي
حَنِيفَةَ سَلَفًا فِي قَوْلٍ فِي بِئْرِ النَّاضِحِ، وَقَدْ خَالَفَ الْمُرْسَلَ
فِي هَذَا الْحُكْمِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي قَوْلِهِ الْمَذْكُورِ:
هُوَ السُّنَّةُ، وَالْمَالِكِيُّونَ يَحْتَجُّونَ فِي أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ
بِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: هِيَ السُّنَّةُ فَهَلاَّ احْتَجُّوا هَهُنَا
بِقَوْلِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: هِيَ السُّنَّةُ؟.
(8/239)
حكم الشرب في نهر غير ممتلك
فيشرع السقي للأعلى فالأعلى لا حق للأسفل حتى يستوفي الأعلى حاجته
...
1352 - مَسْأَلَةٌ - وَأَمَّا الشُّرْبُ مِنْ نَهْرٍ غَيْرِ مُتَمَلَّكٍ
فَالْحُكْمُ أَنَّ السَّقْيَ لِلأَعْلَى فَالأَعْلَى
لاَحِقٌ لِلأَسْفَلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الأَعْلَى حَاجَتَهُ، وَحَقُّ ذَلِكَ
أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَ الأَرْضِ حَتَّى لاَ تَشْرَبَهُ وَيَرْجِعُ لِلْجِدَارِ
أَوْ السِّيَاجِ، ثُمَّ يُطْلِقُهُ، وَلاَ يُمْسِكُهُ أَكْثَرَ، وَسَوَاءٌ كَانَ
الأَعْلَى أَحْدَثَ مِلْكًا أَوْ إحْيَاءً مِنْ الأَسْفَلِ، أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ،
أَوْ أَقْدَمَ مِنْهُ، وَلاَ يُتَمَلَّكُ شِرْبُ نَهْرٍ غَيْرِ مُتَمَلَّكٍ
أَصْلاً، وَلاَ شِرْبُ سَيْلٍ، وَتَبْطُلُ الدُّوَلُ وَالْقِسْمَةُ فِيهَا وَإِنْ
تَقَدَّمَتْ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ حَفَرُوا سَاقِيَةً وَبَنَوْهَا، فَلَهُمْ
أَنْ يَقْتَسِمُوا مَاءَهَا بِقَدْرِ حِصَصِهِمْ فِيهَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا أَبُو
الْوَلِيدِ هُوَ الطَّيَالِسِيُّ أَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الزُّبَيْرِ قَالَ: "خَاصَمَ الزُّبَيْرُ رَجُلاً فِي شِرَاجِ الْحَرَّةِ
الَّتِي يَسْقُونَ بِهَا، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ لِلزُّبَيْرِ: سَرِّحْ الْمَاءَ
يَمُرُّ فَأَبَى عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
لِلزُّبَيْرِ: اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلْ إلَى
(8/239)
1353 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ
غَرَسَ أَشْجَارًا فَلَهُ مَا أَظَلَّتْ أَغْصَانُهَا عِنْدَ تَمَامِهَا، فَإِنْ
انْتَثَرَتْ عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ أَخَذَ بِقَطْعِ مَا انْتَثَرَ مِنْهَا عَلَى
أَرْضِ غَيْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ أَنَّ
مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ حَدَّثَهُمْ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: اخْتَصَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم رَجُلاَنِ فِي حَرِيمِ نَخْلَةٍ فَأَمَرَ عليه السلام
بِجَرِيدَةٍ مِنْ جَرِيدِهَا فَذُرِعَتْ فَقَضَى بِذَلِكَ يَعْنِي بِمَبْلَغِهَا.
وَأَمَّا انْتِثَارُهَا عَلَى أَرْضِ غَيْرِهِ فَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ
" فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ الأَنْتِفَاعُ بِمَالِ غَيْرِهِ إِلاَّ مَا دَامَتْ
نَفْسُهُ لَهُ طَيِّبَةً بِذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/240)
من ترك دابته بفلاة ضائعة
فأخذها إنسان فقام عليها فصلحت أو أعطب في بحر أو نهر فرمى البحر متاعه فأخذه
إنسان أو غاص عليه إنسان فأخذه فكل ذلك لصاحبه
...
1354 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ تَرَكَ دَابَّتَهُ بِفَلاَةٍ ضَائِعَةً فَأَخَذَهَا
إنْسَانٌ فَقَامَ عَلَيْهَا فَصَلَحَتْ، أَوْ عَطِبَ فِي بَحْرٍ أَوْ نَهْرٍ
فَرَمَى الْبَحْرُ مَتَاعَهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ أَوْ غَاصَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ
فَأَخَذَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ لِصَاحِبِهِ الأَوَّلِ،
وَلاَ حَقَّ فِيهِ لِمَنْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْهُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ
". وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ
بْنِ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ،
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيِّ قَالَ: سَمِعْت الشَّعْبِيَّ
يَقُولُ: مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ دَابَّتُهُ فَتَرَكَهَا فَهِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا:
فَقُلْت لَهُ: عَمَّنْ يَا أَبَا عَمْرٍو قَالَ: إنْ شِئْت عَدَّدَتْ لَك كَذَا
وَكَذَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ
سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ
الْوَاسِطِيُّ أَنَا مُطَرِّفٌ هُوَ ابْنُ طَرِيفٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ
سَيَّبَ دَابَّتَهُ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ فَأَصْلَحَهَا فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هَذَا
قَدْ قَضَى فِيهِ إنْ كَانَ سَيَّبَهَا فِي كَلاٍَ، وَأَمْنٍ، وَمَاءٍ،
فَصَاحِبُهَا أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ كَانَ سَيَّبَهَا فِي مَخَافَةٍ أَوْ
مَفَازَةٍ فَاَلَّذِي أَخَذَهَا أَحَقُّ بِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: سُئِلَ
الْحَسَنُ عَمَّنْ تَرَكَ دَابَّتَهُ بِأَرْضِ قَفْرٍ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ فَقَامَ
عَلَيْهَا حَتَّى صَلَحَتْ قَالَ: هِيَ لِمَنْ أَحْيَاهَا. قَالَ: وَسُئِلَ
الْحَسَنُ، عَنِ السَّفِينَةِ تَغْرَقُ فِي الْبَحْرِ فِيهَا مَتَاعٌ لِقَوْمٍ
شَتَّى فَقَالَ:
(8/240)
1354 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ
يَلْزَمُ مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ إذَا أَخَذَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الَّذِي
وَجَدَهُ عِنْدَهُ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ، لأََنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ،
فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِمَا أَنْفَقَ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَنَا دَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ
الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلاً أَضَلَّ بَعِيرًا لَهُ نِضْوًا فَأَخَذَهُ رَجُلٌ
فَأَنْفَقَ عَلَيْهِ حَتَّى صَلَحَ وَسَمُنَ، فَوَجَدَهُ صَاحِبُهُ عِنْدَهُ
فَخَاصَمَهُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَضَى لَهُ بِالنَّفَقَةِ
وَرَدِّ الدَّابَّةِ إلَى صَاحِبِهَا قَالَ الشَّعْبِيُّ: أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ:
يَأْخُذُ مَالَهُ حَيْثُ وَجَدَهُ سَمِينًا أَوْ مَهْزُولاً، وَلاَ شَيْءَ
عَلَيْهِ.
الْمَرْفِقُ
(8/241)
المرفق
لكل أحد أن يفتح ما شاء في حائطه من كوة أو باب أو أن يهدمه إن شاء في دار جاره أو
في درب غير نافذ
...
1355 - مَسْأَلَةٌ - وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَفْتَحَ مَا شَاءَ فِي حَائِطِهِ مِنْ
كُوَّةٍ أَوْ بَابٍ،
أَوْ أَنْ يَهْدِمَهُ إنْ شَاءَ فِي دَارِ جَارِهِ، أَوْ فِي دَرْبٍ غَيْرِ
نَافِذٍ أَوْ نَافِذٍ، وَيُقَالُ لِجَارِهِ: ابْنِ فِي حَقِّك مَا تَسْتُرُ بِهِ
عَلَى نَفْسِك إِلاَّ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الأَطِّلاَعِ فَقَطْ. وَهُوَ قَوْلُ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يُمْنَعُ مِنْ
كُلِّ ذَلِكَ.
قال أبو محمد : وَهَذَا خَطَأٌ; لأََنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ أَوْلَى بِحَقِّهِ. وَلاَ
يَحِلُّ لِلْجَارِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِحَائِطِ جَارِهِ إِلاَّ حَيْثُ جَاءَ
النَّصُّ بِذَلِكَ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَهْدِمَ حَائِطَهُ فَلاَ يُكَلَّفُ
بُنْيَانَهُ وَيَقُولُ لِجَارِهِ: اُسْتُرْ عَلَى نَفْسِك إنْ شِئْت، وَبَيْنَ
أَنْ يَهْدِمَ هُوَ حَائِطُ نَفْسِهِ. وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ السَّقْفِ
وَالأَطِّلاَعِ مِنْهُ وَبَيْنَ قَاعِ الدَّارِ وَالأَطِّلاَعِ مِنْهُ، وَلاَ
فَرْقَ بَيْنَ فَتْحِ كُوَّةٍ لِلضَّوْءِ وَبَيْنَ فَتْحِهَا هَكَذَا وَكِلاَ
الأَمْرَيْنِ، يُمْكِنُ الأَطِّلاَعُ مِنْهُ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ
سُنَّةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ يَمْنَعُ الْمَرْءَ
مِنْ أَنْ يَفْتَحَ فِي حَقِّهِ وَفِي حَائِطِهِ مَا شَاءَ. فَإِنْ احْتَجُّوا
بِالْخَبَرِ " لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ " هَذَا خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ;
لأََنَّهُ إنَّمَا جَاءَ مُرْسَلاً، أَوْ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا زُهَيْرُ بْنُ
ثَابِتٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ إِلاَّ أَنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ. وَلاَ ضَرَرَ أَعْظَمَ مِنْ
أَنْ يُمْنَعَ الْمَرْءُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ مُرَاعَاةً
لِنَفْعِ غَيْرِهِ فَهَذَا هُوَ الضَّرَرُ حَقًّا. وَأَمَّا الأَطِّلاَعُ
فَمَنْعُهُ وَاجِبٌ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَنَا
عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ
عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم:" لَوْ أَنَّ امْرَأً
اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنٍ فَحَذَفْتَهُ بِعَصًا فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ
عَلَيْكَ جُنَاحٌ " وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِحَصَاةٍ
هُوَ أَصَحُّ.
(8/241)
1356- مَسْأَلَةٌ: وَلَيْسَ
لأََحَدٍ أَنْ يُرْسِلَ مَاءَ سَقْفِهِ أَوْ دَارِهِ عَلَى أَرْضِ جَارِهِ
أَصْلاً،
فَإِنْ أَذِنَ لَهُ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ مَتَى شَاءَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ
" فَإِطْلاَقُهُ مَاءَ دَارِهِ عَلَى أَرْضِ جَارِهِ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي
مَالِ غَيْرِهِ وَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَالإِذْنُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ مَا
دَامَ إذْنًا; لأََنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهُ الرَّقَبَةَ، وَالإِذْنُ فِي شَيْءٍ مَا
الْيَوْمَ غَيْرُ مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ غَدًا بِلاَ شَكٍّ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ.
(8/242)
1357 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ لأََحَدٍ أَنْ يُدَخِّنَ عَلَى جَارِهِ;
لأََنَّهُ أَذًى، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَذَى الْمُسْلِمِ. وَلِكُلِّ
أَحَدٍ أَنْ يُعَلِّيَ بُنْيَانَهُ مَا شَاءَ وَإِنْ مَنَعَ جَارَهُ الرِّيحَ
وَالشَّمْسَ لأََنَّهُ لَمْ يُبَاشِرْ مَنْعَهُ بِغَيْرِ مَا أُبِيحَ لَهُ.
وَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِي حَقِّهِ مَا شَاءَ مِنْ حَمَّامٍ، أَوْ
فُرْنٍ، أَوْ رَحًى، أَوْ كَمَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، إذْ لَمْ يَأْتِ نَصٌّ
بِالْمَنْعِ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
(8/242)
لا يحل لأحد أن يمنع جاره من
أن يدخل خشبا في جداره ويجبر إن لم يأذن له
...
1358 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ مِنْ أَنْ
يُدْخِلَ خَشَبًا فِي جِدَارِهِ وَيُجْبَرَ عَلَى ذَلِكَ
أَحَبَّ أَمْ كَرِهَ إنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْحَائِطِ
هَدْمَ حَائِطِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ لِجَارِهِ: دَعِّمْ
خَشَبَك أَوْ انْزَعْهُ فَإِنِّي أَهْدِمُ حَائِطِي، وَيُجْبَرُ صَاحِبُ الْخَشَبِ
عَلَى ذَلِكَ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ
الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: " لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي
جِدَارِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَالِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ
وَاَللَّهِ لاََرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ" فَهَذَا قَوْلُ أَبِي
هُرَيْرَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم
وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا. وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ
خَشَبَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ.
قال أبو محمد : وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرَّدٌ لِلْخَبَرِ وَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ
حُجَّةً أَصْلاً، إِلاَّ أَنَّ بَعْضَهُمْ ذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم:" إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ".
قَالَ عَلِيٌّ: الَّذِي قَالَ هَذَا هُوَ الَّذِي قَالَ ذَلِكَ، وَقَوْلُهُ
كُلُّهُ حَقٌّ وَعَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلُّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا السَّمْعُ
لَهُ وَالطَّاعَةُ، وَلَيْسَ بَعْضُهُ مُعَارِضًا لِبَعْضٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ، وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} وَاَلَّذِي قَضَى
بِالشُّفْعَةِ وَإِسْقَاطِ الْمِلْكِ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَإِبْطَالِ الشِّرَاءِ
بَعْدَ صِحَّتِهِ وَقَضَى بِالْعَاقِلَةِ، وَأَنْ يَغْرَمُوا مَا لَمْ يَجْنُوا،
وَأَبَاحَ أَمْوَالَهُمْ فِي ذَلِكَ أَحَبُّوا أَمْ كَرِهُوا هُوَ الَّذِي قَضَى
بِأَنْ يَغْرِزَ الْجَارُ خَشَبَهُ فِي جِدَارِ جَارِهِ، وَنَهَى، عَنْ مَنْعِهِ
مِنْ ذَلِكَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوا هَذَا الْحُكْمَ حَيْثُ أَبَاحُوا
ثَمَرَ النَّخْلِ، وَكِرَاءِ الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ: كُلُّ ذَلِكَ لِمَنْ
اشْتَرَاهُ مِنْ الْغَاصِبِ بِالْبَاطِلِ لَكَانَ أَوْلَى بِهِمْ،
(8/242)
كل من ملك ماء في نهر حفره أو
ساقية أو عين أوبئر فهو أحق بماء كل ذلك ما دام محتاجا إليه
...
1359 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ مَاءً فِي نَهْرٍ حَفَرَهُ، أَوْ
سَاقِيَةٍ حَفَرَهَا، أَوْ عَيْنٍ اسْتَخْرَجَهَا، أَوْ بِئْرٍ اسْتَنْبَطَهَا
فَهُوَ أَحَقُّ بِمَاءِ كُلِّ ذَلِكَ مَا دَامَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ،
وَلاَ يَحِلُّ لَهُ مَنْعُ الْفَضْلِ، بَلْ يُجْبَرُ عَلَى بَذْلِهِ لِمَنْ
يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ عِوَضٍ عَنْهُ، لاَ بِبَيْعٍ، وَلاَ
غَيْرِهِ: لِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي
صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
" لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلاَ "ُ. وَمِنْ
طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا النُّفَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُد بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَانِ الْعَطَّارِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ،
عَنْ إيَاسِ بْنِ عَبْدٍ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَنْ بَيْعِ فَضْلِ الْمَاءِ ".
(8/243)
ما غلب عليه الماء من نهر أو
نشع أو سير فاستغار فهو لصاحبه كما كان
...
1360 - مَسْأَلَةٌ - وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ مِنْ نَهْرٍ، أَوْ نَشْعٍ،
أَوْ سَيْلٍ، فَاسْتَغَارَ فَهُوَ لِصَاحِبِهِ كَمَا كَانَ،
فَإِنْ انْتَقَلَ عَنْهُ يَوْمًا مَا وَلَوْ بَعْدَ أَلْفِ عَامٍ فَهُوَ لَهُ
وَلِوَرَثَتِهِ، وَمَا رَمَى النَّهْرُ مِنْ أَحَدِ عَدْوَتَيْهِ إلَى أُخْرَى
فَهُوَ بَاقٍ بِحَسْبِهِ كَمَا كَانَ لِمَنْ كَانَ لَهُ. وَقَالَ
الْمَالِكِيُّونَ: بِخِلاَفِ ذَلِكَ وَهَذَا بَاطِلٌ لأََنَّ تَبَدُّلَ مَجْرَى
الْمَاءِ لاَ يُسْقِطُ مِلْكًا، عَنْ مَالِكِهِ، وَلاَ يُحِلُّ مَالاً مُحَرَّمًا
لِمَنْ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَهَذَا حُكْمٌ فِي الدِّينِ بِلاَ
بُرْهَانٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَام "ٌ.
(8/243)
1361 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ
تَكُونُ الأَرْضُ بِالإِحْيَاءِ إِلاَّ لِمُسْلِمٍ،
وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلاَ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ
يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} وَقَوْله تَعَالَى {أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} وَنَحْنُ أُولَئِكَ لاَ الْكُفَّارُ، فَنَحْنُ
الَّذِينَ أَوْرَثَنَا اللَّهُ تَعَالَى الأَرْضَ فَلَهُ الْحَمْدُ كَثِيرًا.
(8/243)
كتاب الوكالة
في بيان جواز الوكالة في أشياء مخصوصة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْوَكَالَةِ
1362 - مَسْأَلَةٌ - الْوَكَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْقِيَامِ عَلَى الأَمْوَالِ،
وَالتَّذْكِيَةِ، وَطَلَبِ الْحُقُوقِ وَإِعْطَائِهَا، وَأَخْذِ الْقِصَاصِ فِي
النَّفْسِ فَمَا دُونِهَا،
وَتَبْلِيغِ الإِنْكَاحِ، وَالْبَيْعِ، وَالشِّرَاءِ، وَالإِجَارَةِ،
وَالأَسْتِئْجَارِ: كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْحَاضِرِ، وَالْغَائِبِ سَوَاءٌ، وَمِنْ
الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ سَوَاءٌ، وَطَلَبُ الْحَقِّ كُلُّهُ وَاجِبٌ بِغَيْرِ
تَوْكِيلٍ، إِلاَّ أَنْ يُبْرِئَ صَاحِبَ الْحَقِّ مِنْ حَقِّهِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: بِعْثَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْوُلاَةَ
لأَِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَالْحُقُوقِ عَلَى النَّاسِ، وَلأََخْذِ الصَّدَقَاتِ
وَتَفْرِيقِهَا. وَقَدْ كَانَ بِلاَلٌ عَلَى نَفَقَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم وَقَدْ كَانَ لَهُ نُظَّارٌ عَلَى أَرْضِهِ بِخَيْبَرَ، وَفَدَكَ;
وَقَدْ رُوِّينَا فِي "كِتَابِ الأَضَاحِيِّ" مِنْ طَرِيقِ اللَّيْثِ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ
عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَعْطَاهُ
غَنَمًا يَقْسِمُهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ. وَذَكَرْنَا فِي " الْحَجِّ "
مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
مُجَاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ:
" أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ
وَأَنْ أُقَسِّمَ جُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا " وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ،
حَدَّثَنَا [عَمِّي هُوَ يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ] نَا أَبِي هُوَ إبْرَاهِيمُ
بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَهْبِ بْنِ
كَيْسَانَ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: أَرَدْت الْخُرُوجَ إلَى
خَيْبَرُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إذَا أَتَيْتَ
وَكِيلِي بِخَيْبَرَ فَخُذْ مِنْهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسْقًا فَإِنْ ابْتَغَى
مِنْكَ آيَةً فَضَعْ يَدَكَ عَلَى تَرْقُوَتِهِ ". وَفِي هَذَا الْخَبَرِ
تَصْدِيقُ الرَّسُولِ إذَا عَلِمَ الْوَالِي بِصِدْقِهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ
بْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا مَعْقِلٌ، عَنْ أَبِي قَزَعَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنْ
أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فَذَكَرَ حَدِيثَ التَّمْرِ،
وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " بِيعُوا تَمْرَهَا
وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هَذَا ". وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا
حَجَّاجُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ أُمِّ
الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ فَمَاتَ
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ فَزَوَّجَهَا النَّجَاشِيُّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
وَأَمْهَرَهَا عَنْهُ أَرْبَعَةَ آلاَفٍ وَبَعَثَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم مَعَ شُرَحْبِيلَ بْنِ حَسَنَةَ وَهَذَا خَبَرٌ مَنْقُولٌ نَقْلَ
الْكَافَّةِ. وَأَمَرَ عليه السلام بِأَخْذِ الْقَوَدِ
(8/244)
وَبِالرَّجْمِ، وَالْجَلْدِ، وَبِالْقَطْعِ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ مُحَيِّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ انْطَلَقَا إلَى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقَا فِي النَّخْلِ فَقُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ فَاتَّهَمُوا الْيَهُودَ فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ سَهْلٍ وَابْنَا عَمِّهِ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلَّمَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ فِي أَمْرِ أَخِيهِ وَهُوَ أَصْغَرُهُمْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" الْكُبْرَ الْكُبْرَ أَوْ قَالَ: لِيَبْدَأْ الأَكْبَرُ فَتَكَلَّمَا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمَا ". وقال أبو حنيفة: لاَ أَقْبَلُ تَوْكِيلَ حَاضِرٍ، وَلاَ مَنْ كَانَ غَائِبًا عَلَى أَقَلَّ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْحَاضِرُ، أَوْ مَنْ ذَكَرْنَا مَرِيضًا، إِلاَّ بِرِضَى الْخَصْمِ وَهَذَا خِلاَفُ السُّنَّةِ وَتَحْدِيدٌ بِلاَ بُرْهَانٍ وَقَوْلٌ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ قَبْلَهُ. وَقَالَ الْمَالِكِيُّونَ: لاَ نَتَكَلَّمُ فِي الْحُقُوقِ إِلاَّ بِتَوْكِيلِ صَاحِبِهَا وَهَذَا بَاطِلٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّه}ِ. وَقَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} فَوَاجِبٌ بِمَا ذَكَرْنَا إنْكَارُ الظُّلْمِ، وَطَلَبُ الْحَقِّ لِحَاضِرٍ وَغَائِبٍ، مَا لَمْ يَتْرُكْ حَقَّهُ الْحَاضِرَ سَوَاءٌ بِتَوْكِيلٍ أَوْ بِغَيْرِ تَوْكِيلٍ. وَطَلَبُ الْحَقِّ قَدْ وَجَبَ، وَلاَ يَمْنَعُ مِنْ طَلَبِهِ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَعَلَّ صَاحِبَهُ لاَ يُرِيدُ طَلَبَهُ، وَيُقَالُ لَهُ: قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِطَلَبِهِ، فَلاَ يُسْقِطُ هَذَا الْيَقِينَ مَا يَتَوَقَّعُهُ بِالظَّنِّ.
(8/245)
لا تجوز وكالة على طلاق ولا
عتق ولا تدبير ولا رجعة
...
1363 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ تَجُوزُ وَكَالَةٌ عَلَى طَلاَقٍ، وَلاَ عَلَى عِتْقٍ،
وَلاَ عَلَى تَدْبِيرٍ، وَلاَ عَلَى رَجْعَةٍ،
وَلاَ عَلَى إسْلاَمٍ، وَلاَ عَلَى تَوْبَةٍ، وَلاَ عَلَى إقْرَارٍ، وَلاَ عَلَى
إنْكَارٍ، وَلاَ عَلَى عَقْدِ الْهِبَةِ، وَلاَ عَلَى الْعَفْوِ، وَلاَ عَلَى
الإِبْرَاءِ، وَلاَ عَلَى عَقْدِ ضَمَانٍ، وَلاَ عَلَى رِدَّةٍ، وَلاَ عَلَى
قَذْفٍ، وَلاَ عَلَى صُلْحٍ، وَلاَ عَلَى إنْكَاحٍ مُطَاقٍ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ
الْمُنْكَحَةِ وَالنَّاكِحِ; لأََنَّ كُلَّ ذَلِكَ إلْزَامُ حُكْمٍ لَمْ يَلْزَمْ
قَطُّ، وَحَلُّ عَقْدٍ ثَابِتٍ، وَنَقْلُ مِلْكٍ بِلَفْظٍ. فَلاَ يَجُوزُ أَنْ
يَتَكَلَّمَ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ إِلاَّ حَيْثُ أَوْجَبَ ذَلِكَ نَصٌّ، وَلاَ
نَصَّ عَلَى جَوَازِ الْوَكَالَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ. وَالأَصْلُ
أَنْ لاَ يَجُوزَ قَوْلُ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَلاَ حُكْمُهُ عَلَى غَيْرِهِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا، وَلاَ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا كَسْبٌ عَلَى غَيْرِهِ
وَحُكْمٌ بِالْبَاطِلِ يُمْضِيهِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/245)
1364 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَحِلُّ لِلْوَكِيلِ تَعَدِّي مَا أَمَرَهُ بِهِ مُوَكِّلُهُ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ
يَنْفُذْ فِعْلُهُ
فَإِنْ فَاتَ ضَمِنَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ
لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ
(8/245)
1365 - مَسْأَلَةٌ - وَفِعْلُ
الْوَكِيلِ نَافِذٌ فِيمَا أَمَرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ لاَزِمٌ لِلْمُوَكِّلِ مَا
لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ أَنَّ مُوَكِّلَهُ قَدْ عَزَلَهُ،
فَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ مِنْ حِينَئِذٍ وَيَفْسَخُ
مَا فَعَلَ. وَأَمَّا كُلُّ مَا فَعَلَ مِمَّا أَمَرَهُ بِهِ الْمُوَكِّلُ مِنْ
حِينِ عَزْلِهِ إلَى حِينِ بُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهِ فَهُوَ نَافِذٌ طَالَتْ
الْمُدَّةُ بَيْنَ ذَلِكَ أَوْ قَصُرَتْ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي عَزْلِ
الإِمَامِ لِلأَمِيرِ، وَلِلْوَالِي، وَلِلْقَاضِي، وَفِي عَزْلِ هَؤُلاَءِ لِمَنْ
جُعِلَ إلَيْهِمْ أَنْ يُوَلُّوهُ، وَلاَ فَرْقَ لأََنَّهُ عَزَلَهُ بِغَيْرِ أَنْ
يُعْلِمَهُ بَعْدَ أَنْ وَلَّاهُ وَأَطْلَقَهُ عَلَى الْبَيْعِ، وَعَلَى
الأَبْتِيَاعِ، وَعَلَى التَّذْكِيَةِ، وَالْقِصَاصِ، وَالإِنْكَاحِ لِمُسَمَّاةٍ
وَمُسَمًّى: خَدِيعَةٌ وَغِشٌّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ
وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ}
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ
مِنَّا " فَعَزْلُهُ لَهُ بَاطِلٌ إِلاَّ أَنْ يَقُولَ، أَوْ يَكْتُبَ
إلَيْهِ أَوْ يُوصِي إلَيْهِ: إذَا بَلَغَك رَسُولِي فَقَدْ عَزَلْتُك فَهَذَا
صَحِيحٌ; لأََنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ كَمَا يَشَاءُ،
فَإِذَا بَلَغَهُ فَقَدْ صَحَّ عَزْلُهُ، وَلَيْسَ لِلْخَصْمِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ
يُخَاصِمُهُ مِنْ عَزْلِ وَكِيلِهِ وَتَوْلِيَةِ آخَرَ; لأََنَّ التَّوْكِيلَ فِي
ذَلِكَ قَدْ صَحَّ، وَلاَ بُرْهَانَ عَلَى أَنَّ لِلْخَصْمِ مَنْعَهُ مِنْ عَزْلِ
مَنْ شَاءَ وَتَوْلِيَةِ مَنْ شَاءَ.
فإن قيل: إنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَى الْخَصْمِ قلنا: لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي
ذَلِكَ أَصْلاً، بَلْ الضَّرَرُ كُلُّهُ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ تَصَرُّفِ الْمَرْءِ
فِي طَلَبِ حُقُوقِهِ بِغَيْرِ قُرْآنٍ أَوْجَبَ ذَلِكَ، وَلاَ سُنَّةٍ وَهَذَا
هُوَ الشَّرْعُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
(8/246)
1366 - مَسْأَلَةٌ -
وَالْوَكَالَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ بَلَغَ ذَلِكَ إلَى الْوَكِيلِ،
أَوْ لَمْ يَبْلُغْ بِخِلاَفِ مَوْتِ الإِمَامِ،
فَإِنَّهُ إنْ مَاتَ فَالْوُلاَةُ كُلُّهُمْ نَافِذَةٌ أَحْكَامُهُمْ حَتَّى
يَعْزِلَهُمْ الإِمَامُ الْوَالِي، وَذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ
تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} وَالْمَالُ قَدْ انْتَقَلَ بِمَوْتِ
الْمُوَكِّلِ إلَى وَرَثَتِهِ، فَلاَ يَجُوزُ فِي مَالِهِمْ حُكْمُ مَنْ لَمْ
يُوَكِّلُوهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الإِمَامُ; لأََنَّ الْمُسْلِمِينَ لاَ بُدَّ
(8/246)
كتاب المضاربة وهي القراض
القراض كان في الجاهلية وأقره الشرع
...
كِتَابُ الْمُضَارَبَةِ وَهِيَ الْقِرَاضُ
1367- مَسْأَلَةٌ - الْقِرَاضُ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ أَهْلَ تِجَارَةٍ لاَ مَعَاشَ لَهُمْ مِنْ غَيْرِهَا وَفِيهِمْ
الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لاَ يُطِيقُ السَّفَرَ، وَالْمَرْأَةُ وَالصَّغِيرُ،
وَالْيَتِيمُ، فَكَانُوا وَذَوُو الشُّغْلِ وَالْمَرَضِ يُعْطُونَ الْمَالَ
مُضَارَبَةً لِمَنْ يَتَّجِرُ بِهِ بِجُزْءٍ مُسَمًّى مِنْ الرِّبْحِ فَأَقَرَّ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي الإِسْلاَمِ وَعَمِلَ بِهِ
الْمُسْلِمُونَ عَمَلاً مُتَيَقَّنًا لاَ خِلاَفَ فِيهِ، وَلَوْ وُجِدَ فِيهِ خِلاَفٌ
مَا الْتَفَتَ إلَيْهِ; لأََنَّهُ نَقْلُ كَافَّةٍ بَعْدَ كَافَّةٍ إلَى زَمَنِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعِلْمِهِ بِذَلِكَ. وَقَدْ خَرَجَ صلى الله
عليه وسلم فِي قِرَاضٍ بِمَالِ خَدِيجَةَ، رضي الله عنها.
(8/247)
القراض إنما هو بالدنانير والدراهم
فقط
...
1368 - مَسْأَلَةٌ - وَالْقِرَاضُ إنَّمَا هُوَ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ،
وَلاَ يَجُوزُ بِغَيْرِ ذَلِكَ،
إِلاَّ بِأَنْ يُعْطِيَهُ الْعَرَضَ فَيَأْمُرُهُ بِبَيْعِهِ بِثَمَنٍ مَحْدُودٍ،
وَبِأَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ فَيَعْمَلُ بِهِ قِرَاضًا، لأََنَّ هَذَا مُجْمَعٌ
عَلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَلاَ نَصَّ بِإِيجَابِهِ، وَلاَ
حُكْمَ لأََحَدٍ فِي مَالِهِ إِلاَّ بِمَا أَبَاحَهُ لَهُ النَّصُّ. وَمِمَّنْ
مَنَعَ مِنْ الْقِرَاضِ بِغَيْرِ الدَّنَانِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ: الشَّافِعِيُّ،
وَمَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ، وَغَيْرُهُمْ.
(8/247)
1369 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَجُوزُ الْقِرَاضُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَصْلاً إِلاَّ مَا جَاءَ بِهِ نَصٌّ،
أَوْ إجْمَاعٌ.
وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَبْدًا يَعْمَلُ مَعَهُ، أَوْ أَجِيرًا يَعْمَلُ
مَعَهُ، أَوْ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لِفُلاَنٍ; لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ بَاطِلٌ. وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ،
وَالشَّافِعِيُّونَ: فَتَنَاقَضُوا هَهُنَا فَقَالُوا فِي الْقِرَاضِ كَمَا قلنا،
وَقَالُوا فِي " الْمُسَاقَاةِ " لاَ تَجُوزُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ إلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى.
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي " الْمُزَارَعَةِ " فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي
أَجَازُوهَا فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَعَ خِلاَفِهِمْ فِي
" الْمُزَارَعَةِ " و " الْمُسَاقَاةِ " السُّنَّةَ
الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ، وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ أَيْضًا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/247)
لا يجوز القراض إلا بأن يسميا
السهم الذي يقترضان عليه من الربح
...
1370 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ يَجُوزُ الْقِرَاضُ إِلاَّ بِأَنْ يُسَمِّيَا السَّهْمَ
الَّذِي يَتَقَارَضَانِ عَلَيْهِ مِنْ الرِّبْحِ،
كَسُدُسٍ، أَوْ رُبْعٍ، أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ نِصْفٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ،
وَيُبَيِّنَا مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ; لأََنَّهُ إنْ لَمْ
يَكُنْ هَكَذَا لَمْ يَكُنْ قِرَاضًا، وَلاَ عُرْفًا مَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ
عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/248)
1371 - مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
يَحِلُّ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ الْمَالِ شَيْئًا، وَلاَ أَنْ يَلْبَسَ
مِنْهُ شَيْئًا،
لاَ فِي سَفَرٍ، وَلاَ فِي حَضَرٍ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ
قَالَ: مَا أَكَلَ الْمُضَارِبُ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ. وَصَحَّ عَنْ
إبْرَاهِيمَ، وَالْحَسَنِ: أَنَّ نَفَقَتَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ قَالَ
إبْرَاهِيمُ: وَكِسْوَتُهُ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَقَوْلُنَا هَهُنَا هُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وقال أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: أَمَّا فِي الْحَضَرِ فَكَمَا قلنا، وَأَمَّا فِي
السَّفَرِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ وَيَكْتَسِي مِنْهُ وَيَرْكَبُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ
إذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَإِلَّا فَلاَ، إِلاَّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ: لَهُ
فِي الْحَضَرِ أَنْ يَتَغَذَّى مِنْهُ بِالأَفْلُسُ. وَهَذَا تَقْسِيمٌ فِي
غَايَةِ الْفَسَادِ; لأََنَّهُ بِلاَ دَلِيلٍ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَا مِقْدَارُ
الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي أَبَاحُوا هَذَا فِيهِ وَمَا مِقْدَارُ الْقَلِيلِ
الَّذِي مَنَعُوهُ فِيهِ وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لأََنَّهُ شَرْطٌ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ
فَهُوَ أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. ثُمَّ أَيْضًا يَعُودُ الْمَالُ إلَى
الْجَهَالَةِ فَلاَ يَدْرِي مَا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَلاَ مَا يَبْقَى مِنْهُ
وَقَلِيلُ الْحَرَامِ حَرَامٌ وَلَوْ أَنَّهُ مِقْدَارُ ذَرَّةٍ، وَكَثِيرُ
الْحَلاَلِ حَلاَلٌ وَلَوْ أَنَّهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. فَإِنْ قَالُوا هُوَ
سَاعٍ فِي مَصْلَحَةِ الْمَالِقلنا: نَعَمْ، فَكَانَ مَاذَا وَإِنَّمَا هُوَ سَاعٍ
لِرِبْحٍ يَرْجُوهُ، فَإِنَّمَا يَسْعَى فِي حَظِّ نَفْسِهِ.
(8/248)
كل ربح ربحاه فلهما أن
يقتسماه فإن لم يفعلا وتركا الأمر بحسبه ثم خسرا في المال فلا ربح للعامل
...
1372 - مَسْأَلَةٌ - وَكُلُّ رِبْحٍ رَبِحَاهُ فَلَهُمَا أَنْ يَتَقَاسَمَاهُ،
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلاَ وَتَرَكَا الأَمْرَ بِحَسَبِهِ ثُمَّ خَسِرَ فِي الْمَالِ
فَلاَ رِبْحَ لِلْعَامِلِ،
وَأَمَّا إذَا اقْتَسَمَا الرِّبْحَ فَقَدْ مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا
صَارَ لَهُ، فَلاَ يَسْقُطُ مِلْكُهُ عَنْهُ ; لأََنَّهُمَا عَلَى هَذَا
تَعَامَلاَ، وَعَلَى أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَظٌّ مِنْ
الرِّبْحِ، فَإِذَا اقْتَسَمَاهُ فَهُوَ عَقْدُهُمَا الْمُتَّفَقُ عَلَى
جَوَازِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْتَسِمَاهُ فَقَدْ تَطَوَّعَا بِتَرْكِ حَقِّهِمَا
وَذَلِكَ مُبَاحٌ.
(8/248)
1373 – مَسْأَلَةٌ - وَلاَ
ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ فِيمَا تَلِفَ مِنْ الْمَالِ وَلَوْ تَلِفَ كُلُّهُ،
وَلاَ فِيمَا خَسِرَ فِيهِ، وَلاَ شَيْءَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، إِلاَّ أَنْ
يَتَعَدَّى أَوْ يُضَيِّعَ فَيَضْمَنُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ".
(8/248)
1374 - مَسْأَلَةٌ -
وَأَيُّهُمَا أَرَادَ تَرْكَ الْعَمَلِ فَلَهُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ الْعَامِلُ عَلَى
بَيْعِ السِّلَعِ مُعَجِّلاً خَسِرَ أَوْ رَبِحَ
لأََنَّهُ لاَ مُدَّةَ فِي الْقِرَاضِ، فَإِذْ لَيْسَ فِيهِ مُدَّةٌ فَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُجْبَرَ الآبِي مِنْهُمَا عَلَى التَّمَادِي فِي عَمَلٍ لاَ يُرِيدُهُ
أَحَدُهُمَا فِي مَالِهِ، وَلاَ يُرِيدُهُ الآخَرُ فِي عَمَلِهِ، وَلاَ يَجُوزُ
التَّأْخِيرُ فِي ذَلِكَ; لأََنَّهُ لاَ يَدْرِي كَمْ يَكُونُ التَّأْخِيرُ وَقَدْ
تَسْمُو قِيمَةُ السِّلَعِ، وَقَدْ تَنْحَطُّ، فَإِيجَابُ التَّأْخِيرِ فِي ذَلِكَ
خَطَأٌ، وَلاَ يَلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يُبِيحَ مَالَهُ لِغَيْرِهِ لِيُمَوِّلَهُ
بِهِ. وَالْعَجَبُ مِمَّنْ أَلْزَمَ هَهُنَا إجْبَارَ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى
الصَّبْرِ حَتَّى يَكُونَ لِلسِّلَعِ سُوقٌ لِيُمَوِّلَ بِذَلِكَ الْعَامِلَ مِنْ
مَالِ غَيْرِهِ، وَهُوَ لاَ يَرَى إجْبَارَهُ عَلَى تَدَارُكِ مَنْ يَمُوتُ جُوعًا
مِنْ ذَوِي رَحِمِهِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، بِمَا يُقِيمُ رَمَقَهُ، وَهَذَا عَكْسُ
الْحَقَائِقِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/249)
إن تعدى العامل فربح فإن كان
اشترى في ذمته وزن من مال القراض فحكمه حكم الغاصب
...
1375 - مَسْأَلَةٌ - وَإِنْ تَعَدَّى الْعَامِلُ فَرَبِحَ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَى
فِي ذِمَّتِهِ وَوَزَنَ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْغَاصِبِ
وَقَدْ صَارَ ضَامِنًا لِلْمَالِ إنْ تَلِفَ أَوْ لِمَا تَلِفَ مِنْهُ
بِالتَّعَدِّي، وَيَكُونُ الرِّبْحُ لَهُ، لأََنَّ الشِّرَى لَهُ. وَإِنْ كَانَ
اشْتَرَى بِمَالِ الْقِرَاضِ نَفْسِهِ فَالشِّرَى فَاسِدٌ مَفْسُوخٌ، فَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ صَاحِبُهُ الْبَائِع مِنْهُ فَالرِّبْحُ لِلْمَسَاكِينِ; لأََنَّهُ مَالٌ
لاَ يُعْرَفُ لَهُ صَاحِبٌ. وَهَذَا قَوْلُ النَّخَعِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ،
وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/249)
1376- مَسْأَلَةٌ:
وَأَيُّهُمَا مَاتَ بَطَلَ الْقِرَاضُ :
أَمَّا فِي مَوْتِ صَاحِبِ الْمَالِ فَلأََنَّ الْمَالَ قَدْ صَارَ لِلْوَرَثَةِ،
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ ". أَمَّا فِي مَوْتِ الْعَامِلِ،
فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا}
وَعَقْدُ الَّذِي لَهُ الْمَالُ إنَّمَا كَانَ مَعَ الْمَيِّتِ لاَ مَعَ
وَارِثِهِ، إِلاَّ أَنَّ عَمَلَ الْعَامِلِ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِ الْمَالِ لَيْسَ
تَعَدِّيًا، وَعَمَلَ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَامِلِ إصْلاَحٌ لِلْمَالِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} فَلاَ
ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ، وَلاَ عَلَى وَارِثِهِ إنْ تَلِفَ الْمَالُ بِغَيْرِ
تَعَدٍّ، وَيَكُونُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْمَالِ، أَوْ لِوَارِثِهِ،
وَيَكُونُ لِلْعَامِلِ هَهُنَا أَوْ لِوَرَثَتِهِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فَقَطْ،
لقوله تعالى: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} فَحُرْمَةُ عَمَلِهِ يَجِبُ لَهُ أَنْ يُقَاصَّ
بِمِثْلِهَا; لأََنَّهُ مُحْسِنٌ مُعِينٌ عَلَى بِرٍّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى
التَّوْفِيقُ.
(8/249)
إن اشترى العامل من مال
القراض جارية فوطئها فهو زان وعليه حد الزنا
...
1377 - مَسْأَلَةٌ - وَإِنْ اشْتَرَى الْعَامِلُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ جَارِيَةً
فَوَطِئَهَا فَهُوَ زَانٍ عَلَيْهِ حَدُّ الزِّنَا;
لأََنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ، وَوَلَدُهُ مِنْهَا رَقِيقٌ لِصَاحِبِ
الْمَالِ، وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَاشِيَةِ،
(8/249)
كتاب الاقرار
من أقر لآخر أو لله تعالى بحق في مال أو دم أو بشرة وكان المقر عاقلا بالغا غير
مكره لم يصله بما يفسده وقد لزمه ولا رجوع له بعد ذلك
...
كِتَابُ الإِقْرَارِ
1378 - مَسْأَلَةٌ - مَنْ أَقَرَّ لأَخَرَ، أَوْ لِلَّهِ تَعَالَى بِحَقٍّ فِي
مَالٍ، أَوْ دَمٍ، أَوْ بَشَرَةٍ وَكَانَ الْمُقِرُّ عَاقِلاً بَالِغًا غَيْرَ
مُكْرَهٍ وَأَقَرَّ إقْرَارًا تَامًّا، وَلَمْ يَصِلْهُ بِمَا يُفْسِدُهُ: فَقَدْ
لَزِمَهُ،
وَلاَ رُجُوعَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ رَجَعَ لَمْ يَنْتَفِعْ بِرُجُوعِهِ
وَقَدْ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ دَمٍ، أَوْ حَدٍّ، أَوْ
مَالٍ. فَإِنْ وَصَلَ الإِقْرَارُ بِمَا يُفْسِدُهُ بَطَلَ كُلُّهُ وَلَمْ
يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، لاَ مِنْ مَالٍ، وَلاَ قَوَدٍ، وَلاَ حَدٍّ: مِثْلَ أَنْ
يَقُولَ: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ، أَوْ يَقُولُ: قَذَفْت فُلاَنًا
بِالزِّنَى، أَوْ يَقُولُ زَنَيْت، أَوْ يَقُولُ: قَتَلْت فُلاَنًا، أَوْ نَحْوَ
ذَلِكَ: فَقَدْ لَزِمَهُ، فَإِنْ رَجَعَ، عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ. فَإِنْ
قَالَ: كَانَ لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ وَقَدْ قَضَيْته إيَّاهَا، أَوْ
قَالَ: قَذَفْت فُلاَنًا وَأَنَا فِي غَيْرِ عَقْلِي، أَوْ قَتَلْت فُلاَنًا;
لأََنَّهُ أَرَادَ قَتْلِي وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ، عَنْ نَفْسِي، أَوْ
قَالَ: زَنَيْت وَأَنَا فِي غَيْرِ عَقْلِي، أَوْ نَحْوَ هَذَا، فَإِنَّ هَذَا
كُلَّهُ يَسْقُطُ، وَلاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَالْحُرُّ، وَالْعَبْدُ،
وَالذَّكَرُ، وَالأُُنْثَى ذَاتُ الزَّوْجِ، وَالْبِكْرُ ذَاتُ الأَبِ،
وَالْيَتِيمَةُ فِيمَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ وَإِنَّمَا هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ
تَكُنْ بَيِّنَةُ فَإِذَا كَانَتْ الْبَيِّنَةُ فَلاَ مَعْنَى لِلإِنْكَارِ، وَلاَ
لِلإِقْرَارِ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ
خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، هُوَ ابْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ
أَنَسٍ: أَنَّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضَّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ،
فَسَأَلُوهَا مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ فُلاَنٌ فُلاَنٌ حَتَّى ذَكَرُوا يَهُودِيًّا
فَأَوْمَأَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيُّ فَأَقَرَّ فَأَمَرَ بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ. وَمِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ [بْنِ مَسْعُودٍ]، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ
ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وَإِنِّي أُخْبِرْتُ
أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةٍ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لاََقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ": الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ
رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، اُغْدُ يَا أُنَيْسُ
عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا
فَاعْتَرَفَتْ، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرُجِمَتْ
فَقُتِلَ عليه السلام بِالإِقْرَارِ وَرُجِمَ بِهِ، وَرُدَّ بِهِ الْمَالُ مِمَّنْ
كَانَ بِيَدِهِ إلَى غَيْرِهِ. وَأَمَّا إذَا وَصَلَ بِهِ مَا يُفْسِدُهُ فَلَمْ
يُقِرَّ بِشَيْءٍ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ بَعْضَ إقْرَارِهِ، وَلاَ يُلْزَمَ
سَائِرَهُ; لأََنَّهُ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ قُرْآن، وَلاَ سُنَّةٌ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
(8/250)
وَقَدْ تَنَاقَضَ هَهُنَا
الْمُخَالِفُونَ فَقَالُوا: إنْ قَالَ: لَهُ عَلَيَّ دِينَارٌ إِلاَّ رُبْعَ
دِينَارٍ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَإِنْ قَالَ: ابْتَعْت مِنْهُ دَارِهِ بِمِائَةِ
دِينَارٍ، فَأَنْكَرَ الآخَرُ الْبَيْعَ وَقَالَ: قَدْ أَقَرَّ لِي بِمِائَةِ
دِينَارٍ وَادَّعَى ابْتِيَاعَ دَارِي، فَإِنَّهُمْ لاَ يَقُصُّونَ عَلَيْهِ
بِشَيْءٍ أَصْلاً وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وقال مالك: مَنْ قَالَ: أَحْسَنَ
اللَّهُ جَزَاءَ فُلاَنٍ فَإِنَّهُ أَسْلَفَنِي مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَأَمْهَلَنِي
حَتَّى أَدَّيْتهَا كُلَّهَا إلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي لِذَلِكَ الْفُلاَنِ
عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إنْ طَلَبَهُ بِهَذَا الإِقْرَارِ. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيمَنْ
قَالَ: قَتَلْتُ رَجُلاً مُسْلَمًا الآنَ أَمَامَكُمْ، أَوْ قَالَ: أَخَذْت مِنْ
هَذَا مِائَةَ دِينَارٍ الآنَ بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ
بِشَيْءٍ وَلَمْ يَقُولُوا: إنْ أَقَرَّ، ثُمَّ نَدِمَ، وَلاَ أَخَذُوا بِبَعْضِ
قَوْلٍ دُونَ بَعْضٍ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ
بْنِ، أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنَّ رَجُلاً اسْتَضَافَ نَاسًا مِنْ هُذَيْلٍ
فَأَرْسَلُوا جَارِيَةً تَحْتَطِبُ فَأَعْجَبَتْ الضَّيْفَ فَتَبِعَهَا
فَأَرَادَهَا فَامْتَنَعَتْ، فَعَارَكَهَا فَانْفَلَتَتْ فَرَمَتْهُ بِحَجَرٍ
فَفَضَّتْ كَبِدَهُ فَمَاتَ، فَأَتَتْ أَهْلَهَا فَأَخْبَرَتْهُمْ، فَأَتَوْا
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ عُمَرُ: قَتِيلُ اللَّهِ لاَ
يُودَى وَاَللَّهِ أَبَدً.ا
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، وَحُمَيْدٍ،
وَمُطَرِّفٍ، كُلِّهِمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ:
غَزَا رَجُلٌ فَخَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ، فَمَرَّ بِهِ
رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَهُوَ يَقُولُ:
وَأَشْعَثَ غَرَّهُ الإِسْلاَمُ مِنِّي ... جَلَوْت بِعُرْسِهِ لَيْلَ التَّمَامِ
أَبِيت عَلَى تَرَائِبِهَا وَيُمْسِي ... عَلَى جَرْدَاءَ لاَحِقَةِ الْحِزَامِ
كَأَنَّ مَجَامِعَ الرَّبَلاَتِ مِنْهَا ... قِيَامٌ يَنْهَضُونَ إلَى فِئَامِ
فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ حَتَّى قَتَلَهُ فَجَاءَتْ الْيَهُودُ
يَطْلُبُونَ دَمَهُ فَجَاءَ الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ بِالأَمْرِ، فَأَبْطَلَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطَّابِ دَمَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إدْرِيسَ الأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ كُلَيْبٍ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ أُتِيتُ وَأَنَا بِالْيَمَنِ
بِامْرَأَةٍ فَسَأَلْتهَا فَقَالَتْ: مَا تَسْأَلُ، عَنْ امْرَأَةٍ حُبْلَى
ثَيِّبٍ مِنْ غَيْرِ بَعْلٍ، أَمَا وَاَللَّهِ مَا خَالَلْت خَلِيلاً، وَلاَ
خَادَنْتُ خِدْنًا، مُذْ أَسْلَمْت، وَلَكِنِّي بَيْنَمَا أَنَا نَائِمَةٌ بِفِنَاءِ
بَيْتِي، فَوَاَللَّهِ مَا أَيْقَظَنِي إِلاَّ الرَّجُلُ حِينَ رَكِبَنِي
وَأَلْقَى فِي بَطْنِي مِثْلَ الشِّهَابِ فَقَالَ: فَكَتَبْت فِيهَا إلَى عُمَرَ
بْنِ الْخَطَّابِ فَكَتَبَ إلَيَّ: أَنْ وَافِنِي بِهَا وَبِنَاسٍ مِنْ قَوْمِهَا
فَوَافَيْته بِهَا فِي الْمَوْسِمِ، فَسَأَلَ عَنْهَا قَوْمَهَا فَأَثْنَوْا
خَيْرًا، وَسَأَلَهَا فَأَخْبَرَتْهُ كَمَا أَخْبَرَتْنِي، فَقَالَ عُمَرُ:
شَابَّةٌ تِهَامِيَّةٌ تَنَوَّمَتْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ يُفْعَلُ، فَمَارَّهَا
(8/251)
عُمَرُ وَكَسَاهَا، وَأَوْصَى
بِهَا قَوْمَهَا خَيْرًا هَذَا خَبَرٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ. وَمِنْ طَرِيقِ
حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ أَبِي الْحَكَمِ، عَنِ الْحَسَنِ:
أَنَّ رَجُلاً رَأَى مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً فَقَتَلَهُ، فَارْتَفَعُوا إلَى
عُثْمَانَ بْنِ عَفَانِ فَأَبْطَلَ دَمَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ، وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالاَ جَمِيعًا: إنَّ رَجُلاً أَتَى
امْرَأَةً لَيْلاً فَجَعَلَتْ تَسْتَصْرِخُ فَلَمْ يُصْرِخْهَا أَحَدٌ، فَلَمَّا رَأَتْ
ذَلِكَ قَالَتْ: رُوَيْدَك حَتَّى أَسْتَعِدَّ وَأَتَهَيَّأَ، فَأَخَذَتْ فِهْرًا
فَقَامَتْ خَلْفَ الْبَابِ، فَلَمَّا دَخَلَ ثَلَغَتْ بِهِ رَأْسَهُ فَارْتَفَعُوا
إلَى الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ، فَأَبْطَلَ دَمَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو عُقْبَةَ أَنَّ رَجُلاً
ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَاخْتَصَمَا
إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ يَعْلَى فَقَالَ: قَدْ كَانَتْ لَهُ عِنْدِي أَلْفُ
دِرْهَمٍ فَقَضَيْته فَقَالَ: أَصْلَحَك اللَّهُ قَدْ أَقَرَّ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ
الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى: إنْ شِئْت أَخَذْت بِقَوْلِهِ أَجْمَعَ، وَإِنْ شِئْت
أَبْطَلْته أَجْمَعَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَعْلَى مِنْ التَّابِعِينَ وَلِيَ
قَضَاءِ الْبَصْرَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ فِي
يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ:
كُلُّ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَقَوْلُنَا
فِيمَا ذَكَرْنَا هُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَأَمَّا الرُّجُوعُ، عَنِ الإِقْرَارِ:
فَكُلُّهُمْ مُتَّفِقٌ عَلَى مَا قلنا، إِلاَّ فِي الرُّجُوعِ، عَنِ الإِقْرَارِ
بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، فَإِنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ، قَالُوا:
إنْ رَجَعَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَهَذَا بَاطِلٌ، وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ
قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ، فَهَلاَّ قَاسُوا الإِقْرَارَ بِالْحَدِّ عَلَى الإِقْرَارِ
بِالْحُقُوقِ سَوَاءً وَأَيْضًا فَإِنَّ الْحَدَّ قَدْ لَزِمَهُ بِإِقْرَارِهِ،
فَمَنْ ادَّعَى سُقُوطَهُ بِرُجُوعِهِ فَقَدْ ادَّعَى مَا لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ
; وَاحْتَجُّوا بِشَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حَدِيثُ مَاعِزٍ. وَالثَّانِي: أَنْ
قَالُوا: إنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا حَدِيثُ مَاعِزٍ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ أَصْلاً،
لأََنَّهُ لَيْسَ فِيهِ: أَنَّ مَاعِزًا رَجَعَ، عَنِ الإِقْرَارِ أَلْبَتَّةَ،
لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ، وَلاَ فِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم قَالَ: إنْ رَجَعَ، عَنْ إقْرَارِهِ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَيْضًا أَلْبَتَّةَ،
فَكَيْفَ يَسْتَحِلُّ مُسْلِمٌ أَنْ يُمَوِّهَ عَلَى أَهْلِ الْغَفْلَةِ بِخَبَرٍ
لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا يَزْعُمُ وَإِنَّمَا رُوِيَ، عَنْ بَعْضِ
الصَّحَابَةِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ مَاعِزًا،
وَالْغَامِدِيَّةَ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا، أَوْ لَمْ يَرْجِعَا
[بَعْدَ اعْتِرَافِهِمَا] لَمْ يَطْلُبْهُمَا: هَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ
أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنِ ابْنِ
بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ وَهَذَا ظَنٌّ،
وَالظَّنُّ لاَ يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ، وَقَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْ فَعَلَ فُلاَنٌ
كَذَا لَفَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرًا كَذَا: لَيْسَ
بِشَيْءِ، إذْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الْفُلاَنُ، وَلاَ غَيْرُهُ ذَلِكَ الْفِعْلَ
(8/252)
قَطُّ، وَلاَ فَعَلَهُ عليه السلام قَطُّ، وَقَدْ قَالَ جَابِرٌ: أَنَا أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَمْرِ مَاعِزٍ إنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ وَجِئْتُمُونِي بِهِ " لِيَسْتَثْبِتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ، فأما لِتَرْكِ حَدٍّ فَلاَ: هَذَا نَصُّ كَلاَمِ جَابِرٍ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَمْ يَرْجِعْ مَاعِزٌ قَطُّ، عَنْ إقْرَارِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: رُدُّونِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ قَوْمِي قَتَلُونِي وَغَرُّونِي مِنْ نَفْسِي، وَأَخْبَرُونِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ قَاتِلِي هَكَذَا رُوِّينَا كُلَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مَيْسَرَةَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ: كُلُّ مَا ذَكَرْنَا عَلَى نَصِّهِ فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِحَدِيثِ مَاعِزٍ. وَأَمَّا " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ " فَمَا جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَطُّ مِنْ طَرِيقٍ فِيهَا خَيْرٌ، وَلاَ نَعْلَمُهُ أَيْضًا جَاءَ عَنْهُ عليه السلام أَيْضًا، لاَ مُسْنَدًا، وَلاَ مُرْسَلاً وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ، فَقَطْ وَلَوْ صَحَّ لَكَانُوا أَوَّلَ مُخَالِفٍ لَهُ; لأََنَّ الْحَنَفِيِّينَ، وَالْمَالِكِيِّينَ لاَ نَعْلَمُ أَحَدًا أَشَدَّ إقَامَةً لِلْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ مِنْهُمْ. فَالْمَالِكِيُّونَ يَحُدُّونَ فِي الزِّنَى بِالرَّجْمِ وَالْجَلْدِ بِالْحَبَلِ فَقَطْ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ وَقَدْ تُسْتَكْرَهُ وَتُوطَأُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ لَمْ يَشْتَهِرْ، أَوْ وَهِيَ فِي غَيْرِ عَقْلِهَا، وَيَقْتُلُونَ بِدَعْوَى الْمَرِيضِ: أَنَّ فُلاَنًا قَتَلَهُ، وَفُلاَنٌ مُنْكِرٌ، وَلاَ بَيِّنَةَ عَلَيْهِ. وَيَحُدُّونَ فِي الْخَمْرِ بِالرَّائِحَةِ، وَقَدْ تَكُونُ رَائِحَةَ تُفَّاحٍ، أَوْ كُمَّثْرَى شَتْوِيٍّ. وَيَقْطَعُونَ فِي السَّرِقَةِ مَنْ يَقُولُ: صَاحِبُ الْمَنْزِلِ بَعَثَنِي فِي هَذَا الشَّيْءِ وَصَاحِبُ الْمَنْزِلِ مُقِرٌّ لَهُ بِذَلِكَ. وَيَحُدُّونَ فِي الْقَذْفِ بِالتَّعْرِيضِ وَهَذَا كُلُّهُ هُوَ إقَامَةُ الْحُدُودِ بِالشُّبُهَاتِ. وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ فَإِنَّهُمْ يَقْطَعُونَ مَنْ دَخَلَ مَعَ آخَرَ فِي مَنْزِلِ إنْسَانٍ لِلسَّرِقَةِ فَلَمْ يَتَوَلَّ أَخْذَ شَيْءٍ، وَلاَ إخْرَاجَهُ، وَإِنَّمَا سَرَقَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ فَقَطْ، فَيَقْطَعُونَهُمَا جَمِيعًا فِي كَثِيرٍ لَهُمْ مِنْ مِثْلِ هَذَا قَدْ تَقَصَّيْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ. فَمَنْ أَعْجَبُ شَأْنًا مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ قَائِلٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ هُوَ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِمَا احْتَجَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا تَسْوِيَتُنَا بَيْنَ الْحُرِّ، وَالْعَبْدِ، وَالذَّكَرِ، وَالأُُنْثَى ذَاتِ الأَبِ الْبِكْرِ، وَغَيْرِ الْبِكْرِ، وَالْيَتِيمَةِ، وَذَاتِ الزَّوْجِ فَلأََنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ وَالْحُكْمَ وَاحِدٌ عَلَى الْجَمِيعِ، إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ: قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ، وَلاَ قُرْآنَ، وَلاَ سُنَّةَ، وَلاَ قِيَاسَ، وَلاَ إجْمَاعَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا وَبِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا خِطَابًا قَصَدَ بِهِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَاتِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
(8/253)
أَنْفُسِكُمْ أَوْ
الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} فَكُلُّ مَنْ ذَكَرْنَا مَأْمُورٌ بِالإِقْرَارِ
بِالْحَقِّ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ أَنْ يُفْتَرَضَ
عَلَيْهِمْ مَا لاَ يُقْبَلُ مِنْهُمْ. وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إقْرَارُ الْعَبْدِ
بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لاَ يَلْزَمُ; لأََنَّهُ مَالٌ فَإِنَّمَا هُوَ مُقِرٌّ
فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ
إِلاَّ عَلَيْهَا}
قَالَ عَلِيٌّ: هُوَ وَإِنْ كَانَ مَالاً فَهُوَ إنْسَانٌ تَلْزَمُهُ أَحْكَامُ
الدِّيَانَةِ، وَهَذِهِ الآيَةُ حُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ; لأََنَّهُ كَاسِبٌ عَلَى
نَفْسِهِ بِإِقْرَارِهِ. وَقَدْ وَافَقُونَا: لَوْ أَنَّ أَجِيرًا أَقَرَّ عَلَى
نَفْسِهِ بِحَدٍّ لَلَزِمَهُ، وَفِي إقْرَارِهِ بِذَلِكَ إبْطَالُ إجَارَتِهِ إنْ
أَقَرَّ بِمَا يُوجِبُ قَتْلاً أَوْ قَطْعًا وَلَيْسَ بِذَلِكَ كَاسِبًا عَلَى
غَيْرِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/254)
يلزم كل ما ذكر في المسألة
قبل هذه من حد أو قتل أو مال بإقراره مرة
...
1379 - مَسْأَلَةٌ - وَبِإِقْرَارِهِ مَرَّةً يَلْزَمُ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
حَدٍّ، أَوْ قَتْلٍ،
أَوْ مَالٍ وَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: لاَ يَلْزَمُ الْحَدُّ فِي الزِّنَى إِلاَّ
بِإِقْرَارِ أَرْبَعِ مَرَّاتٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: لاَ يَلْزَمُ فِي
السَّرِقَةِ إِلاَّ بِإِقْرَارٍ مَرَّتَيْنِ، وَأَقَامُوا ذَلِكَ مَقَامَ
الشَّهَادَةِ وقال مالك، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَقَوْلِنَا
وَاحْتَجَّ الْحَنَفِيُّونَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: رَدَّ
مَاعِزًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ .
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ صَحَّ هَذَا وَجَاءَ أَنَّهُ رَدَّهُ أَقَلَّ، وَرُوِيَ
أَكْثَرَ إنَّمَا رَدَّهُ عليه السلام لأََنَّهُ اتَّهَمَ عَقْلَهُ، وَاتَّهَمَهُ
أَنَّهُ لاَ يَدْرِي مَا الزِّنَى هَكَذَا فِي نَصِّ الْحَدِيثِ، أَنَّهُ قَالَ:
اسْتَنْكِهُوهُ هَلْ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ كَمَا قَالَ عليه السلام وَأَنَّهُ عليه
السلام بَعَثَ إلَى قَوْمِهِ يَسْأَلُهُمْ، عَنْ عَقْلِهِ وَأَنَّهُ عليه السلام
قَالَ لَهُ: أَتَدْرِي مَا الزِّنَى لَعَلَّكَ غَمَزْتَ أَوْ قَبَّلْتَ فَإِذْ
قَدْ صَحَّ هَذَا كُلُّهُ، وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ، وَلاَ
سَقِيمَةٍ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: لاَ يُحَدُّ حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ
مَرَّاتٍ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ هَذَا الشَّرْطُ فِيمَا تُقَامُ بِهِ
حُدُودُ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ،
فَيَلْزَمُهُمْ إذْ أَقَامُوا الإِقْرَارَ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي بَعْضِ
الْمَوَاضِعِ أَنْ يُقِيمُوهُ مَقَامَهَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَلاَ يَقْضُوا
عَلَى أَحَدٍ أَقَرَّ بِمَالٍ حَتَّى يُقِرَّ مَرَّتَيْنِ وَهُمْ لاَ يَفْعَلُونَ
هَذَا، وَقَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْيَهُودِيَّ الَّذِي
قَتَلَ الْجَارِيَةَ بِإِقْرَارٍ غَيْرِ مُرَدَّدٍ، وَالْقَتْلُ أَعْظَمُ
الْحُدُودِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/254)
إقرارا المريض في مرض موته
وفي مرض إفاق منه لوارث ولغير وارث نافذ من رأس المال كإقرار صحيح ولا فرق
...
1380 - مَسْأَلَةٌ - وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَفِي مَرَضٍ
أَفَاقَ مِنْهُ لِوَارِثٍ وَلِغَيْرِ وَارِثٍ نَافِذٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ
كَإِقْرَارِ الصَّحِيحِ، وَلاَ فَرْقَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنِ
اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ
قَالَ: إذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ
فَعَمَّ ابْنُ عُمَرَ وَلَمْ يَخُصَّ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ،
حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ طَاوُوس قَالَ: إذَا أَقَرَّ
لِوَارِثٍ بِدَيْنٍ جَازَ يَعْنِي فِي الْمَرَضِ. وبه إلى ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ
عَامِرٍ الأَحْوَلِ قَالَ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْهُ فَقَالَ: أُحَمِّلُهَا
إيَّاهُ، وَلاَ أَتَحَمَّلُهَا عَنْهُ.
(8/254)
من قال هذ الشيء لشيء في يده
كان لفلان ووهبه لي أو قال باعه مني صدق ولم يقض عليه بشيء
...
1381 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ: هَذَا الشَّيْءُ لِشَيْءٍ فِي يَدِهِ كَانَ
لِفُلاَنٍ، وَوَهَبَهُ لِي، أَوْ قَالَ: بَاعَهُ مِنِّي: صَدَقَ، وَلَمْ يُقْضَ
عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ،
وَلأََنَّ الأَمْوَالَ، وَالأَمْلاَكَ بِلاَ شَكٍّ مُنْتَقِلَةٌ مِنْ يَدٍ إلَى
يَدٍ: هَذَا أَمْرٌ نَعْلَمُهُ يَقِينًا. فَلَوْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِبَعْضِ
إقْرَارِهِ هُنَا دُونَ سَائِرِهِ لَوَجَبَ إخْرَاجُ جَمِيعِ أَمْلاَك النَّاسِ،
عَنْ أَيْدِيهِمْ، أَوْ أَكْثَرِهَا; لأََنَّك لاَ تَشُكُّ فِي الدُّورِ،
وَالأَرَضِينَ، وَالثِّيَابِ الْمَجْلُوبَةِ وَالْعَبِيدِ، وَالدَّوَابِّ:
أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلُ مَنْ هِيَ بِيَدِهِ لِغَيْرِهِ بِلاَ شَكٍّ، وَإِنْ
أَمْكَنَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ أَنْ يُنْتِجَهُ فَإِنَّ الأُُمَّ وَأُمَّ الأُُمِّ
بِلاَ شَكٍّ كَانَتْ لِغَيْرِهِ. وَكَذَلِكَ الزَّرِيعَةُ مِمَّا بِيَدِهِ مِمَّا
يَنْبُتُ فَظَهَرَ فَسَادُ هَذَا الْقَوْلِ جُمْلَةً. فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ
فِي شَيْءٍ مِمَّا بِيَدِهِ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ، أَوْ مِمَّا لَمْ يُقِرَّ بِهِ
أَنَّهُ كَانَ لِغَيْرِهِ قَضَى بِهِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ حِينَئِذٍ، وَلَمْ
يُصَدَّقْ عَلَى انْتِقَالِ مَا قَامَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ لأَِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ
أَلْبَتَّةَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ حَكَمَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَضَى بِالْبَيِّنَةِ لِلْمُدَّعِي .
(8/256)
من قال لفلان عندي مائة دينار
دين ولي عنده مائة قفيز قمح ولا بينة عليه بشيء ولا له قوم القمح الذي ادعاه فإن
ساوى أقل قضي بالفضل فقط
...
1382 - مَسْأَلَةٌ - وَمَنْ قَالَ: لِفُلاَنٍ عِنْدِي مِائَةُ دِينَارٍ دَيْنٌ
وَلِي عِنْدَهُ مِائَةُ قَفِيزِ قَمْحٍ،
أَوْ قَالَ: إِلاَّ مِائَةَ قَفِيزِ تَمْرٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، أَوْ إِلاَّ
جَارِيَةً، وَلاَ بَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَلاَ لَهُ قُوِّمَ الْقَمْحُ
الَّذِي ادَّعَاهُ، فَإِنْ سَاوَى الْمِائَةَ الدِّينَارَ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا،
أَوْ سَاوَى أَكْثَرَ: فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَإِنْ سَاوَى أَقَلَّ: قُضِيَ
بِالْفَضْلِ فَقَطْ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ لَهُ قَطُّ إقْرَارًا تَامًّا، بَلْ
وَصَلَهُ بِمَا أَبْطَلَ بِهِ أَوَّلَ كَلاَمِهِ، فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ قَطُّ
عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا. وَلَوْ جَازَ أَنْ يُؤْخَذَ بِبَعْضِ كَلاَمِهِ دُونَ
بَعْضٍ لَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ مَنْ قَالَ: لاَ إلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ; لأََنَّ
نِصْفَ كَلاَمِهِ إذَا انْفَرَدَ: كُفْرٌ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْلُهُ "لاَ
إلَهَ" فَيُقَالُ لَهُ: كَفَرْت، ثُمَّ نَدِمْت وَهُوَ قَوْلٌ فَاسِدٌ جِدًّا
وَلَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ يَبْطُلَ الأَسْتِثْنَاءُ كُلُّهُ بِمِثْلِ هَذَا
لأََنَّهُ إبْطَالٌ
(8/256)
كتاب اللقطة والضالة والآبق
من وجد مالا في قرية أو مدينة أو صحراء في أرض العجم أو العرب مدفونا أو غير مدفون
إلا أن عليه علامة أنه ضرب في مدة الإسلام أو وجد مالا قد سقط فهو لقطة
...
كِتَابُ اللُّقَطَةِ وَالضَّالَّةِ وَالآبِقِ
1383 - مَسْأَلَةٌ - مَنْ وَجَدَ مَالاً فِي قَرْيَةٍ أَوْ مَدِينَةٍ، أَوْ
صَحْرَاءَ فِي أَرْضِ الْعَجَمِ، أَوْ أَرْضِ الْعَرَبِ الْعَنْوَةِ أَوْ
الصُّلْحِ مَدْفُونًا أَوْ غَيْرَ مَدْفُونٍ إِلاَّ أَنَّ عَلَيْهِ عَلاَمَةً أَنَّهُ
مِنْ ضَرْبِ مُدَّةِ الإِسْلاَمِ أَوْ وَجَدَ مَالاً قَدْ سَقَطَ أَيَّ مَالٍ
كَانَ: فَهُوَ لُقَطَةٌ،
وَفُرِضَ عَلَيْهِ أَخْذُهُ، وَأَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ عَدْلاً وَاحِدًا
فَأَكْثَرَ، ثُمَّ يُعَرِّفُهُ، وَلاَ يَأْتِي بِعَلاَمَتِهِ، لَكِنَّ تَعْرِيفَهُ
هُوَ أَنْ يَقُولَ فِي الْمَجَامِعِ الَّذِي يَرْجُو وُجُودَ صَاحِبِهِ فِيهَا
أَوْ لاَ يَرْجُو: مَنْ ضَاعَ لَهُ مَالٌ فَلْيُخْبِرْ بِعَلاَمَتِهِ، فَلاَ
يَزَالُ كَذَلِكَ سَنَةً قَمَرِيَّةً، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يُقِيمُ عَلَيْهِ
بَيِّنَةً، أَوْ مَنْ يَصِفُ عِفَاصَهُ وَيُصَدَّقُ فِي صِفَتِهِ، وَيَصِفُ
وِعَاءَهُ وَيُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَصِفُ رِبَاطَهُ وَيُصَدَّقُ فِيهِ، وَيَعْرِفُ
عَدَدَهُ وَيُصَدَّقُ فِيهِ، أَوْ يَعْرِفُ مَا كَانَ لَهُ مِنْ هَذَا. أَمَّا
الْعَدَدُ، وَالْوِعَاءُ، إنْ كَانَ لاَ عِفَاصَ لَهُ، وَلاَ وِكَاءَ، أَوْ
الْعَدَدُ إنْ كَانَ مَنْثُورًا فِي غَيْرِ وِعَاءٍ: دَفَعَهَا إلَيْهِ كَانَتْ
لَهُ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ. وَيُجْبَرُ الْوَاجِدُ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ،
وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. وَلَوْ جَاءَ مَنْ يُثْبِتُهُ بِبَيِّنَةٍ
فَإِنْ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَصْدُقُ فِي صِفَتِهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ
بَيِّنَةَ فَهُوَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ مَالٌ مِنْ مَالِ الْوَاجِدِ غَنِيًّا
كَانَ أَوْ فَقِيرًا يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ، وَيُورَثُ عَنْهُ، إِلاَّ أَنَّهُ
مَتَى قَدِمَ مَنْ يُقِيمُ فِيهِ بَيِّنَةً أَوْ يَصِفُ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا
فَيَصْدُقُ ضَمِنَهُ لَهُ إنْ كَانَ حَيًّا، أَوْ ضَمِنَهُ لَهُ الْوَرَثَةُ إنْ
كَانَ الْوَاجِدُ لَهُ مَيِّتًا. فَإِنْ كَانَ مَا وَجَدَ شَيْئًا وَاحِدًا
كَدِينَارٍ وَاحِدٍ.
(8/257)
أَوْ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ، أَوْ
لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، أَوْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ كَذَلِكَ لاَ
رِبَاطَ لَهُ، وَلاَ وِعَاءَ، وَلاَ عِفَاصَ: فَهُوَ لِلَّذِي يَجِدُهُ مِنْ حِينِ
يَجِدُهُ وَيُعَرِّفُهُ أَبَدًا طُولَ حَيَاتِهِ، فَإِنْ جَاءَ مَنْ يُقِيمُ
عَلَيْهِ بَيِّنَةً قَطُّ: ضَمِنَهُ لَهُ فَقَطْ هُوَ أَوْ وَرَثَتُهُ بَعْدَهُ
وَإِلَّا فَهُوَ لَهُ، أَوْ لِوَرَثَتِهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا شَاءَ مِنْ بَيْعٍ
أَوْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ وَرَثَتُهُ بَعْدَهُ، وَلاَ يُرَدُّ مَا أَنَفَذُوا
فِيهِ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ حَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى، أَوْ
فِي رُفْقَةِ قَوْمٍ نَاهِضِينَ إلَى الْعُمْرَةِ أَوْ الْحَجِّ: عَرَّفَ أَبَدًا،
وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ تَمَلُّكُهُ، بَلْ يَكُونُ مَوْقُوفًا فَإِنْ يَئِسَ
بِيَقِينٍ، عَنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهِ فَهُوَ فِي جَمِيعِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ
بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ، عَنْ
شَيْبَانَ، عَنْ يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ:
خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ:"
إنَّ اللَّهَ حَبَسَ، عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا نَبِيَّهُ
وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأََحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ
لأََحَدٍ بَعْدِي، أَلاَ وَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ، أَلاَ
وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ، لاَ يُخْبَطُ شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ
شَجَرُهَا، وَلاَ يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَهَا إِلاَّ مُنْشِدٌ ".
قال أبو محمد : مَكَّةُ هِيَ الْحَرَمُ كُلُّهُ فَقَطْ، وَهِيَ ذَاتُ الْحُرْمَةِ
الْمَذْكُورَةِ، لاَ مَا عَدَا الْحَرَمَ بِلاَ خِلاَفٍ. وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا،
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا. وَمِنْ طَرِيقِ
مُسْلِمٍ ني أَبُو الطَّاهِرِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ
عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عُثْمَانَ
التَّيْمِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَهَى عَنْ لُقَطَةِ
الْحَاجِّ.
قال أبو محمد : الْحَجُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْقَصْدُ، وَمِنْهُ سُمِّيَتْ
الْمَحَجَّةُ مَحَجَّةً، فَالْقَاصِدُ مِنْ بَيْتِهِ إلَى الْحَجِّ أَوْ
الْعُمْرَةِ هُوَ فَاعِلٌ لِلْقَصْدِ الَّذِي هُوَ الْحَجُّ إلَى أَنْ يُتِمَّ
جَمِيعَ أَعْمَالِ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم:" دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
" فَإِذَا تَمَّتْ فَلَيْسَ حَاجًّا، لَكِنَّهُ كَانَ حَاجًّا، وَقَدْ حَجَّ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَرُوِّينَا هَذَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ
الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا الأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ أَبِي نَوْفَلٍ، هُوَ
ابْنُ أَبِي عَقْرَبٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَصَابَ بَدْرَةً بِالْمَوْسِمِ عَلَى
عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَعَرَّفَهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ فَأَتَى
بِهَا عُمَرُ عِنْدَ النَّفَرِ وَقَالَ لَهُ: قَدْ عَرَّفْتُهَا فَأَغْنِهَا
عَنِّي قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا
تَأْمُرُنِي قَالَ: أَمْسِكْهَا حَتَّى تُوَافِيَ بِهَا الْمَوْسِمَ قَابِلاً
فَفَعَلَ فَعَرَّفَهَا
(8/258)
فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ،
فَأَتَى بِهَا عُمَرُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدْ وَافَاهُ بِهَا كَمَا أَمَرَهُ،
وَعَرَّفَهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ وَقَالَ لَهُ: أَغْنِهَا عَنِّي قَالَ
لَهُ عُمَرُ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، وَلَكِنْ إنْ شِئْت أَخْبَرْتُك بِالْمَخْرَجِ
مِنْهَا، أَوْ سَبِيلِهَا: إنْ شِئْت تَصَدَّقْت بِهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا
خَيَّرْتَهُ، فَإِنْ اخْتَارَ الْمَالَ رَدَدْت عَلَيْهِ الْمَالَ، وَكَانَ
الأَجْرُ لَك، وَإِنْ اخْتَارَ الأَجْرَ كَانَ لَك نِيَّتُك فَهَذَا فِعْلُ عُمَرُ
فِي لُقَطَةِ الْمَوْسِمِ. وَفَعَلَ فِي لُقَطَةِ غَيْرِ الْمَوْسِمِ مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي
إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ
الْجُهَنِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ إسْمَاعِيلُ: وَقَدْ
سَمِعْت أَنَّ لَهُ صُحْبَةً أَقْبَلَ مِنْ الشَّامِ فَوَجَدَ صُرَّةً فِيهَا
ذَهَبٌ مِائَةٌ فَأَخَذَهَا، فَجَاءَ بِهَا إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ
لَهُ عُمَرُ: اُنْشُدْهَا الآنَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،
ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ، وَإِلَّا فَهِيَ لَك، قَالَ:
فَعَلْت فَلَمْ تُعْرَفْ، فَقَسَّمْتهَا بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ لِي.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ
قَتَادَةَ قَالَ: كُنْت أَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَوَطِئْت عَلَى ذَهَبٍ، أَوْ
فِضَّةٍ، فَلَمْ آخُذْهُ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ:
بِئْسَ مَا صَنَعْت، كَانَ يَنْبَغِي لَك أَنْ تَأْخُذَهُ تُعَرِّفَهُ سَنَةً،
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ رَدَدْتَهُ إلَيْهِ، وَإِلَّا تَصَدَّقْت بِهِ عَلَى ذِي
فَاقَةٍ مِمَّنْ لاَ تَعُولُ.وَقَالَ فِي لُقَطَةِ غَيْرِ الْحَرَمِ مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي
إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: أَنَّ زَيْدَ بْنَ الأَخْنَسِ الْخُزَاعِيَّ
أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: وَجَدْت لُقَطَةً
أَفَأَتَصَدَّقُ بِهَا قَالَ: لاَ تُؤْجَرُ أَنْتَ، وَلاَ صَاحِبُهَا، قُلْت:
أَفَأَدْفَعُهَا إلَى الأُُمَرَاءِ قَالَ: إذًا يَأْكُلُونَهَا أَكْلاً سَرِيعًا
قُلْت: وَكَيْفَ تَأْمُرُنِي قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ
وَإِلَّا فَهِيَ لَك كَمَالِك فَهَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ:
بِإِيجَابِ أَخْذِ اللُّقَطَةِ، وَلاَ بُدَّ، وَيَرَاهَا بَعْدَ الْحَوْلِ قَدْ
صَارَتْ مِنْ مَالِ الْمُلْتَقِطِ، إِلاَّ لُقَطَةَ مَكَّةَ. وَقَوْلُنَا فِي
لُقَطَةِ مَكَّةَ هُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، وَأَبِي
عُبَيْدٍ، نَا بِذَلِكَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَسُورِ قَالَ:
حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنُ رِفَاعَةَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ
عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ
مَهْدِيٍّ بِذَلِكَ وَعَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَمَّا مَا عَدَا
لُقَطَةَ الْحَرَمِ، وَالْحَاجِّ، فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد،
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي
الْعَلاَءِ هُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ مُطَرِّفٍ،
هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ
الْمُجَاشِعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ
أَخَذَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَا عَدْلٍ، أَوْ ذَوَيْ عَدْلٍ، وَلاَ يَكْتُمُ،
وَلاَ يَغِيبُ، فَإِنْ وَجَدَ صَاحِبَهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِ، وَإِلَّا
فَهُوَ مَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْتِيهِ مَنْ شَاءَ ". وَرُوِّينَاهُ
مِنْ طَرِيقِ هُشَيْمٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ بِإِسْنَادِهِ فَقَالَ:
فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ.
قال أبو محمد : وَزَادَ مُسَدَّدٌ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَيْسَ شَكًّا، وَلاَ يَجُوزُ
أَنْ يُحْمَلَ شَيْءٌ
(8/259)
مِمَّا رُوِيَ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّهُ شَكٌّ إِلاَّ بِيَقِينِ أَنَّهُ
شَكٌّ، وَإِلَّا فَظَاهِرُهُ الإِسْنَادُ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادٍ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
سُئِلَ، عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَعِدَّتَهَا وَوِعَاءَهَا،
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرَفَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ .
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
السَّرْحِ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ
أَبِي النَّضْرِ هُوَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ
سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ
لَمْ تُعْتَرَفْ فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ كَمِّلْهَا فَإِنْ
جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ ". وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ
سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ
"أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ لَهُ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه
وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اعْرِفْ
عَدَدَهَا، وَوِكَاءَهَا، وَوِعَاءَهَا، ثُمَّ اسْتَمْتِعْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا فَعَرَفَ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَوِعَاءَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ
وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ "
وَأَمَّا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ الَّذِي لاَ وِكَاءَ لَهُ، وَلاَ عِفَاصَ، وَلاَ
وِعَاءَ فَلأََنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَمَرَ بِتَعْرِيفِ
السَّنَةِ فِيمَا لَهُ عَدَدٌ، وَعِفَاصٌ، وَوِكَاءٌ، أَوْ بَعْضُ هَذِهِ فأما مَا
لاَ عِفَاصَ لَهُ، وَلاَ وِعَاءَ، وَلاَ وِكَاءَ، وَلاَ عَدَدَ: فَهُوَ خَارِجٌ
مِنْ هَذَا الْخَبَرِ، وَحُكْمُهُ فِي حَدِيثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ: فَحُكْمُهُ
أَنْ يُنْشَدَ ذَلِكَ أَبَدًا لِقَوْلِهِ عليه السلام لاَ يَكْتُمُ، وَلاَ
يُغَيِّبُ وَلِقَوْلِهِ عليه السلام هُوَ مَالُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
فَقَدْ آتَاهُ اللَّهُ وَاجِدَهُ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْعَزِيزِ، هُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: كَانَ سُوَيْدُ بْنُ
غَفَلَةَ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَثَالِثٌ مَعَهُمَا فِي سَفَرٍ فَوَجَدَ
أَحَدُهُمْ هُوَ سُوَيْدٌ بِلاَ شَكٍّ سَوْطًا فَأَخَذَهُ، فَقَالَ لَهُ
صَاحِبَاهُ: أَلْقِهِ فَقَالَ: أَسْتَمْتِعُ بِهِ فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ
أَدَّيْته إلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَأْكُلَهُ السِّبَاعُ فَلَقِيَ أُبَيَّ بْنَ
كَعْبٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: أَصَبْت وَأَخْطَآ فَفِي هَذَا أَنَّ
أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَأَى وُجُوبَ أَخْذِ اللُّقَطَةِ.
قال أبو محمد: فِيمَا ذَكَرْنَا اخْتِلاَفٌ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا قَالُوا:
لاَ تُؤْخَذُ اللُّقَطَةُ أَصْلاً، وَقَالَ آخَرُونَ: مُبَاحٌ أَخْذُهَا
وَتَرْكُهَا مُبَاحٌ، فأما مَنْ نَهَى، عَنْ أَخْذِهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا.
وَكَمَا رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ سَعْدٍ حَدَّثَهُ قَالَ: كُنْت
مَعَ ابْنِ عُمَرَ فَرَأَيْت دِينَارًا فَذَهَبْت لأَخُذَهُ
(8/260)
فَضَرَبَ ابْنُ عُمَرَ يَدِي
وَقَالَ: مَا لَك وَلَهُ اُتْرُكْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ قَابُوسِ بْنِ أَبِي
ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَرْفَعْ اللُّقَطَةَ لَسْت
مِنْهَا فِي شَيْءٍ، تَرْكُهَا خَيْرٌ مِنْ أَخْذِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى سُئِلَ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ، عَنِ الْفَاكِهَةِ تُوجَدُ فِي الطَّرِيقِ قَالَ: لاَ تُؤْكَلُ إِلاَّ
بِإِذْنِ رَبِّهَا. وَعَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خَيْثَمٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَخْذَ
اللُّقَطَةِ. وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ مَرَّ بِدِرْهَمٍ فَتَرَكَهُ. وقال أبو
حنيفة، وَمَالِكٌ: كِلاَ الأَمْرَيْنِ مُبَاحٌ، وَالأَفْضَلُ أَخْذُهَا. وقال
الشافعي مَرَّةً: أَخْذُهَا أَفْضَلُ وَمَرَّةً قَالَ: الْوَرَعُ تَرْكُهَا.
قال أبو محمد : أَمَّا مَنْ أَبَاحَ كِلاَ الأَمْرَيْنِ فَمَا نَعْلَمُ لَهُ
حُجَّةً أَصْلاً، فَإِنْ حَمَلُوا أَمْرَهُ عليه السلام بِأَخْذِهَا عَلَى
النَّدْبِ قِيلَ لَهُمْ: فَاحْمِلُوا أَمْرَهُ بِتَعْرِيفِهَا عَلَى النَّدْبِ،
وَلاَ فَرْقَ. فَإِنْ قَالُوا: أَمْوَالُ النَّاسِ مُحَرَّمَةٌ قلنا:
وَإِضَاعَتُهَا مُحَرَّمَةٌ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ أَخْذِهَا
فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ " .فَقُلْنَا لَهُمْ:
نَعَمْ، وَمَا أَمَرْنَاهُ بِاسْتِحْلاَلِهَا أَصْلاً، لَكِنْ أَمَرْنَاهُ
بِالْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِهَا وَتَرْكِ إضَاعَتِهَا الْمُحَرَّمَةِ
عَلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلْنَاهَا لَهُ حَيْثُ جَعَلَهَا لَهُ الَّذِي حَرَّمَ
أَمْوَالَنَا عَلَيْنَا إِلاَّ بِمَا أَبَاحَهَا لَنَا، لاَ يَجُوزُ تَرْكُ شَيْءٍ
مِنْ أَوَامِرِهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا،
وَقَدْ كَفَرَ مَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ حَرَجًا مِمَّا قَضَى. وَاحْتَجُّوا
أَيْضًا بِحَدِيثِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم: " لاَ يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلاَّ ضَالٌّ " وَبِحَدِيثِ
أَبِي مُسْلِمٍ الْجَرْمِيِّ أَوْ الْحَرَمِيِّ، عَنِ الْجَارُودِ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم " قَالَ: ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّار
"ِ. وَهَذَانِ خَبَرَانِ لاَ يَصِحَّانِ ; لأََنَّ الْمُنْذِرَ بْنَ جَرِيرٍ،
وَأَبَا مُسْلِمٍ الْجَرْمِيَّ أَوْ الْحَرَمِيَّ غَيْرُ مَعْرُوفَيْنِ، لَكِنْ
ضَالَّةُ الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ قَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى وَهَذَا
لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَسَّرَهُ سَائِرُ الآثَارِ وَهُوَ خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ مُطَرِّفِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ضَوَالِّ الإِبِلِ فَقَالَ عليه السلام: ضَالَّةُ
الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ، فَأَمَرُوا بِأَخْذِ ضَوَالِّ
الإِبِلِ، ثُمَّ لَوْ صَحَّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِمَا حُجَّةٌ ; لأََنَّ
إيوَاءَ الضَّالَّةِ بِخِلاَفِ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
حَرْقُ النَّارِ، وَضَلاَلٌ بِلاَ شَكٍّ، وَمَا أَمَرْنَاهُ قَطُّ بِإِيوَائِهَا
مُطْلَقًا، لَكِنْ بِتَعْرِيفِهَا وَضَمَانِهَا فِي الأَبَدِ، وَقَدْ جَاءَ
بِهَذَا حَدِيثٌ أَحْسَنُ مِنْ حَدِيثِهِمْ:
كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ،
عَنْ بَكْرِ بْنِ سَوَادَةَ، عَنْ أَبِي سَالِمٍ الْجَيَشَانِيِّ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ
قَالَ: " مَنْ أَخَذَ لُقَطَةً فَهُوَ ضَالٌّ مَا لَمْ يُعَرِّفْهَا
".وَمِنْهَا
(8/261)
مُدَّةُ التَّعْرِيفِ، وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه التَّعْرِيفَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ سَنَةً .وَبِهِ يَقُولُ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. وَيُحْتَجُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَيَّاشٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي مَنْ أَرْضَى، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، "أَنَّهُ قَالَ وَقَدْ سُئِلَ، عَنِ الضَّالَّةِ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَعَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا ." وَهَذَا حَدِيثٌ هَالِكٌ ; لأََنَّ اللَّيْثَ لَمْ يُسَمِّ مَنْ أَخَذَ عَنْهُ وَقَدْ يَرْضَى الْفَاضِلُ مَنْ لاَ يَرْضَى، هَذَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: لَمْ أَرَ أَصْدَقَ مِنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ وَجَابِرٌ مَشْهُورٌ بِالْكَذِبِ. ثُمَّ هُوَ خَطَأٌ ; لِ، أَنَّهُ قَالَ فِيهِ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ وَإِنَّمَا هُوَ، عَنْ يَزِيدَ لاَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ. وَوَجْهٌ آخَرُ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدْرٍ قَالَ: وَجَدَ أَبِي فِي مَبْرَكِ بَعِيرٍ مِائَةَ دِينَارٍ فَسَأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: عَرِّفْهَا عَامًا، فَعَرَّفَهَا عَامًا فَلَمْ يَجِدْ لَهَا عَارِفًا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: عَرِّفْهَا ثَلاَثَةَ أَعْوَامٍ، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا عَارِفًا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هِيَ لَك. وَيُحْتَجُّ لِهَذَا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ لِي أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ: الْتَقَطْتُ صُرَّةً فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً فَعَرَّفْتُهَا حَوْلاً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَرَّفْتُهَا حَوْلاً فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً أُخْرَى فَعَرَّفْتُهَا سَنَةً أُخْرَى ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرَّفْتُهَا سَنَةً فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً أُخْرَى فَعَرَّفْتُهَا سَنَةً أُخْرَى ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ عليه السلام بِذَلِكَ، فَقَالَ: انْتَفِعْ بِهَا وَاعْرِفْ وِكَاءَهَا وَخِرْقَتَهَا وَاحْصِ عَدَدَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا قَالَ جَرِيرٌ: لَمْ أَحْفَظْ مَا بَعْدَ هَذَا. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الرَّقِّيَّيْنِ كِلاَهُمَا، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم . قال أبو محمد: هَذَا حَدِيثٌ ظَاهِرُهُ صِحَّةُ السَّنَدِ، إِلاَّ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ أَخْطَأَ فِيهِ بِلاَ شَكٍّ ; لأََنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِيهِ: فَلَمْ أَجِدْ لَهَا عَارِفًا عَامَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ
(8/262)
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي
سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم فَقَالَ فِيهِ: عَرِّفْهَا عَامًا قَالَ: فَعَرَّفْتُهَا،
فَلَمْ تُعْتَرَفْ، فَرَجَعْت فَقَالَ: عَرِّفْهَا عَامًا مَرَّتَيْنِ أَوْ
ثَلاَثًا فَهَذَا شَكٌّ مِنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ. ثُمَّ رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ،
حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ:
سَمِعْت سُوَيْدٌ بْنَ غَفَلَةَ قَالَ: لَقِيت أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَذَكَرَ.
الْحَدِيثَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: عَرِّفْهَا
حَوْلاً، فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، ثُمَّ أَتَيْتُهُ
فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً، فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ثُمَّ أَتَيْتُهُ
فَقَالَ: عَرِّفْهَا حَوْلاً فَلَمْ أَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَذَكَرَ بَاقِي
الْحَدِيثِ: قَالَ شُعْبَةُ: فَلَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ فَقَالَ: لاَ
أَدْرِي ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ أَوْ حَوْلٌ وَاحِدٌ فَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ سَلَمَةَ
بْنِ كُهَيْلٍ بِالشَّكِّ، وَالشَّرِيعَةُ لاَ تُؤْخَذُ بِالشَّكِّ. وَرُوِّينَاهُ
أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ بِشْرٍ
الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا بَهْزُ، هُوَ ابْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ،
حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْت سُوَيْدٌ بْنَ غَفَلَةَ
فَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ قَالَ شُعْبَةُ: فَسَمِعْتُهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ
يَقُولُ: عَرِّفْهَا عَامًا وَاحِدًا.
فَصَحَّ أَنَّ سَلَمَةَ بْنَ كُهَيْلٍ تَثَبَّتَ وَاسْتَذْكَرَ، فَثَبَتَ عَلَى
عَامٍ وَاحِدٍ، بَعْدَ أَنْ شَكَّ.فَصَحَّ أَنَّهُ وَهْمٌ ثُمَّ اسْتَذْكَرَ،
فَشَكَّ ثُمَّ اسْتَذْكَرَ فَتَيَقَّنَ، وَثَبَتَ وُجُوبُ تَعْرِيفِ الْعَامِ
وَبَطَلَ تَعْرِيفُ مَا زَادَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
قال أبو محمد: وَهَهُنَا أَثَرَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا: رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي مَيْسَرَةَ،
عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ أَنَّ عَلِيًّا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
بِدِينَارٍ وَجَدَهُ فِي السُّوقِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم
عَرِّفْهُ ثَلاَثًا فَفَعَلَ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَعْتَرِفُهُ فَقَالَ لَهُ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: كُلْهُ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ وَفِي آخِرِهِ
" فَجَعَلَ أَجَلَ الدِّينَارِ وَشَبَهَهُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ " لِهَذَا
الْحَدِيثِ
قال أبو محمد: لاَ نَدْرِي مِنْ كَلاَمِ مَنْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهَذَا خَبَرُ
سُوءٍ لأََنَّهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ وَهُوَ مَشْهُورٌ بِوَضْعِ
الْحَدِيثِ وَالْكَذِبِ، عَنْ شَرِيكٍ وَهُوَ مُدَلِّسٌ يُدَلِّسُ الْمُنْكَرَاتِ،
عَنِ الضُّعَفَاءِ إلَى الثِّقَاتِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنْ عُمَرَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَعْلَى، عَنْ جَدَّتِهِ حَكِيمَةَ، عَنْ أَبِيهَا أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " مَنْ الْتَقَطَ لُقَطَةً
يَسِيرَةً دِرْهَمًا أَوْ حَبْلاً أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ فَلْيُعَرِّفْهُ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ، فَإِنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ فَلْيُعَرِّفْهُ سِتَّةَ أَيَّامٍ "
وَهَذَا
(8/263)
لاَ شَيْءَ: إسْرَائِيلُ
ضَعِيفٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَجْهُولٌ، وَحَكِيمَةُ، عَنْ أَبِيهَا
أَنْكَرُ وَأَنْكَرُ، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ،
وَالأَوْزَاعِيِّ تَعْرِيفَ اللُّقَطَةِ سَنَةً وَهُوَ الْقَوْلُ الظَّاهِرُ، عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ خِلاَفُهُ. وَرُوِيَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ أَيْضًا: تَعْرِيفُ اللُّقَطَةِ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا
عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ شَرِيكٍ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي
شَيْخٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ صُوحَانَ الْعَبْدِيِّ أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ
أَنْ يُعَرِّفَ قِلاَدَةً الْتَقَطَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ جَاءَ مَنْ
يَعْرِفُهَا وَإِلَّا وَضَعَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ فَهَذِهِ، عَنْ عُمَرَ رضي
الله عنه خَمْسَةُ أَقْوَالٍ. وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ مَنْ الْتَقَطَ دِرْهَمًا فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ
عُبَيْدِ اللَّهِ الرَّازِيّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْهُ: أَنَّ مَا
بَلَغَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فَإِنَّهُ يُعَرَّفُ سَنَةً. وَاخْتَلَفَا
فِيمَا كَانَ أَقَلَّ فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يُعَرَّفُ ثَلاَثَةَ
أَيَّامٍ. وقال أبو حنيفة: يُعَرَّفُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْمُلْتَقِطُ
وَهَذِهِ آرَاءٌ فَاسِدَةٌ كَمَا تَرَى، وَمِنْهَا: دَفْعُ اللُّقَطَةِ إلَى مَنْ
عَرَفَ الْعِفَاصَ، وَالْوِكَاءَ، وَالْعَدَدَ، وَالْوِعَاءَ فَقَالَ مَالِكٌ،
وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَمَا قلنا. وقال أبو حنيفة، وَالشَّافِعِيُّ: لاَ
يَدْفَعُهَا إلَيْهِ بِذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ ضَمِنَهَا; لأََنَّهُ قَدْ يَسْمَعُ
صَاحِبَهَا يَصِفُهَا فَيَعْرِفُ صِفَتَهَا فَيَأْتِي بِهَا. وَاحْتَجُّوا فِي
ذَلِكَ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الْبَيِّنَةَ عَلَى
الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَنَهَى، عَنْ أَنْ يُعْطَى
أَحَدٌ بِدَعْوَاهُ. وَقَالَ عليه السلام: شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ لَيْسَ لَكَ
غَيْرُ ذَلِكَ .
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ حَقٌّ، وَاَلَّذِي قَالَهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ
بِأَنْ تُعْطَى اللُّقَطَةُ مَنْ عَرَفَ الْعِفَاصَ، وَالْوِكَاءَ، وَالْعَدَدَ،
وَالْوِعَاءَ، وَلَيْسَ كَلاَمُهُ مُتَعَارِضًا، وَلاَ حُكْمُهُ مُتَنَاقِضًا،
وَلاَ يَحِلُّ ضَرْبُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَلاَ تَرْكُ بَعْضِهِ وَأَخْذُ بَعْضٍ،
فَكُلُّهُ حَقٌّ، وَكُلُّهُ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُمْ
مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ أَقَرَّ قُضِيَ
عَلَيْهِ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَقَدْ جَعَلُوا لِلْمُدَّعِي شَيْئًا غَيْرَ
الشَّاهِدَيْنِ أَوْ يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ
الْحُكْمُ بِالإِقْرَارِ قلنا: وَقَدْ صَحَّ دَفْعُ اللُّقَطَةِ بِأَنْ يَصِفَ
الْمُدَّعِي وِكَاءَهَا، وَعَدَدَهَا، وَعِفَاصَهَا وَوِعَاءَهَا، وَلاَ فَرْقَ،
وَلَيْسَ كُلُّ الأَحْكَامِ تُوجَدُ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَلاَ تُؤْخَذُ مِنْ
خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَلَكِنْ تُضَمُّ السُّنَنُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ وَيُؤْخَذُ
بِهَا كُلُّهَا، وَلَوْ أَنَّ الْحَنَفِيِّينَ اعْتَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذِهِ
الأَعْتِرَاضَاتِ فِي قَبُولِهِمْ امْرَأَةً وَاحِدَةً فِي عُيُوبِ النِّسَاءِ،
وَالْوِلاَدَةِ وَلَوْ عَارَضُوا أَنْفُسَهُمْ
(8/264)
بِهَذَا فِي حُكْمِهِمْ
لِلزَّوْجَيْنِ يَخْتَلِفَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ أَنَّ مَا أَشْبَهَ أَنْ
يَكُونَ لِلرِّجَالِ كَانَ لِلرَّجُلِ مَعَ يَمِينِهِ، وَمَا أَشْبَهَ أَنْ
يَكُونَ لِلنِّسَاءِ كَانَ لِلْمَرْأَةِ بِيَمِينِهَا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ، وَلاَ
يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ فِي الأُُخْتِ وَالأَخِ يَخْتَلِفَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ
الَّذِي هُمَا فِيهِ، وَلَوْ عَارَضُوا أَنْفُسَهُمْ بِهَذَا الأَعْتِرَاضِ فِي
قَوْلِهِمْ: إنَّ مَنْ ادَّعَى لَقِيطًا هُوَ وَغَيْرُهُ فَأَتَى بِعَلاَمَاتٍ فِي
جَسَدِهِ قُضِيَ لَهُ بِهِ، وَلاَ يَقْضُونَ بِذَلِكَ فِيمَنْ ادَّعَى مَعَ آخَرَ
عَبْدًا فَأَتَى أَحَدُهُمَا بِعَلاَمَاتٍ فِي جَسَدِهِ وَفِي قَوْلِهِمْ: لَوْ
أَنَّ مُسْتَأْجِرَ الدَّارِ تَدَاعَى مَعَ صَاحِبِ الدَّارِ فِي جُذُوعٍ
مَوْضُوعَةٍ فِي الدَّارِ وَأَحَدِ مِصْرَاعَيْنِ فِي الدَّارِ: أَنَّ تِلْكَ
الْجُذُوعَ إنْ كَانَتْ تُشْبِهُ الْجُذُوعَ الَّتِي فِي الْبِنَاءِ
وَالْمِصْرَاعِ الْقَائِمِ كَانَ كُلُّ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الدَّارِ بِلاَ بَيِّنَةٍ
وَسَائِرُ تِلْكَ التَّخَالِيطِ الَّتِي لاَ تُعْقَلُ، ثُمَّ لاَ يُبَالُونَ
بِمُعَارَضَةِ أَوَامِرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِآرَائِهِمْ
الْفَاسِدَةِ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ قَضَى فِي الْقَتِيلِ يُوجَدُ فِي
مَحَلَّةِ أَقْوَامٍ أَعْدَاءٌ لَهُ أَنَّ الْمُدَّعِينَ بِقَتْلِهِ عَلَيْهِ يَحْلِفُونَ
خَمْسِينَ يَمِينًا ثُمَّ يُقْضَى لَهُمْ بِالدِّيَةِ فَأَعْطَاهُمْ
بِدَعْوَاهُمْ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ السُّنَّةَ جَاءَتْ بِهَذَا قلنا لَهُمْ:
وَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِدَفْعِ اللُّقَطَةِ إلَى مَنْ عَرَفَ عِفَاصَهَا،
وَوِكَاءَهَا، وَعَدَدَهَا، وَوِعَاءَهَا، وَلاَ فَرْقَ. وَقَالُوا: قَدْ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ
قلنا: نَعَمْ، وَصَاحِبُهَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ عليه السلام بِدَفْعِهَا إلَيْهِ
إذَا وَصَفَ مَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: قَدْ يَسْمَعُهَا مُتَحَيِّلٌ
فَيُقَالُ لَهُمْ: وَقَدْ تَكْذِبُ الشُّهُودُ، وَلاَ فَرْقَ. وَقَالُوا: قَدْ
قَالَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَإِنْ عَرَفَ
عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا، وَعَدَدَهَا، فَادْفَعْهَا إلَيْهِ- غَيْرَ مَحْفُوظَةٍ.
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا رَوَاهُ
الثِّقَاتُ مُسْنَدًا: هَذَا غَيْرُ مَحْفُوظٍ، وَلاَ يَعْجِزُ أَحَدٌ عَنْ هَذِهِ
الدَّعْوَى فِيمَا شَاءَ مِنْ السُّنَنِ الثَّوَابِتِ. وَقَدْ أَخَذَ
الْحَنَفِيُّونَ بِزِيَادَةٍ جَاءَتْ فِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِي
الزَّكَاةِ وَهِيَ سَاقِطَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَلَوْ صَحَّ إسْنَادُهَا مَا
قلنا فِيهِ: غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَخَذُوا بِخَبَرِ الأَسْتِسْعَاءِ، وَقَدْ قَالَ
مَنْ هُوَ أَجَلُّ مِنْ أَبِي دَاوُد: وَلَيْسَ الأَسْتِسْعَاءُ مَحْفُوظًا
وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ. وَأَخَذُوا بِالْخَبَرِ مَنْ
مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمَةٍ فَهُوَ حُرٌّ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ
يَقُولُونَ: إنَّهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ فِي زَكَاةِ
الْفِطْرِ بِاللَّفْظَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا مَنْ لاَ يُعْتَدُّ بِهِ مِمَّنْ
تَعُولُونَ وَهِيَ بِلاَ شَكٍّ سَاقِطَةٌ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ وَلَوْ صَحَّتْ مِنْ
طَرِيقِ الإِسْنَادِ مَا اسْتَحْلَلْنَا أَنْ نَقُولَ فِيهَا: غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ.
ثم نقول: أَخْطَأَ أَبُو دَاوُد فِي قَوْلِهِ: هِيَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ بَلْ هِيَ
مَحْفُوظَةٌ; لأََنَّهَا لَوْ لَمْ يَرْوِهَا إِلاَّ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ
وَحْدَهُ لَكَفَى، لِثِقَتِهِ وَإِمَامَتِهِ وَكَيْفَ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهَا
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَسُفْيَانُ أَيْضًا، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ،
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَطَلَ قَوْلُ
مَنْ قَالَ:
(8/265)
هِيَ غَيْرُ مَحْفُوظَةٍ،
بَلْ هِيَ مَشْهُورَةٌ مَحْفُوظَةٌ.وَمِنْهَا تَمَلُّكُ اللُّقَطَةِ بَعْدَ
الْحَوْلِ: رُوِّينَا قَوْلَنَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَغَيْرِهِ، كَمَا
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
أَبِي السَّفْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ عَمْرٍو، وَعَاصِمٍ: ابْنَيْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِمَا أَنَّهُ الْتَقَطَ عَيْبَةً فَأَتَى بِهَا عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهَا حَوْلاً، فَفَعَلَ، ثُمَّ أَخْبَرَهُ
فَقَالَ: هِيَ لَك، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَنَا بِذَلِكَ،
قُلْت: لاَ حَاجَةَ لِي بِهَا، وَأَمَرَ بِهَا فَأُلْقِيَتْ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ مِنْ طُرُقٍ جَمَّةٍ، وَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ رَأَى تَمْرَةً مَطْرُوحَةً فِي السِّكَّةِ
فَأَخَذَهَا فَأَكَلَهَا. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ الْتَقَطَ
حَبَّ رُمَّانٍ فَأَكَلَهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَنْ وَجَدَ لُقَطَةً مِنْ
سَقْطِ الْمَتَاعِ: سَوْطًا، أَوْ نَعْلَيْنِ، أَوْ عَصَا، أَوْ يَسِيرًا مِنْ
الْمَتَاعِ، فَلْيَسْتَمْتِعْ بِهِ وَلْيُنْشِدْهُ، فَإِنْ كَانَ وَدَكًا
فَلْيَأْتَدِمْ بِهِ وَلْيُنْشِدْهُ، وَإِنْ كَانَ زَادًا فَلْيَأْكُلْهُ
وَلْيُنْشِدْهُ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلِيَغْرَمْ لَهُ. وَهُوَ قَوْلٌ رُوِيَ
أَيْضًا، عَنْ طَاوُوس، وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ
فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَغَيْرِهِمْ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِهَا، فَإِنْ عُرِّفَتْ خُيِّرَ صَاحِبُهَا
بَيْنَ الأَجْرِ وَالضَّمَانِ.
رُوِّينَا ذَلِكَ أَيْضًا: عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ
عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لاَ آمُرُك أَنْ تَأْكُلَهَا وَعَنْ طَاوُوس
أَيْضًا، وَعِكْرِمَةَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ،
وَسُفْيَانَ وَاحْتَجَّ هَؤُلاَءِ بِمَا رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ،
حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ
سَعْدٍ، حَدَّثَنَا سُمَيٌّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: لاَ
تَحِلُّ اللُّقَطَةُ، فَمَنْ الْتَقَطَ شَيْئًا فَلْيُعَرِّفْهُ سَنَةً، فَإِنْ
جَاءَ صَاحِبُهُ فَلْيَرُدَّهُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ،
فَإِنْ جَاءَ فَلْيُخَيِّرْهُ بَيْنَ الأَجْرِ وَبَيْنَ الَّذِي لَهُ ".
قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ شَيْءَ ; لأََنَّ يُوسُفَ بْنَ خَالِدٍ، وَأَبَاهُ،
مَجْهُولاَنِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ، لأََنَّ قَوْلَ
لاَ تَحِلُّ اللُّقَطَةُ حَقٌّ، وَلاَ تَحِلُّ قَبْلَ التَّعْرِيفِ، وَأَمْرُهُ
بِالصَّدَقَةِ بِهَا مَضْمُومٌ إلَى أَمْرِهِ عليه السلام بِاسْتِنْفَاقِهَا
وَبِكَوْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ، إذْ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ بَعْضُ
أَمْرِهِ عليه السلام أَوْلَى بِالطَّاعَةِ مِنْ بَعْضٍ، وَلاَ يَحِلُّ
مُخَالَفَةُ شَيْءٍ مِنْ أَوَامِرِهِ عليه السلام لأَخَرَ مِنْهَا، بَلْ كُلُّهَا
حَقٌّ وَاجِبٌ اسْتِعْمَالُهُ، وَنَحْنُ لَمْ نَمْنَعْ وَاجِدَهَا مِنْ
الصَّدَقَةِ بِهَا إنْ أَرَادَ فَيُحْتَجُّ عَلَيْنَا بِهَذَا فَبَطَلَ
تَعَلُّقُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ لَوْ صَحَّ، فَكَيْفَ وَهُوَ لاَ يَصِحُّ فَإِنْ
ادَّعُوا إجْمَاعًا عَلَى الصَّدَقَةِ بِهَا كُذِّبُوا، لِمَا رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ الأَخْنَسِ
الْخُزَاعِيَّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: وَجَدْت
لُقَطَةً أَفَأَتَصَدَّقُ بِهَا قَالَ: لاَ تُؤْجَرُ أَنْتَ، وَلاَ صَاحِبُهَا
قُلْت: أَفَأَدْفَعُهَا إلَى الأُُمَرَاءِ قَالَ: إذًا يَأْكُلُونَهَا أَكْلاً
سَرِيعًا، قُلْت: فَكَيْفَ تَأْمُرُنِي؟
(8/266)
قَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً
فَإِنْ اعْتَرَفَتْ، وَإِلَّا فَهِيَ لَك. وَالْعَجَبُ أَنَّ بَعْضَهُمْ احْتَجَّ
لِمَذْهَبِهِ الْخَطَأِ فِي هَذَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {ولاَ تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} .
قَالَ عَلِيٌّ: احْتِجَاجُ هَذَا الْجَاهِلِ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي هَذَا
الْمَكَانِ دَلِيلٌ عَلَى رِقَّةِ دِينِهِ، إذْ جَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَاطِلاً، وَلَوْ كَانَ لَهُ دِينٌ لَمَا عَارَضَ
حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . وَلَوْ أَنَّهُ جَعَلَ هَذِهِ
الْمُعَارَضَةَ لِقَوْلِهِمْ الْمَلْعُونِ: أَنَّ الْغَاصِبَ لِدُورِ
الْمُسْلِمِينَ وَضِيَاعِهِمْ يَسْكُنُهَا وَيُكْرِيهَا، فَالْكِرَاءُ لَهُ
حَلاَلٌ، وَاحْتِرَاثُ ضِيَاعِهِمْ لَهُ حَلاَلٌ لاَ يَلْزَمُهُ فِي ذَلِكَ
شَيْءٌ. وَقَوْلُهُمْ: مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا فَقَدْ مَلَكَهُ
مِلْكًا فَاسِدًا وَأَبَاحُوا لَهُ التَّصَرُّفَ فِيمَا اشْتَرَى بِالْبَاطِلِ
بِالْوَطْءِ، وَالْعِتْقِ، وَسَائِرِ أَقْوَالِهِمْ الْخَبِيثَةِ لَكَانُوا قَدْ
وَافَقُوا. ثُمَّ أَعْجَبُ شَيْءٍ أَمْرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا ضَمَّنُوا الْمَسَاكِينَ إنْ وَجَدُوهُمْ، فَعَلَى أَصْلِهِمْ هُوَ
أَيْضًا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ. وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَأْكُلَهَا
الْوَاجِدُ وَضَمَانُهَا عَلَيْهِ، وَبَيْنَ أَنْ يَأْكُلُوهَا الْمَسَاكِينُ
وَضَمَانُهَا عَلَيْهِمْ فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا فَعَلَيْهِ، وَلَئِنْ كَانَ أَحَدُ
الْوَجْهَيْنِ أَكْلَ مَالٍ بِالْبَاطِلِ فَإِنَّ الآخَرَ أَكْلُ مَالٍ
بِالْبَاطِلِ، وَلاَ فَرْقَ، وَلَئِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْلَ مَالٍ بِحَقٍّ،
فَإِنَّ الآخَرَ أَكْلُ مَالٍ بِالْحَقِّ، وَلاَ فَرْقَ، إذْ الضَّمَانُ فِي
الْعَاقِبَةِ فِي كِلاَ الْوَجْهَيْنِ، وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ مِنْ ضَالَّةِ
الْمُسْلِمِ حَرْقُ النَّارِ، وَلاَ يَأْوِي الضَّالَّةَ إِلاَّ ضَالٌّ، وَلَوْ
صَحَّا لَكَانَا عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حُجَّةً ; لأََنَّهُمْ يُبِيحُونَ أَخْذَ
ضَوَالِّ الإِبِلِ الَّتِي فِيهَا وَرَدَ النَّصُّ الْمَذْكُورُ، فَاعْجَبُوا
لِهَذِهِ الْعُقُولِ وأعجب شَيْءٍ احْتِجَاجُهُمْ هَهُنَا بِرِوَايَةٍ خَبِيثَةٍ
رَوَاهَا أَبُو يُوسُفَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ
سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ: أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ، ثُمَّ ذَكَرَ بَاقِي
الْحَدِيثِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: فَإِنَّكَ
ذُو حَاجَةٍ إلَيْهَا .
قال أبو محمد: هَذَا مُنْقَطِعٌ لأََنَّ سَلَمَةَ لَمْ يُدْرِكْ أُبَيًّا، ثُمَّ
الْعَرْزَمِيُّ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَأَبُو يُوسُفَ لاَ يَبْعُدُ عَنْهُ، فَمَنْ
أَضَلُّ مِمَّنْ يَرُدُّ مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ
سَلَمَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ،
عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَيَأْخُذُ بِمَا
رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ الْمَغْمُوزُ، عَنِ الْعَرْزَمِيِّ الضَّعِيفِ، عَنْ
سَلَمَةَ، عَنْ أُبَيٍّ وَهُوَ لَمْ يَلْقَ أُبَيًّا قَطُّ، فَفِي مِثْلِ هَذَا
فَلْيَعْتَبِرْ أُولُو الأَبْصَارِ. ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَهُمْ هَذِهِ
الزِّيَادَةُ الَّتِي لاَ تَصِحُّ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا حُجَّةٌ ; لأََنَّهُ
لَيْسَ فِيهَا إِلاَّ إبَاحَةُ اللُّقَطَةِ لِلْمُحْتَاجِ وَلَسْنَا نُنْكِرُ
هَذَا، بَلْ هُوَ قَوْلُنَا، وَلَيْسَ فِيهَا مَنْعُ الْغَنِيِّ مِنْهَا لاَ بِنَصٍّ،
وَلاَ بِدَلِيلٍ. ثُمَّ الْعَجَبُ كُلُّهُ رَدُّهُمْ كُلُّهُمْ فِي هَذَا
الْمَكَانِ نَفْسِهِ حَدِيثَ عَلِيِّ
(8/267)
بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي
الْتِقَاطِهِ الدِّينَارَ وَإِبَاحَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ
اسْتِنْفَاقَهُ بِأَنْ قَالُوا هُوَ مُرْسَلٌ، وَرَوَاهُ شَرِيكٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ
فَالْمُرْسَلُ الَّذِي يَرْوِيه الضَّعِيفُ لاَ يَجُوزُ الأَخْذُ بِهِ إذَا
خَالَفَ رَأْيَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمُرْسَلُ الَّذِي رَوَاهُ الْعَرْزَمِيُّ
وَهُوَ الْغَايَةُ فِي الضَّعْفِ لاَ يَجُوزُ تَرْكُهُ إذَا وَافَقَ رَأْيَ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَاَللَّهِ لَتَطُولُنَّ نَدَامَةُ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ فِي دِينِهِ
يَوْمَ لاَ يُغْنِي النَّدَمُ عَنْهُ شَيْئًا، وَمَا هَذِهِ طَرِيقُ مَنْ يَدِينُ
بِيَوْمِ الْحِسَابِ، لَكِنَّهُ الضَّلاَلُ وَالإِضْلاَلُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ
الْخِذْلاَنِ. ثُمَّ قَدْ كَذَبُوا، بَلْ قَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَلِيٍّ مِنْ غَيْرِ
طَرِيقِ شَرِيكٍ، وَأُسْنِدَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ
مُسَافِرٍ التِّنِّيسِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنَا مُوسَى
بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيُّ هُوَ مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَخْبَرَهُ:
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَجَدَ الْحُسَيْنَ وَالْحَسَنَ يَبْكِيَانِ
مِنْ الْجُوعِ، فَخَرَجَ فَوَجَدَ دِينَارًا بِالسُّوقِ، فَجَاءَ بِهِ إلَى
فَاطِمَةَ فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ لَهُ: اذْهَبْ إلَى فُلاَنٍ الْيَهُودِيِّ
فَخُذْ لَنَا دَقِيقًا فَذَهَبَ إلَى الْيَهُودِيِّ فَاشْتَرَى بِهِ دَقِيقًا
فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَنْتَ خَتَنُ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَخُذْ دِينَارَكَ وَلَكَ الدَّقِيقُ،
فَخَرَجَ عَلِيٌّ حَتَّى جَاءَ بِهِ فَاطِمَةَ، فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ لَهُ
اذْهَبْ إلَى فُلاَنٍ الْجَزَّارِ فَخُذْ لَنَا بِدِرْهَمٍ لَحْمًا فَذَهَبَ
فَرَهَنَ الدِّينَارَ بِدِرْهَمِ لَحْمٍ، فَجَاءَ بِهِ فَعَجَنَتْ وَنَصَبَتْ
وَخَبَزَتْ، وَأَرْسَلَتْ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَهُمْ
فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذْكُرُ لَك، فَإِنْ رَأَيْتَهُ لَنَا
حَلاَلاً أَكَلْنَا وَأَكَلْتَ مَعَنَا مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ عليه
السلام كُلُوا بِاسْمِ اللَّهِ، فَأَكَلُوا، فَبَيْنَمَا هُمْ مَكَانَهُمْ إذَا
غُلاَمٌ يَنْشُدُ اللَّهَ تَعَالَى وَالإِسْلاَمَ الدِّينَارَ، فَأَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَدُعِيَ لَهُ [فَسَأَلَهُ] فَقَالَ: سَقَطَ مِنِّي
فِي السُّوقِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَلِيُّ اذْهَبْ
إلَى الْجَزَّارِ فَقُلْ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ
لَكَ: أَرْسِلْ إلَيَّ بِالدِّينَارِ، وَدِرْهَمُكَ عَلَيَّ، فَأَرْسَلَ بِهِ،
فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِلاَ بَيِّنَةٍ.
قال أبو محمد: هَذَا خَبَرٌ خَيْرٌ مِنْ خَبَرِهِمْ، وَهُوَ عليه السلام،
وَعَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ، وَالْحَسَنُ، وَالْحُسَيْنُ رضي الله عنهم: لاَ تَحِلُّ
لَهُمْ الصَّدَقَةُ أَغْنِيَاءَ كَانُوا أَوْ فُقَرَاءَ. وَقَدْ أَبَاحَ فِي هَذَا
الْخَبَرِ شِرَاءَ الدَّقِيقِ بِالدِّينَارِ، فَإِنَّمَا أَخَذَهُ ابْتِيَاعًا،
ثُمَّ أَهْدَى إلَيْهِ الْيَهُودِيُّ الدِّينَارَ، وَكَذَلِكَ رَهَنَ الدِّينَارَ
فِي اللَّحْمِ، وَالْخَبَرُ الصَّحِيحُ يَكْفِي مِنْ كُلِّ هَذَا. رُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، حَدَّثَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه
(8/268)
قَالَ مَرَّ:" رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرَةٍ مَطْرُوحَةٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ:
لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ لاََكَلْتُهَا "
فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَنِيٌّ لاَ فَقِيرٌ بِشَهَادَةِ
اللَّهِ تَعَالَى لَهُ إذْ يَقُولُ: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} يَسْتَحِلُّ أَكْلَ
اللُّقَطَةِ، وَإِنَّمَا تَوَقَّعَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: هَذَا عَلَى تَحْقِيقِ الصِّفَةِ أَنَّهَا مِنْ الصَّدَقَةِ
لأََنَّهَا لُقَطَةٌ وَهَذَا كَلاَمُ إنْسَانٍ عَدِيمِ عَقْلٍ وَحَيَاءٍ وَدِينٍ ;
لأََنَّهُ كَلاَمٌ لاَ يُعْقَلُ، وَخِلاَفٌ لِمَفْهُومِ لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم وَكَذِبٌ مُجَاهَرٌ بِهِ، بَارِدٌ غَثٌّ وأعجب شَيْءٍ قَوْلُ
بَعْضِهِمْ: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُعْطِيهَا غَنِيًّا
غَيْرُهُ، فَكَانَ هُوَ كَذَلِكَ.
قال أبو محمد : لاَ شَيْءَ أَسْهَلَ مِنْ الْكَذِبِ الْمَفْضُوحِ عِنْدَ هَؤُلاَءِ
الْقَوْمِ، ثُمَّ كَذِبُهُمْ إنَّمَا هُوَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى
رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الإِسْلاَمِ وَعَلَى
الْعُقُولِ، وَالْحَوَاسِّ، لَيْتَ شِعْرِي مَتَى أُجْمِعُ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا،
وَمَنْ أَجْمَعَ مَعَهُمْ عَلَى هَذَا، أَبْقِيَةِ الْجَنْدَلِ، وَالْكَثْكَثِ
وَأَيْنَ وَجَدُوا هَذَا الإِجْمَاعَ بَلْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ وَإِذَا أُدْخِلَتْ
اللُّقَطَةُ فِي مِلْكِهِ بِانْقِضَاءِ الْحَوْلِ الَّذِي عَرَّفَهَا فِيهِ، فَإِنْ
أَعْطَاهَا غَنِيًّا، أَوْ أَغْنِيَاءَ، أَوْ قَارُونُ لَوْ وَجَدَهُ حَيًّا أَوْ
سُلَيْمَانُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ فِي عَصْرِهِ لَكَانَ
ذَلِكَ مُبَاحًا لاَ شَيْءَ مِنْ الْكَرَاهِيَةِ فِيهِ. وَقَالُوا: قَدْ شَكَّ
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ فِي أَمْرِ الْمُلْتَقِطِ بِأَنْ يَسْتَنْفِقَهَا، أَهُوَ
مِنْ قَوْلِ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم وَقَطَعَ مَرَّةً أُخْرَى عَلَى أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ يَزِيدَ قلنا:
وَقَدْ أَسْنَدَهُ يَحْيَى أَيْضًا وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ فِيهِ; لأََنَّهُ
سَمِعَهُ مَرَّةً مُسْنَدً، وَسَمِعَ يَزِيدَ يَقُولُ: مِنْ فَتَيَاهُ أَيْضًا.
ثُمَّ يَقُولُ: لَكِنَّ رَبِيعَةَ لَمْ يَشُكَّ فِي أَنَّهُ قَوْلُ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَشُكَّ بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
رَوَى مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى
الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
" فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهَا ". وَرَوَى
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا
فَشَأْنَكَ بِهَا ". وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ
يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام: فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا فَعَرَفَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ. وَرَوَى
سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَنَّ رَبِيعَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَزِيدَ مَوْلَى
الْمُنْبَعِثِ حَدَّثَهُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ النَّبِيِّ عليه السلام
أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ
وَإِلَّا فَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ . وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيق سَعِيدِ بْنِ
مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ
سَمِعْت رَبِيعَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ، عَنْ زَيْدِ
بْنِ خَالِدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ،
وَفِي
(8/269)
آخِرِهِ: فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَاصْنَعْ بِهَا مَا تَصْنَعُ بِمَالِكَ .
وَرَوَاهُ أَبُو النَّضْرِ مَوْلَى عَمْرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ
بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم فِي اللُّقَطَةِ قَالَ: " عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ لَمْ
تَعْتَرِفْ فَاعْرِفْ عِفَاصَهَا، وَوِكَاءَهَا، ثُمَّ كُلْهَا فَإِنْ جَاءَ
صَاحِبُهَا فَأَدِّهَا إلَيْهِ ". وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ،
حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ: أَنَّ أُبَيَّ
بْنَ كَعْبٍ قَالَ لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهُ فِي
اللُّقَطَةِ: " فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَعَرِّفْ عَدَدَهَا، وَوِكَاءَهَا،
وَوِعَاءَهَا فَأَعْطِهَا إيَّاهُ، وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ ". وَعَلَى هَذَا
دَلَّ حَدِيثُ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، لاَ مِثْلَ تِلْكَ
الْمُلَفَّقَاتِ الْمَكْذُوبَةِ مِنْ مُرْسَلٍ وَمَجْهُولٍ، وَمِنْ لاَ خَيْرَ
فِيهِ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ مِنْ طَرِيقٍ لاَ يَزَالُ الْمُخَالِفُونَ يَحْتَجُّونَ بِهَا
إذَا وَافَقْتهمْ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ
الْحَارِثِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ "أَنَّ
رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى مَا وُجِدَ
فِي الطَّرِيقِ الْمِيْتَاءِ، أَوْ فِي الْقَرْيَةِ الْمَسْكُونَةِ قَالَ: عَرِّفْ
سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ بَاغِيهِ فَادْفَعْهُ إلَيْهِ وَإِلَّا فَشَأْنَكَ بِهِ،
فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنْ الدَّهْرِ فَأَدِّهَا إلَيْهِ ، وَمَا كَانَ
فِي الطَّرِيقِ غَيْرَ الْمِيْتَاءِ، وَفِي الْقَرْيَةِ غَيْرَ الْمَسْكُونَةِ:
فَفِيهِ، وَفِي الرِّكَازِ: الْخُمْسُ . وَأَمَّا نَحْنُ فَهَذِهِ صَحِيفَةٌ لاَ
نَأْخُذُ بِهَا، فَهَذَا حُكْمُ اللُّقَطَةِ مِنْ غَيْرِ الْحَيَوَانِ.
وَأَمَّا الضَّوَالُّ مِنْ الْحَيَوَانِ فَلَهَا ثَلاَثَةُ أَحْكَامٍ: أَمَّا
الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ فَقَطْ كِبَارُهَا وَصِغَارُهَا تُوجَدُ بِحَيْثُ يُخَافُ
عَلَيْهَا الذِّئْبَ، أَوْ مَنْ يَأْخُذُهَا مِنْ النَّاسِ، وَلاَ حَافِظَ لَهَا،
وَلاَ هِيَ بِقُرْبِ مَاءٍ مِنْهَا: فَهِيَ حَلاَلٌ لِمَنْ أَخَذَهَا سَوَاءٌ
جَاءَ صَاحِبُهَا، أَوْ لَمْ يَجِئْ، وَجَدَهَا حَيَّةً، أَوْ مَذْبُوحَةً، أَوْ
مَطْبُوخَةً، أَوْ مَأْكُولَةً لاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا.وَأَمَّا الإِبِلُ
الْقَوِيَّةُ عَلَى الرَّعْيِ، وَوُرُودِ الْمَاءِ: فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ
أَخْذُهَا، وَإِنَّمَا حُكْمُهَا: أَنْ تُتْرَكَ، وَلاَ بُدَّ، فَمَنْ أَخَذَهَا
ضَمِنَهَا إنْ تَلِفَتْ عِنْدَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ تَلِفَتْ وَكَانَ عَاصِيًا
بِذَلِكَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ لُقَطَةٍ،
أَوْ ضَالَّةٍ، يُعَرِّفُ صَاحِبَهَا، فَحُكْمُ كُلِّ ذَلِكَ أَنْ تُرَدَّ
إلَيْهِ، وَلاَ تُعَرَّفُ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا كُلُّ مَا عَدَا مَا ذَكَرْنَا
مِنْ إبِلٍ لاَ قُوَّةَ بِهَا عَلَى وُرُودِ الْمَاءِ وَالرَّعْيِ وَسَائِرُ
الْبَقَرِ، وَالْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، وَالصُّيُودِ كُلِّهَا،
الْمُتَمَلَّكَةِ، وَالأُُبَّاقِ مِنْ الْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ، وَمَا أَضَلَّ
صَاحِبُهُ مِنْهَا، وَالْغَنَمِ الَّتِي تَكُونُ ضَوَالَّ بِحَيْثُ لاَ يُخَافُ
عَلَيْهَا الذِّئْبَ، وَلاَ إنْسَانٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَفَرَضَ أَخْذَهُ
وَضَمَّهُ وَتَعْرِيفَهُ أَبَدًا، فَإِنْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ صَاحِبِهَا
أَدْخَلَهَا الْحَاكِمُ أَوْ وَاجِدُهَا فِي جَمِيعِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ
وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
سَوَاءٌ كَانَ كُلُّ مَا ذَكَرْنَا مِمَّا أَهْمَلَهُ صَاحِبُهُ لِضَرُورَةٍ، أَوْ
لِخَوْفٍ، أَوْ لِهُزَالٍ
(8/270)
أَوْ مِمَّا ضَلَّ، وَلاَ
فَرْقَ. بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ،
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ
رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى الْمُنْبَعِثِ،
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم سُئِلَ، عَنِ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: عَرِّفْهَا سَنَةً ثُمَّ اعْرِفْ
وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا ثُمَّ اسْتَنْفِقْ بِهَا، فَإِنْ جَاءَ رَبُّهَا
فَأَدِّهَا إلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَضَالَّةُ الْغَنَمِ قَالَ:
خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأََخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ فَضَالَّةُ الإِبِلِ فَغَضِبَ عليه السلام حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ
أَوْ احْمَرَّ وَجْهُهُ وَقَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا
وَسِقَاؤُهَا حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا ". وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ
نَا إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ
بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى
الْمُنْبَعِثِ أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ الْجُهَنِيَّ يَقُولُ: سُئِلَ
رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَكَ أَوْ لأََخِيكَ أَوْ
لِلذِّئْبِ فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي ضَالَّةِ الإِبِلِ قَالَ: دَعْهَا، فَإِنَّ
مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى
يَجِدَهَا رَبُّهَا فَأَمَرَ عليه السلام بِأَخْذِ ضَالَّةِ الْغَنَمِ الَّتِي
يَخَافُ عَلَيْهَا الذِّئْبَ أَوْ الْعَادِي وَيَتْرُكُ الإِبِلَ الَّتِي تَرِدُ
الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَخَصَّهَا بِذَلِكَ دُونَ سَائِرِ اللُّقَطَاتِ
وَالضَّوَالِّ فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ خِلاَفُ ذَلِكَ.
قال أبو محمد: وَأَمَّا مَا عَرَفَ رَبُّهُ فَلَيْسَ ضَالَّةً ; لأََنَّهَا لَمْ
تَضِلَّ جُمْلَةً، بَلْ هِيَ مَعْرُوفَةٌ وَإِنَّمَا الضَّالَّةُ مَا ضَلَّتْ
جُمْلَةً فَلَمْ يَعْرِفْهَا صَاحِبُهَا أَيْنَ هِيَ، وَلاَ عَرَفَ وَاجِدُهَا
لِمَنْ هِيَ، وَهِيَ الَّتِي أَمَرَ عليه السلام بِنَشْدِهَا. وَبَقِيَ حُكْمُ
الْحَيَوَانِ كُلِّهِ حَاشَا مَا ذَكَرْنَا مَوْقُوفًا عَلَى قَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَمِنْ الْبِرِّ
وَالتَّقْوَى إحْرَازُ مَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ. وَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ
حَرَامٌ فَلاَ يَحِلُّ لأََحَدٍ مِنْ مَالِ أَحَدٍ إِلاَّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ
تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ
قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلَى عُمَّالِهِ لاَ تَضُمُّوا الضَّوَالَّ
فَلَقَدْ كَانَتْ الإِبِلُ تَتَنَاتَجُ هَمَلاً وَتَرِدُ الْمِيَاهَ لاَ يَعْرِضُ
لَهَا أَحَدٌ حَتَّى يَأْتِيَ مَنْ يَعْتَرِفُهَا فَيَأْخُذُهَا، حَتَّى إذَا
كَانَ عُثْمَانُ كَتَبَ: أَنْ ضُمُّوهَا وَعَرِّفُوهَا فَإِنْ جَاءَ مَنْ
يَعْرِفُهَا وَإِلَّا فَبِيعُوهَا وَضَعُوا أَثْمَانَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ
جَاءَ مَنْ يَعْتَرِفُهَا فَادْفَعُوا إلَيْهَم الأَثْمَانَ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ
وَرْدَانَ سَأَلْت سَالِمَ بْنَ
(8/271)
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،
عَنِ الشَّاةِ تُوجَدُ بِالأَرْضِ الَّتِي لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ، فَقَالَ لِي:
عَرِّفْهَا مَنْ دَنَا لَك، فَإِنْ عُرِفَتْ فَادْفَعْهَا إلَى مَنْ عَرَفَهَا
وَإِلَّا فَشَاتُك وَشَاةُ الذِّئْبِ فَكُلْهَا. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ،
حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ وَرْدَانَ قَالَ: سَأَلْت سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ، عَنْ ضَالَّةِ الإِبِلِ فَقَالَ: مَعَهَا سِقَاؤُهَا وَحِذَاؤُهَا
دَعْهَا إِلاَّ أَنْ تَعْرِفَ صَاحِبَهَا فَتَدْفَعُهَا إلَيْهِ. وَرُوِّينَا مِنْ
طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ: وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ كِلاَهُمَا،
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ امْرَأَتِهِ قَالَ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ
إلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَتْ: إنِّي وَجَدْت شَاةً فَقَالَتْ:
اعْلِفِي وَاحْلِبِي وَعَرِّفِي، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،
فَقَالَتْ: تُرِيدِينَ أَنْ آمُرُك بِذَبْحِهَا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ
ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ، عَنْ ضَالَّةٍ وَجَدَهَا فَقَالَ لَهُ
ابْنُ عُمَرَ: أَصْلِحْ إلَيْهَا وَانْشُدْ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ إنْ شَرِبْت
مِنْ لَبَنِهَا قَالَ: مَا أَرَى عَلَيْك فِي ذَلِكَ. وقال أبو حنيفة،
وَأَصْحَابُهُ: تُؤْخَذُ ضَالَّةُ الإِبِلِ كَمَا تُؤْخَذُ غَيْرُهَا. وقال
الشافعي: مَا كَانَ مِنْ الْخَيْلِ، وَالْبَقَرِ، وَالْبِغَالِ، قَوِيًّا يَرِدُ
الْمَاءَ، وَيَرْعَى لَمْ يُؤْخَذْ قِيَاسًا عَلَى الإِبِلِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا
وَمِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ لاَ يَمْتَنِعُ أُخِذَ. وقال أبو حنيفة،
وَالشَّافِعِيُّ: مَنْ أَخَذَ ضَالَّةً مِنْ الْغَنَمِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا إنْ
أَكَلَهَا وقال مالك: أَمَّا ضَالَّةُ الْغَنَمِ فَمَا كَانَ بِقُرْبِ الْقُرَى
فَلاَ يَأْكُلُهَا، وَلَكِنْ يَضْمَنُهَا إلَى أَقْرَبِ الْقُرَى، فَيُعَرِّفُهَا
هُنَالِكَ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْفَلَوَاتِ وَالْمَهَامِهِ، فَإِنَّهُ
يَأْكُلُهَا أَوْ يَأْخُذُهَا، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَوَجَدَهَا حَيَّةً
فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، وَإِنْ وَجَدَهَا مَأْكُولَةً فَلاَ شَيْءَ لَهُ، وَلاَ
يَضْمَنُهَا لَهُ وَاجِدُهَا الَّذِي أَكَلَهَا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِيهَا
إنْ وَجَدَهَا مَذْبُوحَةً لَمْ تُؤْكَلْ بَعْدُ. قَالَ: وَأَمَّا الْبَقَرُ
فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهَا السَّبْعَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْغَنَمِ، وَإِنْ لَمْ
يُخَفْ عَلَيْهَا السَّبْعَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الإِبِلِ يُتْرَكُ كُلُّ ذَلِكَ،
وَلاَ يُعْتَرَضُ لَهُ، وَلاَ يُؤْخَذُ. وَأَمَّا الْخَيْلُ، وَالْبِغَالُ،
وَالْحَمِيرُ، فَلْتُعَرَّفْ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا.
قال أبو محمد: أَمَّا تَقْسِيمُ مَالِكٍ فَخَطَأٌ; لأََنَّهُ لَمْ يَتْبَعْ
النَّصَّ، إذْ فَرَّقَ بَيْنَ أَحْوَالِ وُجُودِ ضَالَّةِ الْغَنَمِ، وَلَيْسَ فِي
النَّصِّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ تَفْرِيقُهُ بَيْنَ وُجُودِ الشَّاةِ
صَاحِبُهَا حَيَّةً أَوْ مَأْكُولَةً، فَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
أَصْلاً لاَ بِنَصٍّ، وَلاَ بِدَلِيلٍ، وَلاَ الْقِيَاسَ طَرَدَ، وَلاَ قَوْلٍ
مُتَقَدِّمٍ الْتَزَمَ ; لأََنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لاَ يُبِيحَ الشَّاةَ
لِوَاجِدِهَا أَصْلاً، كَمَا لاَ يُبِيحُ سَائِرَ اللُّقَطَاتِ، إِلاَّ إنْ كَانَ
فَقِيرًا بَعْدَ تَعْرِيفِ عَامٍ، وَلاَ نَعْلَمُ فُرُوقَهُ هَذِهِ، عَنْ أَحَدٍ
قَبْلَهُ، وَلاَ نَعْلَمُ لِقَوْلِهِ حُجَّةً أَصْلاً. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ
فَإِنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كُلَّهُ جِهَارًا
فَمَنَعَ مِنْ الشَّاةِ جُمْلَةً، وَأَمَرَ بِأَخْذِ ضَالَّةِ الإِبِلِ وَقَدْ
غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ غَضَبًا احْمَرَّ لَهُ
وَجْهُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، فأما هُوَ يَعْنِي أَبَا حَنِيفَةَ
فَيُعْذَرُ لِجَهْلِهِ بِالآثَارِ، وَأَمَّا هَؤُلاَءِ الْخَاسِرُونَ فَوَاَللَّهِ
(8/272)
مَا لَهُمْ عُذْرٌ، بَلْ هُمْ قَدْ أَقْدَمُوا عَلَى مَا أَغْضَبَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلاَنِيَةً، فَحَصَلُوا فِي جُمْلَةِ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} فَمَا أَخْوَفُنَا عَلَيْهِمْ مِنْ تَمَامِ الآيَةِ لأََنَّ الْحُجَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الأَمْوَالَ حَرَامٌ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهَا، وَوَاجِبٌ حِفْظُهَا، فَلاَ نَأْخُذُ بِخِلاَفِ ذَلِكَ بِخَبَرٍ وَاحِدٍ قلنا لَهُمْ: قَدْ أَخَذْتُمْ بِذَلِكَ الْخَبَرِ بِعَيْنِهِ فِيمَا أَنْكَرْتُمُوهُ نَفْسَهُ فَأَمَرْتُمْ بِإِتْلاَفِهَا بِالصَّدَقَةِ بِهَا بَعْدَ تَعْرِيفِ سَنَةً، فَمَرَّةً صَارَ عِنْدَكُمْ الْخَبَرُ حُجَّةً، وَمَرَّةً صَارَ عِنْدَكُمْ بَاطِلاً، وَهُوَ ذَلِكَ الْخَبَرُ بِعَيْنِهِ فَمَا هَذَا الضَّلاَلُ وَقَدْ رُوِّينَا لَهُمْ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَابْنِ عُمَرَ: إبَاحَةَ شُرْبِ لَبَنِ الضَّالَّةِ، وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَنَقَضَ أَصْلَهُ وَلَمْ يَرَ أَخْذَ الشَّاةِ، وَأَقْحَمَ فِي حُكْمِ الْخَبَرِ مَا لَيْسَ فِيهِ، فَأَلْحَقَ بِالإِبِلِ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي النَّصِّ، وَجَعَلَ وُرُودَ الْمَاءِ، وَرَعْيَ الشَّجَرِ عِلَّةً قَاسَ عَلَيْهَا، وَلاَ دَلِيلَ لَهُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، وَإِنَّ الشَّاةَ لَتَرِدُ الْمَاءَ، وَتَرْعَى مَا أَدْرَكَتْ مِنْ الشَّجَرِ، كَمَا تَفْعَلُ الإِبِلُ، وَيَمْتَنِعُ مِنْهَا مَا لَمْ تُدْرِكْهُ، كَمَا يَمْتَنِعُ عَلَى الإِبِلِ مَا لاَ تُدْرِكُهُ، وَإِنَّ الذِّئْبَ لَيَأْكُلُ الْبَعِيرَ كَمَا يَأْكُلُ الشَّاةَ، وَلاَ مَنَعَةَ عِنْدَ الْبَعِيرِ مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ الْبَقَرُ فَقَطْ هَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَقَالُوا: قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: " هِيَ لَكَ أَوْ لأََخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ " لَيْسَ تَمْلِيكًا لِلذِّئْبِ، فَكَذَلِكَ لَيْسَ تَمْلِيكًا لِلْوَاجِدِ .فَقُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ مِنْ قَوْلِكُمْ، لأََنَّ الذِّئْبَ لاَ يَمْلِكُ وَالْوَاجِدُ يَمْلِكُ، وَالْوَاجِدُ مُخَاطَبٌ، وَالذِّئْبُ لَيْسَ مُخَاطَبًا، وَقَدْ أُمِرَ الْوَاجِدُ بِأَخْذِهَا، فَزِيَادَتُكُمْ كَاذِبَةٌ مَرْدُودَةٌ عَلَيْكُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فَظَهَرَ سُقُوطُ هَذِهِ الأَقْوَالِ كُلِّهَا بِتَيَقُّنٍ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخَذَ بِبَعْضِ الْخَبَرِ وَجَعَلَهُ حُجَّةً وَتَرَكَ بَعْضَهُ وَلَمْ يَرَهُ حُجَّةً. وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ: فَأَخَذَ هَذَا مَا تَرَكَ هَذَا، وَتَرَكَ هَذَا مَا أَخَذَ الآخَرُ، وَهَذَا مَا لاَ طَرِيقَ لِلصَّوَابِ إلَيْهِ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. وَلَئِنْ كَانَ الْخَبَرُ حُجَّةً فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّهُ لَحُجَّةٌ فِي كُلِّ مَا فِيهِ، إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَ مُخَالَفَةٌ لَهُ بِنَاسِخٍ مُتَيَقَّنٍ، وَإِنْ كَانَ لَيْسَ حُجَّةً فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَكُلُّهُ لَيْسَ حُجَّةً، وَالتَّحَكُّمُ فِي أَوَامِرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَجُوزُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
(8/273)
كتاب اللقيط
إن وجد صغير منبوذ ففرض على من بحضرته أن يقوم به ولا بد
...
كِتَابُ اللَّقِيطِ
1384 - مَسْأَلَةٌ - إنْ وُجِدَ صَغِيرٌ مَنْبُوذٌ فَفَرْضٌ عَلَى مَنْ
بِحَضْرَتِهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ، وَلاَ بُدَّ،
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَلاَ
تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. وَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} . وَلاَ إثْمَ أَعْظَمَ مِنْ
إثْمِ مَنْ أَضَاعَ نَسَمَةً مَوْلُودَةً عَلَى الإِسْلاَمِ صَغِيرَةً لاَ ذَنْبَ
لَهَا حَتَّى تَمُوتَ جُوعًا وَبَرْدًا
(8/273)
أَوْ تَأْكُلَهُ الْكِلاَبُ هُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ عَمْدًا بِلاَ شَكٍّ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ لاَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ ".
(8/274)
اللقيط حر لا ولاء عليه لأحد
...
1385 - مَسْأَلَةٌ - وَاللَّقِيطُ حُرٌّ، وَلاَ وَلاَءَ عَلَيْهِ لأََحَدٍ
لأََنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَوْلاَدُ آدَمَ وَزَوْجِهِ حَوَّاءَ عليهما السلام
وَهُمَا حُرَّانِ وَأَوْلاَدُ الْحُرَّةِ أَحْرَارٌ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ
فَكُلُّ أَحَدٍ فَهُوَ حُرٌّ إِلاَّ أَنْ يُوجِبَ نَصُّ قُرْآنٍ، أَوْ سُنَّةٍ،
وَلاَ نَصَّ فِيهِمَا يُوجِبُ إرْقَاقَ اللَّقِيطِ، وَإِذْ لاَ رِقَّ عَلَيْهِ
فَلاَ وَلاَءَ لأََحَدٍ عَلَيْهِ ; لأََنَّهُ لاَ وَلاَءَ إِلاَّ بَعْدَ صِحَّةِ
رِقٍّ عَلَى الْمَرْءِ، أَوْ عَلَى أَبٍ لَهُ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ
بِنَسَبِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا الْوَلاَءُ
لِمَنْ أَعْتَقَ " وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَدَاوُد. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله
عنه مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سِنِينَ
أَبِي جَمِيلَةَ أَنَّهُ وَجَدَ مَنْبُوذًا فَأَتَى بِهِ إلَى عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: هُوَ حُرٌّ، وَوَلاَؤُهُ لَك، وَنَفَقَتُهُ مِنْ
بَيْتِ الْمَالِ. وَرُوِّينَا أَيْضًا هَذَا، عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ جَعَلَ
وَلاَءَ اللَّقِيطِ لِمَنْ الْتَقَطَهُ وَصَحَّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مَا
رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ
مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: اللَّقِيطُ
عَبْدٌ. وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ كَمَا رُوِّينَا
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ،
عَنْ سُلَيْمَانَ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ حَوْطٍ، عَنْ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: هُمْ مَمْلُوكُونَ يَعْنِي
اللُّقَطَاءَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، هُوَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ رَجُلٍ
مِنْ الأَنْصَارِ قَالَ: إنَّ عَمْرًا أَعْتَقَ لَقِيطًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ
أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ زُهَيْرٍ
الْعَنْسِيّ أَنَّ رَجُلاً الْتَقَطَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ عَلِيَّ بْنَ أَبِي
طَالِبٍ فَأَعْتَقَهُ.
قال أبو محمد: لاَ يَعْتِقُ إِلاَّ مَمْلُوكٌ. قَالَ عَلِيٌّ: فإن قيل: قَدْ
رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ قَالَ: سَأَلْت حَمَّادَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَالْحَكَمَ، عَنِ
اللَّقِيطِ فَقَالاَ جَمِيعًا: هُوَ حُرٌّ فَقُلْت: عَمَّنْ؟ فَقَالَ الْحَكَمُ:
عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيٍّ. وَرَوَيْتُمْ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ
زُهَيْرِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، وَمُوسَى الْجُهَنِيِّ قَالَ مُوسَى: رَأَيْت وَلَدَ
زِنًا أَلْحَقَهُ عَلِيٌّ فِي مَائِهِ. وَقَالَ زُهَيْرٌ، عَنْ ذُهْلِ بْنِ
أَوْسٍ، عَنْ تَمِيمِ بْنِ مَسِيحٍ قَالَ: وَجَدْت لَقِيطًا فَأَتَيْت بِهِ
عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَأَلْحَقَهُ فِي مَائِهِ قلنا: لَيْسَ فِي هَذَا
خِلاَفٌ لِمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ ; لأََنَّ قَوْلَ عُمَرَ هُوَ حُرٌّ، وَقَوْلَ
الْحَسَنِ، عَنْ عَلِيٍّ هُوَ حُرٌّ، إذَا ضُمَّ إلَى مَا رُوِيَ عَنْهُمَا مِنْ
أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَعْتَقَ اللَّقِيطَ، مَعَ مَا رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ
مِنْ أَنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ، وَأَنَّ وَلاَءَهُ لِمَنْ وَجَدَهُ، اتَّفَقَ كُلُّ
ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُمَا
(8/274)
رضي الله عنهما هُوَ حُرٌّ
أَنَّهُ إعْتَاقٌ مِنْهُمَا لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَإِنَّ الْعَجَبَ
لَيَطُولُ مِمَّنْ تَرَكَ السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ لِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي
كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ "الْبَيْعُ، عَنْ
صَفْقَةٍ أَوْ خِيَارٍ" وَلَوْ سَمِعْنَا هَذَا مِنْ عُمَرَ لَمَا كَانَ
خِلاَفًا لِلسُّنَّةِ فِي أَنَّ الْبَيْعَيْنِ لاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى
يَتَفَرَّقَا، أَوْ يُخَيِّرَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، بَلْ كَانَ يَكُونُ مُوَافِقًا
لِلسُّنَّةِ، فَالصَّفْقَةُ التَّفَرُّقُ، وَالْخِيَارُ التَّخْيِيرُ، ثُمَّ لاَ
يَجْعَلُ مَا رَوَى سُنَيْنٌ وَلَهُ صُحْبَةٌ، عَنْ عُمَرَ حُجَّةً، وَمَا رَوَاهُ
إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ حُجَّةٌ، عَنْ عُمَرَ، وَهُوَ وَاَللَّهِ أَجَلُّ
وَأَوْضَحُ مِنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، وَلاَ يُعْرَفُ لِعُمَرَ، وَعَلِيٍّ
هَهُنَا مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، لاَ سِيَّمَا وَقَدْ جَاءَ
أَثَرٌ هُمْ أَبَدًا يَأْخُذُونَ بِمَا دُونَهُ: وَهُوَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ
طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْجَهْمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ
الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَحَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ الْخَوْلاَنِيِّ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ رُؤْبَةَ قَالَ:
سَمِعْت عَبْدَ الْوَاحِدِ النَّصْرِيَّ يَقُولُ: سَمِعْت وَاثِلَةَ بْنَ
الأَسْقَعِ يَقُولُ: " إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تُحْرِزُ
الْمَرْأَةُ ثَلاَثَةَ مَوَارِيثَ، لَقِيطَهَا، وَعَتِيقَهَا، وَوَلَدَهَا الَّذِي
لاَ عَنَتْ عَلَيْهِ ".
قال أبو محمد : عُمَرُ بْنُ رُؤْبَةَ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ النَّصْرِيُّ
مَجْهُولاَنِ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ، وَأَمَّا هُمْ فَلاَ يُبَالُونَ
بِهَذَا، وَلاَ أَحَدٌ إِلاَّ وَهُوَ أَعْرَفُ وَأَشْهَرُ مِنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي
كِنَانَةَ، وَقَدْ تَرَكُوا السُّنَّةَ الثَّابِتَةَ لِرِوَايَتِهِ. فَإِنْ
قَالُوا: وَبِأَيِّ وَجْهٍ يَرِقُّ وَأَصْلُهُ الْحُرِّيَّةُ قلنا: يَا سُبْحَانَ
اللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسِيتُمْ أَنْفُسَكُمْ، أَوَ لَسْتُمْ
الْقَائِلِينَ: إنَّ رَجُلاً قُرَشِيًّا لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدًّا
هُوَ وَامْرَأَتُهُ الْقُرَشِيَّةُ مُرْتَدَّةً، فَوَلَدَتْ هُنَالِكَ أَوْلاَدًا،
فَإِنَّ أَوْلاَدَهُمْ أَرِقَّاءُ مَمْلُوكُونَ يُبَاعُونَ. وَقَالَ
الْحَنَفِيُّونَ: إنَّ تِلْكَ الْقُرَشِيَّةَ تُبَاعُ وَتُتَمَلَّكُ، أَوْ لَيْسَ
الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ إمَّا، عَنْ مَالِكٍ وَأَمَّا عَلَى مَا
عُرِفَ مِنْ أَصْلِ مَالِكٍ أَنَّ أَهْلَ دَارِ الْحَرْبِ لَوْ صَارُوا ذِمَّةً
سُكَّانًا بَيْنَنَا، أَوْ بِأَيْدِيهِمْ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
أَحْرَارٌ وَحَرَائِرُ، أَسَرُوهُمْ وَبَقُوا عَلَى الإِسْلاَمِ فِي حَالِ
أَسْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ مَمْلُوكُونَ لأََهْلِ الذَّمَّةِ مِنْ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى يَتَبَايَعُونَهُمْ مَتَى شَاءُوا، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَنْهُ فِي
الْمُسْتَخْرَجَةِ، فَأَيُّمَا أَشْنَعُ وَأَفْظَعُ، هَذَا كُلُّهُ، أَوْ إرْقَاقُ
لَقِيطٍ لاَ يَدْرِي، عَنْ أُمِّهِ أَحُرَّةٌ أَمْ أَمَةٌ حَتَّى لَقَدْ
أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَكْرِيُّ التَّدْمِيرِيُّ وَمَا
عَلِمْت فِيهِمْ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَلاَ أُصَدِّقُ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ كِبَارِهِمْ
أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي أَنَّ التَّاجِرَ، أَوْ الرَّسُولَ، إذَا ==
------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق