Translate سيت..7770...

الأحد، 3 أبريل 2022

مجلد 4.ى من 13. {كتاب :4. المحلى أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلس}

 

الكتاب :4. المحلى أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ)

يبطل الصوم تعمد كل معصية

...
734 - مَسْأَلَةٌ: وَيُبْطِلُ الصَّوْمَ أَيْضًا تَعَمُّدُ كُلِّ مَعْصِيَةٍ أَيِّ مَعْصِيَةٍ كَانَتْ,
لاَ نُحَاشِ شَيْئًا إذَا فَعَلَهَا عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ, كَمُبَاشَرَةِ مَنْ لاَ يَحِلُّ لَهُ مِنْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ, أَوْ تَقْبِيلِ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ الْمُبَاحَتَيْنِ لَهُ مِنْ أُنْثَى أَوْ ذَكَرٍ, أَوْ إتْيَانٍ فِي دُبُرِ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا, أَوْ كَذِبٍ, أَوْ غِيبَةٍ, أَوْ نَمِيمَةٍ, أَوْ تَعَمُّدِ تَرْكِ صَلاَةٍ, أَوْ ظُلْمٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا حَرُمَ عَلَى الْمَرْءِ فِعْلُهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حدثنا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الزَّيَّاتِ هُوَ السَّمَّانُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالصِّيَامُ جُنَّةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلاَ يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ, وَلاَ يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ".
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ, فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلاَ يَرْفُثْ، وَلاَ يَجْهَلْ, فَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ".
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا آدَم بْنُ أَبِي إيَاسٍ، حدثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ

(6/177)


فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى عَلَى امْرَأَتَيْنِ صَائِمَتَيْنِ تَغْتَابَانِ النَّاسَ فَقَالَ لَهُمَا: "قِيئَا, فَقَاءَتَا قَيْحًا وَدَمًا وَلَحْمًا عَبِيطًا", ثُمَّ قَالَ عليه السلام: "هَا إنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا، عَنِ الْحَلاَلِ وَأَفْطَرَتَا عَلَى الْحَرَامِ".
قال أبو محمد: فَنَهَى عليه السلام، عَنِ الرَّفَثِ وَالْجَهْلِ فِي الصَّوْمِ, فَكَانَ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَامِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ لَمْ يَصُمْ كَمَا أُمِرَ, وَمَنْ لَمْ يَصُمْ كَمَا أُمِرَ, فَلَمْ يَصُمْ, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالصِّيَامِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, وَهُوَ السَّالِمُ مِنْ الرَّفَثِ وَالْجَهْلِ, وَهُمَا اسْمَانِ يَعُمَّانِ كُلَّ مَعْصِيَةٍ; وَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ مَنْ لَمْ يَدَعْ الْقَوْلَ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ الزُّورُ وَلَمْ يَدَعْ الْعَمَلَ بِهِ فَلاَ حَاجَةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِي تَرْكِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لاَ يَرْضَى صَوْمَهُ ذَلِكَ، وَلاَ يَتَقَبَّلُهُ, وَإِذَا لَمْ يَرْضَهُ، وَلاَ قَبِلَهُ فَهُوَ بَاطِلٌ سَاقِطٌ; وَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّ الْمُغْتَابَةَ مُفْطِرَةٌ وَهَذَا مَا لاَ يَسَعُ أَحَدًا خِلاَفُهُ.
وَقَدْ كَابَرَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنَّمَا يَبْطُلُ أَجْرُهُ لاَ صَوْمُهُ.
قال أبو محمد: فَكَانَ هَذَا فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ وَبِالضَّرُورَةِ يَدْرِي كُلُّ ذِي حِسٍّ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ أَحْبَطَ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَ عَامِلِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَحْتَسِبْ لَهُ بِذَلِكَ الْعَمَلَ، وَلاَ قَبِلَهُ, وَهَذَا هُوَ الْبُطْلاَنُ بِعَيْنِهِ بِلاَ مِرْيَةٍ.
وَبِهَذَا يَقُولُ السَّلَفُ الطَّيِّبُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ, وَهُشَيْمٌ كِلاَهُمَا، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ, قَالَ هُشَيْمٌ: عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لَيْسَ الصِّيَامُ مِنْ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَحْدَهُ; وَلَكِنَّهُ مِنْ الْكَذِبِ, وَالْبَاطِلِ وَاللَّغْوِ.
وَعَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ مِثْلُهُ نَصًّا.

(6/178)


وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى قَالَ قَالَ جَابِرٌ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إذَا صُمْت فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ, وَبَصَرُكَ, وَلِسَانُكَ، عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَأْثَمِ, وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ, وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ, وَلاَ تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَيَوْمَ صَوْمِكَ سَوَاءً.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ أَبِي الْعُمَيْسِ هُوَ عُتْبَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ أَخِيهِ طَلِيقِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ: إذَا صُمْت فَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْت, فَكَانَ طَلِيقٌ إذَا كَانَ يَوْمُ صِيَامِهِ دَخَلَ فَلَمْ يَخْرُجْ إلاَّ إلَى صَلاَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ حَمَّادٍ الْبَكَّاءِ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: إذَا اغْتَابَ الصَّائِمُ أَفْطَرَ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمِ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابُهُ إذَا صَامُوا جَلَسُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا.
فَهَؤُلاَءِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، عُمَرُ, وَأَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَأَنَسٌ, وَجَابِرٌ, وَعَلِيٌّ: يَرَوْنَ بُطْلاَنَ الصَّوْمِ بِالْمَعَاصِي, لأَنَّهُمْ خَصُّوا الصَّوْمَ بِاجْتِنَابِهَا وَإِنْ كَانَتْ حَرَامًا عَلَى الْمُفْطِرِ, فَلَوْ كَانَ الصِّيَامُ تَامًّا بِهَا مَا كَانَ لِتَخْصِيصِهِمْ الصَّوْمَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا مَعْنًى, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ التَّابِعِينَ: مَنْصُورٌ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا أَصَابَ الصَّائِمُ شَوًى إلاَّ الْغِيبَةَ, وَالْكَذِبَ.
وَعَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ: الصِّيَامُ جُنَّةٌ; مَا لَمْ يَخْرِقْهَا صَاحِبُهَا, وَخَرْقُهَا: الْغِيبَةُ.
وَعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ: إنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: الْكَذِبُ يُفْطِرُ الصَّائِمَ.

(6/179)


قال أبو محمد: وَنَسْأَلُ مَنْ خَالَفَ هَذَا، عَنِ الأَكْلِ لِلَحْمِ الْخِنْزِيرِ, وَالشُّرْبِ لِلْخَمْرِ عَمْدًا: أَيُفْطِرُ الصَّائِمَ أَمْ لاَ فَمِنْ قَوْلِهِمْ: نَعَمْ.
فَنَقُولُ لَهُمْ: وَلِمَ ذَلِكَ؟
فَإِنْ قَالُوا: لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُمَا فِيهِ.
قلنا لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الْمَعَاصِي; لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا فِي الصَّوْمِ أَيْضًا بِالنَّصِّ الَّذِي ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قَالُوا: وَغَيْرُ الصَّائِمِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ، عَنِ الْمَعَاصِي.
قلنا لَهُمْ: وَغَيْرُ الصَّائِمِ أَيْضًا مَنْهِيٌّ، عَنِ الْخَمْرِ, وَالْخِنْزِيرِ, وَلاَ فَرْقَ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا نُهِيَ، عَنِ الأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَلاَ نُبَالِي أَيَّ شَيْءٍ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ.
قلنا: وَإِنَّمَا نُهِيَ، عَنِ الْمَعَاصِي فِي صَوْمِهِ، وَلاَ نُبَالِي بِمَا عَصَى, أَبِأَكْلٍ وَشُرْبٍ, أَمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
فَإِنْ قَالُوا: إنَّمَا أَفْطَرَ بِالأَكْلِ وَالشُّرْبِ.لِلإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ مُفْطِرٌ بِهِمَا.
قلنا: فَلاَ تُبْطِلُوا الصَّوْمَ إلاَّ بِمَا أُجْمِعَ عَلَى بُطْلاَنِهِ بِهِ وَهَذَا يُوجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تُبْطِلُوهُ بِأَكْلِ الْبَرَدِ، وَلاَ بِكَثِيرٍ مِمَّا أَبْطَلْتُمُوهُ بِهِ كَالسَّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا فَاسِدًا مِنْ الْقِيَاسِ وَكَانَ أَصَحُّ أُصُولِكُمْ أَنْ تَقِيسُوا بُطْلاَنَ الصَّوْمِ بِجَمِيعِ الْمَعَاصِي عَلَى بُطْلاَنِهِ بِالْمَعْصِيَةِ بِالأَكْلِ, وَالشُّرْبِ, وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالُوا: لَيْسَ اجْتِنَابُ الْمَعَاصِي مِنْ شُرُوطِ الصَّوْمِ.
قلنا: كَذَبْتُمْ لإِنَّ النَّصَّ قَدْ صَحَّ بِأَنَّهُ مِنْ شُرُوطِ الصَّوْمِ كَمَا أَوْرَدْنَا.
فَإِنْ قَالُوا: تِلْكَ الأَخْبَارُ زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ.
قلنا: وَإِبْطَالُكُمْ الصَّوْمَ بِالسَّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ, وَالإِمْنَاءِ مَعَ التَّقْبِيلِ زِيَادَةٌ فَاسِدَةٌ بَاطِلَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ فَتَرَكْتُمْ زِيَادَةَ الْحَقِّ, وَأَثْبَتُّمْ زِيَادَةَ الْبَاطِلِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/180)


735 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ تَعَمَّدَ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ,
وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ إنْ كَانَ فِي رَمَضَانَ أَوْ فِي نَذْرٍ مُعَيَّنٍ, إلاَّ فِي تَعَمُّدِ الْقَيْءِ خَاصَّةً فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ فِي تَعَمُّدِ الْقَيْءِ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِمَسْأَلَتَيْنِ; وَلَمْ يَأْتِ فِي فَسَادِ الصَّوْمِ بِالتَّعَمُّدِ لِلأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ

(6/180)


أَوْ الْوَطْءِ: نَصٌّ بِإِيجَابِ الْقَضَاءِ, وَإِنَّمَا افْتَرَضَ تَعَالَى رَمَضَانَ لاَ غَيْرَهُ عَلَى الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ, فَإِيجَابُ صِيَامِ غَيْرِهِ بَدَلاً مِنْهُ إيجَابُ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ, فَهُوَ بَاطِلٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوجِبَ اللَّهُ تَعَالَى صَوْمَ شَهْرٍ مُسَمًّى فَيَقُولُ قَائِلٌ: إنَّ صَوْمَ غَيْرِهِ يَنُوبُ عَنْهُ, بِغَيْرِ نَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ: وَبَيْنَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْحَجَّ إلَى غَيْرِ مَكَّةَ يَنُوبُ، عَنِ الْحَجِّ إلَى مَكَّةَ, وَالصَّلاَةَ إلَى غَيْرِ الْكَعْبَةِ تَنُوبُ، عَنِ الصَّلاَةِ إلَى الْكَعْبَةِ, وَهَكَذَا فِي كُلِّ شَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا}. وَقَالَ تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا كُلَّ مُفْطِرٍ بِعَمْدٍ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُتَّقِي عَمْدًا.
قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ نَقَضَ هَذَا الْقِيَاسَ فَأَكْثَرُهُمْ لَمْ يَقِسْ الْمُفْطِرَ عَمْدًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْقَيْءِ عَمْدًا فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُمْ كَسُقُوطِهَا، عَنِ الْمُتَّقِي عَمْدًا, وَهُمْ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ: قَاسُوهُمْ عَلَى الْمُفْطِرِ بِالْقَيْءِ عَمْدًا, وَلَمْ يَقِيسُوهُمْ كُلَّهُمْ عَلَى الْمُجَامِعِ عَمْدًا فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ; فَقَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ الَّذِي يَدَّعُونَ فَإِنْ وُجِدَ مَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْكُلِّ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ كُلِّمَ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ فَقَطْ.
فَإِنْ ذَكَرُوا أَخْبَارًا وَرَدَتْ فِي إيجَابِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُتَعَمِّدِ لِلْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ قِيلَ: تِلْكَ آثَارٌ لاَ يَصِحُّ فِيهَا شَيْءٌ.
لإِنَّ أَحَدَهَا: مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ الَّذِي أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ وَأَنْ يَصُومَ يَوْمًا", وَأَبُو أُوَيْسٍ ضَعِيفٌ, ضَعَّفَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ.
وَالثَّانِي: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِأَنْ يَصُومَ يَوْمًا", وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ضَعَّفَهُ أَحْمَدُ ابْنُ حَنْبَلٍ, وَابْنُ مَعِينٍ, وَغَيْرُهُمَا, وَلَمْ يَسْتَجِزْ الرِّوَايَةَ عَنْهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ.

(6/181)


وَالثَّالِثُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ: "اقْضِ يَوْمًا مَكَانَهُ", وَعَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ عُمَرَ: ضَعِيفٌ, ضَعَّفَهُ الْبُخَارِيُّ, وَقَالَ ابْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَيْءٍ, وَقَالَ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ: هُوَ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
وَالرَّابِعُ: رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَمَرَ الْوَاطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنْ يَصُومَ يَوْمًا مَكَانَهُ", وَهَذَا أَسْقَطَهَا كُلَّهَا لإِنَّ الْحَجَّاجَ لاَ شَيْءَ, ثُمَّ هِيَ صَحِيفَةٌ.
وَرُوِّينَاهُ مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ الْمَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ; كُلِّهِمْ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِقَضَاءِ يَوْمٍ". وَهَذَا كُلُّهُ مُرْسَلٌ, وَلاَ تَقُومُ بِالْمُرْسَلِ حُجَّةٌ.
وَتَاللَّهِ لَوْ صَحَّ مِنْهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ مُسْنَدٌ مِنْ طَرِيقِ الثِّقَاتِ لَسَارَعْنَا إلَى الْقَوْلِ بِهِ.
فَإِنْ لَجُّوا وَقَالُوا: الْمُرْسَلُ حُجَّةٌ, وَلاَ نُضَعِّفُ الْمُحَدِّثِينَ!!
قلنا لَهُمْ: فَلاَ عَلَيْكُمْ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور، حدثنا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حدثنا مُطَرِّفُ بْنُ قَيْسٍ، حدثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حدثنا مَالِكٌ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْرِبُ نَحْرَهُ وَيَنْتِفُ شَعْرَهُ وَيَقُولُ: هَلَكَ الأَبْعَدُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالَ: أَصَبْتُ أَهْلِي فِي رَمَضَانَ وَأَنَا صَائِمٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعْتِقَ رَقَبَةً" قَالَ: لاَ, قَالَ: "تَسْتَطِيعُ أَنْ تُهْدِيَ بَدَنَةً" قَالَ: لاَ, قَالَ: "فَاجْلِسْ!" فَأُتِيَ بِعَرَقِ تَمْرٍ, وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَمَعْمَرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: فَلْيَأْخُذُوا بِالْبَدَنَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فِي ذَلِكَ; وَإِلاَّ فَالْقَوْمُ مُتَلاَعِبُونَ!!
وَقُلْنَا لَهُمْ: لَوْ أَرَدْنَا التَّعَلُّقَ بِمَا لاَ يَصِحُّ لَوَجَدْنَا خَيْرًا مِنْ كُلِّ خَبَرٍ تَعَلَّقْتُمْ بِهِ هَاهُنَا, كَمَا حَدَّثَنَا عبد الله بن ربيع، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حدثنا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالاَ جَمِيعًا: حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ،

(6/182)


عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ حَدَّثَنِي أَبُو الْمُطَوِّسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ، وَلاَ مَرَضٍ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: وَأَنْبَأَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ، حدثنا إسْمَاعِيلُ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي الْمُطَوِّسِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ رَخَّصَهَا اللَّهُ لَمْ يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ".
قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ: أَنْبَأَنَا مَحْمُودُ بْنُ غِيلاَنَ، حدثنا أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ، حدثنا شُعْبَةُ, قَالَ: أَخْبَرَنِي حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْت عُمَارَةَ بْنَ عُمَيْرٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي الْمُطَوِّسِ, قَالَ حَبِيبٌ: وَقَدْ رَأَيْت أَبَا الْمُطَوِّسِ. فَصَحَّ لِقَاؤُهُ إيَّاهُ.
فَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ كُلِّ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ.
وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ; لإِنَّ أَبَا الْمُطَوِّسِ غَيْرُ مَشْهُورٍ بِالْعَدَالَةِ, وَيُعِيذُنَا اللَّهُ مِنْ أَنَّ نَحْتَجَّ بِضَعِيفٍ إذَا وَافَقْنَا, وَنَرُدُّهُ إذَا خَالَفَنَا وَقَالَ بِمِثْلِ قَوْلِنَا أَفَاضِلُ السَّلَفِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْبَيْلَمَانِيِّ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنهما فِيمَا أَوْصَاهُ بِهِ: مَنْ صَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ وَلَوْ صَامَ الدَّهْرَ أَجْمَعَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ,

(6/183)


عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أُتِيَ بِشَيْخٍ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ, فَقَالَ لِلْمَنْخَرَيْنِ لِلْمَنْخَرَيْنِ وِلْدَانُنَا صِيَامٌ ثُمَّ ضَرَبَهُ ثَمَانِينَ وَصَيَّرَهُ إلَى الشَّامِ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَلاَ كَفَّارَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَرْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أُتِيَ بِالنَّجَاشِيِّ قَدْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ, فَضَرَبَهُ ثَمَانِينَ, ثُمَّ ضَرَبَهُ مِنْ الْغَدِ عِشْرِينَ, وَقَالَ: ضَرَبْنَاكَ الْعِشْرِينَ لِجُرْأَتِكَ عَلَى اللَّهِ وَإِفْطَارِكَ فِي رَمَضَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً, وَلاَ كَفَّارَةً.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ يَعْلَى الثَّقَفِيِّ. عَنْ عَرْفَجَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا لَمْ يَقْضِهِ أَبَدًا طُولُ الدَّهْرِ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ رُخْصَةٍ لَمْ يُجْزِهِ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ.
وَبِأَصَحّ طَرِيقٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ, فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَوْمُ سَنَةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِيهِ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ لَمْ يَقْضِهِ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا.
قال أبو محمد: مِنْ أَصْلِ الْحَنَفِيِّينَ الَّذِينَ يُجَاحِشُونَ عَنْهُ وَيَتْرُكُونَ لَهُ السُّنَنَ: أَنَّ الْخَبَرَ إذَا خَالَفَهُ رَاوِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ دَلِيلاً عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ أَوْ نَسْخِهِ, قَالُوا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مُغَفَّلٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي غَسْلِ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا إحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ, فَتَرَكُوهُ; لأَنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ خَالَفَهُ; وَقَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ; بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ الْقَوْلُ بِهِ, وَهَذَا مَكَانٌ قَدْ خَالَفَ فِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا رُوِيَ مِنْ هَذَا الْقَضَاءِ. وَخَالَفَهُ أَيْضًا سَعِيدُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, فَرَأَى عَلَى مَنْ

(6/184)


أَفْطَرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ صَوْمَ شَهْرٍ; فَيَنْبَغِي لَهُمْ إسْقَاطُ الْقَضَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْخَبَرِ بِهَاتَيْنِ الرِّوَايَتَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَغَيْرُ سَعِيدٍ.
قلنا: وَغَسْلُ الإِنَاءِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ سَبْعًا قَدْ رَوَاهُ غَيْرُ أَبِي هُرَيْرَةَ.
فَإِنْ قَالُوا مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الْخَبَرُ وَيُفْتِي بِخِلاَفِهِ.
قلنا: فَقُولُوا هَذَا فِي خَبَرِ غَسْلِ الإِنَاءِ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ ذَلِكَ الْخَبَرُ وَيُخَالِفُهُ وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ.

(6/185)


مسائل في قضاء الصوم و الكفارة
لا قضاء إلا على خمسة فقط: و هم الحائض و النفساء و المريض و المسافر و المتقيء عمدا
...
736 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ قَضَاءَ إلاَّ عَلَى خَمْسَةٍ فَقَطْ:
وَهُمْ الْحَائِضُ, وَالنُّفَسَاءُ فَإِنَّهُمَا يَقْضِيَانِ أَيَّامَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ, لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ, وَالْمَرِيضُ, وَالْمُسَافِرُ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ. لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَالْمُتَقَيِّئُ عَمْدًا, بِالْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ, وَهَذَا كُلُّهُ أَيْضًا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ إذَا أَفْطَرَا, وَكُلُّهُمْ مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعَالَى, لاَ إثْمَ عَلَيْهِمْ, إلاَّ الْمُتَقَيِّئَ, وَهُوَ ذَاكِرٌ; فَإِنَّهُ آثِمٌ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.

(6/185)


لا كفارة على نت تعمد فطرا في رمضان
...
737 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ فِطْرًا فِي رَمَضَانَ
بِمَا لَمْ يُبَحْ لَهُ, إلاَّ مَنْ وَطِئَ فِي الْفَرْجِ مِنْ امْرَأَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ الْمُبَاحِ لَهُ وَطْؤُهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ صَائِمًا فَقَطْ; فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ, عَلَى مَا نَصِفُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ يُقَدَّرُ الْقَضَاءُ, لِمَا ذَكَرْنَا.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يُوجِبْ الْكَفَّارَةَ إلاَّ عَلَى وَاطِئِ امْرَأَتِهِ عَامِدًا, وَاسْمُ امْرَأَتِهِ يَقَعُ عَلَى الأَمَةِ الْمُبَاحِ وَطْؤُهَا, كَمَا يَقَعُ عَلَى الزَّوْجَةِ, وَلاَ جَمْعَ لِلْمَرْأَةِ مِنْ لَفْظِهَا; لَكِنْ جَمْعُ الْمَرْأَةِ عَلَى نِسَاءٍ, وَلاَ وَاحِدَ لِلنِّسَاءِ مِنْ لَفْظِهِ, قَالَ تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ بِلاَ خِلاَفٍ. الأَمَةُ الْمُبَاحَةُ, وَالزَّوْجَةُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: "وَمَا أَهْلَكَكَ؟" قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ, قَالَ:

(6/185)


738 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَطِئَ عَمْدًا فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ثُمَّ سَافَرَ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ أَوْ جُنَّ, أَوْ مَرِضَ لاَ تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ,
لإِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلاَ يَسْقُطُ بَعْدَ وُجُوبِهِ إلاَّ بِنَصٍّ, وَلاَ نَصَّ فِي سُقُوطِهَا لِمَا ذَكَرْنَا. وقال أبو حنيفة, وَأَصْحَابُهُ: تَسْقُطُ بِالْمَرَضِ، وَلاَ تَسْقُطُ بِالسَّفَرِ.

(6/197)


صفة كفارة الواجبة
...
739 - مَسْأَلَةٌ: وَصِفَةُ الْكَفَّارَةِ الْوَاجِبَةِ:
هِيَ كَمَا ذَكَرْنَا فِي رِوَايَةِ جُمْهُورِ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ: مِنْ عِتْقِ رَقَبَةٍ لاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا مَا دَامَ يَقْدِرُ عَلَيْهَا, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ, فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهَا لَزِمَهُ حِينَئِذٍ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
فإن قيل: هَلاَّ قُلْتُمْ بِمَا رَوَاهُ يَحْيَى الأَنْصَارِيُّ، وَابْنُ جُرَيْجٍ, وَمَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ تَخْيِيرِهِ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ؟
قلنا: لِمَا قَدْ بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ هَؤُلاَءِ اخْتَصَرُوا الْحَدِيثَ, وَأَتَوْا بِأَلْفَاظِهِمْ, أَوْ بِلَفْظٍ مِنْ دُونِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا سَائِرُ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ فَأَتَوْا بِلَفْظِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي لاَ يَحِلُّ تَعَدِّيهِ أَصْلاً, وَبِزِيَادَةِ حُكْمِ التَّرْتِيبِ, وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ الزِّيَادَةِ.
وَبِقَوْلِنَا يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ, وَأَحْمَدُ, وَجُمْهُورُ النَّاسِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَقَالَ بِمَا رُوِيَ; إلاَّ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ الإِطْعَامَ, وَلَيْسَ لِهَذَا الاِسْتِحْبَابِ وَجْهٌ أَصْلاً.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ أَجَازَ فِي الإِطْعَامِ الْمَذْكُورِ: أَنْ تُطْعِمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا, وَهَذَا خِلاَفٌ مُجَرِّدٌ لاَِمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ يَقَعُ اسْمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَصْلاً.

(6/197)


و يجزئ في الكفارة رقبة مؤمنة أو كافرة, صغيرة أو كبيرة ذكر أو أنثى, معيب أو سليم
...
740 - مَسْأَلَةٌ: وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ رَقَبَةٌ مُؤْمِنَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ, صَغِيرَةٌ, أَوْ كَبِيرَةٌ, ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى, مَعِيبٌ أَوْ سَلِيمٌ;
لِعُمُومِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعْتِقْ رَقَبَةً", فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الرِّقَابِ الَّتِي تُعْتَقُ لاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ عليه السلام, وَلَمَا أَهْمَلَهُ حَتَّى يُبَيِّنَهُ لَهُ غَيْرُهُ.
وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ: أُمُّ الْوَلَدِ, وَالْمُدَبَّرُ, وَالْمُعْتَقُ بِصِفَةٍ, وَإِلَى أَجَلٍ, وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ, وَلاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ نِصْفَانِ مِنْ رَقَبَتَيْنِ, وَلاَ مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ.
وقال أبو حنيفة بِقَوْلِنَا فِي الْكَافِرِ وَالصَّغِيرِ.
وقال مالك, وَالشَّافِعِيُّ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ مُؤْمِنَةٌ, قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ.

(6/197)


كل ما لا يجزئ في الكفارة فهو عتق مردود باطل لا ينفذ
...
741 - مَسْأَلَةٌ: وَكُلُّ مَا قلنا أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ; فَإِنَّهُ عِتْقٌ مَرْدُودٌ بَاطِلٌ لاَ يَنْفُذُ,
لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَلاَِنَّهُ لَمْ يُعْتِقْهُ إلاَّ بِصِفَةٍ لَمْ تَصِحَّ, فَلَمْ يَصِحَّ عِتْقُهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ

(6/199)


يلزم في كفارة فطر رمضان صوم متتابع و دليل ذلك
...
742 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَرْضَهُ الصَّوْمُ, فَقَطَعَ صَوْمَهُ عَلَيْهِ رَمَضَانُ,
أَوْ أَيَّامُ الأَضْحَى, أَوْ مَا لاَ يَحِلُّ صِيَامُهُ فَلَيْسَا مُتَتَابِعِينَ, وَإِنَّمَا أُمِرَ بِهِمَا مُتَتَابِعِينَ.
وَقَالَ قَائِلٌ: يُجْزِئُهُ.
قال علي: وهذا خِلاَفُ أَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ كَوْنُهُ مَعْذُورًا فِي إفْطَارِهِ غَيْرَ آثِمٍ، وَلاَ مَلُومٍ بِمُجِيزٍ لَهُ مَا لَمْ يُجَوِّزْهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ عَدَمِ التَّتَابُعِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ: مَنْ لَزِمَهُ شَهْرَانِ مُتَتَابِعَانِ فَمَرِضَ فَأَفْطَرَ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ صَوْمَهُمَا.

(6/200)


فإن اعترض صائم الكفارة نذر بطل النذر و سقط عنه
...
743 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ اعْتَرَضَهُ فِيهِمَا يَوْمُ نَذْرٍ نَذَرَهُ: بَطَلَ النَّذْرُ وَسَقَطَ عَنْهُ,
وَتَمَادَى فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ, وَكَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ سَوَاءٌ سَوَاءٌ, لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ". فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَلْتَزِمَ غَيْرَ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَمَنْ نَذَرَ مَا يَبْطُلُ بِهِ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى فَنَذْرُهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهُ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.

(6/200)


إن بدأ بصوم الشهرين في أول يوم من الشهر صام إلى أن يرى الهلال الثالث و لا بد و دليل ذلك
...
744 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَدَأَ بِصَوْمِهِمَا فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ الشَّهْرِ صَامَ إلَى أَنْ يَرَى الْهِلاَلَ الثَّالِثَ، وَلاَ بُدَّ,
كَامِلَيْنِ كَانَا أَوْ نَاقِصَيْنِ, أَوْ كَامِلاً وَنَاقِصًا لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} فَمَنْ لَزِمَهُ صَوْمُ شَهْرَيْنِ لَزِمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِمَا مِنْ جُمْلَةِ الاِثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا الْمَذْكُورَةِ.

(6/200)


إن بدأ بصوم الشهرين في بعض الشهر لزمه صوم ثمانية و خمسين يوما لا أكثر
...
745 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ بَدَأَ بِهِمَا فِي بَعْضِ الشَّهْرِ وَلَوْ لَمْ يَمْضِ مِنْهُ إلاَّ يَوْمٌ, أَوْ لَمْ يَبْقَ إلاَّ يَوْمٌ فَمَا بَيْنَ ذَلِكَ: لَزِمَهُ صَوْمُ ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا لاَ أَكْثَرَ.
لِمَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، حدثنا الْفَرَبْرِيُّ، حدثنا الْبُخَارِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نِسَائِهِ فَأَقَامَ فِي مَشْرُبَةٍ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً ثُمَّ نَزَلَ, فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, آلَيْتُ شَهْرًا, فَقَالَ: "إنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ".
وَرُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ جِدًّا كَذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا, وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو

(6/200)


من كان فرضه الإطعام فإنه لا بد له من أن يطعمهم شبعهم و دليل ذلك
...
746 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ فَرْضُهُ الإِطْعَامَ فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُطْعِمَهُمْ شِبَعَهُمْ,
مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَطْعَمَهُمْ, وَإِنْ اخْتَلَفَ, مِثْلُ: أَنْ يُطْعِمَ بَعْضَهُمْ خُبْزًا, وَبَعْضَهُمْ تَمْرًا, وَبَعْضَهُمْ ثَرِيدًا, وَبَعْضَهُمْ زَبِيبًا, وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَيُجْزِئُ فِي ذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنْ أَعْطَاهُمْ حَبًّا أَوْ دَقِيقًا أَوْ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ, مِمَّا يُؤْكَلُ وَيُكَالُ; فَإِنْ أَطْعَمَهُمْ طَعَامًا مَعْمُولاً فَيُجْزِئُهُ مَا أَشْبَعَهُمْ أَكْلَةً وَاحِدَةً, أَقَلَّ كَانَ أَوْ أَكْثَرَ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، حدثنا بَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ، حدثنا مُؤَمَّلٌ، هُوَ ابْنُ إسْمَاعِيلَ الْحِمْيَرِيُّ، حدثنا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم"- فَذَكَرَ خَبَرَ الْوَاطِئِ فِي رَمَضَانَ- قَالَ: قَالَ: فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِكْتَلٍ فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَعْنِي صَاعًا فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُ فَأَطْعِمْهُ عَنْكَ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَأَجْزَأَ هَذَا فِي الإِطْعَامِ.
وَكَانَ إشْبَاعُهُمْ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ أَشْبَعَهُمْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ: يُسَمَّى إطْعَامًا, وَالْبُرُّ

(6/201)


يُؤْكَلُ مَقْلُوًّا; فَكُلُّ ذَلِكَ إطْعَامٌ. وَلاَ يَجُوزُ تَحْدِيدُ إطْعَامٍ دُونَ إطْعَامٍ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ, وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيمَا دُونَ الشِّبَعِ فِي الأَكْلِ, وَفِيمَا دُونَ الْمُدِّ فِي الإِعْطَاءِ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ.
وقال أبو حنيفة: لاَ يُجْزِئُ إلاَّ نِصْفُ صَاعِ بُرٍّ, أَوْ مِثْلُهُ مِنْ سَوِيقِهِ أَوْ دَقِيقِهِ, أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ زَبِيبٍ, أَوْ تَمْرٍ, لِكُلِّ مِسْكِينٍ.، وَلاَ بُدَّ مِنْ غَدَاءٍ وَعَشَاءٍ أَوْ غَدَاءٍ وَغَدَاءٍ, أَوْ عَشَاءٍ وَعَشَاءٍ, أَوْ سُحُورٍ وَغَدَاءٍ, أَوْ سُحُورٍ وَعَشَاءٍ!
قال أبو محمد: وَهَذَا تَحَكُّمٌ وَشَرْعٌ لَمْ يُوجِبْهُ نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قِيَاسٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ!

(6/202)


لا يجوز إطعام رضيع لا يأكل الطعام و لا إهطاؤه من الزكاة
...
747 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ رَضِيعٍ لاَ يَأْكُلُ الطَّعَامَ, وَلاَ إعْطَاؤُهُ مِنْ ذَلِكَ,
لاَِنَّهُ لاَ يُسَمَّى إطْعَامًا, فَإِنْ كَانَ يَأْكُلُ كَمَا تَأْكُلُ الصِّبْيَانُ أَجْزَأَ إطْعَامُهُ وَإِشْبَاعُهُ, وَإِنْ أَكَلَ قَلِيلاً, لاَِنَّهُ أَطْعَمَ كَمَا أُمِرَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/202)


لا يجزئ إطعام أقل من ستين و لا صيام أقل من شهرين في الكفارة
...
748 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يُجْزِئُ إطْعَامُ أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ, وَلاَ صِيَامُ أَقَلَّ مِنْ شَهْرَيْنِ,
لاَِنَّهُ خِلاَفُ مَا أُمِرَ بِهِ.

(6/202)


749 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ قَادِرًا حِينَ وَطْئِهِ عَلَى الرَّقَبَةِ لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُهَا, افْتَقَرَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْتَقِرْ,
وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهَا حِينَئِذٍ قَادِرًا عَلَى صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ لَمْ يُجْزِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الصِّيَامِ, أَيْسَرَ بَعْدَ ذَلِكَ وَوَجَدَ رَقَبَةً أَوْ لَمْ يُوسِرْ وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا حِينَ ذَلِكَ، عَنِ الرَّقَبَةِ وَعَنِ الصِّيَامِ قَادِرًا عَلَى الإِطْعَامِ لَمْ يُجْزِهِ غَيْرُ الإِطْعَامِ, قَدَرَ عَلَى الرَّقَبَةِ أَوْ الصَّوْمِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ; لإِنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْنَا هُوَ فَرْضُهُ بِالنَّصِّ, وَالإِجْمَاعِ; فَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ فَرْضِهِ وَإِيجَابُ فَرْضٍ آخَرَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ.
وَقَالَ قَائِلُونَ: إنْ دَخَلَ فِي الصَّوْمِ فَأَيْسَرَ انْتَقَلَ حُكْمُهُ إلَى الرَّقَبَةِ.
َهَذَا خَطَأٌ, وَقَوْلٌ بِلاَ بُرْهَانٍ.

(6/202)


من لم يجد إلا رقبة لا غنى به عنها الخ لم يلزمه عتقها
...
750 - مَسْأَلَةٌ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ إلاَّ رَقَبَةً لاَ غِنَى بِهِ عَنْهَا,
لاَِنَّهُ يَضِيعُ بَعْدَهَا أَوْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حُبِّهَا: لَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقُهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}. وَقَوْله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وَقَوْله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}. وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا حَرَجٌ وَعُسْرٌ لَمْ يَجْعَلْهُ تَعَالَى عَلَيْنَا, وَلاَ أَرَادَهُ مِنَّا, وَفَرْضُهُ حِينَئِذٍ الصِّيَامُ, فَإِنْ كَانَ فِي غِنًى عَنْهَا وَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، وَلاَ مَالَ لَهُ فَعَلَيْهِ عِتْقُهَا; لاَِنَّهُ وَاجِدُ رَقَبَةٍ لاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي عِتْقِهَا.

(6/202)


من كان عاجزا عن ذلك كله ففرضه الإطعام و دليل ذلك
...
751 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا، عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَفَرْضُهُ الإِطْعَامُ,
وَهُوَ بَاقٍ عَلَيْهِ, فَإِنْ وَجَدَ طَعَامًا وَهُوَ إلَيْهِ مُحْتَاجٌ أَكَلَهُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَبَقِيَ الإِطْعَامُ دَيْنًا عَلَيْهِ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بِالإِطْعَامِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ, فَأَتَاهُ بِالتَّمْرِ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُطْعِمَهُ، عَنْ كَفَّارَتِهِ فَصَحَّ أَنَّ الإِطْعَامَ بَاقٍ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ, وَأَمَرَهُ عليه السلام بِأَكْلِهِ إذْ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَكْلِهِ, وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ مَا قَدْ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ مِنْ الإِطْعَامِ, وَلاَ يَجُوزُ سُقُوطُ مَا افْتَرَضَهُ عليه السلام إلاَّ بِإِخْبَارٍ مِنْهُ عليه السلام بِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/203)


الحر و العبد في كل ما ذكر سواء و دليل ذلك
...
752 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ وَيُطْعِمُ مِنْ ذَلِكَ الْحُرَّ وَالْعَبْدَ,
لإِنَّ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ عُمُومًا, لَمْ يُخَصَّ مِنْهُ حُرٌّ مِنْ عَبْدٍ, وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مِسْكِينًا فَهُوَ مِمَّنْ أُمِرَ بِإِطْعَامِهِ، وَلاَ تَجُوزُ مُعَارَضَةُ أَمْرِهِ عليه السلام بِالدَّعَاوَى الْكَاذِبَةِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.

(6/203)


لا ينقض الصوم حجامة و لا احتلام و لا استمناء و لا مباشرة الرجل امرأته فيما دون الفرج
...
753 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَنْقُضُ الصَّوْمَ حِجَامَةٌ، وَلاَ احْتِلاَمٌ, وَلاَ اسْتِمْنَاءٌ, وَلاَ مُبَاشَرَةُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ
أَوْ أَمَتَهُ الْمُبَاحَةَ لَهُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ, تَعَمَّدَ الإِمْنَاءَ أَمْ لَمْ يُمْنِ, أَمْذَى أَمْ لَمْ يُمْذِ، وَلاَ قُبْلَةٌ كَذَلِكَ فِيهِمَا, وَلاَ قَيْءٌ غَالِبٌ, وَلاَ قَلْسٌ خَارِجٌ مِنْ الْحَلْقِ, مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ رَدَّهُ بَعْدَ حُصُولِهِ فِي فَمِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى رَمْيِهِ, وَلاَ دَمٌ خَارِجٌ مِنْ الأَسْنَانِ أَوْ الْجَوْفِ مَا لَمْ يَتَعَمَّدْ بَلْعَهُ, وَلاَ حُقْنَةٌ، وَلاَ سَعُوطٌ، وَلاَ تَقْطِيرٌ فِي أُذُنٍ, أَوْ فِي إحْلِيلٍ, أَوْ فِي أَنْفٍ، وَلاَ اسْتِنْشَاقٌ وَإِنْ بَلَغَ الْحَلْقَ, وَلاَ مَضْمَضَةٌ دَخَلَتْ الْحَلْقَ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ, وَلاَ كُحْلٌ أَوْ إنْ بَلَغَ إلَى الْحَلْقِ نَهَارًا أَوْ لَيْلاً بِعَقَاقِيرَ أَوْ بِغَيْرِهَا, وَلاَ غُبَارُ طَحْنٍ, أَوْ غَرْبَلَةُ دَقِيقٍ, أَوْ حِنَّاءٍ, أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ, أَوْ عِطْرٌ, أَوْ حَنْظَلٌ, أَوْ أَيُّ شَيْءٍ كَانَ, وَلاَ ذُبَابٌ دَخَلَ الْحَلْقَ بِغَلَبَةٍ, وَلاَ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَوَقَعَ فِي حَلْقِهِ نُقْطَةُ مَاءٍ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ لِذَلِكَ مِنْهُ; ، وَلاَ مَضْغُ زِفْتٍ أَوْ مُصْطَكَى أَوْ عِلْكٍ; ، وَلاَ مَنْ تَعَمَّدَ أَنْ يُصْبِحَ جُنُبًا,

(6/203)


اختلاف العلماء في المجنون و المغمي عليه في شهر رمضان هل عليهما القضاء أم لا
...
754 - مَسْأَلَةٌ: قَالَ عَلِيٌّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَجْنُونِ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: مَنْ جُنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْهُ1 قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ. قَالَ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ الشَّهْرَ كُلَّهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ كُلِّهِ, فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ إلاَّ يَوْمَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِيهَا; لاَِنَّهُ قَدْ نَوَى صِيَامَهُ مِنْ اللَّيْلِ.
وقال مالك: مَنْ بَلَغَ وَهُوَ مَجْنُونٌ مُطْبَقٌ فَأَقَامَ وَهُوَ كَذَلِكَ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ: فَإِنَّهُ يَقْضِي كُلَّ رَمَضَانَ كَانَ فِي تِلْكَ السِّنِينَ, وَلاَ يَقْضِي شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ. قَالَ: فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ النَّهَارِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ, فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَقَلَّ النَّهَارِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ إيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ جُمْلَةً دُونَ تَقْسِيمٍ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ: لاَ قَضَاءَ عَلَى الْمَجْنُونِ إلاَّ عَلَى الَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وقال الشافعي: لاَ يَقْضِي الْمَجْنُونُ, وَيَقْضِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ.
قال أبو محمد: كُنَّا نَذْهَبُ إلَى أَنَّ الْمَجْنُونَ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَبْطُلُ صَوْمُهُمَا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا, وَكَذَلِكَ الصَّلاَةُ. وَنَقُولُ: إنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ: مَا حَدَّثَنَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْخَوْلاَنِيِّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، حدثنا وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، عَنْ خَالِدٍ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ, وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ, وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ" وَكُنَّا نَقُولُ: إذَا رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِصَوْمٍ، وَلاَ بِصَلاَةٍ.
ثُمَّ تَأَمَّلْنَا هَذَا الْخَبَرَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى فَوَجَدْنَاهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ فِي حَالِ جُنُونِهِ حَتَّى يَعْقِلَ, وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ بُطْلاَنُ صَوْمِهِ الَّذِي لَزِمَهُ قَبْلَ
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "منها" وهو خطأ.

(6/226)


جُنُونِهِ, وَلاَ عَوْدَتُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ إفَاقَتِهِ, وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى, فَوَجَبَ أَنَّ مَنْ جُنَّ بَعْدَ أَنْ نَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ فَلاَ يَكُونُ مُفْطِرًا بِجُنُونِهِ; لَكِنَّهُ فِيهِ غَيْرُ مُخَاطَبٍ, وَقَدْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهِ; فَإِنْ أَفَاقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَوْ فِي يَوْمٍ بَعْدَهُ مِنْ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَنْوِي الصَّوْمَ مِنْ حِينِهِ وَيَكُونُ صَائِمًا; لاَِنَّهُ حِينَئِذٍ عَلِمَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِ.
وَهَكَذَا مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, أَوْ مَنْ عَلِمَ بِأَنَّهُ يَوْمُ نَذْرِهِ أَوْ فَرْضِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَا قَبْلُ, وَكَذَلِكَ مَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ كَمَا ذَكَرْنَا, وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, أَوْ مَنْ نَامَ, أَوْ سَكِرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ، وَلاَ صَحَا إلاَّ مِنْ الْغَدِ وَقَدْ مَضَى أَكْثَرُ النَّهَارِ, أَوْ أَقَلُّهُ.
وَوَجَدْنَا الْمَجْنُونَ لاَ يُبْطِلُ جُنُونُهُ إيمَانَهُ, وَلاَ أَيْمَانَهُ، وَلاَ نِكَاحَهُ، وَلاَ طَلاَقَهُ, وَلاَ ظِهَارَهُ، وَلاَ إيلاَءَهُ, وَلاَ حَجَّهُ, وَلاَ إحْرَامَهُ، وَلاَ بَيْعَهُ, وَلاَ هِبَتَهُ, وَلاَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِهِ اللاَّزِمَةِ لَهُ قَبْلَ جُنُونِهِ, وَلاَ خِلاَفَتَهُ إنْ كَانَ خَلِيفَةً, وَلاَ إمَارَتَهُ إنْ كَانَ أَمِيرًا، وَلاَ وِلاَيَتَهُ، وَلاَ وَكَالَتَهُ, وَلاَ تَوْكِيلَهُ, وَلاَ كُفْرَهُ, وَلاَ فِسْقَهُ, وَلاَ عَدَالَتَهُ, وَلاَ وَصَايَاهُ, وَلاَ اعْتِكَافَهُ, وَلاَ سَفَرَهُ, وَلاَ إقَامَتَهُ, وَلاَ مِلْكَهُ, وَلاَ نَذْرَهُ, وَلاَ حِنْثَهُ, وَلاَ حُكْمَ الْعَامِّ فِي الزَّكَاةِ عَلَيْهِ.
وَوَجَدْنَا ذُهُولَهُ، عَنْ كُلِّ ذَلِكَ لاَ يُوجِبُ بُطْلاَنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ, فَقَدْ يَذْهَلُ الإِنْسَانُ، عَنِ الصَّوْمِ, وَالصَّلاَةِ, حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ لَيْسَ مُصَلِّيًا، وَلاَ صَائِمًا; فَيَأْكُلَ, وَيَشْرَبَ, وَلاَ يَبْطُلُ بِذَلِكَ صَوْمُهُ، وَلاَ صَلاَتُهُ, بِهَذَا جَاءَتْ السُّنَنُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا, وَكَذَلِكَ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَلاَ فَرْقَ فِي كُلِّ ذَلِكَ, وَلاَ يُبْطِلُ الْجُنُونُ وَالإِغْمَاءُ إلاَّ مَا يُبْطِلُ النَّوْمُ مِنْ الطَّهَارَةِ بِالْوُضُوءِ وَحْدَهُ فَقَطْ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْمَغْلُوبَ الْمُكْرَهَ عَلَى الْفِطْرِ لاَ يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى, وَالْمَجْنُونُ, وَالْمُكْرَهُ مَغْلُوبَانِ مُكْرَهَانِ مُضْطَرَّانِ بِقَدَرٍ غَالِبٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى مَا أَصَابَهُمَا, فَلاَ يُبْطِلُ ذَلِكَ صَوْمَهُمَا.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ جُنَّ; أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَقَدْ صَحَّ صَوْمُهُ بِيَقِينٍ مِنْ نَصٍّ وَإِجْمَاعٍ; فَلاَ يَجُوزُ بُطْلاَنُهُ بَعْدَ صِحَّتِهِ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ; ، وَلاَ إجْمَاعَ فِي ذَلِكَ أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ مَجْنُونًا مُطْبَقًا فَهَذَا لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُخَاطَبًا, وَلاَ لَزِمَتْهُ الشَّرَائِعُ, وَلاَ الأَحْكَامُ

(6/227)


وَلَمْ يَزَلْ مَرْفُوعًا عَنْهُ الْقَلَمُ; فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَوْمٍ أَصْلاً; بِخِلاَفِ قَوْلِ مَالِكٍ: فَإِذَا عَقَلَ فَحِينَئِذٍ ابْتَدَأَ الْخِطَابُ بِلُزُومِهِ إيَّاهُ, لاَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَنْ شَرِبَ حَتَّى سَكِرَ فِي لَيْلَةِ رَمَضَانَ وَكَانَ نَوَى الصَّوْمَ فَصَحَا بَعْدَ صَدْرٍ مِنْ النَّهَارِ أَقَلِّهِ أَوْ أَكْثَرِهِ أَوْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: فَصَوْمُهُ تَامٌّ, وَلَيْسَ السُّكْرُ مَعْصِيَةً, إنَّمَا الْمَعْصِيَةُ شُرْبُ مَا يُسْكِرُ سَوَاءٌ سَكِرَ أَمْ لَمْ يَسْكَرْ, وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ فُتِحَ فَمُهُ أَوْ أُمْسِكَتْ يَدُهُ وَجَسَدُهُ وَصُبَّ الْخَمْرُ فِي حَلْقِهِ حَتَّى سَكِرَ أَنَّهُ لَيْسَ عَاصِيًا بِسُكْرِهِ, لاَِنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ مَا يُسْكِرُهُ بِاخْتِيَارِهِ, وَالسُّكْرُ لَيْسَ هُوَ فِعْلُهُ, إنَّمَا هُوَ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ, وَإِنَّمَا يُنْهَى الْمَرْءُ، عَنْ فِعْلِهِ, لاَ، عَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ الَّذِي لاَ اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَامَ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلاَّ فِي النَّهَارِ، وَلاَ فَرْقَ; أَوْ مَنْ نَوَى الصَّوْمَ ثُمَّ لَمْ يَسْتَيْقِظْ إلاَّ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ, فَصَوْمُهُ تَامٌّ.
وَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ جُنَّ, أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ سَكِرَ, أَوْ نَامَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَلَمْ يُفِقْ، وَلاَ صَحَا، وَلاَ انْتَبَهَ لَيْلَتَهُ كُلَّهَا وَالْغَدَ كُلَّهُ إلَى بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ: أَيَقْضِيهِ أَمْ لاَ. فَوَجَدْنَا الْقَضَاءَ إيجَابَ شَرْعٍ; وَالشَّرْعُ لاَ يَجِبُ إلاَّ بِنَصٍّ, فَلاَ نَجِدُ إيجَابَ الْقَضَاءِ فِي النَّصِّ إلاَّ عَلَى أَرْبَعَةٍ: الْمُسَافِرُ, وَالْمَرِيضُ بِالْقُرْآنِ وَالْحَائِضُ, وَالنُّفَسَاءُ, وَالْمُتَعَمِّدُ لِلْقَيْءِ بِالسُّنَّةِ، وَلاَ مَزِيدَ. وَوَجَدْنَا النَّائِمَ, وَالسَّكْرَانَ, وَالْمَجْنُونَ الْمُطْبَقَ عَلَيْهِ لَيْسُوا مُسَافِرِينَ، وَلاَ مُتَعَمِّدِينَ لِلْقَيْءِ, وَلاَ حُيَّضًا, وَلاَ مِنْ ذَوَاتِ النِّفَاسِ, وَلاَ مَرْضَى; فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ أَصْلاً, وَلاَ خُوطِبُوا بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ الأَحْوَالِ; بَلْ الْقَلَمُ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ بِالسُّنَّةِ. وَوَجَدْنَا الْمَصْرُوعَ, وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مَرِيضَيْنِ بِلاَ شَكٍّ, لإِنَّ الْمَرَضَ هِيَ حَالٌ مُخْرِجَةٌ لِلْمَرْءِ، عَنْ حَالِ الاِعْتِدَالِ وَصِحَّةِ الْجَوَارِحِ وَالْقُوَّةِ إلَى الاِضْطِرَابِ وَضَعْفِ الْجَوَارِحِ وَاعْتِلاَلِهَا, وَهَذِهِ صِفَةُ الْمَصْرُوعِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ بِلاَ شَكٍّ, وَيَبْقَى وَهْنُ ذَلِكَ وَضَعْفُهُ عَلَيْهِمَا بَعْدَ الإِفَاقَةِ مُدَّةً; فَإِذْ هُمَا مَرِيضَانِ فَالْقَضَاءُ عَلَيْهِمَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَلَيْسَ قَوْلُنَا بِسُقُوطِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إلاَّ مَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ مِنْهَا وَبِقَضَاءِ النَّائِمِ لِلصَّلاَةِ: مُخَالِفًا لِقَوْلِنَا هَاهُنَا; بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ, لإِنَّ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ

(6/228)


مُخَاطَبًا بِالصَّلاَةِ فِيهِ, وَلاَ كَانَ أَيْضًا مُخَاطَبًا بِالصَّوْمِ; وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَى الْمَرِيضِ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ, وَلَمْ يُوجِبْ تَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ: قَضَاءَ صَلاَةٍ, وَأَوْجَبَ قَضَاءَ الصَّلاَةِ عَلَى النَّائِمِ, وَالنَّاسِي, وَلَمْ يُوجِبْ قَضَاءَ صِيَامٍ عَلَى النَّائِمِ, وَالنَّاسِي بَلْ أَسْقَطَهُ تَعَالَى، عَنِ النَّاسِي, وَالنَّائِمِ; إذْ لَمْ يُوجِبْهُ عَلَيْهِ. فَصَحَّ قَوْلُنَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ; لاَِنَّهُ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَلَمْ يَتَّبِعْ نَصًّا, وَلاَ قِيَاسًا; لاَِنَّهُ رَأَى عَلَى مَنْ أَفَاقَ فِي شَيْءٍ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ جُنُونِهِ: قَضَاءَ الشَّهْرِ كُلِّهِ, وَهُوَ لاَ يَرَاهُ عَلَى مَنْ بَلَغَ, أَوْ أَسْلَمَ حِينَئِذٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيِّينَ: الْمَجْنُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِضِ وَهَذَا كَلاَمٌ يُغْنِي ذِكْرُهُ، عَنْ تَكَلُّفِ إبْطَالِهِ, وَمَا نَدْرِي فِيمَا يُشْبِهُ الْمَجْنُونُ الْحَائِضَ؟!!

(6/229)


755 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ جَهَدَهُ الْجُوعُ, أَوْ الْعَطَشُ حَتَّى غَلَبَهُ الأَمْرُ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ;
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}. وَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}. وَقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "َاذا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ".
فَإِنْ كَانَ خَرَجَ بِذَلِكَ إلَى حَدِّ الْمَرَضِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ, وَإِنْ كَانَ لَمْ يَخْرُجْ إلَى حَدِّ الْمَرَضِ فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ مَغْلُوبٌ مُكْرَهٌ مُضْطَرٌّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}. وَلَمْ يَأْتِ الْقُرْآنُ، وَلاَ السُّنَّةُ بِإِيجَابِ قَضَاءٍ عَلَى مُكْرَهٍ, أَوْ مَغْلُوبٍ; بَلْ قَدْ أَسْقَطَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَضَاءَ عَمَّنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَأَوْجَبَهُ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَهُ.

(6/229)


لا يلزم صوم في رمضان و لا في غيره إلا بتبين طلوع الفجر الثاني
...
756 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَلْزَمُ صَوْمٌ فِي رَمَضَانَ، وَلاَ فِي غَيْرِهِ إلاَّ بِتَبَيُّنِ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي,
وَأَمَّا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ فَالأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مُبَاحٌ كُلُّ ذَلِكَ, كَانَ عَلَى شَكٍّ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَطْلُعْ.
فَمَنْ رَأَى الْفَجْرَ وَهُوَ يَأْكُلُ فَلْيَقْذِفْ مَا فِي فَمِهِ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ, وَلْيَصُمْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; وَمَنْ رَأَى الْفَجْرَ وَهُوَ يُجَامِعُ فَلْيَتْرُكْ مِنْ وَقْتِهِ, وَلْيَصُمْ, وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; وَسَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَانَ طُلُوعُ الْفَجْرِ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ قَرِيبَةٍ, فَلَوْ تَوَقَّفَ بَاهِتًا فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, وَصَوْمُهُ تَامٌّ; وَلَوْ أَقَامَ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ.

(6/229)


من صح عنده بخبر من يصدقه أن الهلال قد رؤي البارحة في آخر شعبان ففرض عليه الصوم
...
757 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ صَحَّ عِنْدَهُ بِخَبَرِ مَنْ يُصَدِّقُهُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ, أَوْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ: عَبْدٍ, أَوْ حُرٍّ, أَوْ أَمَةٍ, أَوْ حُرَّةٍ, فَصَاعِدًا أَنَّ الْهِلاَلَ قَدْ رُئِيَ الْبَارِحَةَ فِي آخِرِ شَعْبَانَ فَفُرِضَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ,
صَامَ النَّاسُ أَوْ لَمْ يَصُومُوا, وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ هُوَ وَحْدَهُ, وَلَوْ صَحَّ عِنْدَهُ بِخَبَرِ وَاحِدٍ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا فَصَاعِدًا: أَنَّ هِلاَلَ شَوَّالٍ قَدْ رُئِيَ فَلْيُفْطِرْ, أَفْطَرَ النَّاسُ أَوْ صَامُوا; وَكَذَلِكَ لَوْ رَآهُ هُوَ وَحْدَهُ; فَإِنْ خَشِيَ فِي ذَلِكَ أَذًى فَلْيَسْتَتِرْ بِذَلِكَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: قَرَأْت عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ ذَكَرَ رَمَضَانَ فَقَالَ: "لاَ تَصُومُوا حَتَّى تَرَوْا الْهِلاَلَ, وَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ", فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُرُوا لَهُ.
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: حدثنا ابْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ سَمِعْت أَبَا الْبَخْتَرِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا الْعِدَّةَ".
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ فِي ذَلِكَ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ بِمِثْلِ قَوْلِنَا فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ, وَلَمْ يُجِيزُوا فِي هِلاَلِ شَوَّالٍ إلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ.
وقال مالك: لاَ أَقْبَلُ فِي كِلَيْهِمَا إلاَّ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ فَمَا نَعْلَمُ لَهُمْ حُجَّةً. وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنَّهُمْ قَاسُوهُ عَلَى سَائِرِ الأَحْكَامِ.
قال أبو محمد: وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ; ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً; لإِنَّ

(6/235)


الْحُقُوقَ تَخْتَلِفُ: فَمِنْهَا عِنْدَ الْمَالِكِيِّينَ مَا يُقْبَلُ فِيهَا شَاهِدٌ وَيَمِينٌ, وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ رَجُلاَنِ, أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ. وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ رَجُلاَنِ فَقَطْ. وَمِنْهَا مَا لاَ يُقْبَلُ فِيهِ إلاَّ أَرْبَعَةٌ. وَمِنْهَا مَا يُسْمَحُ فِيهِ حَتَّى يُجِيزُوا فِيهِ النَّصْرَانِيَّ وَالْفَاسِقَ, كَالْعُيُوبِ فِي الطِّبِّ, فَمِنْ أَيْنَ لَهُمْ أَنْ يَخُصُّوا بَعْضَ هَذِهِ الْحُقُوقِ دُونَ بَعْضٍ بِقِيَاسِ الشَّهَادَةِ فِي الْهِلاَلِ عَلَيْهِ. وَنَسْأَلُهُمْ، عَنْ قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا إلاَّ فُسَّاقٌ, أَوْ نَصَارَى, أَوْ نِسَاءٌ وَفِيهِمْ عَدْلٌ يَضْعُفُ بَصَرُهُ، عَنْ رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ.
قال أبو محمد: فأما نَحْنُ فَخَبَرُ الْكَافَّةِ مَقْبُولٌ فِي ذَلِكَ, وَإِنْ كَانُوا كُفَّارًا أَوْ فُسَّاقًا; لاَِنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ ضَرُورَةً.
فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى قَبُولِ عَدْلَيْنِ فِي ذَلِكَ.
قلنا: لاَ, بَلْ أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي يَقُولُ: إنْ كَانَ الْجَوُّ صَافِيًا لَمْ أَقْبَلْ فِي رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِينَ.
فَإِنْ قَالُوا: كَلاَمُهُ سَاقِطٌ.
قلنا: نَعَمْ, وَقِيَاسُكُمْ أَسْقَطُ!
فَإِنْ قَالُوا: فَمِنْ أَيْنَ أَجَزْتُمْ فِيهِمَا خَبَرَ الْوَاحِدِ.
قلنا: لاَِنَّهُ مِنْ الدِّينِ; وَقَدْ صَحَّ فِي الدِّينِ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ; فَهُوَ مَقْبُولٌ فِي كُلِّ مَكَان, إلاَّ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ لاَ يُقْبَلَ إلاَّ عَدَدٌ سَمَّاهُ لَنَا.
وَأَيْضًا: فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَذَانِ بِلاَلٍ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ", فَأَمَرَ عليه السلام بِالْتِزَامِ الصِّيَامِ بِأَذَانِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ بِالصُّبْحِ, وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ بِأَنَّ الْفَجْرَ قَدْ تَبَيَّنَ.
وَحدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ السَّمَرْقَنْدِيُّ، حدثنا مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ نَافِعِ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "تَرَاءَى النَّاسُ الْهِلاَلَ, فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنِّي رَأَيْتُهُ, فَصَامَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِصِيَامِهِ".
وَهَذَا خَبَرٌ صَحِيحٌ.

(6/236)


وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد: حدثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ; إنِّي رَأَيْتُ الْهِلاَلَ يَعْنِي رَمَضَانَ فَقَالَ: "أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ; "أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "قُمْ يَا بِلاَلُ فَأَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَدًا".
قال أبو محمد: رِوَايَةُ سِمَاكٍ لاَ نَحْتَجُّ بِهَا، وَلاَ نَقْبَلُهَا مِنْهُمْ, وَهُمْ قَدْ احْتَجُّوا بِهَا فِي أَخْذِ الدَّنَانِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ, فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهَا هَاهُنَا, وَإِلاَّ فَهُمْ مُتَلاَعِبُونَ فِي الدِّينِ.
فَإِنْ تَعَلَّقَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ هِلاَلِ رَمَضَانَ وَهِلاَلِ شَوَّالٍ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ, وَقَالَ: لَمْ يَرِدْ إلاَّ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ.
قلنا: وَلاَ جَاءَ نَصٌّ قَطُّ بِالْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ, وَأَنْتُمْ أَصْحَابُ قِيَاسٍ, فَهَلاَّ قِسْتُمْ هِلاَلَ شَوَّالٍ عَلَى هِلاَلِ رَمَضَانَ؟
فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الشَّاهِدَ فِي هِلاَلِ رَمَضَانَ لاَ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ, وَالشَّاهِدُ فِي هِلاَلِ شَوَّالٍ يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ.
قلنا: فَرَدُّوا بِهَذَا الظَّنِّ بِعَيْنِهِ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ فِي شَوَّالٍ أَيْضًا; لاَِنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا, كَمَا تَفْعَلُونَ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ يَكْذِبُ فِي مِثْلِ هَذَا لاَ يُبَالِي قُبِلَ أَوْ رُدَّ.
وَنَقُولُ لَهُمْ: إذَا صُمْتُمْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ; فَغُمَّ الْهِلاَلُ بَعْدَ الثَّلاَثِينَ, أَتَصُومُونَ أَحَدًا وَثَلاَثِينَ فَهَذِهِ طَامَّةٌ, وَشَرِيعَةٌ لَيْسَتْ مِنْ دِينِ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ تُفْطِرُونَ عِنْدَ تَمَامِ الثَّلاَثِينَ وَإِنْ لَمْ تَرَوْا الْهِلاَلَ فَقَدْ أَفْطَرْتُمْ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ وَتَنَاقَضْتُمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِنْ شَغَبُوا بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبَّادِ بْنِ الْعَوَّامِ: حدثنا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ، حدثنا حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ الْجَدَلِيُّ جَدِيلَةُ قَيْسٍ: أَنَّ أَمِيرَ مَكَّةَ وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ خَطَبَ فَقَالَ: "عَهِدَ إلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَنْسُكَ لِرُؤْيَتِهِ, فَإِنْ لَمْ نَرَهُ وَشَهِدَ شَاهِدَا عَدْلٍ نَسَكْنَا بِشَهَادَتِهِمَا".
وَبِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ قَالَ: "قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْرَابِيَّانِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمُسْلِمَانِ أَنْتُمَا" قَالاَ: نَعَمْ فَأَمَرَ النَّاسُ فَأَفْطَرُوا أَوْ صَامُوا".
وَعَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ: إذَا شَهِدَ رَجُلاَنِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ أَفْطَرُوا.

(6/237)


وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَبِي عُثْمَانُ أَنْ يُجِيزَ شَهَادَةَ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَتَبَ إلَيْنَا عُمَرُ وَنَحْنُ بِخَانِقِينَ: إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ نَهَارًا فَلاَ تُفْطِرُوا حَتَّى يَشْهَدَ رَجُلاَنِ: لَرَأَيَاهُ بِالأَمْسِ.
قلنا: أَمَّا حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ فَإِنَّ رَاوِيَهُ حُسَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ مَجْهُولٌ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ, لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ قَبُولُهُ اثْنَيْنِ, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ هَذَا, وَلَيْسَ فِيهِ أَنْ لاَ يَقْبَلَ وَاحِدٌ.
وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي عُثْمَانَ, عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ.
وَكَذَا الْقَوْلُ فِي فِعْلِ عَلِيٍّ سَوَاءٌ سَوَاءٌ.
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عُثْمَانُ رضي الله عنه إنَّمَا رَدَّ شَهَادَةَ هَاشِمِ بْنِ عُتْبَةَ لاَِنَّهُ لَمْ يَرْضَهُ; لاَ لاَِنَّهُ وَاحِدٌ; وَلَقَدْ كَانَ هَاشِمٌ أَحَدَ الْمُجَلِّبِينَ عَلَى عُثْمَانَ رضي الله عنه.
وَأَمَّا خَبَرُ عُمَرَ: فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ فِي هَذَا خِلاَفُ ذَلِكَ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يَنْظُرُ إلَى الْهِلاَلِ, فَرَآهُ رَجُلٌ, فَقَالَ عُمَرُ: يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ; فَأَمَرَهُمْ فَأَفْطَرُوا أَوْ صَامُوا فَهَذَا عُمَرُ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا:، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِثْلَ هَذَا. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو ثَوْرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى رُؤْيَتِهِ فَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ خِلاَفَ ذَلِكَ; وَهُوَ أَنَّ مَنْ رَآهُ وَحْدَهُ فِي اسْتِهْلاَلِ رَمَضَانَ فَلاَ يَصُمْ, وَمَنْ رَآهُ وَحْدَهُ فِي اسْتِهْلاَلِ شَوَّالٍ فَلاَ يُفْطِرُ. وَبِهِ يَقُولُ الْحَسَنُ.
رُوِّينَا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ رَأَيَا الْهِلاَلَ فِي سَفَرٍ; فَقَدِمَا الْمَدِينَةَ ضُحَى الْغَدِ, فَأَخْبَرَا عُمَرَ, فَقَالَ لاَِحَدِهِمَا: أَصَائِمٌ أَنْتَ قَالَ: نَعَمْ, كَرِهْت أَنْ يَكُونَ النَّاسُ صِيَامًا وَأَنَا مُفْطِرٌ, كَرِهْت الْخِلاَفَ عَلَيْهِمْ, وَقَالَ لِلآخِرِ: فَأَنْتَ قَالَ: أَصْبَحْت مُفْطِرًا; لاَِنِّي رَأَيْت الْهِلاَلَ, فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَوْلاَ هَذَا يَعْنِي الَّذِي صَامَ لاََوْجَعْنَا رَأْسَكَ, وَرَدَدْنَا شَهَادَتَكَ; ثُمَّ أَمَرَ النَّاسَ فَأَفْطَرُوا.

(6/238)


وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أُخْبِرْت، عَنْ مُعَاذِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ التَّيْمِيِّ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعُمَرَ: إنِّي رَأَيْت هِلاَلَ رَمَضَانَ, قَالَ: أَرَآهُ مَعَكَ أَحَدٌ قَالَ: لاَ قَالَ: فَكَيْف صَنَعْت قَالَ: صُمْت بِصِيَامِ النَّاسِ, فَقَالَ عُمَرُ: يَا لَكَ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ.
قال أبو محمد: يَنْبَغِي لِمَنْ قَلَّدَ عُمَرَ فِيمَا يَدْعُونَهُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَتَحْرِيمِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْعِدَّةِ: أَنْ يُقَلِّدَهُ هَاهُنَا.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ: يَصُومُ إنْ رَآهُ وَحْدَهُ, وَلاَ يُفْطِرُ إنْ رَآهُ وَحْدَهُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ وقال الشافعي كَمَا قلنا.
وَخُصُومُنَا لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا، وَلاَ نَقُولُ بِهِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {لاَ تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ} وَقَالَ تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} وَقَالَ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَمَنْ رَآهُ فَقَدْ شَهِدَهُ.وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ".

(6/239)


إذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو من البارحة و يصوم الناس من حينئذ باقي يومهم
...
758 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا رُئِيَ الْهِلاَلُ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ مِنْ الْبَارِحَةِ وَيَصُومُ النَّاسُ مِنْ حِينَئِذٍ بَاقِيَ يَوْمِهِمْ
إنْ كَانَ أَوَّلَ رَمَضَانَ وَيُفْطِرُونَ إنْ كَانَ آخِرَهُ, فَإِنْ رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُقْبِلَةِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ" فَخَرَجَ مِنْ هَذَا الظَّاهِرُ إذَا رُئِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ بِالإِجْمَاعِ الْمُتَيَقِّنِ, وَلَمْ يَجِبْ الصَّوْمُ إلاَّ مِنْ الْغَدِ; وَبَقِيَ حُكْمُ لَفْظِ الْحَدِيثِ إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ, لِلاِخْتِلاَفِ فِي ذَلِكَ; فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى النَّصِّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْهِلاَلَ إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَإِنَّمَا يَرَاهُ النَّاظِرُ إلَيْهِ وَالشَّمْسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ, وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْ رُؤْيَتُهُ مَعَ حَوَالَةِ الشَّمْسِ دُونَهُ إلاَّ وَقَدْ أَهَلَّ مِنْ الْبَارِحَةِ وَبَعُدَ عَنْهَا بُعْدًا كَثِيرًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حدثنا أَبِي، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إلَى النَّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَأَفْطِرُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ زَوَالِهَا فَلاَ تُفْطِرُوا.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِمِثْلِهِ. وَبِهِ يَقُولُ سُفْيَانُ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ الْجَزَّارِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ رضي الله عنه

(6/239)


إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلاَلَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَفْطِرُوا وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فِي آخِرِ النَّهَارِ فَلاَ تُفْطِرُوا فَإِنَّ الشَّمْسَ تَزِيغُ عَنْهُ أَوْ تَمِيلُ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الرُّكَيْنِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيِّ بِبَلَنْجَرَ فَرَأَيْت الْهِلاَلَ ضُحًى فَأَتَيْت سَلْمَانَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَامَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَمَّا رَآهُ أَمَرَ النَّاسَ فَأَفْطَرُوا. وَبِهِ يَقُولُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ الأَنْدَلُسِيُّ, وَأَبُو بَكْرِ بْنُ دَاوُد, وَغَيْرُهُ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ خِلاَفُ هَذَا قلنا: نَعَمْ وَإِذَا صَحَّ التَّنَازُعُ وَجَبَ الرَّدُّ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا الآنَ وَجْهَ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/240)


من السنة تعجيل الفطر و تأخير السحور
...
759 - مَسْأَلَةٌ: وَمِنْ السُّنَّةِ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ
وَإِنَّمَا هُوَ مَغِيبُ الشَّمْسِ، عَنْ أُفُقِ الصَّائِمِ، وَلاَ مَزِيدَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَسَحَّرُوا فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً".
وَمِنْ طَرِيقِ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَصْلُ مَا بَيْنَ صِيَامِنَا وَصِيَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَكْلَةُ السُّحُور"ِ.
قال أبو محمد: لاَ يَضُرُّ الصَّوْمَ تَعَمُّدُ تَرْكِ السَّحُورِ; لاَِنَّهُ مِنْ حُكْمِ اللَّيْلِ وَالصِّيَامُ مِنْ حُكْمِ النَّهَارِ, وَلاَ يَبْطُلُ عَمَلٌ بِتَرْكِ عَمَلٍ غَيْرِهِ إلاَّ بِأَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ نَصٌّ فَيُوقَفُ عِنْدَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُؤَخِّرُ السُّحُورَ وَيُعَجِّلُ الإِفْطَارَ, فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "هَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ صَائِمٌ فَلَمَّا غَرُبَتْ الشَّمْسُ قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ

(6/240)


لَنَا" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمْسَيْتُ قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عَلَيْكَ نَهَارًا قَالَ: "انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنَا" فَنَزَلَ فَجَدَحَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا رَأَيْتُمْ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَاهُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ", وَأَشَارَ بِأُصْبُعِهِ قِبَلِ الْمَشْرِقِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي مُوسَى: تَأْخِيرَ الْفِطْرِ حَتَّى تَبْدُوَ الْكَوَاكِبُ، وَلاَ نَقُولُ بِهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا وَتَعْجِيلُ الْفِطْرِ قَبْلَ الصَّلاَةِ وَالأَذَانِ أَفْضَلُ, كَذَلِكَ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.

(6/241)


من أسلم بعد ما تبين الفجر له أو بلغ كذلك الخ
...
760 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ الْفَجْرُ لَهُ, أَوْ بَلَغَ كَذَلِكَ,
أَوْ رَأَتْ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضِ كَذَلِكَ, أَوْ مِنْ النِّفَاسِ كَذَلِكَ, أَوْ أَفَاقَ مِنْ مَرَضِهِ كَذَلِكَ, أَوْ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بَاقِيَ نَهَارِهِمْ وَيَطَئُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْ, أَوْ مَنْ طَهُرَتْ فِي يَوْمِهَا ذَلِكَ, وَيَسْتَأْنِفُونَ الصَّوْمَ مِنْ غَدٍ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ, أَوْ بَلَغَ; وَتَقْضِي الْحَائِضُ, وَالْمُفِيقُ, وَالْقَادِمُ, وَالنُّفَسَاءُ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي بَعْضِ هَذَا: فَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَائِضِ تَطْهُرُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ: لاَ تَأْكُلُ إلَى اللَّيْلِ, كَرَاهَةَ التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ. وَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ, وَعَنْ عَطَاءٍ إنْ طَهُرَتْ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْتُتِمَّ يَوْمَهَا, وَإِنْ طَهُرَتْ فِي آخِرِهِ أَكَلَتْ وَشَرِبَتْ; وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ.
وَأَمَّا الْكَافِرُ يُسْلِمُ: فَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ إنْ أَسْلَمَ الْكَافِرُ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ صَامَ مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ وَإِنْ أَسْلَمَ فِي آخِرِ النَّهَارِ صَامَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلُ ذَلِكَ, وَقَالَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ يَدْخُلُ فِي صَلاَةِ الْمُقِيمِينَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ مِثْلُ ذَلِكَ.
وقال أبو حنيفة فِي الصَّبِيِّ يَبْلُغُ بَعْدَ الْفَجْرِ: أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُسَافِرِ يَقْدُمُ بَعْدَ الْفَجْرِ.
قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ صَوْمَ بَاقِي الْيَوْمِ بِأَنْ قَالَ: قَدْ كَانَ الصَّبِيُّ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَأْمُورًا بِالصِّيَامِ فَكَيْف بَعْدَ بُلُوغِهِ. وَقَالُوا: هَلاَّ جَعَلْتُمْ هَؤُلاَءِ بِمَنْزِلَةِ

(6/241)


مَنْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ أَنَّ الْهِلاَلَ رُئِيَ الْبَارِحَةَ قلنا: هَذَا قِيَاسٌ, وَالْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً لإِنَّ الَّذِي جَاءَهُ خَبَرُ الْهِلاَلِ كَانَ مَأْمُورًا بِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَنَّهُ فَرْضُهُ. وَكُلُّ مَنْ ذَكَّرَنَا فَهُمْ عَالِمُونَ بِوُجُوبِ الصَّوْمِ عَلَى غَيْرِهِمْ, وَبِدُخُولِ رَمَضَانَ, إلاَّ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ هُوَ مَنْهِيٌّ، عَنِ الصَّوْمِ جُمْلَةً; وَلَوْ صَامَ كَانَ عَاصِيًا: كَالْحَائِضِ, وَالنُّفَسَاءِ, وَالْمُسَافِرِ, وَالْمَرِيضِ الَّذِي يُؤْذِيهِ الصَّوْمُ. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّوْمِ, وَلَوْ صَامَهُ لَمْ يُجِزْهُ وَهُوَ الصَّبِيُّ وَإِنَّمَا يَصُومُ إنْ صَامَ تَطَوُّعًا لاَ فَرْضًا. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ مُخَاطَبٌ بِالصَّوْمِ بِشَرْطِ أَنْ يُقَدِّمَ الإِسْلاَمَ قَبْلَهُ, وَهُوَ الْكَافِرُ. وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ مَفْسُوحٌ لَهُ فِي الصَّوْمِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَفِي الْفِطْرِ إنْ شَاءَ وَهُوَ الْمَرِيضُ الَّذِي لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ; فَكُلُّهُمْ غَيْرُ مُلْزَمٍ ابْتِدَاءً صَوْمَ ذَلِكَ الْيَوْمِ بِحَالٍ بِخِلاَفِ مَنْ جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, وَاَلَّذِي جَاءَهُ الْخَبَرُ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ يُجْزِئْهُ صِيَامُ بَاقِي يَوْمِهِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ وَيَعْصِي إنْ أَكَلَ, وَإِنَّمَا اتَّبَعْنَا فِيمَنْ بَلَغَهُ أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ الْخَبَرَ الْوَارِدَ فِي ذَلِكَ فَقَطْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ مَنْ ذَكَرْنَا لاَ يَخْتَلِفُ الْحَاضِرُونَ الْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي أَنَّ الَّتِي طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ, وَالنِّفَاسِ, وَالْقَادِمَ مِنْ السَّفَرِ, وَالْمُفِيقَ مِنْ الْمَرَضِ: لاَ يُجْزِئُهُمْ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَعَلَيْهِمْ قَضَاؤُهُ. وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الَّذِي بَلَغَ, وَاَلَّذِي أَسْلَمَ إنْ أَكَلاَ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا قَضَاؤُهُ. فَصَحَّ أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ غَيْرُ صَائِمِينَ أَصْلاً, وَإِذَا كَانُوا غَيْرَ صَائِمِينَ فَلاَ مَعْنَى لِصِيَامِهِمْ, وَلاَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِصَوْمٍ لَيْسَ صَوْمًا, وَلاَ هُمْ مُؤَدُّونَ بِهِ فَرْضًا لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ هُمْ عَاصُونَ لَهُ بِتَرْكِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْقَضَاءَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فَقَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَلَقَدْ كَانَ يَلْزَمُ مَنْ رَأَى نِيَّةٌ وَاحِدَةٌ تُجْزِئُ لِلشَّهْرِ كُلِّهِ فِي الصَّوْمِ أَنْ يَقُولَ بِهَذَا الْقَوْلِ, وَإِلاَّ فَهُمْ مُتَنَاقِضُونَ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَكَلَ أَوَّلَ النَّهَارِ فَلْيَأْكُلْ آخِرَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/242)


من تعمد الفطر في يوم من رمضان عاصيا لله لم يحل له أن يأكل في باقيه و لا أن يشرب و لا أن يجامع
...
761 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ فِي بَاقِيهِ، وَلاَ أَنْ يَشْرَبَ, وَلاَ أَنْ يُجَامِعَ
وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ غَيْرُ صَائِمٍ بِخِلاَفِ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا, لإِنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا إمَّا مَنْهِيٌّ، عَنِ الصَّوْمِ, وَأَمَّا مُبَاحٌ لَهُ تَرْكُ الصَّوْمِ فَهُمْ فِي إفْطَارِهِمْ مُطِيعُونَ لِلَّهِ تَعَالَى غَيْرُ عَاصِينَ

(6/242)


لَهُ بِذَلِكَ. وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ" وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إلاَّ مَنْ جَهِلَ أَنَّهُ يَوْمُ فَرْضِهِ فَقَطْ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِمْ, فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومُوا, لأَنَّهُمْ لَمْ يَنْوُوهُ مِنْ اللَّيْلِ, وَلَمْ يَكُونُوا عُصَاةً بِالْفِطْرِ فَهُمْ مُفْطِرُونَ لاَ صَائِمُونَ. وَأَمَّا مَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ عَاصِيًا فَهُوَ مُفْتَرَضٌ عَلَيْهِ بِلاَ خِلاَفٍ, صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ, وَمُحَرَّمٌ عَلَيْهِ فِيهِ كُلُّ مَا يَحْرُمُ عَلَى الصَّائِمِ وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ بِإِبَاحَةِ الْفِطْرِ لَهُ إذَا عَصَى بِتَعَمُّدِ الْفِطْرِ, فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ, وَهُوَ مُتَزَيِّدٌ مِنْ الْمَعْصِيَةِ مَتَى مَا تَزَيَّدَ فِطْرًا, وَلاَ صَوْمَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ نَحْوَ هَذَا, وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ: أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ.

(6/243)


من سافر في رمضان فرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا
...
762 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ سَفَرَ طَاعَةٍ أَوْ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ, أَوْ لاَ طَاعَةَ، وَلاَ مَعْصِيَةَ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ الْفِطْرُ إذَا تَجَاوَزَ مِيلاً,
أَوْ بَلَغَهُ, أَوْ إزَاءَهُ, وَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ حِينَئِذٍ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ, وَيَقْضِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ, وَلَهُ أَنْ يَصُومَهُ تَطَوُّعًا, أَوْ، عَنْ وَاجِبٍ لَزِمَهُ, أَوْ قَضَاءً، عَنْ رَمَضَانَ خَالٍ لَزِمَهُ, وَإِنْ وَافَقَ فِيهِ يَوْمَ نَذْرِهِ صَامَهُ لِنَذْرِهِ.
وَقَدْ فَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ سَفَرِ الطَّاعَةِ, وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ فَلَمْ يَرَوْا لَهُ الْفِطْرَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ, وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ كُلِّ ذَلِكَ هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ} فَعَمّ تَعَالَى الأَسْفَارَ كُلَّهَا وَلَمْ يَخُصَّ سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا. وَأَيْضًا فَقَدْ أَتَيْنَا بِالْبَرَاهِينِ عَلَى بُطْلاَنِ الصَّوْمِ بِالْمَعْصِيَةِ بِتَعَمُّدٍ, وَالسَّفَرُ فِي الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ وَفُسُوقٌ, فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِهِمَا. وَالْقَوْمُ أَصْحَابُ قِيَاسٍ بِزَعْمِهِمْ, وَلاَ يَخْتَلِفُونَ: أَنَّ مَنْ قَطَعَ الطَّرِيقَ, أَوْ ضَارَبَ قَوْمًا ظَالِمًا لَهُمْ مُرِيدًا قَتْلَهُمْ, وَأَخْذَ أَمْوَالِهِمْ فَدَفَعُوهُ، عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَثْخَنُوهُ ضَرْبًا فِي تِلْكَ الْمُدَافَعَةِ حَتَّى أَوْهَنُوهُ; فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا لاَ يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى الصَّوْمِ, وَلاَ عَلَى الصَّلاَةِ قَائِمًا; فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيُصَلِّي قَاعِدًا وَيَقْصُرُ فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ مَرَضِ الْمَعْصِيَةِ وَسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا الْمِقْدَارُ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ مُتَقَصَّى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَنَذْكُرُ هَاهُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ طَرَفًا.
وَهُوَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ حَدَّ السَّفَرَ الَّذِي يُفْطِرُ فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ بِمَسِيرِ ثَلاَثَةٍ أَيَّامٍ, وَمِنْ الْمَسَافَاتِ بِمِقْدَارِ مَا بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْمَدَائِنِ; ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.

(6/243)


وَحَدَّ الشَّافِعِيِّ ذَلِكَ بِسِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً. وَحَّدَ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ, مَرَّةً يَوْمًا وَلَيْلَةً, وَمَرَّةً ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً أَرْبَعِينَ مِيلاً, وَمَرَّةً سِتَّةً وَثَلاَثِينَ مِيلاً; ذَكَرَ ذَلِكَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي كِتَابِهِ الْمَعْرُوفِ بِالْمَبْسُوطِ.
قال أبو محمد: وَكُلُّ هَذِهِ حُدُودٌ فَاسِدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ شَيْءٍ مِنْهَا لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ. وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ فَاسِدَةٍ, وَلاَ إجْمَاعٍ قَدْ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ: فَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَقْصُرُ فِي أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ خَيْبَرٍ وَالْمَدِينَةِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَتِسْعُونَ مِيلاً; وَرُوِيَ عَنْهُ أَنْ لاَ يَقْصُرَ فِي أَقَلَّ مِمَّا بَيْنَ الْمَدِينَةَ إلَى السُّوَيْدَاءِ وَهُوَ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِيلاً, وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ يَكُونُ الْفِطْرُ إلاَّ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ يَكُونُ الْقَصْرُ إلاَّ فِي الْيَوْمِ التَّامِّ وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي ثَلاَثِينَ مِيلاً; وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً; وَكُلُّ ذَلِكَ صَحِيحٌ عَنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ الْقَصْرُ فِي سَفَرِ سَاعَةٍ, وَفِي مِيلٍ وَفِي سَفَرِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ بِإِسْنَادٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ, وَهُوَ جَبَلَةُ بْنُ سُحَيْمٍ عَنْهُ, وَمُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ عَنْهُ.
وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ. وَرُوِيَ عَنْهُ يَوْمٌ تَامٌّ, وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ قَصْرَ فِي يَوْمٍ إلَى الْعَتَمَةِ فَإِنْ زِدْت فَأَقْصِرْ, وَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، غَيْرَ مَنْ ذَكَرْنَا, وَقَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُمْ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ, وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا حَدَّا ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا وَكِيعٌ، حدثنا مِسْعَرٌ، وَ، هُوَ ابْنُ كِدَامٍ، عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إنِّي لاَُسَافِرُ السَّاعَةَ مِنْ النَّهَارِ فَأَقْصُرُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ خَلْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: تُقْصَرُ الصَّلاَةُ فِي مَسِيرَةِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حدثنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ قَالَ: سَمِعْت جَبَلَةَ بْنَ سُحَيْمٍ يَقُولُ: سَمِعْت ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ: لَوْ خَرَجْت مِيلاً لَقَصَرْت الصَّلاَةَ. وَعَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السَّمْطِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَصَرَ فِي أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ. وَعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ إلَى مَكَان عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلاً فَقَصَرَ ابْنُ عُمَرَ الصَّلاَةَ وَهَذِهِ أَسَانِيدُ عَنْهُ كَالشَّمْسِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْقَصْرُ فِي ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ. وَعَنْ أَنَسٍ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مِيلاً. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مِيلاً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ

(6/244)


حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَأَقْصُرُ وَأُفْطِرُ فِي بَرِيدَيْنِ مِنْ الْمَدِينَةَ قَالَ: نَعَمْ.
حدثنا عبد الله بن ربيع، حدثنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، حدثنا أَبُو دَاوُد، حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الْمُقْرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيُّوبَ، حدثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ كُلَيْبَ بْنَ ذُهْلٍ الْحَضْرَمِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُبَيْدَ بْنَ جَبْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفِينَةٍ مِنْ الْفُسْطَاطِ فِي رَمَضَانَ فَرَفَعَ ثُمَّ قَرَّبَ غَدَاءَهُ قَالَ: اقْتَرِبْ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ تَرَى الْبُيُوتَ فَقَالَ: أَتَرْغَبُ، عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَكَلَ. وَالرِّوَايَاتُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا.
فأما تَحْدِيدُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ, فَلاَ مَعْنَى لَهُ أَصْلاً وَإِنَّمَا هِيَ دَعَاوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْخَبَرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا مَنَعَ مِنْ أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
قال أبو محمد: وَذَلِكَ خَبَرٌ صَحِيحٌ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ حُكْمِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ أَثَرٌ، وَلاَ دَلِيلٌ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ جَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ ثَلاَثًا" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ لَيْلَتَيْنِ" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ يَوْمًا وَلَيْلَةً" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ يَوْمًا" وَفِي بَعْضِهَا: "لاَ تُسَافِرُ بَرِيدًا". وَهَذِهِ أَلْفَاظٌ اُخْتُلِفَ فِيهَا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَابْنِ عُمَرَ. وَصَحَّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا الْخَبَرُ: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ" دُونَ تَحْدِيدٍ أَصْلاً وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُ فِي ذَلِكَ أَصْلاً; فَإِنْ عَزَمُوا عَلَى تَرْكِ مَنْ اخْتَلَفَ عَنْهُ وَالأَخْذِ بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ; فَهُوَ أَوْلَى عَلَى هَذَا الأَصْلِ, وَإِنْ أَخَذُوا بِالزِّيَادَةِ, فَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ الزَّائِدَةُ عَلَى سَائِرِ الرِّوَايَاتِ, لاَِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ سَفَرٍ وَإِنْ أَخَذُوا بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ فَأَكْثَرُ مِنْ ثَلاَثٍ هُوَ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ لاَ الثَّلاَثُ, كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ". وَهَكَذَا رَوَاهُ هِشَامُ الدَّسْتُوَائِيُّ, وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ قَزَعَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَوَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لاَِبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ مُتَعَلِّقٌ بِهَذَا الْخَبَرِ

(6/245)


أَصْلاً إلاَّ كَتَعَلُّقِ الزُّهْرِيِّ, وَالْحَسَنِ بِذِكْرِ اللَّيْلَتَيْنِ فِيهِ، وَلاَ فَرْقَ. وَمَا لَهُمْ بَعْدَ هَذَا حِيلَةٌ, عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ كَفَوْنَا الْمُؤْنَةَ, فَذَكَرَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ مَنْ تَأَوَّلَ مِنْ الرُّعَاةِ وَغَيْرِهِمْ فَأَفْطَرَ فِي مَخْرَجِ ثَلاَثَةِ أَمْيَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ الْقَضَاءُ, وَرَأَى الْقَصْرَ فِي مِنًى مِنْ مَكَّةَ, وَهَذَا قَوْلُنَا, وَكَذَلِكَ رَأَى أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمُتَأَوِّلِ، وَلاَ فَرْقَ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ رَأَوْا لِمَنْ سَافَرَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَنْ يُفْطِرَ إذَا فَارَقَ بُيُوتَ الْقَرْيَةِ; فَإِنْ رَجَعَ لِشَيْءٍ أُوجِبَ عَلَيْهِ تَرْكُ السَّفَرِ; فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إلاَّ الْقَضَاءُ, فَقَدْ أَوْجَبُوا الْفِطْرَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِيلٍ, وَيُغْنِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يَخُصَّ تَعَالَى سَفَرًا مِنْ سَفَرٍ. وَوَجَدْنَا مَا دُونَ الْمِيلِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ; لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبْعُدُ لِلْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَلاَ يَقْصُرُ، وَلاَ يُفْطِرُ, وَلَمْ نَجِدْ فِي أَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ قَوْلاً، عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالدِّينِ وَاللُّغَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَيَلْزَمُ مَنْ تَعَلَّقَ مِنْ الْحَنَفِيِّينَ بِحَدِيثِ: "لاَ تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ", أَنْ لاَ يَرَى الْقَصْرَ وَالْفِطْرَ فِي سَفَرٍ مَعْصِيَةً; لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يُبِحْ لَهَا بِلاَ خِلاَفٍ سَفَرَ الْمَعْصِيَةِ أَصْلاً; وَإِنَّمَا أَبَاحَ لَهَا بِلاَ شَكٍّ أَسْفَارَ الطَّاعَاتِ; وَهَذَا مِمَّا أَوْهَمُوا فِيهِ مِنْ الأَخْبَارِ أَنَّهُمْ أَخَذُوا بِهِ وَهُمْ مُخَالِفُونَ لَهُ.
قَالَ عَلِيٌّ: فأما مَا دُونَ الْمِيلِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ لَهُ حُكْمُ السَّفَرِ; فَلاَ يَجُوزُ الْفِطْرُ، وَلاَ الْقَصْرُ فِيهِ أَصْلاً, وَإِنْ أَرَادَ مِيلاً فَصَاعِدًا; لإِنَّ نِيَّةَ السَّفَرِ هِيَ غَيْرُ السَّفَرِ; وَقَدْ يَنْوِي السَّفَرَ مَنْ لاَ يُسَافِرُ, وَقَدْ يُسَافِرُ مَنْ لاَ يَنْوِي السَّفَرَ. وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ أَنَسٍ الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ فِي مَنْزِلِهِ إذَا أَرَادَ السَّفَرَ.
وَرُوِيَ، عَنْ عَلِيٍّ: إذْ يُفَارِقُ بُيُوتَ الْقَرْيَةِ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: تَرْكُ الْقَصْرِ حَتَّى يَبْلُغَ مَا يُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَكَانَ هَذَا هُوَ النَّظَرُ لَوْلاَ حَدِيثُ أَنَسٍ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ فَلَمْ يَزَلْ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ", فَهَذَا عَلَى عُمُومِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ مِنْهُ شَيْءٌ بِغَيْرِ نَصٍّ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: يَقْضِي بَعْدَ ذَلِكَ فِي أَيَّامٍ أُخَرَ فَهُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ, وَجَائِزٌ أَنْ يَقْضِيَهُ

(6/246)


فِي سَفَرٍ, وَفِي حَضَرٍ, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخُصَّ بِأَيَّامٍ أُخَرَ حَضَرًا مِنْ سَفَرٍ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يَجُوزُ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ سَافَرَ بَعْدَ دُخُولِ رَمَضَانَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ كُلَّهُ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِطْرِ، وَلاَ يُجْزِئْهُ صَوْمُهُ. ثُمَّ افْتَرَقَ الْقَائِلُونَ بِتَخْيِيرِهِ: فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْفِطْرُ أَفْضَلُ: وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: هُمَا سَوَاءٌ, وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لاَ يُجْزِئْهُ الصَّوْمُ، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ الْفِطْرِ.
فَرُوِّينَا الْقَوْلَ الأَوَّلَ: عَنْ عَلِيٍّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ بَعْدُ لَزِمَهُ الصَّوْمُ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}.
وَعَنْ عَبِيدَةُ مِثْلُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلُهُ; وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّهَا نَهَتْ عَنِ السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ.
وَعَنْ خَيْثَمَةَ كَانُوا يَقُولُونَ: إذَا حَضَرَ رَمَضَانُ: فَلاَ تُسَافِرْ حَتَّى تَصُومَ.
وَعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ مِثْلُهُ قَالَ: فَإِنْ أَبَى أَنْ لاَ يُسَافِرَ فَلْيَصُمْ.
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي مِجْلَزٍ.
وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْمُسَافِرِ أَيَصُومُ أَمْ يُفْطِرُ فَقَالَ: يَصُومُ.
وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الْمُجَوِّزَةُ لِلصَّوْمِ وَالْفِطْرِ; أَوْ الْمُخْتَارَةُ لِلصَّوْمِ: فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ; فَشَغَبُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيثَ: مِنْهَا حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَتْ لَهُ حَمُولَةٌ يَأْوِي إلَى شِبَعٍ فَلْيَصُمْ رَمَضَانَ حَيْثُ أَدْرَكَهُ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ فِي السَّفَرِ بِالْفِطْرِ وَهُوَ صَائِمٌ فَتَرَدَّدُوا وَفَطَرَ هُوَ عليه السلام. وَذَكَرُوا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ فِي السَّفَرِ وَتُتِمُّ الصَّلاَةَ.
وَعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ إنْ أَفْطَرَتْ فَرُخْصَةُ اللَّهِ تَعَالَى, وَإِنْ صُمْت فَالصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ, وَابْنِ عَبَّاسٍ: الصَّوْمُ أَفْضَلُ. وَعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثِ مِثْلُهُ; وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ صَامَ فِي سَفَرٍ; لاَِنَّهُ كَانَ رَاكِبًا, وَأَفْطَرَ سَعْدٌ مَوْلاَهُ, لاَِنَّهُ كَانَ مَاشِيًا وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: صُمْهُ فِي الْيُسْرِ وَأَفْطِرْهُ فِي الْعُسْرِ. وَعَنْ طَاوُوس: الصَّوْمُ أَفْضَلُ, وَعَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ مِثْلُهُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الأَمْرَيْنِ سَوَاءً بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ

(6/247)


أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّ ذَلِكَ شِئْتَ يَا حَمْزَةُ". وَبِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ، عَنِ الْغِطْرِيفِ أَبِي هَارُونَ أَنَّ رَجُلَيْنِ سَافَرَا, فَصَامَ أَحَدُهُمَا وَأَفْطَرَ الآخَرُ, فَذَكَرَا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "كِلاَكُمَا أَصَابَ". وَبِحَدِيثٍ مُرْسَلٍ، عَنْ أَبِي عِيَاضٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ: مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ".
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ وَجَابِرٍ: "كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلاَ يَعِيبُ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ، وَلاَ الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ". وَعَنْ عَلْقَمَةَ, وَالأَسْوَدِ, وَيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمْ سَافَرُوا فِي رَمَضَانَ فَصَامَ بَعْضُهُمْ, وَأَفْطَرَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَعِبْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ إنْ شِئْت فَصُمْ وَإِنْ شِئْت فَأَفْطُرْ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى الْفِطْرَ أَفْضَلَ فَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو إذْ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عليه السلام: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ".
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ اخْتِيَارُ الْفِطْرِ عَلَى الصَّوْمِ: سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, رُوِّينَا أَنَّهُ سَافَرَ هُوَ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ الأَسْوَدِ, وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَصَامَا وَأَفْطَرَ سَعْدٌ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَنَا أَفْقَهُ مِنْهُمَا. وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَصُومُ فِي السَّفَرِ وَكَانَ مَعَهُ رَقِيقٌ فَكَانَ يَقُولُ: يَا نَافِعُ ضَعْ لَهُ سُحُورَهُ قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سَافَرَ أَحَبَّ إلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ يَقُولُ: رُخْصَةُ رَبِّي أَحَبُّ إلَيَّ وَأَنْ آجَرَ لَكَ أَنْ تُفْطِرَ فِي السَّفَرِ. وَيَحْتَجُّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحَدِيثِ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي رُوِّينَا آنِفًا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ, وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ", فَحَسَّنَ الْفِطْرَ وَلَمْ يَزِدْ فِي الصَّوْمِ عَلَى إسْقَاطِ الْجُنَاحِ.
قال علي: هذا مَا احْتَجَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ مِمَّنْ رَأَتْ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لَمْ نَدْعُ مِنْهُ شَيْئًا, وَلَسْنَا نَقُولُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَقْوَالِ فَنَحْتَاجُ إلَى تَرْجِيحِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ, إلاَّ أَنَّهَا كُلَّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى جَوَازِ الصَّوْمِ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ, وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِنَا فَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا دَفْعُهَا كُلُّهَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ وَنَسْتَعِينُ.
أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ, وَكَذَبَ كَذِبًا فَاحِشًا مَنْ احْتَجَّ بِهَا فِي إبَاحَةِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ; لاَِنَّهُ حَرْفُ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنْ مَوْضِعِهِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى مِنْ مِثْلِ هَذَا. وَهَذَا عَارٌ لاَ يَرْضَى بِهِ مُحَقِّقٌ; لإِنَّ نَصَّ الآيَةِ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ

(6/248)


كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي حَالِ الصَّوْمِ الْمَنْسُوخَةِ; وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ الْحُكْمُ فِي أَوَّلِ نُزُولِ صَوْمِ رَمَضَانَ: أَنَّ مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَهُ وَأَطْعَمَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, وَكَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ, هَذَا نَصُّ الآيَةِ, وَلَيْسَ لِلسَّفَرِ فِيهَا مَدْخَلٌ أَصْلاً، وَلاَ لِلإِطْعَامِ مَدْخَلٌ فِي الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ أَصْلاً; فَكَيْف اسْتَجَازُوا هَذِهِ الطَّامَّةَ وَبِهَذَا جَاءَتْ السُّنَنُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَد بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ أَنَّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ وَهْبٍ أَنَّا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: كُنَّا فِي رَمَضَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ فَافْتَدَى بِطَعَامِ مِسْكِينٍ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ.
حدثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حدثنا بَكْرِ يَعْنِي ابْنَ مُضَرَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: لَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كَانَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ وَيَفْتَدِي حَتَّى نَزَلَتْ الآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا فَنَسَخَتْهَا.
قال أبو محمد: فَحِينَئِذٍ كَانَ الصَّوْمُ أَفْضَلَ; فَظَهَرَتْ فَضِيحَةُ مَنْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الآيَةِ فِي الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمُحَبَّقِ: "مَنْ كَانَ يَأْوِي إلَى حَمُولَةٍ أَوْ شِبَعٍ فَلْيَصُمْ", فَحَدِيثٌ سَاقِطٌ لإِنَّ رَاوِيَهُ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ حَبِيبٍ وَهُوَ بَصْرِيٌّ لَيِّنُ الْحَدِيثِ، عَنْ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبَّقِ وَهُوَ مَجْهُولٌ ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ لَمَا كَانَ فِيهِ حُجَّةٌ لاَِحَدٍ مِنْ الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ إلاَّ لِلْقَوْلِ الْمَرْوِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ صُمْهُ فِي الْيُسْرِ, وَأَفْطِرْهُ فِي الْعُسْرِ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ إيجَابُ الصَّوْمِ, وَلاَ بُدَّ عَلَى ذِي الْحَمُولَةِ وَالشِّبَعِ, وَهَذَا خِلاَفُ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ الْمَذْكُورَةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْغِطْرِيفِ, وَأَبِي عِيَاضٍ فَمُرْسَلاَنِ; ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الَّذِي ذَكَرْنَا هَاهُنَا الَّذِي فِيهِ إبَاحَةُ الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ

(6/249)


رِوَايَةِ ابْنِ حَمْزَةَ ابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَأَبُوهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الثَّابِتُ مِنْ حَدِيثِ حَمْزَةَ هُوَ مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ; فَلاَ حَجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ صَائِمًا لِرَمَضَانَ, وَإِذْ لَيْسَ ذَلِكَ فِيهَا فَلاَ يَجُوزُ الْقَطْعُ بِذَلِكَ, وَلاَ الاِحْتِجَاجُ بِاخْتِرَاعِ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ عَلَى الْقُرْآنِ, وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا تَطَوُّعًا. وَالثَّانِي أَنَّهُ حَتَّى لَوْ كَانَ ذَلِكَ فِيهَا نَصًّا لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهَا حُجَّةٌ; لإِنَّ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيجَابُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَلَوْ كَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ قَبْلَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَكَانَ مَنْسُوخًا بِآخِرِ أَمْرِهِ عليه الصلاة والسلام كَمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا احْتِجَاجُ مَنْ أَوْجَبَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ أَهَلَّ عَلَيْهِ الشَّهْرُ فِي الْحَضَرِ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الآيَةِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: فَمَنْ شَهِدَ بَعْضَ الشَّهْرِ فَلْيَصُمْهُ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ تَعَالَى صِيَامَهُ عَلَى مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ لاَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَعْضَهُ, ثُمَّ يُبْطِلُ قَوْلَهُمْ أَيْضًا قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَجَعَلَ السَّفَرَ وَالْمَرَضَ. نَاقِلَيْنِ، عَنِ الصَّوْمِ فِيهِ إلَى الْفِطْرِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ عَامَ الْفَتْحِ فَأَفْطَرَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمُرَادِ رَبِّهِ تَعَالَى, وَالْبَلاَغُ مِنْهُ نَأْخُذُهُ, وَعَنْهُ لاَ مِنْ غَيْرِهِ. فَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ مَا احْتَجُّوا بِهِ, وَجَبَ أَنْ نَأْتِيَ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا, بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: نَذْكُرُ الآنَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي الدَّرْدَاءِ, وَجَابِرٍ; وَحَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو مِنْ الْوُجُوهِ الصِّحَاحِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَنَرَى أَنَّهَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا; ثُمَّ نُعَقِّبُ بِالْبُرْهَانِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ, وَبِهِ نَتَأَيَّدُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، حدثنا مُؤَمَّلُ بْنُ الْفَضْلِ، حدثنا الْوَلِيدِ، هُوَ ابْنُ مُسْلِمٍ، حدثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ حَدَّثَتْنِي أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ حَتَّى إنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ أَوْ كَفَّهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ مَا فِينَا صَائِمٌ إلاَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ

(6/250)


عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِي سَفَرٍ فَأَتَى عَلَى غَدِيرٍ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: "اشْرَبُوا" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَشْرَبُ، وَلاَ تَشْرَبُ فَقَالَ: "إنِّي أَيْسَرُكُمْ إنِّي رَاكِبٌ وَأَنْتُمْ مُشَاةٌ" فَشَرِبَ وَشَرِبُوا. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ فَمَرَّ بِمَاءٍ فَقَالَ: " انْزِلُوا فَاشْرَبُوا"; فَتَلَكَّأَ الْقَوْمُ فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَشَرِبَ وَشَرِبْنَا مَعَهُ.
وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ يُحْتَجُّ بِهَا كَمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ حَدَّثَنِي قَزَعَةُ أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا سَعِيدٍ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَكَّةَ وَنَحْنُ صِيَامٌ فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّكُمْ قَدْ دَنَوْتُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ", فَكَانَتْ رُخْصَةً, فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ, ثُمَّ نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ فَقَالَ: "إنَّكُمْ تُصَبِّحُونَ عَدُوَّكُمْ وَالْفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ فَأَفْطِرُوا", فَكَانَتْ عَزْمَةً فَأَفْطَرْنَا, ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ: عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى مَرَّ بِغَدِيرٍ فِي الطَّرِيقِ وَذَلِكَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَعَطِشَ النَّاسُ فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَأَمْسَكَهُ عَلَى يَدِهِ حَتَّى رَآهُ النَّاسُ ثُمَّ شَرِبَ فَشَرِبَ النَّاسُ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الأَسْلَمِيِّ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ فَقَالَ: "إنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ: حدثنا أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ أَبُو الرَّبِيعِ، حدثنا حَمَّادٌ، هُوَ ابْنُ زَيْدٍ وَقَالَ يَحْيَى، حدثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ ثُمَّ اتَّفَقَ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَحَمَّادٌ كِلاَهُمَا، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الأَسْلَمِيَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي رَجُلٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ قَالَ: "صُمْ إنْ شِئْتَ".
قَالَ عَلِيٌّ: كُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; أَمَّا حَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ: فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي رَمَضَانَ أَصْلاً, وَإِقْحَامُ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ كَذِبٌ; وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَلاَ نُنْكِرُهُ فَلاَ مُتَعَلَّقَ لَهُمْ، وَلاَ لَنَا فِيهِ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فَطَرِيقُ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ لاَ يُحْتَجُّ بِهَا

(6/251)


ثُمَّ هَبْكَ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ فَهُوَ حُجَّةٌ لَنَا عَلَيْهِمْ; لإِنَّ فِيهِ: أَنَّ آخِرَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ الْفِطْرُ, هَذَا إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ. وَفِي حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَذْكُورِ; وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بَيَانٌ أَنَّهُ كَانَ فِي رَمَضَانَ, وَفِيهِمَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ: أَمْرٌ عَظِيمٌ, لأَنَّهُمْ لاَ يُجِيزُونَ لِمَنْ صَامَ وَهُوَ مُسَافِرٌ فِي رَمَضَانَ أَنْ يُفْطِرَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي ابْتَدَأَ صِيَامَهُ, وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ مُخْطِئٌ وَمَا يَبْعُدُ عَنْهُمْ إطْلاَقُ اسْمِ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِ, وَمَالِكٌ يَرَى عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ; فَلْيَنْظُرْ نَاصِرُ أَقْوَالِهِمْ فَبِمَاذَا يَدْخُلُ فِي احْتِجَاجِهِ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ مِنْ إطْلاَقِ اسْمِ الْخَطَأِ وَالْمَعْصِيَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ فِي إفْطَارِهِ, وَهَذَا خُرُوجٌ، عَنِ الإِسْلاَمِ مِمَّنْ أَقْدَمَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: لَوْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ صَائِمًا يَنْوِيه مِنْ رَمَضَانَ لَكَانَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا بِآخِرِ أَمْرِهِ, وَآخِرِ فِعْلِهِ, وَإِذْ لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ الأَخْبَارِ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَامَ تَطَوُّعًا, وَالْفِطْرُ لِلصَّائِمِ تَطَوُّعًا مُبَاحٌ مُطْلَقٌ لاَ كَرَاهَةَ فِيهِ كَمَا فَعَلَ عليه السلام.
وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِمَّنْ يَقُولُ فِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ: "أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسْتَعِيرُ الْحُلِيَّ وَتَجْحَدُهُ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَطْعِ يَدِهَا": لَعَلَّهُ إنَّمَا قَطَعَ يَدَهَا لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ الثَّابِتِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ فَأَمَرَهُ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ": لَعَلَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالإِعَادَةِ لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَيَقُولُ فِي الْخَبَرِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالصَّلاَةُ تُقَامُ فَقَالَ لَهُ: بِأَيِّ صَلاَتَيْكَ تَعْتَدُّ": لَعَلَّهُ إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلاَّهُمَا بَيْنَ النَّاسِ مُكَابَرَةً لِلْبَاطِلِ: وَفِي الْخَبَرِ مَنْصُوصٌ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّيهِمَا نَاحِيَةً. ثُمَّ لاَ يَقُولُ هَاهُنَا: لَعَلَّهُ كَانَ يَصُومُ تَطَوُّعًا; وَهَاهُنَا يَجِبُ أَنْ يُقَالَ هَذَا; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي الأَخْبَارِ دَلِيلٌ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَأَمَّا تِلْكَ الأَخْبَارُ فَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ يَحْتَمِلُ مَا تَأَوَّلُوهُ لإِنَّ نَصَّهَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَحْتَجُّ بِقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ: "ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا نَصُومُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم", فِي إجَازَةِ مَا لَيْسَ فِي الْخَبَرِ مِنْهُ أَثَرٌ، وَلاَ عَثْرٌ مِنْ إجَازَةِ الصَّوْمِ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهُ. وَهُمْ لاَ يَرَوْنَ قَوْلَ أَسْمَاءَ: ذَبَحْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَسًا فَأَكَلْنَاهُ حُجَّةً, وَلاَ يَرَوْنَ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ: "إنَّ طَلاَقَ الثَّلاَثِ كَانَتْ تُجْعَلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدَةً", حُجَّةً.

(6/252)


وَهَذَا عَجَبٌ عَجِيبٌ وَإِنَّمَا فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ إبَاحَةُ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُهُ تَطَوُّعًا أَوْ فَرْضًا غَيْرَ رَمَضَانَ; وَمِمَّا يُبَيِّنُ هَذَا أَنَّهُ لاَ يُعْلَمُ أَنَّهُ عليه السلام سَافَرَ فِي رَمَضَانَ بَعْدَ عَامِ الْفَتْحِ. وَأَمَّا خَبَرُ حَمْزَةَ فَبَيَانٌ جَلِيٌّ فِي أَنَّهُ إنَّمَا سَأَلَهُ عليه السلام، عَنِ التَّطَوُّعِ لِقَوْلِهِ فِي الْخَبَرِ: "إنِّي امْرُؤٌ أَسْرُدُ الصَّوْمَ أَفَأَصُومُ فِي السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ" فَبَطَلَ كُلُّ مَا تَأَوَّلُوهُ, وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الأَخْبَارِ حُجَّةٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: فَإِذْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حُجَّةٌ لاَ مِنْ قُرْآنٍ، وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ فَلِنَذْكُرَ الآنَ الْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ: قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ مَنْسُوخَةٌ، وَلاَ مَخْصُوصَةٌ. فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَفْرِضْ صَوْمَ الشَّهْرِ إلاَّ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ, وَلاَ فَرْضَ عَلَى الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ إلاَّ أَيَّامًا أُخَرَ غَيْرَ رَمَضَانَ, وَهَذَا نَصٌّ جَلِيٌّ لاَ حِيلَةَ فِيهِ; ، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ قَالَ: إنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ إنْ أَفْطَرَا فِيهِ; لاَِنَّهَا دَعْوَى مَوْضُوعَةٌ بِلاَ بُرْهَانٍ قَالَ اللَّهُ تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حدثنا أَحْمَد بْنُ فَتْحٍ، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، حدثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حدثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيِّ، حدثنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ عَامَ الْفَتْحِ إلَى مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ ثُمَّ دَعَا بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ فَرَفَعَهُ حَتَّى نَظَرَ النَّاسُ إلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَ فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: إنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ صَامَ فَقَالَ: "أُولَئِكَ الْعُصَاةُ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ".
قال أبو محمد: إنْ كَانَ صِيَامُهُ عليه السلام لِرَمَضَانَ فَقَدْ نَسَخَهُ بِقَوْلِهِ أُولَئِكَ الْعُصَاةُ وَصَارَ الْفِطْرُ فَرْضًا وَالصَّوْمُ مَعْصِيَةً, وَلاَ سَبِيلَ إلَى خَبَرٍ نَاسِخٍ لِهَذَا أَبَدًا, وَإِنْ كَانَ صِيَامُهُ عليه السلام تَطَوُّعًا فَهَذَا أَحْرَى لِلْمَنْعِ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ لِرَمَضَانَ فِي السَّفَرِ, وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ, وَمُسْلِمٍ.

(6/253)


قَالَ الْبُخَارِيِّ، حدثنا آدَم, وَقَالَ مُسْلِمٌ: حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثُمَّ اتَّفَقَ آدَم وَمُحَمَّدٌ وَكِلاَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلاً قَدْ ظُلِّلَ عَلَيْهِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ: صَائِمٌ, فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ", هَذَا لَفْظُ آدَمَ, وَلَفْظُ غُنْدَرٍ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ".
قال أبو محمد: وَهَذَا مَكْشُوفٌ وَاضِحٌ. فإن قيل: إنَّمَا مَنَعَ عليه السلام فِي مِثْلِ حَالِ ذَلِكَ الرَّجُلِ قلنا: هَذَا بَاطِلٌ لاَ يَجُوزُ لإِنَّ تِلْكَ الْحَالَ مُحَرَّمُ الْبُلُوغِ إلَيْهَا بِاخْتِيَارِ الْمَرْءِ لِلصَّوْمِ فِي الْحَضَرِ كَمَا هُوَ فِي السَّفَرِ فَتَخْصِيصُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَنْعِ مِنْ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ إبْطَالٌ لِهَذِهِ الدَّعْوَى الْمُفْتَرَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَوَاجِبٌ أَخْذُ كَلاَمِهِ عليه السلام عَلَى عُمُومِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيِّ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عَاصِمٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ". صَفْوَانُ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ مَكِّيٌّ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِالدَّرْدَاءِ بِنْتِ أَبِي الدَّرْدَاءِ. وَكَعْبُ بْنُ عَاصِمٍ مَشْهُورُ الصُّحْبَةِ هَاجَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى وَهُوَ مِنْ الأَشَاقِرِ حَيٌّ مِنْ الأَزْدِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعَيْبِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي يَحْيَى، هُوَ ابْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو قِلاَبَةَ الْجَرْمِيُّ أَنَّ أَبَا أُمَيَّةَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ: أُخْبِرُكَ، عَنِ الْمُسَافِرِ إنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْهُ الصِّيَامَ وَنِصْفَ الصَّلاَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي زُرْعَةَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ، حدثنا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ، حدثنا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ هَانِئِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ وَ قد دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ: "أَتَدْرِي مَا وَضَعَ اللَّهُ، عَنِ الْمُسَافِرِ" قُلْتُ: مَا وَضَعَ اللَّهُ، عَنِ الْمُسَافِرِ قَالَ: "الصَّوْمُ, وَشَطْرُ الصَّلاَةِ".
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ ثَوْبَانَ حَدَّثَنِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِرَجُلٍ فِي ظِلٍّ يُرَشُّ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ صَائِمٌ فَقَالَ: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ أَنْ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ وَعَلَيْكُمْ بِرُخْصَةِ اللَّهِ الَّتِي رَخَّصَ لَكُمْ فَاقْبَلُوهَا"

(6/254)


فَهَذَا أَمْرٌ بِقَبُولِهَا وَأَمْرُهُ عليه الصلاة والسلام فَرْضٌ فَهِيَ رُخْصَةٌ مُفْتَرَضَةٌ; وَصَحَّ بِهَذِهِ الأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَسْقَطَ، عَنِ الْمُسَافِرِ الصَّوْمَ وَنِصْفَ الصَّلاَةِ وَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ لَمْ يَأْتِ شَيْءٌ يُعَارِضُهَا فَلاَ يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهَا. فإن قيل: فَإِنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ مَانِعَةٌ كُلُّهَا بِعُمُومِهَا مِنْ كُلِّ صَوْمٍ فِي السَّفَرِ وَأَنْتُمْ تُبِيحُونَ فِيهِ كُلَّ صَوْمٍ إلاَّ رَمَضَانَ وَحْدَهُ قلنا: نَعَمْ, لإِنَّ النُّصُوصَ جَاءَتْ بِمِثْلِ مَا قلنا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} فَافْتَرَضَ تَعَالَى صَوْمَ الثَّلاَثَةِ الأَيَّامِ فِي السَّفَرِ، وَلاَ بُدَّ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَضِّ عَلَى صَوْمِ عَرَفَةَ مَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ فِي السَّفَرِ لِمَنْ كَانَ حَاجًّا. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "إنَّ أَفْضَلَ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُد يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا" فَعَمَّ عليه الصلاة والسلام وَلَمْ يَخُصَّ. وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ النَّارَ، عَنْ وَجْهِهِ" فَحَضَّ عَلَى الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ. فَوَجَبَ الأَخْذُ بِجَمِيعِ النُّصُوصِ فَخَرَجَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ بِالْمَنْعِ وَحْدَهُ وَبَقِيَ سَائِرُ الصَّوْمِ وَاجِبُهُ وَتَطَوُّعُهُ عَلَى جَوَازِهِ فِي السَّفَرِ، وَلاَ يَجُوزُ تَرْكُ نَصٍّ لاِخَرَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَهْلِ وَالْجُرْأَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَاطِلِ فِي الدِّينِ: مَعْنَى قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" مِثْلُ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ".
قال أبو محمد: هَذَا تَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَكَذِبٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقْوِيلٌ لَهُ مَا لَمْ يَقُلْ, وَفَاعِلُ هَذَا يَتَبَوَّأُ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ بِنَصِّ قَوْلِهِ عليه السلام, وَلَيْسَ إذَا وُجِدَ نَصٌّ قَدْ جَاءَ نَصٌّ آخَرُ أَوْ إجْمَاعٌ بِإِخْرَاجِهِ، عَنْ ظَاهِرِهِ وَجَبَ أَنْ تَبْطُلَ جَمِيعُ النُّصُوصِ وَتَخْرُجَ، عَنْ ظَوَاهِرِهَا فَيَحْصُلُ مِنْ فِعْلِ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ الْقَرَامِطَةِ فِي إحَالَةِ الْقُرْآنِ، عَنْ مَفْهُومِهِ وَظَاهِرِهِ, وَمَنْ بَلَغَ إلَى هَاهُنَا فَقَدْ كَفَى خَصْمَهُ مُؤْنَتَهُ. وَيُقَالُ لَهُ: إذَا قُلْت هَذَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" فَقُلْهُ أَيْضًا فِي قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} ، وَلاَ فَرْقَ.
قال أبو محمد: وَمَنْ سَلَكَ هَذَا السَّبِيلَ فَقَدْ أَبْطَلَ الدِّينَ وَالْعَقْلَ وَالتَّفَاهُمَ جُمْلَةً. فإن قيل: فَكَيْف تَقُولُونَ فِي صَوْمِهِ عليه الصلاة والسلام مَعَ قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ

(6/255)


الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. قلنا: هَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لاَ تَخْلُو هَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُزُولُهَا تَأَخَّرَ إلَى وَقْتِ فَتْحِ مَكَّةَ أَوْ بَعْدَهُ, وَتَقَدَّمَ فَرْضُ رَمَضَانَ بِوَحْيٍ آخَرَ كَمَا كَانَ نُزُولُ آيَةِ الْوُضُوءِ فِي الْمَائِدَةِ مُتَأَخِّرًا، عَنْ نُزُولِ فَرْضِهِ; فَإِنْ كَانَ تَأَخَّرَ نُزُولُهَا فَسُؤَالُكُمْ سَاقِطٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَإِنْ كَانَ تَقَدَّمَ نُزُولُهَا فَلاَ يَخْلُو عليه الصلاة والسلام فِي صَوْمِهِ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَامَهُ لِرَمَضَانَ أَوْ تَطَوُّعًا, فَإِنْ كَانَ صَامَهُ تَطَوُّعًا فَسُؤَالُكُمْ سَاقِطٌ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ. وَإِنْ كَانَ صَامَهُ عليه الصلاة والسلام لِرَمَضَانَ فَلاَ نُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ عليه الصلاة والسلام نَسَخَ بِفِعْلِهِ حُكْمَ الآيَةِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ الْفِعْلَ وَعَادَ حُكْمُ الآيَةِ, فَهَذَا كُلُّهُ حَسَنٌ فَكَيْف، وَلاَ دَلِيلَ أَصْلاً عَلَى تَقَدُّمِ نُزُولِ الآيَةِ قَبْلَ غَزْوَةِ الْفَتْحِ وَمَا نَزَلَ بَعْضُهَا إلاَّ بَعْدَ إسْلاَمِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ بَعْدَ الْفَتْحِ بِمُدَّةٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْنَا إلاَّ أَنْ نَذْكُرَ مَنْ قَالَ: بِمِثْلِ قَوْلِنَا لِئَلاَّ يَدَّعُوا عَلَيْنَا خِلاَفَ الإِجْمَاعِ; فَالدَّعْوَى لِذَلِكَ مِنْهُمْ سَهْلَةٌ, وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ خِلاَفًا لِلإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي قَيْسٍ أَنَّهُ صَامَ فِي السَّفَرِ فَأَمَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُعِيدَ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ أَمَرَ رَجُلاً أَنْ يُعِيدَ صِيَامَهُ فِي السَّفَرِ.
قال أبو محمد: إنَّ مَنْ احْتَجَّ فِي رَدِّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ بَيِّعَيْنِ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَتَفَرَّقَا" بِرِوَايَةِ شَيْخٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: الْبَيْعُ عَلَى صَفْقَةٍ أَوْ تَخَايُرٍ; ثُمَّ رَدَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ، عَنْ عُمَرَ وَمَعَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَنُ: لاَُعْجُوبَةٌ وَأُخْلُوقَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَهَتْنِي عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ أَنْ أَصُومَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ نَصْرِ بْنِ عِمْرَانَ الضُّبَعِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: يُسْرٌ وَعُسْرٌ خُذْ بِيُسْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

(6/256)


قال أبو محمد: إخْبَارُهُ بِأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ عُسْرٌ: إيجَابٌ مِنْهُ لِفِطْرِهِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ عَزْمَةٌ.
رُوِّينَا هَذَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ, وَابْنِ أَبِي شَيْبَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي دَاوُد الطَّيَالِسِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ الْقَطَّانِ، عَنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ صَامَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لاَ يُجْزِئْهُ يَعْنِي لاَ يُجْزِئْهُ صِيَامُهُ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ الْحَكَمِ الثَّقَفِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: إنَّمَا هِيَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكَ أَرَأَيْت لَوْ تَصَدَّقْتَ بِصَدَقَةٍ فَرُدَّتْ عَلَيْكَ أَلَمْ تَغْضَبْ؟
قال أبو محمد: هَذَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ كَانَ يَرَى الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ مُغْضِبًا لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ يُقَالُ هَذَا فِي شَيْءٍ مُبَاحٍ أَصْلاً.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ كُلْثُومِ بْنِ جَبْرٍ أَنَّ امْرَأَةً صَحِبَتْ ابْنَ عُمَرَ فِي سَفَرٍ فَوَضَعَ الطَّعَامَ فَقَالَ لَهَا: كُلِّي قَالَتْ: إنِّي صَائِمَةٌ قَالَ: لاَ تَصْحَبِينَا.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْنِ بْنِ عِيسَى الْقَزَّازِ، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: يُقَالُ: الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ كَالإِفْطَارِ فِي الْحَضَرِ. قال أبو محمد: هَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ, وَقَدْ صَحَّ سَمَاعُ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ أَبِيهِ, وَلاَ يَقُولُ عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَوْفٍ فِي الدِّينِ: يُقَالُ كَذَا إلاَّ عَنِ الصَّحَابَةِ أَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم،, وَأَمَّا خُصُومُنَا فَلَوْ وَجَدُوا مِثْلَ هَذَا لَكَانَ أَسْهَلَ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا: لاَ يَقُولُ ذَلِكَ إلاَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، حدثنا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ, وَهَذَا سَنَدٌ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ، عَنِ الْمُحَرَّرِ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: صُمْت رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ فَأَمَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ أُعِيدَهُ فِي أَهْلِي, وَأَنْ أَقْضِيَهُ فَقَضَيْته. وَمِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ

(6/257)


حَرْمَلَةَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ أَأُتِمُّ الصَّلاَةَ فِي السَّفَرِ وَأَصُومُ قَالَ: لاَ فَقَالَ: إنِّي أَقْوَى عَلَى ذَلِكَ قَالَ سَعِيدٌ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَقْوَى مِنْك قَدْ كَانَ يَقْصُرُ وَيُفْطِرُ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ فَقَالَ: أَمَّا الْمَفْرُوضُ فَلاَ وَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَلاَ بَأْسَ بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ مَوْلَى قُرَيْبَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ صَامَ فِي السَّفَرِ: إنَّهُ يَقْضِيه فِي الْحَضَرِ, قَالَ شُعْبَةُ: لَوْ صُمْت رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ لَكَانَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالآخِرِ فَالآخِرِ. وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لاَ تَصُومُوا فِي السَّفَرِ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِب أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يَنْهَى، عَنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ; وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ يَنْهَى، عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لاَ يَصُومُ الْمُسَافِرُ أَفْطِرْ أَفْطِرْ وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا صِيَامَ رَمَضَانَ فِي السَّفَرِ.
قال أبو محمد: وَقَدْ جَاءَ خَبَرٌ لَوْ وَجَدُوا مِثْلَهُ لَعَظُمَ الْخَطْبُ مَعَهُمْ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، حدثنا مُوسَى بْنُ هَارُونَ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حدثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى التَّيْمِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصَّائِمُ فِي السَّفَرِ فِي رَمَضَانَ كَالْمُفْطِرِ فِي الْحَضَرِ".
قال أبو محمد: وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ نَحْتَجُّ بِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ اللَّيْثِيِّ، وَلاَ نَرَاهُ حُجَّةً لَنَا، وَلاَ عَلَيْنَا وَفِي الْقُرْآنِ وَصَحِيحِ السُّنَنِ كِفَايَةٌ, وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لاَ يُجْزِئُ عِنْدَهُ إتْمَامُ الصَّلاَةِ فِي السَّفَرِ, وَمَالِكٌ يَرَى فِي ذَلِكَ الإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ ثُمَّ يَخْتَارُونَ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ عَلَى الْفِطْرِ, تَنَاقُضًا لاَ مَعْنَى لَهُ, وَخِلاَفًا لِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَلِلْقِيَاسِ الَّذِي يَدَّعُونَ لَهُ السُّنَنَ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِذْ قَدْ صَحَّ هَذَا فَمَنْ سَافَرَ فِي رَمَضَانَ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ تَطَوُّعًا, وَلَهُ أَنْ يَصُومَ فِيهِ قَضَاءَ رَمَضَانَ أَفْطَرَهُ قَبْلُ أَوْ سَائِرَ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الصَّوْمِ نَذْرًا أَوْ غَيْرَهُ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} : وَلَمْ يَخُصَّ رَمَضَانَ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَمْنَعْ النَّصُّ مِنْ صِيَامِهِ إلاَّ لِعَيْنِهِ فَقَطْ وَأَمَّا الْمَرِيضُ فَإِنْ كَانَ يُؤْذِيه الصَّوْمُ فَتَكَلَّفَهُ لَمْ يُجْزِهِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهُ لاَِنَّهُ مَنْهِيٌّ

(6/258)


عَنِ الْحَرَجِ وَالتَّكَلُّفِ, وَعَنْ أَذَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَشُقُّ عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ; لاَِنَّهُ لاَ خِلاَفَ فِي ذَلِكَ وَمَا نَعْلَمُ مَرِيضًا لاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الصَّوْمِ قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَالْحَرَجُ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الدِّينِ.

(6/259)


من أقام من قبل الفجر و لم يسافر إلى بعد غروب الشمس في سفره فعليه إذا نوى الإقامة أن ينوي الصوم
...
763 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَقَامَ مِنْ قَبْلِ الْفَجْرِ وَلَمْ يُسَافِرْ إلَى بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي سَفَرِهِ فَعَلَيْهِ إذَا نَوَى الإِقَامَةَ الْمَذْكُورَةَ أَنْ يَنْوِيَ الصَّوْمَ،
وَلاَ بُدَّ, سَوَاءٌ كَانَ فِي جِهَادٍ, أَوْ عُمْرَةٍ, أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ إنَّمَا أُلْزِمَ الْفِطْرَ إذَا كَانَ عَلَى سَفَرٍ وَهَذَا مُقِيمٌ; فَإِنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فَقَدْ أَخْطَأَ إنْ كَانَ جَاهِلاً مُتَأَوِّلاً, وَعَصَى إنْ كَانَ عَالِمًا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ مُقِيمٌ صَحِيحٌ ظَنَّ أَنَّهُ مُسَافِرٌ; فَإِنْ نَوَى مِنْ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي سَفَرِهِ أَنْ يَرْحَلَ غَدًا فَلَمْ يَنْوِ الصَّوْمَ فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ حَدَثَتْ لَهُ إقَامَةٌ فَهُوَ مُفْطِرٌ; لاَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِمَا فَعَلَ, وَهُوَ عَلَى سَفَرٍ مَا لَمْ يَنْوِ الإِقَامَةَ الْمَذْكُورَةَ وَهَذَا بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ; لإِنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِي الصَّلاَةِ بِقَصْرِ عِشْرِينَ يَوْمًا يُقِيمُهَا فِي الْجِهَادِ, وَبِقَصْرِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يُقِيمُهَا فِي الْحَجِّ. وَبِقَصْرِ مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ مُقِيمًا مَا بَيْنَ نُزُولِهِ إلَى رَحِيلِهِ مِنْ غَدٍ, وَلَمْ يَأْتِ نَصٌّ بِأَنْ يُفْطِرَ فِي غَيْرِ يَوْمٍ لاَ يَكُونُ فِيهِ مُسَافِرًا.
فإن قيل: قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَهَذَا عَلَى سَفَرٍ قلنا: لَوْ كَانَتْ "عَلَى" فِي هَذِهِ الآيَةِ مَعْنَاهَا مَا ظَنَنْتُمْ مِنْ إرَادَةِ السَّفَرِ لاَ الدُّخُولِ فِي السَّفَرِ لَوَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ السَّفَرَ وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ أَنْ يُفْطِرَ وَإِنْ نَوَى السَّفَرَ بَعْدَ أَيَّامٍ; لاَِنَّهُ عَلَى سَفَرٍ وَهَذَا مَا لاَ يُشَكُّ فِي أَنَّهُ لاَ يَقُولُهُ أَحَدٌ; وَيُبْطِلُهُ أَيْضًا أَوَّلُ الآيَةِ إذْ يَقُولُ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فَوَجَبَ عَلَى الشَّاهِدِ صِيَامُهُ وَعَلَى الْمُسَافِرِ إفْطَارُهُ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ" وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "إنَّ اللَّهَ وَضَعَ، عَنِ الْمُسَافِرِ الصِّيَامَ وَشَطْرَ الصَّلاَةِ". فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ إلاَّ مُسَافِرٌ أَوْ شَاهِدٌ; فَالشَّاهِدُ يَصُومُ وَالْمُسَافِرُ يُفْطِرُ وَلَيْسَ الْمُسَافِرُ إلاَّ الْمُنْتَقِلُ لاَ الْمُقِيمُ; فَلاَ يُفْطِرُ إلاَّ مَنْ انْتَقَلَ بِخِلاَفِ مَنْ لَمْ يَنْتَقِلْ, وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا صَائِمًا فَحَدَثَ لَهُ سَفَرٌ فَإِنَّهُ إذَا بَرَزَ، عَنْ مَوْضِعِهِ فَقَدْ سَافَرَ فَقَدْ بَطَلَ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
فإن قيل: بَلْ نَقِيسَ الصَّوْمَ عَلَى الصَّلاَةِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ بَاطِلاً; لأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ قَصْرَ بَعْضِ الصَّلَوَاتِ لاَ يُقَاسَ عَلَيْهِ قَصْرُ سَائِرِهَا, فَإِذَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ قِيَاسُ قَصْرِ صَلاَةٍ عَلَى قَصْرِ صَلاَةٍ أُخْرَى فَأَبْطَلُ وَأَبْعَدُ أَنْ يُقَاسَ فِطْرٌ عَلَى فِطْرٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَنْوِي فِي الصَّلاَةِ الْمُسَافِرُ إقَامَةً فَيَنْتَقِلُ إلَى حُكْمِ الْمُقِيمِ، وَلاَ يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي الصَّوْمِ, فَبَطَلَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قِيَاسُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخِرِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/259)


764 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَيْضُ الَّذِي يُبْطِلُ الصَّوْمَ هُوَ الأَسْوَدُ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دَمَ الْحَيْضِ أَسْوَدُ يُعْرَفُ". وَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: "فَإِذَا جَاءَ الآخَرُ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي" وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ الطَّهَارَةِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ.
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ, وَغَيْرِهَا: "كُنَّا لاَ نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالْكُدْرَةَ شَيْئًا".

(6/260)


إذا رأت الحائض الطهر قبل الفجر أو النفساء فأخرتا الغسل عمدا إلى طلوع الفجر الخ
...
765 - مَسْأَلَةٌ: وَإِذَا رَأَتْ الْحَائِضُ الطُّهْرَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ رَأَتْهُ النُّفَسَاءُ وَأَتَمَّتَا عِدَّةَ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ قَبْلَ الْفَجْرِ فَأَخَّرَتَا الْغُسْلَ عَمْدًا إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ
ثُمَّ اغْتَسَلَتَا وَأَدْرَكَتَا الدُّخُولَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يَضُرَّهُمَا شَيْئًا وَصَوْمُهُمَا تَامٌّ; لاَِنَّهُمَا فَعَلَتَا مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُمَا; فَإِنْ تَعَمَّدَتَا تَرْكَ الْغُسْلِ حَتَّى تَفُوتَهُمَا الصَّلاَةُ بَطَلَ صَوْمُهُمَا; لاَِنَّهُمَا عَاصِيَتَانِ بِتَرْكِ الصَّلاَةِ عَمْدًا, فَلَوْ نَسِيَتَا ذَلِكَ أَوْ جَهِلَتَا فَصَوْمُهُمَا تَامٌّ; لاَِنَّهُمَا لَمْ يَتَعَمَّدَا مَعْصِيَةً; وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/260)


766 - مَسْأَلَةٌ: وَتَصُومُ الْمُسْتَحَاضَةُ كَمَا تُصَلِّي
عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا فَأَغْنَى، عَنْ إعَادَتِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/260)


من كانت عليه أيام من رمضان فأخر قضاءها عمدا أو لعذر حتى جاء رمضان آخر
...
767 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ فَأَخَّرَ قَضَاءَهَا عَمْدًا, أَوْ لِعُذْرٍ,
أَوْ لِنِسْيَانٍ حَتَّى جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ فَإِنَّهُ يَصُومُ رَمَضَانَ الَّذِي وَرَدَ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذَا أَفْطَرَ فِي أَوَّلِ شَوَّالٍ قَضَى الأَيَّامَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِ، وَلاَ مَزِيدَ, وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَّرَهَا عِدَّةَ سِنِينَ، وَلاَ فَرْقَ إلاَّ أَنَّهُ قَدْ أَسَاءَ فِي تَأْخِيرِهَا عَمْدًا سَوَاءٌ أَخَّرَهَا إلَى رَمَضَانَ أَوْ مِقْدَارَ مَا كَانَ يُمْكِنُهُ قَضَاؤُهَا مِنْ الأَيَّامِ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فَالْمُسَارَعَةُ إلَى اللَّهِ الْمُفْتَرَضَةُ وَاجِبَةٌ. وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمُتَعَمِّدَ لِلْقَيْءِ, وَالْحَائِضَ, وَالنُّفَسَاءَ: بِالْقَضَاءِ; وَلَمْ يَحُدَّ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ وَقْتًا بِعَيْنِهِ, فَالْقَضَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدَّى أَبَدًا, وَلَمْ يَأْتِ نَصُّ قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ بِإِيجَابِ إطْعَامٍ فِي ذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ إلْزَامُ ذَلِكَ أَحَدًا لاَِنَّهُ شَرْعٌ وَالشَّرْعُ لاَ يُوجِبُهُ فِي الدِّينِ إلاَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ. وقال مالك: يُطْعِمُ مَعَ الْقَضَاءِ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ الرَّمَضَانِ الآتِي مُدًّا مُدًّا عَدَدَهَا مَسَاكِينَ إنْ تَعَمَّدَ

(6/260)


768 - مَسْأَلَةٌ: وَالْمُتَابَعَةُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ وَاجِبَةٌ:
لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَيَقْضِيهَا مُتَفَرِّقَةً وَتُجْزِئُهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَلَمْ يَحُدَّ تَعَالَى فِي ذَلِكَ وَقْتًا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ بِخُرُوجِهِ.
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ نَعْنِي أَنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ قَضَائِهَا مُتَفَرِّقَةً. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: بِأَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ إلاَّ مُتَتَابِعَةً بِأَنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ}.
قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: نَزَلَتْ: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مُتَتَابِعَاتٍ} فَسَقَطَتْ مُتَتَابِعَاتٌ.
قال أبو محمد: سُقُوطُهَا مُسْقِطٌ لِحُكْمِهَا, لاَِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ الْقُرْآنُ بَعْدَ نُزُولِهِ إلاَّ بِإِسْقَاطِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ قَالَ اللَّهُ تعالى: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وَقَالَ تعالى: {مَا نَنْسَخُ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وَقَالَ تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ} فإن قيل: قَدْ يَسْقُطُ لَفْظُ الآيَةِ وَيَبْقَى حُكْمُهَا كَمَا كَانَ فِي آيَةِ الرَّجْمِ. قلنا: لَوْلاَ إخْبَارُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِبَقَاءِ حُكْمِ الرَّجْمِ لَمَا جَازَ الْعَمَلُ بِهِ بَعْدَ إسْقَاطِ الآيَةِ النَّازِلَةِ بِهِ لإِنَّ مَا رَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى فَلاَ يَجُوزُ لَنَا إبْقَاءُ لَفْظِهِ، وَلاَ حُكْمِهِ إلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ.

(6/261)


769 - مَسْأَلَةٌ: وَالأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْ عَرَفَ رَمَضَانَ لَزِمَهُ صِيَامُهُ إنْ كَانَ مُقِيمًا;
لاَِنَّهُ مُخَاطَبٌ بِصَوْمِهِ فِي الْقُرْآنِ; فَإِنْ سُوفِرَ بِهِ أَفْطَرَ، وَلاَ بُدَّ لاَِنَّهُ عَلَى سَفَرٍوَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ لِمَا ذُكِرَ قَبْلُ; فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ الشَّهْرَ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ صِيَامُهُ وَلَزِمَتْهُ أَيَّامٌ أُخَرُ إنْ كَانَ مُسَافِرًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَتَحَرَّى شَهْرًا وَيُجْزِئُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: إنْ وَافَقَ شَهْرًا قَبْلَ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ, وَإِنْ وَافَقَ شَهْرًا بَعْدَ رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ, لاَِنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً، عَنْ رَمَضَانَ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا تَحَرِّي شَهْرٍ فَيُجَزِّئُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ قَضَاءً فَحُكْمٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قُرْآنٌ, وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ, وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ دَعْوَى فَاسِدَةٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهَا. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ. قلنا: هَذَا بَاطِلٌ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ التَّحَرِّيَ عَلَى مَنْ جَهِلَ الْقِبْلَةَ; بَلْ مَنْ جَهِلَهَا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا, فَيُصَلِّي كَيْفَ شَاءَ. فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَاهُ عَلَى مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ. قلنا: وَهَذَا بَاطِلٌ, أَيْضًا, لاَِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صَلاَةٌ إلاَّ حَتَّى يُوقِنَ بِدُخُولِ وَقْتِهَا.
قال أبو محمد: وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ إلاَّ عَلَى مَنْ شَهِدَهُ, وَبِالضَّرُورَةِ نَدْرِي أَنَّ مَنْ جَهِلَ وَقْتَهُ فَلَمْ يَشْهَدْهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَقَالَ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ مَعْرِفَةُ دُخُولِ رَمَضَانَ فَلَمْ يُكَلِّفْهُ اللَّهُ تَعَالَى صِيَامَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ, وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ صَوْمُ الشَّهْرِ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ; لاَِنَّهُ صَوْمُ غَيْرِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
فَإِنْ صَحَّ عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِيهِ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا فَعَلَيْهِ مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمَرِيضِ فِيهِ وَالْمُسَافِرِ فِيهِ وَهُوَ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ, فَيَقْضِي الأَيَّامَ الَّتِي سَافَرَ, وَاَلَّتِي مَرِضَ فَقَطْ، وَلاَ بُدَّ; وَإِنْ لَمْ يُوقِنْ بِأَنَّهُ مَرِضَ فِيهِ أَوْ سَافَرَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(6/262)


الحامل و المرضع و الشيخ الكبير كلهم مخاطبون بالصوم
...
770 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَامِلُ, وَالْمُرْضِعُ, وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ كُلُّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالصَّوْمِ
فَصَوْمُ رَمَضَانَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ, فَإِنْ خَافَتْ الْمُرْضِعُ عَلَى الْمُرْضَعِ قِلَّةَ اللَّبَنِ وَضَيْعَتَهُ لِذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا, أَوْ لَمْ يَقْبَلْ ثَدْيَ غَيْرِهَا, أَوْ خَافَتْ الْحَامِلُ عَلَى الْجَنِينِ, أَوْ عَجَزَ الشَّيْخُ، عَنِ الصَّوْمِ لِكِبَرِهِ: أَفْطَرُوا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ إطْعَامَ, فَإِنْ أَفْطَرُوا لِمَرَضٍ بِهِمْ عَارِضٍ فَعَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ. أَمَّا قَضَاؤُهُمْ لِمَرَضٍ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وَأَمَّا وُجُوبُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا فِي الْخَوْفِ عَلَى الْجَنِينِ,

(6/262)


وَالرَّضِيعِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ " فَإِذْ رَحْمَةُ الْجَنِينِ, وَالرَّضِيعِ: فَرْضٌ, وَلاَ وُصُولَ إلَيْهَا إلاَّ بِالْفِطْرِ: فَالْفِطْرُ فَرْضٌ; وَإِذْ هُوَ فَرْضٌ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُمَا الصَّوْمُ, وَإِذَا سَقَطَ الصَّوْمُ فَإِيجَابُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا شَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَلَمْ يُوجِبْ اللَّهُ تَعَالَى الْقَضَاءَ إلاَّ عَلَى الْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ, وَالْحَائِضِ, وَالنُّفَسَاءِ, وَمُتَعَمِّدِ الْقَيْءِ فَقَطْ, وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. وَأَمَّا الشَّيْخُ الَّذِي لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ لِكِبَرِهِ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ فِي وُسْعِهِ فَلَمْ يُكَلِّفْهُ. وَأَمَّا تَكْلِيفُهُمْ إطْعَامًا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ" فَلاَ يَجُوزُ لاَِحَدٍ إيجَابُ غَرَامَةٍ لَمْ يَأْتِ بِهَا نَصٌّ، وَلاَ إجْمَاعٌ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَلْقَمَةَ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ لَهُ: إنِّي حُبْلَى وَأَنَا أُطِيقُ الصَّوْمَ وَزَوْجِي يَأْمُرُنِي أَنْ أُفْطِرَ فَقَالَ لَهَا عَلْقَمَةُ: أَطِيعِي رَبَّكِ وَأَعْصِي زَوْجَكِ. وَمِمَّنْ أَسْقَطَ عَنْهَا الْقَضَاءَ: رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ سَأَلَتْ ابْنَ عُمَرَ وَهِيَ حُبْلَى فَقَالَ لَهَا: أَفْطِرِي وَأَطْعِمِي كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ تَقْضِي.
وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ, وَقَتَادَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ لاََمَةٍ لَهُ مُرْضِعٍ: أَنْتِ بِمَنْزِلَةِ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} أَفْطِرِي وَأَطْعِمِي كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ تَقْضِي.
رُوِّينَا كِلَيْهِمَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادٍ, وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: تُفْطِرُ الْحَامِلُ الَّتِي فِي شَهْرِهَا وَالْمُرْضِعُ الَّتِي تَخَافُ عَلَى وَلَدِهَا وَتُطْعِمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِمَا. وَبِهِ يَقُولُ قَتَادَةُ, وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَمِمَّنْ أَسْقَطَ الإِطْعَامَ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تُفْطِرُ الْحَامِلُ, وَالْمُرْضِعُ فِي رَمَضَانَ وَيَقْضِيَانِهِ صِيَامًا، وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهِمَا. وَمِثْلُهُ، عَنْ عِكْرِمَةَ, وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ. وَمِمَّنْ رَأَى عَلَيْهِمَا الأَمْرَيْنِ جَمِيعًا: عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا خَافَتْ الْمُرْضِعُ وَالْحَامِلُ عَلَى وَلَدِهَا فَلْتُفْطِرْ وَلْتُطْعِمْ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ وَلِتَقْضِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.

(6/263)


قال أبو محمد: فَلَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى إيجَابِ الْقَضَاءِ، وَلاَ عَلَى إيجَابِ الإِطْعَامِ فَلاَ يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ; إذْ لاَ نَصَّ فِي وُجُوبِهِ، وَلاَ إجْمَاعَ, وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَهُمْ. مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ, فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فِي إسْقَاطِ الْقَضَاءِ وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ قَوْلِنَا كَمَا رُوِّينَا، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ، حدثنا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزُّبَيْرِيِّ، حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنْ مُرْضِعٍ فِي رَمَضَانَ خَشِيَتْ عَلَى وَلَدِهَا فَرَخَّصَ لَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْفِطْرِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً، وَلاَ طَعَامًا, وقال مالك: أَمَّا الْمُرْضِعُ فَتُفْطِرُ وَتُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا وَتَقْضِي مَعَ ذَلِكَ, وَأَمَّا الْحَامِلُ فَتَقْضِي، وَلاَ إطْعَامَ عَلَيْهَا, وَلاَ يُحْفَظْ هَذَا التَّقْسِيمُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
قال أبو محمد: احْتَجَّ مَنْ رَأَى الإِطْعَامَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}. وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي الْحُبْلَى وَالْمُرْضِعِ, وَالشَّيْخِ, وَالْعَجُوزِ".
وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى الْقَضَاءَ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُرَخِّصُ لِلْحُبْلَى, وَالْمُرْضِعِ أَنْ يُفْطِرَا فِي رَمَضَانَ فَإِذَا أَفْطَمَتْ الْمُرْضِعُ, وَوَضَعَتْ الْحُبْلَى جَدَّدَتَا صَوْمَهُمَا".
قَالَ عَلِيٌّ: حَدِيثُ عِكْرِمَةَ مُرْسَلٌ; وَحَدِيثُ الضَّحَّاكِ فِيهِ ثَلاَثُ بَلاَيَا, جُوَيْبِرٌ وَهُوَ سَاقِطٌ وَالضَّحَّاكُ مِثْلُهُ وَالإِرْسَالُ مَعَ ذَلِكَ, لَكِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ قَبْلُ فِي حُكْمِ الصَّوْمِ فِي السَّفَرِ مِنْ طَرِيقِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ, أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنْسُوخَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} فَقَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ, فَهَذَا هُوَ الْمُسْنَدُ الصَّحِيحُ الَّذِي لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهُ. وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ مِنْ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَإِنَّهُمْ يُصَرِّفُونَ هَذِهِ الآيَةَ تَصْرِيفَ الأَفْعَالِ فِي غَيْرِ مَا أُنْزِلَتْ فِيهِ, فَمَرَّةً يَحْتَجُّونَ بِهَا فِي أَنَّ الصَّوْمَ فِي السَّفَرِ أَفْضَلُ, وَمَرَّةً يُصَرِّفُونَهَا فِي الْحَامِلِ, وَالْمُرْضِعِ, وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ, وَكُلُّ هَذَا إحَالَةٌ لِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى, وَتَحْرِيفٌ لِلْكَلِمِ، عَنْ مَوَاضِعِهِ, وَمَا نَدْرِي كَيْفَ يَسْتَجِيزُ مَنْ يَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مِثْلَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَفِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الضَّلاَلِ

(6/264)


وَأَمَّا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ, وَلَمْ يَرَ مَالِكٌ الإِطْعَامَ عَلَيْهِ وَاجِبًا. وقال الشافعي مَرَّةً كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَرَّةً كَقَوْلِ مَالِكٍ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَجَرِيرٍ قَالَ سُفْيَانُ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٌ} يُكَلَّفُونَهُ، وَلاَ يُطِيقُونَهُ. قَالَ: هَذَا الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الْهَرِمُ وَالْمَرْأَةُ الْكَبِيرَةُ الْهَرِمَةُ لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِثْلَهُ.
قال علي: هذا صَحِيحٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ: إنَّهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, وَصَحَّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ ضَعُفَ، عَنِ الصَّوْمِ إذْ كَبِرَ فَكَانَ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا, قَالَ قَتَادَةُ: الْوَاحِدُ كَفَّارَةٌ, وَالثَّلاَثَةُ تَطَوُّعٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَرْمَلَةَ قَالَ: سَمِعْت سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} هُوَ الْكَبِيرُ الَّذِي عَجَزَ، عَنِ الصَّوْمِ, وَالْحُبْلَى يَشُقُّ عَلَيْهَا الصَّوْمُ, فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إطْعَامُ مِسْكِينٍ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ, وَقَتَادَةَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ, وَالْعَجُوزِ أَنَّهُمَا يُطْعِمَانِ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَرُوِيَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّائِبِ وَهُوَ مِنْ الصَّحَابَةِ مِثْلُ ذَلِكَ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ. وَعَنْ مَكْحُولٍ, وطَاوُوس, وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ فِيمَنْ مَنَعَهُ الْعُطَاشُ مِنْ الصَّوْمِ أَنَّهُ يُفْطِرُ وَيُطْعِمُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مُدًّا.
قال أبو محمد: فَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الشَّيْخِ الَّذِي لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ لِهَرَمِهِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ, وَلَمْ يَرَهُ عَلَى الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ. وَأَوْجَبَهُ مَالِكٌ عَلَى الْمُرْضِعِ خَاصَّةً, وَلَمْ يُوجِبْهُ عَلَى الْحَامِلِ، وَلاَ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ; وَهَذَا تَنَاقُضٌ ظَاهِرٌ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ الْحَنَفِيِّينَ بِأَنَّ الْحَامِلَ

(6/265)


وَالْمُرْضِعَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ; لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أُبِيحَ لَهُمْ الْفِطْرُ دُونَ إطْعَامٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالشَّيْخُ كَذَلِكَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالْمَرِيضِ, وَالْمُسَافِرِ, لاَِنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ مِنْ أَجْلِ نَفْسِهِ كَمَا أُبِيحَ لَهُمَا مِنْ أَجْلِ أَنْفُسِهِمَا وَأَمَّا الْحَامِلُ وَالْمُرْضِعُ; فَإِنَّمَا أُبِيحَ لَهُمَا الْفِطْرُ مِنْ أَجْلِ غَيْرِهِمَا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا الْمَالِكِيُّونَ فَيُشَنِّعُونَ بِخِلاَفِ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ. وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا: عَلِيًّا, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَقَيْسَ بْنَ السَّائِبِ; وَأَبَا هُرَيْرَةَ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ. وَخَالَفُوا: عِكْرِمَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءً, وَقَتَادَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ, وَهُمْ يُشَنِّعُونَ بِمِثْلِ هَذَا.
قال أبو محمد: وَأَمَّا نَحْنُ فَلاَ حُجَّةَ عِنْدَنَا فِي غَيْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهَا: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ} فَقِرَاءَةٌ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا; لإِنَّ الْقُرْآنَ لاَ يُؤْخَذُ إلاَّ عَنْ لَفْظِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ احْتَجَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فَلْيَقْرَأْ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَحَاشَ اللَّهَ أَنْ يُطَوِّقَ الشَّيْخَ مَا لاَ يُطِيقُهُ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَسْخُ هَذِهِ الآيَةِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ, وَفِي بَابِ صَوْمِ الْمُسَافِرِ, وَأَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ قَطُّ فِي الشَّيْخِ, وَلاَ فِي الْحَامِلِ, وَلاَ فِي الْمُرْضِعِ وَإِنَّمَا نَزَلَتْ فِي حَالٍ وَقَدْ نُسِخَتْ وَبَطَلَتْ. وَالشَّيْخُ, وَالْعَجُوزُ اللَّذَانِ لاَ يُطِيقَانِ الصَّوْمَ فَالصَّوْمُ لاَ يَلْزَمُهُمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَإِذَا لَمْ يَلْزَمْهُمَا الصَّوْمُ فَالْكَفَّارَةُ لاَ تَلْزَمُهُمَا, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُلْزِمْهُمَا إيَّاهَا، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم وَالأَمْوَالُ مُحَرَّمَةٌ إلاَّ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ.
وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ يُسْقِطُونَ الْكَفَّارَةَ عَمَّنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَمْدًا وَقَصَدَ إبْطَالَ صَوْمِهِ عَاصِيًا, لِلَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِ قَوْمِ لُوطٍ, وَبِالأَكْلِ, وَشُرْبِ الْخَمْرِ عَمْدًا وَبِتَعَمُّدِ الْقَيْءِ. نَعَمْ, وَبَعْضُهُمْ يُسْقِطُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ عَنْهُ فِيمَنْ أَخْرَجَ مِنْ بَيْنِ أَسْنَانِهِ شَيْئًا مِنْ طَعَامِهِ فَتَعَمَّدَ أَكْلَهُ ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ, ثُمَّ يُوجِبُونَ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ مِمَّنْ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالإِفْطَارِ وَأَبَاحَهُ لَهُ مِنْ مُرْضِعٍ خَائِفَةٍ عَلَى رَضِيعِهَا التَّلَفَ, وَشَيْخٍ كَبِيرٍ لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ ضَعْفًا, وَحَامِلٍ تَخَافُ عَلَى مَا فِي1 بَطْنِهَا; وَحَسْبُكَ بِهَذَا تَخْلِيطًا; ، وَلاَ يَحِلُّ قَبُولُ مِثْلِ هَذَا إلاَّ مِنْ الَّذِي لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
ـــــــ
1 في النسخة رقم "16" "على ذي بطنها".

(6/266)


من وطئ في اليوم مرارا فكفارة واحدة فقط
...
771 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ وَطِئَ مِرَارًا فِي الْيَوْمِ عَامِدًا فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ,
وَمَنْ وَطِئَ فِي يَوْمَيْنِ عَامِدًا فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِ لِكُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَةٌ, سَوَاءٌ كَفَّرَ قَبْلَ أَنْ يَطَأَ
الثَّانِيَةَ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: عَلَيْهِ لِكُلِّ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّهُ أَفْطَرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ عَامِدًا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ إلاَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَفَّرَ ثُمَّ أَفْطَرَ نَهَارًا آخَرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ سَوَاءٌ كَفَّرَ أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا كَانَتْ الأَيَّامُ مِنْ شَهْرٍ وَاحِدٍ; فَإِنْ كَانَ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ أَفْطَرَ فِيهِمَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ اثْنَيْنِ, فَلِكُلِّ يَوْمٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ غَيْرُ كَفَّارَةِ الْيَوْمِ الآخَرِ. فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيمَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ أَيَّامَ رَمَضَانَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا أَوْ يَوْمًا وَاحِدًا مِنْهَا فِي أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ, إذَا لَمْ يُكَفِّرْ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ, وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِيمَنْ أَفْطَرَ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَتَيْنِ كَفَّرَ بَيْنَهُمَا أَوْ لَمْ يُكَفِّرْ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيمَنْ أَفْطَرَ يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ وَكَفَّرَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ; فَمَرَّةٌ قَالَ: عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى, وَمَرَّةٌ قَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ الْكَفَّارَةُ الَّتِي كَفَّرَ بَعْدُ. وقال مالك وَاللَّيْثُ, وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ, وَالشَّافِعِيُّ: مِثْلَ قَوْلِنَا وَهُوَ عَطَاءٍ, وَأَحَدُ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: وَهَذَا مِمَّا تَنَاقَضَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَخَالَفَ فِيهِ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي وَطِئَ امْرَأَتَهُ فِي رَمَضَانَ بِالْكَفَّارَةِ.فَصَحَّ أَنَّ لِذَلِكَ الْيَوْمِ الْكَفَّارَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا, وَكُلُّ يَوْمٍ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْيَوْمِ; لإِنَّ الْخِطَابَ بِالْكَفَّارَةِ وَاقِعٌ عَلَيْهِ فِيهِ كَمَا وَقَعَ فِي الْيَوْمِ الأَوَّلِ، وَلاَ فَرْقَ. فإن قيل: هَلاَّ قِسْتُمْ هَذَا عَلَى الْحُدُودِ قلنا: الْقِيَاسُ بَاطِلٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لإِنَّ الْحُدُودَ الَّتِي يُقِيمُهَا الإِمَامُ وَالْحَاكِمُ عَلَى الْمَرْءِ كُرْهًا, وَلاَ يَحِلُّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُقِيمَهَا عَلَى نَفْسِهِ, بِخِلاَفِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي إنَّمَا يُقِيمُهَا الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ مُخَاطَبٌ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ, وَلَيْسَ مُخَاطَبًا بِالْحُدُودِ عَلَى نَفْسِهِ; وَفُرُوقٌ أُخَرُ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحُدُودِ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَأَى إنْ كَانَ الْيَوْمَانِ مِنْ رَمَضَانَيْنِ فَكَفَّارَتَانِ، وَلاَ بُدَّ; وَلاَ خِلاَفَ مِنْهُ فِي أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِامْرَأَتَيْنِ مِنْ بَلَدَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي عَامَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَحَدٌّ وَاحِدٌ, وَلَوْ شَرِبَ خَمْرًا مِنْ عَصِيرِ عَامٍ وَاحِدٍ, وَخَمْرًا مِنْ عَصِيرِ عَامٍ آخَرَ فَحَدٌّ وَاحِدٌ, وَلَوْ سَرَقَ فِي عَامَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَقَطْعٌ وَاحِدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَمِنْ أَعْجَبِ الأَشْيَاءِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ مَا ذَكَرْنَا, وَرَأَى فِيمَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتَيْهِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ أَنَّ عَلَيْهِ لِكُلِّ امْرَأَةٍ كَفَّارَةً أُخْرَى. وَقَالَ فِيمَنْ قَالَ فِي مَجْلِسٍ:

(6/267)


وَاَللَّهِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا, ثُمَّ قَالَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ: وَاَللَّهِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا أَنَّهُمَا يَمِينَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ, وَمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لاَ كَلَّمْت زَيْدًا: فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ أَنَّهُمَا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَأَمَّا إذَا كَرَّرَ الْوَطْءَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ إلاَّ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يَسْأَلْهُ أَعَادَ أَمْ لاَ وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَ فَقَدْ أَفْطَرَ, فَالْوَطْءُ الثَّانِي وَقَعَ فِي غَيْرِ صِيَامٍ فَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ, وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْوَاطِئَ بِأَوَّلِ إيلاَجِهِ مُتَعَمِّدًا ذَاكِرًا وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عَاوَدَ أَوْ لَمْ يُعَاوِدْ, وَلاَ كَفَّارَةَ فِي إيلاَجِهِ ثَانِيَةً بِالنَّصِّ, وَالإِجْمَاعِ.

(6/268)


من أفطر رمضان كله بسفر أو مرض فإنما عليه عدد الأيام التي أفطر و لا يجزئه شهر ناقص مكان تام
...
772 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ بِسَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ عَدَدُ الأَيَّامِ الَّتِي أَفْطَرَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ شَهْرٌ نَاقِصٌ مَكَانَ تَامٍّ,
وَلاَ يَلْزَمُهُ شَهْرٌ تَامٌّ مَكَانَ نَاقِصٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: يُجْزِئُ شَهْرٌ مَكَانَ شَهْرٍ إذَا صَامَ مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ، وَلاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ.

(6/268)


773 - مَسْأَلَةٌ: وَلِلْمَرْءِ أَنْ يُفْطِرَ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إنْ شَاءَ,
لاَ نَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ, إلاَّ أَنَّ عَلَيْهِ إنْ أَفْطَرَ عَامِدًا قَضَاءَ يَوْمٍ مَكَانَهُ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ الشَّرِيعَةَ كُلَّهَا فَرْضٌ وَتَطَوُّعٌ, وَهَذَا مَعْلُومٌ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَنِ, وَالإِجْمَاعِ, وَضَرُورَةِ الْعَقْلِ, إذْ لاَ يُمْكِنُ قِسْمٌ ثَالِثٌ أَصْلاً; فَالْفَرْضُ هُوَ الَّذِي يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ; وَالتَّطَوُّعُ هُوَ الَّذِي لاَ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ وَلَوْ عَصَى لَكَانَ فَرْضًا, وَالْمُفَرِّطُ فِي التَّطَوُّعِ تَارِكٌ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فَرْضًا, فَلاَ حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابِيَّ الَّذِي سَأَلَهُ، عَنِ الصَّوْمِ فَأَخْبَرَهُ عليه السلام بِرَمَضَانَ فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ: "لاَ إلاَّ أَنْ تَتَطَوَّعَ شَيْئًا" فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: وَاَللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ; فَقَالَ عليه السلام: "أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ, دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ", فَلَمْ يَجْعَلْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي تَرْكِ التَّطَوُّعِ كَرَاهَةً أَصْلاً. وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ صَلاَةَ تَطَوُّعٍ, أَوْ بَدَا لَهُ فِي صَدَقَةِ تَطَوُّعٍ, أَوْ فَسَخَ عَمْدًا حَجَّ تَطَوُّعٍ, أَوْ اعْتِكَافَ تَطَوُّعٍ, وَلاَ فَرْقَ لِمَا ذَكَرْنَا, وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَدَعْوَى لاَ بُرْهَانَ عَلَيْهَا, وَإِيجَابُ مَا لَمْ يُوجِبْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم إلاَّ أَنَّهُ لاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا إلاَّ فِي فِطْرِ التَّطَوُّعِ فَقَطْ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فإن قيل: إنَّكُمْ تُوجِبُونَ فَرْضًا فِي الصَّوْمِ غَيْرَ رَمَضَانَ كَالنَّذْرِ وَصِيَامِ الْكَفَّارَاتِ قلنا:

(6/268)


774 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ عَامِدًا فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلاَّ قَضَاءُ يَوْمٍ وَاحِدٍ فَقَطْ
لإِنَّ إيجَابَ الْقَضَاءِ إيجَابُ شَرْعٍ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَضَى ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ بِغَيْرِ نَصٍّ، وَلاَ إجْمَاعٍ.
وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ كَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي رَمَضَانَ; لاَِنَّهُ بَدَلٌ مِنْهُ.
قال أبو محمد: هَذَا أَصَحُّ مَا يَكُونُ مِنْ الْقِيَاسِ إنْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا, وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ, يَوْمِ رَمَضَانَ, وَيَوْمِ الْقَضَاءِ.

(6/271)


المجلد السابع
تابع كتاب الصيام
تابع مسائل في قضاء الصوم والكفارة
ومن مات وعليه صوم فرض من قضاء رمضان
...
بسم الله الرحمن الرحيم
775 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمُ فَرْضٍ مِنْ قَضَاءِ رَمَضَانَ, أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ وَاجِبَةٍ فَفَرْضٌ عَلَى أَوْلِيَائِهِ أَنْ يَصُومُوهُ عَنْهُ هُمْ أَوْ بَعْضُهُمْ, وَلاَ إطْعَامَ فِي ذَلِكَ أَصْلاً أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ اُسْتُؤْجِرَ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ مَنْ يَصُومُهُ عَنْهُ، وَلاَ بُدَّ أَوْصَى بِكُلِّ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي ثَوْرٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَغَيْرِهِمَا.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: إنْ أَوْصَى أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ أُطْعِمَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ, وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالإِطْعَامُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ مُدٌّ مُدٌّ, وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ صَاعٌ مِنْ غَيْرِ الْبُرِّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ, نِصْفُ صَاعٍ مِنْ الْبُرِّ أَوْ دَقِيقِهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ كَمَا قلنا. وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي النَّذْرِ خَاصَّةً.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} . نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ, قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ عِيسَى، نا ابْنُ وَهْبٍ, وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ: نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ أَعْيَنَ، نا أَبِي. ثُمَّ اتَّفَقَ مُوسَى, وَابْنُ وَهْبٍ كِلاَهُمَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ.

(7/2)


نا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجُّ، نا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَمُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَعَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا" قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
قال أبو محمد: سَمِعَهُ الأَعْمَشُ مِنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ, وَمِنْ الْحَكَمِ, وَمِنْ سَلَمَةَ, وَسَمِعَهُ الْحَكَمُ, وَسَلَمَةُ مِنْ مُجَاهِدٍ. وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ, وَعَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ السَّعْدِيِّ, قَالَ أَبُو بَكْرٍ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ, وَقَالَ عَبْدٌ: نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ: نا عَلِيُّ بْنُ مِسْهَرٍ, ثُمَّ اتَّفَقَ ابْنُ نُمَيْرٍ, وَسُفْيَانُ, وَعَلِيُّ بْنُ مِسْهَرٍ, كُلُّهُمْ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَطَاءٍ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ أَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: "إنِّي تَصَدَّقْتُ عَلَى أُمِّي بِجَارِيَةٍ وَإِنَّهَا مَاتَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَجَبَ أَجْرُكِ وَرَدَّهَا عَلَيْكِ الْمِيرَاثُ" قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا قَالَ: "صُومِي", قَالَتْ: إنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا قَالَ: حُجِّي عَنْهَا" . قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ: شَهْرَيْنِ, وَاتَّفَقُوا عَلَى كُلٍّ مَا عَدَا ذَلِكَ.
قال أبو محمد: فَهَذَا الْقُرْآنُ, وَالسُّنَنُ الْمُتَوَاتِرَةُ الْمُتَظَاهِرَةُ الَّتِي لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا, وَكُلُّهُمْ يَقُولُ: يُحَجُّ، عَنِ الْمَيِّتِ إنْ أَوْصَى بِذَلِكَ, ثُمَّ لاَ يَرَوْنَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ وَإِنْ أَوْصَى بِذَلِكَ, وَكِلاَهُمَا عَمَلُ بَدَنٍ, وَلِلْمَالِ فِي إصْلاَحِ مَا فَسَدَ مِنْهُمَا مَدْخَلٌ بِالْهَدْيِ, وَبِالإِطْعَامِ, وَبِالْعِتْقِ, فَلاَ الْقُرْآنَ اتَّبَعُوا, وَلاَ بِالسُّنَنِ أَخَذُوا، وَلاَ الْقِيَاسَ عَرَفُوا, وَشُغِلُوا فِي ذَلِكَ بِأَشْيَاءَ: مِنْهَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} . وَذَكَرُوا قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا مَاتَ الْمَيِّتُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: عِلْمٌ عَلَّمَهُ, أَوْ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ, أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ" . وَبِأَثَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ مَرِضَ فِي رَمَضَانَ فَلَمْ يَزَلْ مَرِيضًا حَتَّى مَاتَ لَمْ يُطْعَمْ عَنْهُ, وَإِنْ صَحَّ فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ" وقال بعضهم: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمَا رَوَيَا الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا الصِّيَامَ، عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ

(7/3)


عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ امْرَأَةٍ مِنْهُمْ اسْمُهَا عَمْرَةُ: أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَعَلَيْهَا مِنْ رَمَضَانَ فَقَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَقْضِيه عَنْهَا قَالَتْ: لاَ, بَلْ تَصَدَّقِي عَنْهَا مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى كُلِّ مِسْكِينٍ. وَإِذَا تَرَكَ الصَّاحِبُ الْخَبَرَ الَّذِي رُوِيَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهِ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ غَيْرُ ذَلِكَ, إذْ لَوْ تَعَمَّدَ مَا رَوَاهُ لَكَانَتْ جُرْحَةً فِيهِ, وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ. وَقَالُوا: لاَ يُصَامُ عَنْهُ كَمَا لاَ يُصَلَّى عَنْهُ
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ, وَهُوَ كُلُّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ, أَمَّا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} فَحَقٌّ إلاَّ أَنَّ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ}. وَهُوَ الَّذِي قَالَ: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}. فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى, وَمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّ لَهُ مِنْ سَعْيِ غَيْرِهِ عَنْهُ, وَالصَّوْمُ عَنْهُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ نَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الاِحْتِجَاجِ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقَالُوا: إنْ حَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ, أَوْ أَعْتَقَ عَنْهُ, أَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ, فَأَجْرُ كُلِّ ذَلِكَ لَهُ، وَلاَ حَقَّ بِهِ, فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُمْ.
فَإِنْ قَالَ مِنْهُمْ قَائِلٌ: إنَّمَا يُحَجُّ عَنْهُ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ, لاَِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا سَعَى قلنا لَهُ: فَقُولُوا: بِأَنْ يُصَامَ عَنْهُ كَمَا إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ لاَِنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا سَعَى. فَإِنْ قَالُوا: لِلْمَالِ فِي الْحَجِّ مَدْخَلٌ فِي جَبْرِ مَا نَقَصَ مِنْهُ قلنا: وَلِلْمَالِ فِي الصَّوْمِ مَدْخَلٌ فِي جَبْرِ مَا نَقَصَ مِنْهُ بِالْعِتْقِ وَالاِطِّعَامِ; وَكُلُّ هَذَا مِنْهُمْ تَخْلِيطٌ, وَتَنَاقُضٌ, وَشَرْعٌ فِي الدِّينِ لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى وَهُمْ يُجِيزُونَ الْعِتْقَ عَنْهُ, وَالصَّدَقَةَ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ.
وَأَمَّا إخْبَارُهُ عليه السلام بِأَنَّ عَمَلَ الْمَيِّتِ يَنْقَطِعُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ, فَصَحِيحٌ, وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ لَمْ يَخَافُوا الْفَضِيحَةَ فِي احْتِجَاجِهِمْ بِهِ وَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ قَالَ لَهُمْ: إنَّ صَوْمَ الْوَلِيِّ، عَنِ الْمَيِّتِ هُوَ عَمَلُ الْمَيِّتِ حَتَّى يَأْتُوا بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلاَّ انْقِطَاعُ عَمَلِ الْمَيِّتِ فَقَطْ, وَلَيْسَ فِيهِ انْقِطَاعُ عَمَلِ غَيْرِهِ أَصْلاً, وَلاَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ; فَظَهَرَ قُبْحُ تَمْوِيهِهِمْ فِي الاِحْتِجَاجِ بِهَذَا الْخَبَرِ جُمْلَةً.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَلاَ تَحِلُّ رِوَايَتُهُ إلاَّ عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ فَسَادِهَا لِعِلَلٍ ثَلاَثٍ فِيهِ: إحْدَاهَا أَنَّهُ مُرْسَلٌ, وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ فِيهِ الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ, وَهُوَ سَاقِطٌ, وَالثَّالِثَةُ: أَنَّ فِيهِ إبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي يَحْيَى وَهُوَ كَذَّابٌ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ; لإِنَّ فِيهِ إيجَابَ

(7/4)


الإِطْعَامِ عَنْهُ إنْ صَحَّ بَعْدَ أَنْ مَرِضَ, وَالْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ لاَ يَقُولُونَ بِذَلِكَ, إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ, وَإِلاَّ فَلاَ.
فَإِنْ قَالُوا: مَعْنَى ذَلِكَ إنْ أَوْصَى بِهِ قلنا: كَذَبْتُمْ وَزِدْتُمْ فِي الْخَبَرِ خِلاَفَ مَا فِيهِ, لإِنَّ فِيهِ إنْ مَاتَ وَلَمْ يَصِحَّ لَمْ يُطْعَمْ عَنْهُ فَلَوْ أَرَادَ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ لَمَا كَانَ لِتَفْرِيقِهِ بَيْنَ تَمَادِي مَرَضِهِ حَتَّى يَمُوتَ فَلاَ يُطْعَمُ عَنْهُ, وَبَيْنَ صِحَّتِهِ بَيْنَ مَرَضِهِ وَمَوْتِهِ فَيُطْعَمُ عَنْهُ; لاَِنَّهُ إنْ أَوْصَى بِالإِطْعَامِ عَنْهُ, وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ أُطْعِمَ عَنْهُ عِنْدَهُمْ; فَبَطَلَ تَمْوِيهُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ الْهَالِكِ وَعَادَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا تَمْوِيهُهُمْ بِأَنَّ عَائِشَةَ, وَابْنَ عَبَّاسٍ رَوَيَا الْخَبَرَ وَتَرَكَاهُ فَقَوْلٌ فَاسِدٌ لِوُجُوهٍ:
أَحَدُهَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ مَا قَالُوا, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا افْتَرَضَ عَلَيْنَا اتِّبَاعَ رِوَايَةِ الصَّاحِبِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَفْتَرِضْ عَلَيْنَا قَطُّ اتِّبَاعَ رَأْيِ أَحَدِهِمْ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ الصَّاحِبُ اتِّبَاعَ مَا رَوَى لِوُجُوهٍ غَيْرِ تَعَمُّدِ الْمَعْصِيَةِ, وَهِيَ أَنْ يَتَأَوَّلَ فِيمَا رَوَى تَأْوِيلاً مَا اجْتَهَدَ فِيهِ فَأَخْطَأَ فَأُجِرَ مَرَّةً, أَوْ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ مَا رَوَى فَأَفْتَى بِخِلاَفِهِ; أَوْ أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِخِلاَفِهِ وَهُمَا مِمَّنْ رَوَى ذَلِكَ، عَنِ الصَّاحِبِ; فَإِذْ كُلُّ ذَلِكَ مُمْكِنُ فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا لَمْ يَأْمُرْنَا بِاتِّبَاعِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْعِلَلُ فَكَيْفَ وَكُلُّهَا مُمْكِنٌ فِيهِ، وَلاَ مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ, لاَِنَّهُ يُعَارَضُ بِأَنْ يُقَالَ: كَوْنُ ذَلِكَ الْخَبَرِ عِنْدَ ذَلِكَ الصَّاحِبِ دَلِيلٌ عَلَى ضَعْفِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِخِلاَفِهِ, أَوْ لَعَلَّهُ قَدْ رَجَعَ، عَنْ ذَلِكَ.
وَالثَّالِثُ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَجُّونَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا وَافَقَتْ تَقْلِيدَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَمَّا إذَا خَالَفَ قَوْلُ الصَّاحِبِ رَأْيَ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا فَأَهْوَنُ شَيْءٍ عِنْدَهُمْ إطْرَاحُ رَأْيِ الصَّاحِبِ وَالتَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ وَهَذَا فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَى رِقَّةِ الدِّينِ وَقِلَّةِ الْوَرَعِ.
فَمِنْ ذَلِكَ: أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها رَوَتْ فُرِضَتْ الصَّلاَةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ عَلَى الْحَالَةِ الآُولَى. ثُمَّ رُوِيَ عَنْهَا مِنْ أَصَحِّ طَرِيقِ الإِتْمَامِ فِي السَّفَرِ; فَتَعَلَّقَ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ بِرِوَايَتِهَا وَتَرَكُوا رَأْيَهَا, إذْ خَالَفَتْ فِيهِ مَا رَوَتْ, وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ "أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا

(7/5)


فَنِكَاحُهَا بَاطِلٍ" ثُمَّ أَنْكَحَتْ بِنْتَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَأَبُوهَا غَائِبٌ بِالشَّامِ بِغَيْرِ إذْنِهِ, وَأَنْكَرَ ذَلِكَ إذْ بَلَغَهُ أَشَدَّ الإِنْكَارِ, فَخَالَفُوا رَأْيَهَا وَاتَّبَعُوا رِوَايَتَهَا. وَهِيَ الَّتِي رَوَتْ التَّحْرِيمَ بِلَبَنِ الْفَحْلِ ثُمَّ كَانَتْ لاَ تُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ نِسَاءُ إخْوَتِهَا, وَتُدْخِلُ عَلَيْهَا مَنْ أَرْضَعَهُ بَنَاتُ أَخَوَاتِهَا, فَتَرَكُوا رَأْيَهَا وَاتَّبَعُوا رِوَايَتَهَا. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ عَنْهُ: إيجَابَ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ, وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ صِيَامُ الدَّهْرِ وَإِنْ صَامَهُ وَأَنَّهُ لاَ يَقْضِيهِ, فَتَرَكُوا الثَّابِتَ مِنْ رَأْيِهِ لِلْهَالِكِ مِنْ رِوَايَتِهِ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ فِي الْبَحْرِ هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ثُمَّ رُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَاءَانِ لاَ يُجْزِئَانِ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ: مَاءُ الْبَحْرِ وَمَاءُ الْحَمَّامِ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ "مُدَّانِ مِنْ قَمْحٍ" مِنْ طَرِيقٍ لاَ تَصِحُّ, وَصَحَّ عَنْهُ مِنْ رَأْيِهِ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَتَرَكَ الْحَنَفِيُّونَ رَأْيَهُ لِرِوَايَتِهِ, وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْهُمْ جِدًّا وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ تُحَقِّقُ تَلاَعُبَ الْقَوْمِ بِدِينِهِمْ.
وَالرَّابِعُ أَنْ نَقُولَ: لَعَلَّ الَّذِي رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ فِيهِ الإِطْعَامُ كَأَنْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَتْ فَلاَ صَوْمَ عَلَيْهَا.
وَالْخَامِسُ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْفُتْيَا بِمَا رُوِيَ مِنْ الصَّوْمِ، عَنِ الْمَيِّتِ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ نَسِيَ, أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ مِمَّنْ لَمْ نُكَلَّفْهُ. وَقَدْ جَاءَ عَنِ السَّلَفِ فِي هَذَا أَقْوَالٌ.
رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لاَِخِيهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: إنَّ عَلَيَّ رَمَضَانَيْنِ لَمْ أَصُمْهُمَا فَسَأَلَ أَخُوهُ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ: بَدَنَتَانِ مُقَلَّدَتَانِ, ثُمَّ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَانِ مَا شَأْنُ الْبُدْنِ وَشَأْنُ الصَّوْمِ, أَطْعِمْ، عَنْ أَخِيكَ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
قال أبو محمد: إنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي الْبَدَنَتَيْنِ حُجَّةً فَلَيْسَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الإِطْعَامِ حُجَّةً، وَلاَ فَرْقَ; وَلَعَلَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مُطِيقًا لِلصَّوْمِ, أَوْ لَعَلَّ ذَيْنَكَ الرَّمَضَانَيْنِ كَانَا، عَنْ تَعَمُّدٍ فَلاَ قَضَاءَ فِي ذَلِكَ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:

(7/6)


إذَا مَاتَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ صِيَامُ رَمَضَانَ أُطْعِمَ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ. وَمِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ مَاتَ الَّذِي عَلَيْهِ صَوْمٌ وَلَمْ يَصِحَّ قَبْلَ مَوْتِهِ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَإِنْ صَحَّ أُطْعِمَ عَنْهُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ حِنْطَةً. وَعَنِ الْحَسَنِ إنْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ, فَإِنْ صَحَّ فَلَمْ يَقْضِ صَوْمَهُ حَتَّى مَاتَ أُطْعِمَ عَنْهُ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مَكُّوكٌ مِنْ بُرٍّ, وَمَكُّوكٌ مِنْ تَمْرٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا، عَنْ طَائِفَةٍ مُدٌّ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ, وَقَدْ جَاءَ عَنِ الْحَسَنِ: لاَ إطْعَامَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ صِيَامَ, وَأَيْضًا فَإِنَّ احْتِجَاجَ الْمَالِكِيِّينَ وَالشَّافِعِيِّينَ بِتَرْكِ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ لِلْخَبَرِ الْمَذْكُورِ هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لأَنَّهُمْ خَالَفُوا عَائِشَةَ فِي هَذَا الْخَبَرِ نَفْسِهِ فِي قَوْلِهَا أَنْ يُطْعِمَ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ لِمِسْكِينٍ, وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ: بِهَذَا, فَإِنْ كَانَ تَرْكُ عَائِشَةَ لِلْخَبَرِ حُجَّةً, فَقَوْلُهَا فِي نِصْفِ صَاعٍ حُجَّةٌ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهَا فِي نِصْفِ صَاعٍ حُجَّةً فَلَيْسَ تَرْكُهَا لِلْخَبَرِ حُجَّةً, فَظَهَرَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَحْتَجُّونَ مِنْ قَوْلِ الصَّاحِبِ بِمَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ فَقَطْ; فَإِذَا خَالَفَ مَنْ قَلَّدُوهُ هَانَ عَلَيْهِمْ خِلاَفُ الصَّاحِبِ, وَهَذَا دَلِيلُ سَوْءٍ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ, وَرَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ وَنَذْرُ شَهْرٍ: يُطْعَمُ عَنْهُ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينٌ وَيَصُومُ عَنْهُ وَلِيُّهُ نَذْرَهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ: نا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ الْبُنَانِيِّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ سُئِلَ، عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ وَصَوْمُ شَهْرٍ فَقَالَ: يُطْعَمُ عَنْهُ لِرَمَضَانَ وَيُصَامُ عَنْهُ النَّذْرُ, وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ; فَإِنْ كَانَ تَرْكُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا تَرَكَ مِنْ الْخَبَرِ حُجَّةً فَأَخْذُهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ حُجَّةٌ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْذُهُ بِمَا أَخَذَ بِهِ حُجَّةً فَتَرْكُهُ مَا تَرَكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَمَا عَدَا هَذَا فَتَلاَعُبٌ بِالدِّينِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا فَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي ثَوْرٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ قَالَ: حَدَّثُونِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ:، أَنَّهُ قَالَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ: إنْ لَمْ يَجِدُوا مَا يُطْعَمُ عَنْهُ صَامَهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ, وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ

(7/7)


مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ إذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ صِيَامُ رَمَضَانَ قَضَى عَنْهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ, قَالَ مَعْمَرٌ: وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. وَبِهِ إلَى مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ نَذْرُ صِيَامٍ فَإِنَّهُ يَصُومُ عَنْهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ.
قال أبو محمد: لَيْسَ قَوْلُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ, وَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا فَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ; لإِنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرْنَا فَقَدْ أَوْجَبَ مَا أَوْجَبَ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَنْ يُوصِيَ الْمَيِّتُ بِذَلِكَ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِالإِطْعَامِ فَيُطْعَمَ عَنْهُ وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَبْلَهُمْ قَالَ بِهَذَا; إلاَّ رِوَايَةً، عَنِ الْحَسَنِ قَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لاَ يُصَامُ عَنْهُ كَمَا لاَ يُصَلَّى عَنْهُ; فَبَاطِلٌ وَقِيَاسٌ لِلْخَطَأِ عَلَى الْخَطَأِ بَلْ يُصَلَّى عَنْهُ النَّذْرُ, وَصَلاَةُ فَرْضٍ إنْ نَسِيَهَا أَوْ نَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُصَلِّهَا حَتَّى مَاتَ; فَهَذَا دَخَلَ تَحْتَ, قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى" . وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ تُصَلَّى الرَّكْعَتَانِ إثْرَ الطَّوَافِ، عَنِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُحَجُّ عَنْهُ; وَهَذَا تَنَاقُضٌ مِنْهُمْ لاَ خَفَاءَ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فِي قَضَاءِ الصَّلاَةِ، عَنِ الْمَيِّتِ. وقال الشافعي: إنْ صَحَّ الْخَبَرُ قلنا بِهِ وَإِلاَّ فَيُطْعَمُ عَنْهُ مُدٌّ، عَنْ كُلِّ يَوْمٍ. وَإِنَّمَا قلنا: إنَّ الاِسْتِئْجَارَ لِذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مُقَدَّمٌ عَلَى دُيُونِ النَّاسِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى".
قال أبو محمد: مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: بَلْ دَيْنُ النَّاسِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى مِنْ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ وَقَدْ سَمِعَ هَذَا الْقَوْلَ.

(7/8)


776 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَامَهُ بَعْضُ أَوْلِيَائِهِ أَجْزَأَ; لِعُمُومِ الْخَبَرِ فِي ذَلِكَ, وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَةً فَاقْتَسَمُوهُ جَازَ كَذَلِكَ أَيْضًا إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ أَنْ يَصُومُوا كُلُّهُمْ يَوْمًا وَاحِدًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . فَلاَ بُدَّ مِنْ أَيَّامٍ مُتَغَايِرَةٍ, فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ حَتَّى مَاتَ فَلاَ شَيْءَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَلاَ عَلَيْهِ; لإِنَّ الأَثَرَ إنَّمَا جَاءَ فِيمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ, وَهَذَا مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ صَوْمٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ الصَّوْمُ فَلَمْ يُكَلَّفْ, وَإِذَا لَمْ يُكَلَّفْهُ فَقَدْ مَاتَ، وَلاَ صَوْمَ عَلَيْهِ.

(7/8)


وَالأَوْلِيَاءُ هُمْ ذَوُو الْمَحَارِمِ بِلاَ شَكٍّ وَلَوْ صَامَهُ الأَبْعَدُ مِنْ بَنِي عَمِّهِ أَجْزَأَ عَنْهُ, لاَِنَّهُ وَلِيُّهُ, فَإِنْ أَبَوْا مِنْ الصَّوْمِ فَهُمْ عُصَاةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ ذَلِكَ الصَّوْمِ; لاَِنَّهُ قَدْ نَقَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صَوْمٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ" . وَبِأَمْرِهِ عليه السلام الْوَلِيَّ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ.

(7/9)


777 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ تَعَمَّدَ النُّذُورَ لِيُوقِعَهَا عَلَى وَلِيِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَيْسَ نَذْرًا، وَلاَ يَلْزَمُهُ هُوَ، وَلاَ وَلِيُّهُ بَعْدَهُ, وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ, وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، نا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي الْمُهَلَّبِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ".
قال علي: وهذا النَّذْرُ إنَّمَا يَكُونُ نَذْرًا إذَا قُصِدَ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ فَإِذَا قُصِدَ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مَعْصِيَةٌ لاَ يَحِلُّ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلاَ يَلْزَمُ صَاحِبَهُ، وَلاَ غَيْرَهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/9)


778 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَأَكْثَرَ, شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, أَوْ تَقَرُّبًا إلَيْهِ تَعَالَى, أَوْ إنْ فَاقَ, أَوْ إنْ أَرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَلاً يَأْمُلُهُ لاَ مَعْصِيَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَأْمُولِ, فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ. قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الأَيْلِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلاَ يَعْصِهِ". فَهَذَا عُمُومٌ لِكُلِّ نَذْرِ مَعْصِيَةٍ كَمَنْ نَذَرَتْ صَوْمَ يَوْمِ حَيْضَتِهَا أَوْ صَوْمَ يَوْمِ الْعِيدِ, وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ.

(7/9)


779 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ طَاعَةً، وَلاَ مَعْصِيَةً كَالْقُعُودِ فِي دَارِ فُلاَنٍ أَوْ أَنْ لاَ يَأْكُلَ خُبْزًا مَأْدُومًا أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ, وَلاَ حُكْمَ لِهَذَا إلاَّ اسْتِغْفَارُ اللَّهِ تَعَالَى

(7/9)


780 - مَسْأَلَةٌ: وَيُنْهَى، عَنِ النَّذْرِ جُمْلَةً فَإِنْ وَقَعَ لَزِمَ كَمَا قَدَّمْنَا, رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى أَبِي دَاوُد، نا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى، عَنِ النَّذْرِ وَيَقُولُ: "لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ" . فَفِي قَوْلِهِ عليه السلام: "وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنْ الْبَخِيلِ". إيجَابٌ لِلْوَفَاءِ بِهِ إذَا وَقَعَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

(7/10)


781 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ لِلَّهِ تَعَالَى صَوْمُ يَوْمَ أُفِيقُ, أَوْ قَالَ: يَوْمَ يَقْدَمُ فُلاَنٌ, أَوْ قَالَ يَوْمَ أَنْطَلِقُ مِنْ سِجْنِي, أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا فَكَانَ مَا رَغِبَ فِيهِ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا: لَمْ يَلْزَمْهُ صِيَامُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلاَ قَضَاؤُهُ، وَلاَ صَوْمُ غَيْرِهِ; لاَِنَّهُ إنْ كَانَ مَا رَغِبَ فِيهِ لَيْلاً فَلَمْ يَكُنْ فِي يَوْمٍ فَلاَ يَلْزَمُهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ, وَإِنْ كَانَ نَهَارًا فَلاَ يُمْكِنُهُ إحْدَاثُ صَوْمٍ لَمْ يُبَيِّتْهُ مِنْ اللَّيْلِ، وَلاَ تَقَدَّمَ إلْزَامُ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ إيَّاهُ, وَلاَ يَلْزَمُهُ صِيَامُ يَوْمٍ آخَرَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إنْ قَدِمَ نَهَارًا صَامَ بَقِيَّةَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ, وقال مالك: إنْ قَدِمَ لَيْلاً صَامَ النَّاذِرُ غَدَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ.

(7/10)


782 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ قَالَ فِي كُلِّ ذَلِكَ: عَلَيَّ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَبَدًا فَإِنْ كَانَ لَيْلاً لَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا قَدَّمْنَا, لاَِنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلاَ يَلْزَمُ صِيَامُ اللَّيْلِ, لاَِنَّهُ مَعْصِيَةٌ, فَإِنْ كَانَ نَهَارًا لَزِمَهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ إذَا تَكَرَّرَ كَمَا نَذَرَهُ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ, لاَِنَّهُ غَيْرُ مَا نَذَرَ.

(7/10)


783 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَفْطَرَ فِي صَوْمِ نَذْرٍ عَامِدًا أَوْ لِعُذْرٍ فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ نَذَرَ أَنْ يَقْضِيَهُ فَيَلْزَمُهُ, لاَِنَّهُ إذَا لَمْ يَنْذِرْ الْقَضَاءَ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ مَا لَمْ يَنْذِرْهُ; إذْ لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ نَصٌّ.

(7/10)


784 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمَيْنِ فَصَاعِدًا أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ مُتَفَرِّقًا لاَِنَّهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا نَذَرَ.

(7/11)


785 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ جُمُعَةٍ أَوْ قَالَ: شَهْرٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ إلاَّ مُتَتَابِعًا، وَلاَ بُدَّ; فَإِنْ تَعَمَّدَ فِي خِلاَلِ ذَلِكَ فِطْرًا لِعُذْرٍ أَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ: ابْتَدَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ لإِنَّ اسْمَ الْجُمُعَةِ وَالشَّهْرِ لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ لاَ مُتَفَرِّقَةٍ, فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا نَذَرَ لاَ مَا لَمْ يَنْذِرْ; فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْ ذَلِكَ فَلَمْ يَأْتِ بِمَا نَذَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ.

(7/11)


786 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ جُمُعَتَيْنِ أَوْ قَالَ: شَهْرَيْنِ, وَلَمْ يَنْذِرْ التَّتَابُعَ فِي ذَلِكَ لَزِمَهُ أَنْ يَصُومَ كُلَّ جُمُعَةٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَلاَ بُدَّ, وَكُلُّ شَهْرٍ مُتَتَابِعًا، وَلاَ بُدَّ, وَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَالْجُمُعَةِ, وَبَيْنَ الشَّهْرِ وَالشَّهْرِ لِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا إلاَّ أَنْ يَنْذِرَهُمَا مُتَتَابِعِينَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ; لاَِنَّهُ طَاعَةٌ زَائِدَةٌ.

(7/11)


787 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ صَامَ الشَّهْرَ مَا بَيْنَ الْهِلاَلَيْنِ لَزِمَهُ إتْمَامُهُ, فَإِنْ ابْتَدَأَ صِيَامَهُ بَعْدَ دُخُولِ الشَّهْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَّ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا مُتَّصِلَةٌ، وَلاَ بُدَّ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ"، وَأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَلاَ يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ يَوْمٍ إلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ، وَلاَ نَصَّ فِي ذَلِكَ; وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ مَا نَذَرَ مِنْ شَهْرٍ أَوْ أَكْثَرَ فَقَطْ; فَإِنْ نَذَرَ نِصْفَ شَهْرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلاَّ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا, لإِنَّ كَسْرَ يَوْمٍ لاَ يَلْزَمُهُ صِيَامُهُ لِمَنْ نَذَرَهُ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ يَوْمًا زَائِدًا لَمْ يُنْذَرْهُ.

(7/11)


788 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ سَنَةٍ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَصُومُ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لاَ يَعُدُّ فِيهَا رَمَضَانَ, وَلاَ يَوْمَ الْفِطْرِ, وَالأَضْحَى, وَلاَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ, وَفِي هَذَا عِنْدَنَا نَظَرٌ وَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا أَنْ لاَ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ; لإِنَّ هَذِهِ الْفُتْيَا إلْزَامٌ لَهُ مَا لَمْ يَنْذِرْهُ; لإِنَّ اسْمَ سَنَةٍ لاَ يَقَعُ إلاَّ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مُتَّصِلَةٍ لاَ مُبَدَّدَةٍ, وَهُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ كَمَا نَذَرَهُ; فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُلْزَمَ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ، وَلاَ نَذَرَهُ, وَلاَ أَنْ يَلْتَزِمَ مَا لَمْ يُمْكِنْ, وَمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} وَمَنْ ادَّعَى هَاهُنَا إجْمَاعًا فَقَدْ كَذَبَ; لاَِنَّهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ فِي ذَلِكَ بِرِوَايَةٍ، عَنْ صَاحِبٍ أَصْلاً, وَلاَ نَعْلَمُ فِي ذَلِكَ قَوْلاً، عَنْ تَابِعٍ. وَقَدْ قَالَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ يُفْطِرُ فِيهَا يَوْمَيْ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ, ثُمَّ يَقْضِيهَا. وَقَالَ زُفَرُ: يُفْطِرُ الأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ, وَلاَ يَقْضِيهَا. وقال مالك: يَصُومُ, وَيُفْطِرُ الأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ, وَلاَ يَقْضِي رَمَضَانَ, وَلاَ الأَيَّامَ الْمَذْكُورَةَ, إلاَّ أَنْ يَنْوِيَ قَضَاءَهَا. وَقَالَ اللَّيْثُ: يَصُومُ

(7/11)


789 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ نَذْرًا فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ لَزِمَهُ فَرْضًا أَنْ يَصُومَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِرَمَضَانَ لاَ لِلنَّذْرِ أَصْلاً; فَإِنْ صَامَهُ لِنَذْرِهِ أَوْ لِرَمَضَانَ وَلِنَذْرِهِ فَالإِثْمُ عَلَيْهِ، وَلاَ يُجْزِئُهُ لاَ لِنَذْرِهِ، وَلاَ لِرَمَضَانَ; لإِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى مُتَقَدِّمٌ لِنَذْرِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَ رَمَضَانَ، وَلاَ شَيْئًا مِنْهُ لِغَيْرِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِصِيَامِهِ مُخْلِصًا لَهُ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ; وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

(7/12)


790 - مَسْأَلَةٌ: وَأَفْضَلُ الصَّوْمِ بَعْدَ الصِّيَامِ الْمَفْرُوضِ صَوْمُ يَوْمٍ وَإِفْطَارُ يَوْمٍ. وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَصُومَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً, وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ مِمَّنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بِهَا الْحُجَّةُ, وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ الدَّهْرِ أَصْلاً.
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَنَا الأَوْزَاعِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "فَلاَ تَفْعَلْ, صُمْ وَأَفْطِرْ وَقُمْ وَنَمْ; فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا, وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا; وَإِنَّ

(7/12)


791 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: وَنَسْتَحِبُّ صِيَامَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ, وَنَسْتَحِبُّ صِيَامَ الاِثْنَيْنِ, وَالْخَمِيسِ, وَكُلُّ هَذَا فَبِأَنْ لاَ يَتَجَاوَزَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدَّهْرِ, فأما الثَّلاَثَةُ الأَيَّامِ فَلِمَا ذَكَرْنَا آنِفًا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَمَّا الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسُ فَلِمَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا، نا حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الْمُسَيِّبِ، هُوَ ابْنُ رَافِعٍ، عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُومُ الاِثْنَيْنِ, وَالْخَمِيسَ" . وَيَكْرَهُ صَوْمَ شَهْرٍ تَامٍّ غَيْرِ رَمَضَانَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم.وَقَدْ ذَكَرْنَا مِثْلَ قَوْلِنَا آنِفًا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

(7/17)


792 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْضِ فَقَطْ فَحَسَنٌ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلَّذِي سَأَلَهُ، عَنِ الدِّينِ فَأَخْبَرَهُ عليه السلام بِوُجُوبِ رَمَضَانَ قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ قَالَ: "لاَ إلاَّ أَنْ تَتَطَوَّعَ" وَذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ; فَقَالَ السَّائِلُ: وَاَللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلاَ أَنْقُصُ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ".

(7/17)


793 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ صَوْمَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ: وَهُوَ التَّاسِعُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَإِنْ صَامَ الْعَاشِرَ بَعْدَهُ فَحَسَنٌ. وَنَسْتَحِبُّ أَيْضًا صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ لِلْحَاجِّ وَغَيْرِهِ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْبَدٍ الزِّمَّانِيَّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ". وَسُئِلَ، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ "يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنْ حَاجِبِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الأَعْرَجِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ، عَنْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ فَقَالَ: إذَا رَأَيْتَ هِلاَلَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَأَصْبِحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا فَقُلْتُ: هَكَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم يَصُومُهُ قَالَ: نَعَمْ.
نا حَمَّادُ بْنُ مُفَرِّجٍ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا الدَّبَرِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي

(7/17)


794 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ صِيَامَ أَيَّامِ الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ النَّحْرِ لِمَا ناهُ حُمَامٌ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا الدَّبَرِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ فِيهِمْ الْعَمَلُ أَوْ أَفْضَلُ فِيهِنَّ الْعَمَلُ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلاَ الْجِهَادُ قَالَ: "وَلاَ الْجِهَادُ إلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ". قال أبو محمد: هُوَ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ, وَالصَّوْمُ عَمَلُ بِرٍّ; فَصَوْمُ عَرَفَةَ يَدْخُلُ فِي هَذَا أَيْضًا.

(7/19)


795 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلاَّ لِمَنْ صَامَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ فَلَوْ نَذَرَهُ إنْسَانٌ كَانَ نَذْرُهُ بَاطِلاً, فَلَوْ كَانَ إنْسَانٌ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا فَجَاءَهُ صَوْمُهُ فِي الْجُمُعَةِ فَلْيَصُمْهُ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا حُسَيْنٌ هُوَ الْجُعْفِيُّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِي، وَلاَ تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ إلاَّ أَنْ يَكُونَ فِي صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ".
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْعُودٍ هُوَ الْجَحْدَرِيُّ، نا بِشْرٌ، هُوَ ابْنُ الْمُفَضَّلِ، نا سَعِيدٌ، هُوَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهِيَ صَائِمَةٌ فَقَالَ لَهَا: أَصُمْتِ أَمْسِ قَالَتْ: لاَ قَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا قَالَتْ: لاَ قَالَ: فَأَفْطِرِي. وَرُوِّينَا أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ; وَمِنْ طَرِيقِ جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَمِنْ طَرِيقِ جُنَادَةَ الأَزْدِيُّ: وَلَهُ صُحْبَةٌ كُلُّهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَبِهِ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ، هُوَ ابْنُ الشِّخِّيرِ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِزَيْدِ بْنِ صَوْحَانَ: "اُنْظُرْ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فَلاَ تُصَلِّهَا".
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ نَعْلَمُ لَهُ مُخَالِفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم.
وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ السَّكَنِ قَالَ: مَرَّ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِأَبِي ذَرٍّ يَوْمَ جُمُعَةٍ وَهُمْ صِيَامٌ فَقَالَ: عَزَمْت عَلَيْكُمْ لِمَا أَفْطَرْتُمْ فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ قَيْسُ بْنُ السَّكَنِ أَدْرَكَ أَبَا ذَرٍّ وَجَالَسَهُ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ نَهَى، عَنْ تَعَمُّدِ صِيَامِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لاَ تَصُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إلاَّ أَنْ تَصُومَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ. وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ; وَمُجَاهِدٍ, وَالشَّعْبِيِّ, وَابْنِ سِيرِينَ وَغَيْرِهِمْ, وَذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ عَمَّنْ لَقِيَ, وَإِنَّمَا لَقِيَ أَصْحَابَ ابْنِ مَسْعُودٍ.

(7/20)


فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ مِنْ طَرِيقِ شَيْبَانَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زَرٍّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَصُومُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرً وَقَلَّ مَا كَانَ يُفْطِرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَلَّ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُفْطِرًا يَوْمَ جُمُعَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَلَّ مَا رَأَيْتُهُ مُفْطِرًا يَوْمَ جُمُعَةٍ قَطُّ.
قال أبو محمد: لَيْثٌ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ وَأَمَّا خَبَرُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَصَحِيحٌ, وَالْقَوْلُ فِيهَا كُلُّهَا سَوَاءٌ, وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لاَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَلاَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَلاَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إبَاحَةُ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ دُونَ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَوْ يَوْمٍ بَعْدَهُ. وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُ صِيَامَهُ إذَا صَامَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ, وَلاَ يَحِلُّ أَنْ نَكْذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَنُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا لَمْ يُخْبِرْ بِهِ عَنْهُ صَاحِبُهُ, وَلاَ أَنْ نَحْمِلَ فِعْلَهُ عَلَى مُخَالِفَةِ أَمْرِهِ أَلْبَتَّةَ إلاَّ بِبَيَانِ نَصٍّ صَحِيحٍ فَيَكُونَ حِينَئِذٍ نَسْخًا أَوْ تَخْصِيصًا, قَالَ تَعَالَى آمِرًا لَهُ أَنْ يَقُولَ: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} فَكَيْفَ وَقَدْ وَرَدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وطَاوُوس بَيَانُ قَوْلِنَا بِأَصَحَّ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ.
نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى، عَنْ افْتِرَادِ الْيَوْمِ كُلَّمَا مَرَّ بِالإِنْسَانِ يَعْنِي، عَنْ صِيَامِهِ: فَصَحَّ نَهْيُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ افْتِرَادِ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ فِي الصَّوْمِ, فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَتَحَرَّى يَوْمًا يَصُومُهُ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، مُخَالِفًا أَصْلاً فِي النَّهْيِ، عَنْ تَخْصِيصِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بِالصِّيَامِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/21)


796 - مَسْأَلَةٌ: فَلَوْ نَذَرَ الْمَرْءُ صَوْمَ يَوْمَ يُفِيقُ, أَوْ ذَلِكَ فَوَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ لَمْ يَلْزَمْ; لاَِنَّهُ لاَ يَصُومُ يَوْمًا قَبْلَهُ, وَلاَ يَوْمًا بَعْدَهُ, وَلاَ وَافَقَ صَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ, وَلاَ يَجُوزُ صِيَامُهُ إلاَّ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/21)


797 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ اللَّيْلِ أَصْلاً, وَلاَ أَنْ يَصِلَ الْمَرْءُ صَوْمَ يَوْمٍ بِصَوْمِ يَوْمٍ آخَرَ لاَ يُفْطِرُ بَيْنَهُمَا, وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَلاَ بُدَّ.
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، نا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ، هُوَ ابْنُ الْهَادِي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ

(7/21)


798 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ صَوْمُ يَوْمِ الشَّكِّ الَّذِي مِنْ آخِرِ شَعْبَانَ, وَلاَ صِيَامُ الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَ يَوْمِ الشَّكِّ الْمَذْكُورِ إلاَّ مَنْ صَادَفَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ فَيَصُومُهُمَا حِينَئِذٍ لِلْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يَصُومُهُمَا لَهُ لاَ لاَِنَّهُ يَوْمُ شَكٍّ، وَلاَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَمَضَانَ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ, وَأَبُو كُرَيْبٍ كِلاَهُمَا، عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ، وَلاَ يَوْمَيْنِ إلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْ". وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْرَهُ عليه السلام بِأَنْ لاَ يُصَامُ حَتَّى يُرَى الْهِلاَلُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَمْرٍو.
نا عبد الله بن ربيع، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْكُمْ فَعُدُّوا ثَلاَثِينَ", قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَغَضِبَ وَقَالَ: "لاَ".
قال أبو محمد: نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ غَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْخَبَرُ يُوَضِّحُ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي أَيِّ صَاحِبٍ، وَلاَ غَيْرِهِ أَصْلاً وَبِهَذَا يَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ.
رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّهُ قَالَ: لاََنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَقْضِيَهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَزِيدَ فِيهِ يَوْمًا لَيْسَ فِيهِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى، عَنْ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي يَشُكُّ فِيهِ. وَعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ صِلَةَ بْنِ أَشْيَمَ أَنَّهُ سَمِعَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ فِي يَوْمِ الشَّكِّ فِي آخِرِ شَعْبَانَ يَقُولُ: مَنْ صَامَ هَذَا الْيَوْمَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ; وَابْنِ عَبَّاسٍ; وَأَبِي هُرَيْرَةَ, وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: النَّهْيُ عَنْ صِيَامِهِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَالضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُمَا قَالاَ: لَوْ صُمْت السَّنَةَ كُلَّهَا لاََفْطَرْت الْيَوْمَ الَّذِي يُشَكُّ فِيهِ.
قال أبو محمد: وَرُوِيَ خِلاَفُ هَذَا، عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: كَمَا رُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: لاََنْ أَصُومَ يَوْمًا مِنْ شَعْبَانَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُفْطِرَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ. وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ: أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ يَوْمَ الشَّكِّ.

(7/23)


وَنا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا خَلَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً مِنْ شَعْبَانَ بَعَثَ مَنْ يَنْظُرُ الْهِلاَلَ فَإِنْ حَالَ مِنْ دُونِ مَنْظَرِهِ سَحَابٌ أَوْ قَتَرَةٌ أَصْبَحَ صَائِمًا, وَإِنْ لَمْ يَرَ وَلَمْ يَحُلْ دُونَ مَنْظَرِهِ أَصْبَحَ مُفْطِرًا. وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ يَوْمَ الشَّكِّ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَكْرَهُ صِيَامَ يَوْمِ الشَّكِّ إلاَّ إنْ أُغْمِيَ دُونَ رُؤْيَةِ الْهِلاَلِ, وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُصْبِحُ يَوْمَ الشَّكِّ صَائِمًا فَإِنْ قَدِمَ خَبَرٌ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَلِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نِصْفِ النَّهَارِ أَتَمَّ صَوْمَهُ وَإِلاَّ أَفْطَرَ. وَبِالنَّهْيِ، عَنْ صَوْمِهِ جُمْلَةً يَقُولُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ, وَالشَّعْبِيُّ, وَعِكْرِمَةُ, وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وَابْنُ سِيرِينَ وَغَيْرُهُمْ.
قال أبو محمد: هَذَا ابْنُ عُمَرَ هُوَ رَوَى أَنْ لاَ يُصَامُ حَتَّى يَرَى الْهِلاَلَ ثُمَّ كَانَ يَفْعَلُ مَا ذَكَرْنَا; وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى صِيَامَ يَوْمِ الشَّكِّ بِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنِ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ: هَلْ صُمْت مِنْ سُرَرِ هَذَا الشَّهْرِ [شَيْئًا يَعْنِي شَعْبَانَ] قَالَ: لاَ, قَالَ: فَإِذَا أَفْطَرْتَ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فَصُمْ يَوْمَيْنِ مَكَانَهُ.
وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَصُومُ مِنْ السَّنَةِ شَهْرًا تَامًّا إلاَّ شَعْبَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِي الأَزْهَرِ الْمُغِيرَةِ بْنِ فَرْوَةَ قَالَ: قَامَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فِي النَّاسِ فِي دَيْرِ مِسْحَلٍ الَّذِي عَلَى بَابِ حِمْصٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْهِلاَلَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَأَنَّا مُتَقَدِّمٌ بِالصِّيَامِ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَفْعَلَهُ فَلْيَفْعَلْهُ, فَقَامَ إلَيْهِ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ السَّبَائِيُّ فَقَالَ: يَا مُعَاوِيَةُ أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْ شَيْءٌ مِنْ رَأْيِكَ فَقَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ".
قال أبو محمد: الْمُغِيرَةُ بْنُ فَرْوَةٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَتْ فِيهِ حُجَّةٌ أَصْلاً, لإِنَّ

(7/24)


نَصَّهُ "صُومُوا الشَّهْرَ وَسِرَّهُ" وَهُوَ بِلاَ شَكٍّ شَهْرُ رَمَضَانَ لاَ مَا سِوَاهُ وَسِرَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ, وَلاَ يَخْلُو سِرُّهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ أَوْ وَسَطَهُ وَأَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَهُوَ مِنْ رَمَضَانَ لاَ مِنْ شَعْبَانَ, وَلَيْسَ فِيهِ: صُومُوا سِرَّ شَعْبَانَ; فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهِ. وَأَمَّا خَبَرُ أُمِّ سَلَمَةَ فَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ صَوْمٌ مَعْهُودٌ فَوَافَقَ يَوْمَ الشَّكِّ فَلْيَصُمْهُ كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي صَدَّرْنَا بِهِ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ صَوْمُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَهُ وَفِي وَصْلِهِ شَعْبَانَ بِرَمَضَانَ إلاَّ عَلَى أَنَّهُ صَوْمٌ مَعْهُودٌ كَانَ لَهُ.
وَأَمَّا خَبَرُ عِمْرَانَ فَصَحِيحٌ إلاَّ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّنَا لاَ نَدْرِي مَاذَا كَانَ يَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَوْ قَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إنَّهُ صَامَ سِرَرَ شَعْبَانَ أَيَنْهَاهُ أَمْ يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ وَالشَّرَائِعُ الثَّابِتَةُ لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا بِالظُّنُونِ، وَلاَ بِمَا لاَ بَيَانَ فِيهِ, ثُمَّ لَوْ كَانَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ بَيَانٌ جَلِيٌّ بِإِبَاحَةِ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مِنْ شَعْبَانَ لَمَا كَانَ لَهُمْ فِيهِ حُجَّةٌ; لإِنَّ صَوْمَ يَوْمِ الشَّكِّ وَغَيْرِهِ كَانَ مُبَاحًا بِلاَ شَكٍّ فِي صَدْرِ الإِسْلاَمِ; لإِنَّ الصَّوْمَ جُمْلَةً عَمَلُ بِرٍّ وَخَيْرٍ; فَلَمَّا صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْنِ قَبْلَ رَمَضَانَ إلاَّ لِمَنْ كَانَ لَهُ صَوْمٌ يَصُومُهُ صَحَّ يَقِينًا لاَ مِرْيَةَ فِيهِ أَنَّ الإِبَاحَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ قَدْ نُسِخَتْ وَبَطَلَتْ; لإِنَّ الصَّوْمَ قَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِهَذَا النَّهْيِ بِنَصِّهِ كَمَا هُوَ لاِسْتِثْنَائِهِ عليه السلام مَنْ كَانَ لَهُ صَوْمٌ فَلْيَصُمْهُ, وَلاَ يَحِلُّ الْعَمَلُ بِشَيْءٍ قَدْ صَحَّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِلاَ شَكٍّ، وَلاَ يَحِلُّ خِلاَفُ النَّاسِخِ وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْحَالَةَ الْمَنْسُوخَةَ قَدْ عَادَتْ، وَأَنَّ النَّاسِخَ قَدْ بَطَلَ فَقَدْ كَذَبَ وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ, وَقَالَ مَا لاَ دَلِيلَ لَهُ بِهِ أَبَدًا, وَالظَّنُّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ.

(7/25)


799 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ مَعْنَى لِلتَّلَوُّمِ فِي يَوْمِ الشَّكِّ, لاَِنَّهُ إنْ كَانَ تَلَوُّمُهُ بِنِيَّةِ الصَّوْمِ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَرْكِ صَوْمِهِ وَوَاقَعَ النَّهْيَ, وَإِنْ كَانَ تَلَوَّمُهُ بِغَيْرِ نِيَّةِ الصَّوْمِ فَهُوَ عَنَاءٌ لاَ مَعْنَى لَهُ, وَتَرْكُ الْمُفْطِرِ الأَكْلَ عَمَلٌ فَارِغٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ أَنَسٍ وَجَمَاعَةٍ مَعَهُ تَعْجِيلَ الْفِطْرِ فِي أَوَّلِهِ.

(7/25)


800 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ صَوْمُ الْيَوْمِ السَّادِسَ عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ تَطَوُّعًا أَصْلاً، وَلاَ لِمَنْ صَادَفَ يَوْمًا كَانَ يَصُومُهُ.
نا عبد الله بن ربيع، نا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، نا أَبُو دَاوُد، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ قَالَ: قَدِمَ عَبَّادُ بْنُ كَثِيرٍ الْمَدِينَةَ فَمَالَ إلَى مَجْلِسِ الْعَلاَءِ

(7/25)


801 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمُ يَوْمِ الْفِطْرِ, وَلاَ يَوْمِ الأَضْحَى لاَ فِي فَرْضٍ، وَلاَ فِي تَطَوُّعٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ النَّاسِ. وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْنٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَمَّنْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ فَوَافَقَ يَوْمَ أَضْحَى, أَوْ يَوْمَ فِطْرٍ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِوَفَاءِ النَّذْرِ, وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَوْمِ هَذَا الْيَوْمِ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَذَرَ صَوْمَ شَوَّالٍ أَنَّهُ يُفْطِرُ يَوْمَ الْفِطْرِ ثُمَّ يَصُومُ يَوْمًا مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ مَكَانَهُ وَيُطْعِمُ مَعَ ذَلِكَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ.

(7/27)


قَالَ عَلِيٌّ: إنَّمَا أَمَرَ عَزَّ وَجَلَّ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ إذَا كَانَ طَاعَةً لاَ إذَا كَانَ مَعْصِيَةً, وَإِذْ صَحَّ نَهْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى, أَوْ أَيِّ يَوْمٍ نَهَى عَنْهُ فَصَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَعْصِيَةٌ; وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ بِالْوَفَاءِ بِنَذْرٍ مَعْصِيَةٍ, وَقَدْ صَحَّ فِي ذَلِكَ آثَارٌ.
مِنْهَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُوسُفَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَى ابْنِ أَزْهَرَ قَالَ: شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فَقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ صِيَامِهِمَا: يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيَامِكُمْ, وَالْيَوْمُ الآخَرُ يَوْمَ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُمْ. وَصَحَّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ, وَأَبِي سَعِيدٍ مُسْنَدًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْهُ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ الدَّهْرَ وَأَرَادَ بِذَلِكَ الْيَمِينَ: فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَهُ وَيُفْطِرَ: يَوْمَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ;، وَلاَ يُطْعِمُ شَيْئًا, لَكِنْ يُوصِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ لِكُلِّ يَوْمٍ نِصْفُ صَاعٍ ". وَهَذَا تَخْلِيطٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ.

(7/28)


802 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَجُوزُ صِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ, وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ الأَضْحَى, لاَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ, وَلاَ فِي نَذْرٍ, وَلاَ فِي كَفَّارَةٍ, وَلاَ لِمُتَمَتِّعٍ بِالْحَجِّ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْهَدْيِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ. وقال مالك: يَصُومُهَا الْمُتَمَتِّعُ الْمَذْكُورُ كُلَّهَا, وَلاَ يَصُومُ النَّاذِرُ مِنْهَا إلاَّ الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَقَطْ;، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُصَامَ شَيْءٌ مِنْهَا تَطَوُّعًا, وَلاَ فِي كَفَّارَةٍ.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ، نا مَالِكٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ أَبِي مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى أَبِيهِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَرَّبَ إلَيْهِمَا طَعَامًا فَقَالَ: إنِّي صَائِمٌ فَقَالَ لَهُ: كُلْ فَهَذِهِ الأَيَّامُ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِإِفْطَارِهَا وَيَنْهَانَا، عَنْ صِيَامِهَا قَالَ مَالِكٌ: هِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ.
نا حمام بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبَّاسُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَيْمَنَ، نا بَكْرٌ، هُوَ ابْنُ حَمَّادٍ، نا مُسَدَّدٌ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ سُحَيْمٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلاَّ مُؤْمِنٌ, وَأَنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ".

(7/28)


قال أبو محمد: تَفْرِيقُ مَالِكٍ بَيْنَ الْيَوْمَيْنِ وَبَيْنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لاَ وَجْهَ لَهُ أَصْلاً; فَإِنْ ذَكَرَ ذَاكِرٌ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِيسَى، هُوَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ عُرْوَةُ: عَنْ عَائِشَةَ, وَقَالَ سَالِمٌ: عَنْ أَبِيهِ, ثُمَّ اتَّفَقَا, قَالاَ: لَمْ يُرَخِّصْ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَنْ يُصَمْنَ إلاَّ لِمَنْ لَمْ يَجِدْ الْهَدْيَ. وَقَدْ أَسْنَدَهُ، عَنْ شُعْبَةَ: يَحْيَى بْنُ سَلاَّمٍ, وَلَيْسَ هُوَ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِهِ, فَإِنَّ هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَابْنِ عُمَرَ، رضي الله عنهم, وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُسْنَدَ هَذَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالظَّنِّ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ" الْحَدِيثِ.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي نَعَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَعَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يُفْطِرُ إلاَّ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى. وَعَنِ الأَسْوَدِ أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَلَوْ كَانَ مُسْنَدًا لَكَانَ حُجَّةً عَلَى الْمَالِكِيِّينَ; لاَِنَّهُ أَبَاحَ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَنْ يَصُومَهُ النَّاذِرُ, وَهُوَ خِلاَفُ هَذَا الْخَبَرِ.
قال أبو محمد: عَهْدُنَا بِالْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ فِيمَا وَافَقَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ: هَذَا لاَ يُقَالَ بِالرَّأْيِ, قَالُوا ذَلِكَ فِي تَيَمُّمِ جَابِرٍ إلَى الْمَرْفِقَيْنِ. وَفِي قَوْلِ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، لاُِمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ إذْ بَاعَتْ مِنْهُ عَبْدًا إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِ مِائَةٍ ثُمَّ اشْتَرَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةٍ: أَبْلِغْ زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أُبْطِلَ جِهَادُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ وَهُوَ خَبَرٌ لاَ يَصِحُّ, وَخَالَفُوا بِذَلِكَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ. وَفِي التَّيَمُّمِ إلَى الْكُوعَيْنِ, فَهَلاَّ قَالُوا هُنَا فِي قَوْلِ عَائِشَةَ, وَابْنِ عُمَرَ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِيمَا خَالَفَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ السُّنَنِ مَا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى: لاَ يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ, وَرَدُّوا بِذَلِكَ الْوُضُوءَ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ, فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا: هَذَا مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى فَلاَ يُقْبَلُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ, إذْ لَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ صَحِيحًا مَا خَفِيَ عَلَى عَائِشَةَ, وَأَبِي طَلْحَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَالأَسْوَدِ. وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْخَبَرَ الْمُضْطَرَبَ فِيهِ مَرْدُودٌ, وَادَّعُوا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ: "لاَ تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ، وَلاَ الْمَصَّتَانِ" فَهَذَا الْخَبَرُ أَشَدُّ اضْطِرَابًا, لاَِنَّهُ رُوِيَ، عَنْ بِشْرٍ بْنِ سُحَيْمٍ, وَمَرَّةً عَنْهُ، عَنْ عَلِيٍّ. وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِيمَا وَافَقَهُمْ: هَذَا نَدْبٌ فَهَلاَّ قَالُوهُ هَاهُنَا وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ: إذَا رَوَى الصَّاحِبُ خَبَرًا وَتَرَكَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِهِ, وَعَائِشَةُ قَدْ رَوَتْ كَمَا ذَكَرْنَا النَّهْيَ، عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَتَرَكَتْ ذَلِكَ فَكَانَتْ تَصُومُهَا تَطَوُّعًا; فَهَلاَّ تَرَكُوا هَاهُنَا رِوَايَتَهَا لِرَأْيِهَا، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَقُولَ إنَّهُمَا وَابْنَ عَبَّاسٍ صَامَاهَا فِي تَمَتُّعِ الْحَجِّ; لإِنَّ يَسَارَهُمَا وَيَسَارَ الأَسْوَدِ وَسَعَةَ أَمْوَالِهِمْ لاَِلْفِ هَدْيٍ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ يَجْهَلَهُ إلاَّ مَنْ لاَ عِلْمَ لَهُ أَصْلاً.

(7/29)


803 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ صَوْمٌ أُخْرِجَ مَخْرَجَ الْيَمِينِ كَأَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ: أَنَا لاَ أَدْخُلُ دَارَكَ فَإِنْ دَخَلْتُهَا فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ, أَوْ مَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى.
نا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغِيثٍ، نا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: نا أَبِي، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا أَبُو عُبَيْدِ الْقَاسِمِ بْنُ سَلاَّمٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلاَ يَحْلِفْ إلاَّ بِاَللَّهِ".
قال أبو محمد: فَصَارَ الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةً, وَخِلاَفًا لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا هُوَ كَذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" . وَالنَّذْرُ اللاَّزِمُ: هُوَ الَّذِي يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَطْ, وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ وَغَيْرِهِمْ.

(7/30)


ولا يحل لذات الزوج أو السيد أن تصوم تطوعا بغير إذنه
...
804 – مسألة: ولا يحل لذات الزوج أو السيد أن تصةوم تطوعا بغير إذنه, وأما الفرض كلها فتصومها أحب أم كره, فإن كان غائبا لا تقدر على استئذانه أو تقدر فلتصم التطوع إن شائت.
نا عبد الله بن رببيع نا محمد بن أسحاق نا ابن الأعرابي نا أبو داود نا الحسن بن علي – هو الحلواني – نا عبد الرزاق نا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه غير رمضان ولا تأذن في بيته وهو شاهدى إلا بإذنه".
قال عي: البعل اسم للسيد وللزوج في اللغة, وصيام قضاء رمضان والكفارات وكل نذر لها قبل نكاحها إياه مضموم إلى رمضان لأن الله افترض كل ذلك كما افترض رمضان, وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} , فأسقط الله عز وجل الاختيار فيه ولا إذن لأحد فييه ولا في تركه ولا في تغييره فلا مدخل للإستئذان فيما فيه الخيار. وأما لا خيار فيه هو الذي يقتضي تخصصه عليه السلام إذن البعل فيه. وبالله التوفيق.

(7/30)


805 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ تَدْرِيبَ الصِّبْيَانِ عَلَى الصَّوْمِ فِي رَمَضَانَ إذَا أَطَاقُوهُ وَلَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ لِمَا قَدْ ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُفِعَ الْقَلَمُ، عَنْ ثَلاَثٍ" فَذَكَرَ فِيهِمْ "الصَّبِيَّ حَتَّى يَحْتَلِمَ". وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الطَّهَارَةِ وُجُوبَ الأَحْكَامِ بِالإِنْبَاتِ,

(7/30)


806 - مَسْأَلَةٌ: وَيَجِبُ عَلَى مَنْ وَجَدَ التَّمْرَ أَنْ يُفْطِرَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَى الْمَاءِ وَإِلاَّ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى إنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَعَنَدَ، وَلاَ يَبْطُلُ صَوْمُهُ بِذَلِكَ; لإِنَّ صَوْمَهُ قَدْ تَمَّ وَصَارَ فِي غَيْرِ صِيَامٍ; وَكَذَلِكَ لَوْ أَفْطَرَ عَلَى خَمْرٍ, أَوْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ, أَوْ زَنَى; فَصَوْمُهُ تَامٌّ وَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنِ الرَّبَابِ، عَنْ عَمِّهَا سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا أَفْطَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْطِرْ عَلَى تَمْرٍ فَإِنَّهُ بَرَكَةٌ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْ تَمْرًا فَالْمَاءُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ".
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيِّ، نا ثَابِتٌ الْبُنَانِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى

(7/31)


تَمَرَاتٍ; فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ". وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ هَذَا فَرْضًا; لاَِنَّهُ عليه السلام قَدْ أَفْطَرَ فِي طَرِيقِ خَيْبَرٍ عَلَى السَّوِيقِ.فَقُلْنَا وَمَا دَلِيلُكُمْ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَفْطَرَ بَعْدُ عَلَى تَمْرٍ, أَوْ أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ تَمْرٌ وَالسَّوِيقُ الْمَجْدُوحُ بِالْمَاءِ, فَالْمَاءُ فِيهِ ظَاهِرٌ, فَهُوَ فِطْرٌ عَلَى الْمَاءِ. وَأَيْضًا فَالْفِطْرُ عَلَى كُلِّ مُبَاحٍ مُوَافِقٌ لِلْحَالَةِ الْمَعْهُودَةِ, وَالأَمْرُ بِالْفِطْرِ عَلَى التَّمْرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَعَلَى الْمَاءِ أَمْرٌ وَارِدٌ يَجِبُ فَرْضًا; وَهُوَ رَافِعٌ لِلْحَالَةِ الآُولَى بِلاَ شَكٍّ,.وَادَّعَى قَوْمٌ الإِجْمَاعَ عَلَى غَيْرِ هَذَا وَقَدْ كَذَبَ مَنْ ادَّعَى الإِجْمَاعَ وَهُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْصِيَ فِي هَذَا أَقْوَالَ عَشَرَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، رضي الله عنهم،; وَذَكَرُوا إفْطَارَ عُمَرَ رضي الله عنه بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ عَلَى اللَّبَنِ.
قال أبو محمد: إنْ كَانَ هَذَا إجْمَاعًا أَوْ حُجَّةً فَقَدْ خَالَفُوهُ وَأَوْجَبُوا الْقَضَاءَ بِخِلاَفِ قَوْلِ عُمَرَ فِي ذَلِكَ, فَقَدْ اعْتَرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ خِلاَفَ الإِجْمَاعِ, وَأَمَّا نَحْنُ فَلَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا إجْمَاعًا, وَلاَ يَكُونُ إجْمَاعًا إلاَّ مَا لاَ شَكَّ فِي أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ يَقُولُ بِهِ; فَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ فَهُوَ كَافِرٌ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ, وَالْحَجِّ إلَى مَكَّةَ, وَصَوْمِ رَمَضَانَ; وَنَحْوِ ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/32)


807 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي رَمَضَانَ: نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد هُوَ الْمَهْرِيُّ، عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسَ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

(7/32)


808 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُجِبْ; فَإِذَا أَتَاهُمْ فَلْيَدْعُ لَهُمْ وَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ. نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، نا أَبُو خَالِدٍ هُوَ الأَحْمَرُ، عَنْ هِشَامٍ، هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ, فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ, وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ". قَالَ هِشَامٌ: وَالصَّلاَةُ الدُّعَاءُ.

(7/32)


ليلة القدرِ
ليلة القدرِ واحدة في العام في كل عامٍ
...
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ}
809- مَسْأَلَةٌ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَاحِدَةٌ فِي الْعَامِ فِي كُلِّ عَامٍ, فِي شَهْرِ رَمَضَانَ خَاصَّةً, فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ خَاصَّةً, فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِعَيْنِهَا لاَ تَنْتَقِلُ أَبَدًا إلاَّ أَنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ مِنْ الْعَشْرِ الْمَذْكُورِ إلاَّ أَنَّهَا فِي وِتْرٍ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ. فَإِنْ كَانَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَأَوَّلُ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ بِلاَ شَكٍّ: لَيْلَةُ عِشْرِينَ مِنْهُ; فَهِيَ إمَّا لَيْلَةُ عِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ; لإِنَّ هَذِهِ هِيَ الأَوْتَارُ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ. إنْ كَانَ الشَّهْرُ ثَلاَثِينَ فَأَوَّلُ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ بِلاَ شَكٍّ: لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ, فَهِيَ إمَّا لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ, وَأَمَّا لَيْلَةُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ, لإِنَّ هَذِهِ هِيَ أَوْتَارُ الْعَشْرِ بِلاَ شَكٍّ. وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ يَقُمْ الْعَامَ يُدْرِكْهَا.
وَبُرْهَانُ قَوْلِنَا: أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْعَامِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} فَصَحَّ أَنَّهُ أُنْزِلَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ; فَصَحَّ ضَرُورَةً أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ لاَ فِي غَيْرِهِ; وَإِذْ لَوْ كَانَتْ فِي غَيْرِهِ لَكَانَ كَلاَمُهُ تَعَالَى يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضًا بِالْمُحَالِ, وَهَذَا مَا لاَ يَظُنُّهُ مُسْلِمٌ. وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّهَا فِي لَيْلَةِ سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَبُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْهُ، وَلاَ بُدَّ مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابُ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ،

(7/33)


حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الأَعْلَى، نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: "اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعَشْرَ الأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ قَالَ فَلَمَّا انْقَضَيْنَ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَأُعِيدَ ثُمَّ خَرَجَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِي لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَإِنِّي خَرَجْتُ لاُِخْبِرَكُمْ بِهَا فَجَاءَ رَجُلاَنِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ فَنُسِّيتُهَا فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ, وَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ, وَالسَّابِعَةِ, وَالْخَامِسَةِ. ثُمَّ فَسَّرَهَا أَبُو سَعِيدٍ فَقَالَ: إذَا مَضَتْ وَاحِدَةٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ فَهِيَ التَّاسِعَةُ, فَإِذَا مَضَى ثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا السَّابِعَةُ, فَإِذَا مَضَى خَمْسٌ وَعِشْرُونَ فَاَلَّتِي تَلِيهَا الْخَامِسَةُ".
قال أبو محمد: هَذَا عَلَى مَا قلنا مِنْ كَوْنِ رَمَضَانَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ. وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ: نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رِجَالاً رَأَوْا أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا" .
قال أبو محمد: هَذِهِ الأَخْبَارُ تُصَحِّحُ مَا قلنا: إذْ لَوْ كَانَتْ تَنْتَقِلُ لَمَا كَانَ لاِِعْلاَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقِيقَةٌ, لاَِنَّهَا كَانَتْ لاَ تَثْبُتُ; وَلَوَجَبَ إذْ خَرَجَ لِيُخْبِرَهُمْ بِهَا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِهَا عَامًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَهَذَا مُحَالٌ; وَإِذَا نُسِّيهَا عليه السلام فَمِنْ الْمُحَالِ الْبَاطِلِ أَنْ يَعْلَمَهَا أَحَدٌ بَعْدَهُ; وَإِذْ لَمْ يَقْطَعْ عليه السلام بِرُؤْيَا مَنْ رَأَى مِنْ أَصْحَابِهِ فَرُؤْيَا مَنْ بَعْدَهُمْ أَبْعَدُ مِنْ الْقَطْعِ بِهَا; وَقَدْ رُوِيَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ, وَلَيْسَ قَوْلُهُ بِأَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
فإن قيل: قَدْ جَاءَ أَنَّ عَلاَمَتَهَا أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ حِينَئِذٍ لاَ شُعَاعَ لَهَا قلنا: نَعَمْ, وَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: إنَّ ذَلِكَ يَظْهَرُ إلَيْنَا فَنَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ هُوَ عليه السلام; فَيَكُونُ ذَلِكَ أَوَّلَ طُلُوعِهَا بِحَيْثُ لاَ يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِيهَا أَحَدٌ. فإن قيل: قَدْ قَالَ عليه السلام: "إنَّهُ أُرِيَ أَنَّهُ

(7/34)


يَسْجُدُ فِي صَبِيحَتِهَا فِي مَاءٍ وَطِينٍ" فَكَانَ ذَلِكَ صَبَاحَ لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ قلنا: نَعَمْ, وَقَدْ وَكَفَ الْمَسْجِدُ أَيْضًا فِي صَبِيحَةِ لَيْلَةِ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ فَسَجَدَ عليه السلام فِي مَاءٍ وَطِينٍ.
رُوِّينَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الأَشْعَثِ الْكِنْدِيِّ أَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأَرَانِي صَبِيحَتَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ" , قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ. قَالَ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُنَيْسٍ يَقُولُ: ثَلاَثٌ وَعِشْرُونَ وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُفَّ السَّمَاءُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ كُلِّهَا فَبَقِيَ الأَمْرُ بِحَبْسِهِ.
وَمِنْ طَرَائِفِ الْوَسْوَاسِ: احْتِجَاجُ ابْنِ بُكَيْرٍ الْمَالِكِيِّ فِي أَنَّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَلاَمٌ هِيَ} قَالَ: فَلَفْظَةُ "هِيَ" هِيَ السَّابِعَةُ وَعِشْرُونَ مِنْ السُّورَةِ. قال أبو محمد: حَقُّ مَنْ قَامَ هَذَا فِي دِمَاغِهِ أَنْ يُعَانِيَ بِمَا يُعَانِي بِهِ سُكَّانُ الْمَارَسْتَانِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ, وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ دَعْوَاهُ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَنْسَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ مَا أَنْسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عليه السلام, وَمَنْ بَلَغَ إلَى هَذَا الْحَدِّ فَجَزَاؤُهُ أَنْ يَخْذُلَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ هَذَا الْخِذْلاَنِ الْعَاجِلِ ثُمَّ فِي الآخِرَةِ أَشَدُّ تَنْكِيلاً.

(7/35)


810 - مَسْأَلَةٌ: وَيُسْتَحَبُّ الاِجْتِهَادُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ" وَإِنَّمَا تُلْتَمَسُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لاَ بِأَنَّ لَهَا صُورَةً وَهَيْئَةً يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا بِخِلاَفِ سَائِرِ اللَّيَالِي كَمَا يَظُنُّ أَهْلُ الْجَهْلِ, إنَّمَا قَالَ تَعَالَى: {إنَّا أَنَزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} فَبِهَذَا بَانَتْ، عَنْ سَائِرِ اللَّيَالِي فَقَطْ وَالْمَلاَئِكَةُ لاَ يَرَاهُمْ أَحَدٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى التَّوْفِيقَ وَالْهُدَى وَالْعِصْمَةَ آمِينَ.
تم كتاب الصيام والحمد لله رب العالمين كثيرا, وصلى الله على محمد عبده ورسوله وسلم تسليما كثيراً.

(7/35)


كتاب الحج
باب الحج
قال أبو محمد: الحج إلى مكةَ والعمرة إليها فرضان على كل مؤمن
...
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَابُ الْحَجِّ
811 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: الْحَجُّ إلَى مَكَّةَ, وَالْعُمْرَةُ إلَيْهَا فَرْضَانِ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ, عَاقِلٍ, بَالِغٍ, ذَكَرٍ, أَوْ أُنْثَى, بِكْرٍ, أَوْ ذَاتِ زَوْجٍ. الْحُرُّ وَالْعَبْدُ, وَالْحُرَّةُ وَالأَمَةُ, فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ, مَرَّةً فِي الْعُمْرِ إذَا وَجَدَ مَنْ ذَكَرْنَا إلَيْهَا سَبِيلاً, وَهُمَا أَيْضًا عَلَى أَهْلِ الْكُفْرِ إلاَّ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلاَّ بَعْدَ الإِسْلاَمِ, وَلاَ يُتْرَكُونَ وَدُخُولَ الْحَرَمِ حَتَّى يُؤْمِنُوا. أَمَّا قَوْلُنَا بِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الْحُرِّ, وَالْحُرَّةِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ أَوْ ذُو مَحْرَمٍ يَحُجُّ مَعَهَا مَرَّةً فِي الْعُمْرِ فَإِجْمَاعٌ مُتَيَقَّنٌ, وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ, لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ ذَا مَحْرَمٍ, وَفِي الأَمَةِ وَالْعَبْدِ, وَفِي الْعُمْرَةِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} فَعَمَّ تَعَالَى وَلَمْ يَخُصَّ. وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
وَقَالَ قَوْمٌ: الْعُمْرَةُ لَيْسَتْ فَرْضًا وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْعُمْرَةِ أَفَرِيضَةٌ هِيَ قَالَ: "لاَ, وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ". وَبِمَا رُوِّينَاهُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ" . وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ قَالَ: لاَ, وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَفْصِ بْن غَيْلاَنَ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَشَى إلَى صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ فَهِيَ كَحَجَّةٍ, وَمَنْ مَشَى إلَى صَلاَةِ تَطَوُّعٍ فَهِيَ كَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ". وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ الْحَارِثِ، عَنِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَشَى إلَى مَكْتُوبَةٍ فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ, وَمَنْ مَشَى إلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْمُعْتَمِرِ". وَمِنْ طَرِيقِ مُحَاضِرِ بْن الْمُوَرِّعِ، عَنِ الأَحْوَصِ

(7/36)


ابْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَابِرٍ الأَلْهَانِيِّ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ, وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ كِلاَهُمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً ثُمَّ ثَبَتَ فِيهِ سُبْحَةَ الضُّحَى كَانَ كَأَجْرِ حَاجٍّ وَمُعْتَمِرٍ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ حَدِيثًا فِيهِ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُوسَى, عَنْ عَمِّهِ إِسْحَاقَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ". وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ قَانِعٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْن بَحِيرٍ الْعَطَّارِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَكَّارَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ سَالِمٍ الأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ، نا بِشْرُ بْنُ مُوسَى، نا ابْنُ الأَصْبَهَانِيِّ، نا جَرِيرٌ وَأَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ".
وَقَالُوا: قَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالاَ: نا زَيْدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً وَاحِدَةً قَالَ: "بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَا زَادَ فَتَطَوُّعٌ" قَالُوا: فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ, فَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ لِدُخُولِهَا فِي الْحَجِّ, وَقَالُوا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} لاَ يُوجِبُ كَوْنَهَا فَرْضًا, وَإِنَّمَا يُوجِبُ إتْمَامَهَا عَلَى مَنْ دَخَلَ فِيهَا لاَ ابْتِدَاءَهَا; لَكِنْ كَمَا تَقُولُ: أَتِمَّ الصَّلاَةَ التَّطَوُّعَ, وَالصَّوْمَ التَّطَوُّعَ. وَقَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الْعُمْرَةُ غَيْرَ مُرْتَبِطَةٍ بِوَقْتٍ وَجَبَ أَنْ لاَ تَكُونَ فَرْضًا: وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ: أَنَّهَا تَطَوُّعٌ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّ مَا مَوَّهُوا بِهِ وَكُلُّهُ بَاطِلٌ, أَمَّا الأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرُوا فَمَكْذُوبَةٌ كُلُّهَا; أَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَالْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ سَاقِطٌ لاَ يُحْتَجُّ بِهِ. وَالطَّرِيقُ الآُخْرَى أَسْقَطُ وَأَوْهَنُ; لاَِنَّهَا مِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنِ الْعُمَرِيِّ الصَّغِيرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَمَاهَانُ هَذَا ضَعِيفٌ كُوفِيٌّ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَأَحَدُ طُرُقِهِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غَيْلاَنَ وَهُوَ مَجْهُولٌ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مَكْحُولٌ مِنْ أَبِي أُمَامَةَ شَيْئًا. وَالآُخْرَى مِنْ طَرِيقِ الْقَاسِمِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَانِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَالثَّالِثَةُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الْمُوَرِّعِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنِ الأَحْوَصِ بْنِ حَكِيمٍ وَهُوَ سَاقِطٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَابِرٍ, وَهُوَ مَجْهُولٌ; وَهُوَ حَدِيثٌ

(7/37)


مُنْكَرٌ ظَاهِرُ الْكَذِبِ; لاَِنَّهُ لَوْ كَانَ أَجْرُ الْعُمْرَةِ كَأَجْرِ مَنْ مَشَى إلَى صَلاَةِ تَطَوُّعٍ لَمَا كَانَ لِمَا تَكَلَّفَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْقَصْدِ إلَى الْعُمْرَةِ إلَى مَكَّةَ مِنْ الْمَدِينَةِ مَعْنًى, وَلَكَانَ فَارِغًا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا. وَأَمَّا حَدِيثُ طَلْحَةَ فَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ, وَقَدْ أَصْفَقَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ عَلَى تَرْكِهِ, وَهُوَ رَاوِي كُلِّ بَلِيَّةٍ وَكَذِبَةٍ; ثُمَّ فِيهِ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ سندل وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ وَيَكْفِي; ثُمَّ هُوَ، عَنْ ثَلاَثَةٍ مَجْهُولِينَ فِي نَسَقٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُمْ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَكَذِبٌ بَحْتٌ مِنْ بَلاَيَا عَبْدِ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا وَالنَّاسُ رَوَوْهُ مُرْسَلاً مِنْ طَرِيقِ أَبِي صَالِحٍ مَاهَانَ كَمَا أَوْرَدْنَا قَبْلُ فَزَادَ فِيهِ أَبَا هُرَيْرَةَ, وَأَوْهَمَ أَنَّهُ صَالِحٌ السَّمَّانُ فَسَقَطَتْ كُلُّهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَلَوْ شِئْنَا لَعَارَضْنَاهُمْ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ وَاجِبَتَانِ". وَلَكِنْ يُعِيذُنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَمَعَاذَ اللَّهِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ مِنْ أَنْ نَحْتَجَّ بِمَا لَيْسَ حُجَّةً; وَلَكِنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ إذَا رَوَى مَا يُوَافِقُهُمْ صَارَ ثِقَةً وَإِذَا رَوَى مَا يُخَالِفُهُمْ صَارَ ضَعِيفًا; وَاَللَّهِ مَا هَذَا فِعْلُ مَنْ يُوقِنُ أَنَّهُ مُحَاسَبٌ بِكَلاَمِهِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى.
قال أبو محمد: وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ: إنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا وَتَرَكَهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلاً عَلَى ضَعْفِ ذَلِكَ الْخَبَرِ. وَقَدْ نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَاجِبَتَانِ. وَبِهِ نَصًّا إلَى سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ: إنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّه وَهَذَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ كَوُجُوبِ الْحَجِّ.
وَنا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا أَبُو قِلاَبَةَ، نا الأَنْصَارِيُّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَيْسَ مُسْلِمٌ إلاَّ عَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً.
قال أبو محمد: فَلَوْ صَحَّ مَا رَوَوْا مِنْ الْكَذِبِ الْمُلَفَّقِ لَوَجَبَ عَلَى أُصُولِهِمْ الْخَبِيثَةِ الْمُفْتَرَاةِ إسْقَاطُ كُلِّ ذَلِكَ إذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ رَوَيَا تِلْكَ الأَخْبَارَ بِزَعْمِهِمْ قَدْ صَحَّ عَنْهُمَا

(7/38)


خِلاَفُهَا, وَلَكِنَّ الْقَوْمَ مُتَلاَعِبُونَ كَمَا تَرَوْنَ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
قال أبو محمد: ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ كُلُّهَا وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَصِحَّ الْبَاطِلُ وَالْكَذِبُ لَمَا كَانَتْ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا حُجَّةٌ. لِمَا نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصَّنْعَانِيُّ، نا خَالِدُ، هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ، نا شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ سَالِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ أَوْسٍ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: "إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، وَلاَ الْعُمْرَةَ، وَلاَ الظَّعْنَ قَالَ: فَحِجَّ، عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ" .
فَهَذَا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَدَاءِ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَمَّنْ لاَ يُطِيقُهُمَا; فَهَذَا حُكْمٌ زَائِدٌ وَشَرْعٌ وَارِدٌ; وَكَانَتْ تَكُونُ تِلْكَ الأَحَادِيثُ مُوَافِقَةً لِمَعْهُودِ الأَصْلِ فَإِنَّ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ قَدْ كَانَا بِلاَ شَكٍّ تَطَوُّعًا لاَ فَرْضًا فَإِذَا أَمَرَ بِهِمَا اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم فَقَدْ بَطَلَ كَوْنُهُمَا تَطَوُّعًا بِلاَ شَكٍّ وَصَارَا فَرْضَيْنِ, فَمَنْ ادَّعَى بُطْلاَنَ هَذَا الْحُكْمِ وَعَوْدَةَ الْمَنْسُوخِ فَقَدْ كَذَبَ وَأَفِكَ وَافْتَرَى; وَقَفَا مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ; فَبَطَلَ كُلُّ خَبَرٍ مَكْذُوبٍ مَوَّهُوا بِهِ لَوْ صَحَّ فَكَيْف وَكُلُّهَا بَاطِلٌ؟
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ إخْبَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِدُخُولِ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجِّ, وَبِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ إلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا فَهَذَيَانٌ لاَ يُعْقَلُ; بَلْ هَذَا بُرْهَانٌ وَاضِحٌ فِي كَوْنِ الْعُمْرَةِ فَرْضًا; لاَِنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَ بِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ;، وَلاَ يَشُكُّ ذُو عَقْلٍ فِي أَنَّهَا لَمْ تَصِرْ حَجَّةً; فَوَجَبَ أَنَّ دُخُولَهَا فِي الْحَجِّ إنَّمَا هُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ فَقَطْ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يُجْزَى لَهُمَا عَمَلٌ وَاحِدٌ فِي الْقِرَانِ. وَالثَّانِي: دُخُولُهَا فِي أَنَّهَا فَرْضٌ كَالْحَجِّ. فَإِنْ قَالُوا: قَدْ جَاءَ أَنَّهَا الْحَجُّ الأَصْغَرُ قلنا لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ حُجَّةً لَنَا; لإِنَّ الْقِرَانَ قَدْ جَاءَ بِإِيجَابِ الْحَجِّ فَكَانَتْ حِينَئِذٍ تَكُونُ فَرْضًا بِنَصِّ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} لَكِنَّا لاَ نَسْتَحِلُّ التَّمْوِيهَ بِمَا لاَ يَصِحُّ, مَعَ أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرُوا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لإِنَّ رَاوِيَهُ أَبُو سِنَانٍ الدُّؤَلِيُّ وَقَدْ قَالَ فِيهِ عُقَيْلٌ: سِنَانٌ هُوَ مَجْهُولٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ, وَأَيْضًا: فَإِنَّهُمْ كَذَبُوا فِيهِ وَحَرَّفُوهُ وَأَوْهَمُوا أَنَّ فِيهِ مِنْ لَفْظِ

(7/39)


النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَرْءِ إلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ لَيْسَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ أَصْلاً وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ إمَّا مَعَ الْحَجِّ مَقْرُونَةٌ, وَأَمَّا مَعَهُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ; فَصَارَ حُجَّةً لَنَا عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَمَرَ بِإِتْمَامِهَا مَنْ دَخَلَ فِيهَا لاَ بِابْتِدَائِهَا, وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَرَأَ: {وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ} بِالرَّفْعِ فَقَوْلٌ كُلُّهُ بَاطِلٌ; لاَِنَّهَا دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ وَقَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} لاَ يَقْتَضِي مَا قَالُوا وَإِنَّمَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْمَجِيءِ بِهِمَا تَامَّيْنِ وَحَتَّى لَوْ صَحَّ مَا قَالُوهُ لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ; لاَِنَّهُ إذَا كَانَ الدَّاخِلُ فِيهَا مَأْمُورًا بِإِتْمَامِهَا فَقَدْ صَارَتْ فَرْضًا مَأْمُورًا بِهِ; وَهَذَا قَوْلُنَا لاَ قَوْلُهُمْ الْفَاسِدُ الْمُتَخَاذِلُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ.
وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَاَللَّهِ إنَّهَا لَقَرِينَتُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى هَذَا النَّصَّ مُوجِبًا لِكَوْنِهَا فَرْضًا كَالْحَجِّ بِخِلاَفِ كَيْسِ هَؤُلاَءِ الْحُذَّاقِ بِاللُّغَةِ بِالضِّدِّ, وَبِهَذَا احْتَجَّ مَسْرُوقٌ, وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ, وَنَافِعٌ فِي إيجَابِهَا; وَمَسْرُوقٌ; وَسَعِيدٌ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ. فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: بِهَذَا فِي الْحَجِّ التَّطَوُّعِ, وَالْعُمْرَةِ التَّطَوُّعِ قلنا: لاَ بَلْ هُمَا تَطَوُّعٌ غَيْرُ لاَزِمٍ جُمْلَةً إنْ تَمَادَى فِيهِمَا أُجِرَ, وَإِلاَّ فَلاَ حَرَجَ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ هَذَا لَكَانَ الْحَجُّ يَتَكَرَّرُ فَرْضُهُ مَرَّاتٍ, وَهَذَا خِلاَفُ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الدَّهْرِ. فَإِنْ قَالُوا: فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: بِإِتْمَامِ النَّذْرِ, وَإِتْمَامِ قَضَاءِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِيهِ قلنا: نَعَمْ; لإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ صَارَ فَرْضًا زَائِدًا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ وَأَمْرِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا الْحَجُّ فَرْضٌ مَرَّةً وَاحِدَةً عَلَى مَنْ لَمْ يَنْذِرْهُ لاَ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ; بَلْ هُوَ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ فَرْضٌ آخَرُ لاَ نَضْرِبُ أَوَامِرَ اللَّهِ تَعَالَى بَعْضَهَا بِبَعْضٍ بَلْ نَضُمُّ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ وَنَأْخُذُ بِجَمِيعِهَا. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ {وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ} بِالرَّفْعِ فَقِرَاءَةٌ مُنْكَرَةٌ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا, وَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَهُمْ يَلْجَئُونَ إلَى تَبْدِيلِ الْقُرْآنِ فَيَحْتَجُّونَ بِهِ!
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَوْ كَانَتْ فَرْضًا لَكَانَتْ مُرْتَبِطَةً بِوَقْتٍ فَكَلاَمٌ سَخِيفٌ لَمْ يَأْتِ بِهِ قَطُّ قُرْآنٌ، وَلاَ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ، وَلاَ رِوَايَةٌ سَقِيمَةٌ، وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ، وَلاَ إجْمَاعٌ، وَلاَ قِيَاسٌ يُعْقَلُ, وَهُمْ مُوَافِقُونَ لَنَا عَلَى أَنَّ الصَّلاَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْضٌ وَلَوْ مَرَّةً فِي الدَّهْرِ وَلَيْسَتْ مُرْتَبِطَةً بِوَقْتٍ, وَأَنَّ النَّذْرَ فَرْضٌ وَلَيْسَ

(7/40)


مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ, وَأَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ فَرْضٌ وَلَيْسَ مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ, وَالإِحْرَامُ لِلْحَجِّ عِنْدَهُمْ فَرْضٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مُرْتَبِطًا بِوَقْتٍ, فَظَهَرَ هَوَسُ مَا يَأْتُونَ بِهِ.
قال أبو محمد: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ ثَابِتٍ قَالَ فِيمَنْ يَعْتَمِرُ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ: نُسُكَانِ لِلَّهِ عَلَيْك لاَ يَضُرُّك بِأَيِّهِمَا بَدَأَتْ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَدٌ إلاَّ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلاً وَمَنْ زَادَ بَعْدَهُمَا شَيْئًا فَهُوَ خَيْرٌ وَتَطَوُّعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُمِرْتُمْ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ, وَالْعُمْرَةِ إلَى الْبَيْتِ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، عَنْ جَابِرٍ, وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُتِبَتْ عَلَيْكُمْ الْعُمْرَةَ. وَعَنْ أَشْعَثَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا لاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرِيضَةٌ, وَابْنُ سِيرِينَ أَدْرَكَ الصَّحَابَةِ وَأَكَابِرَ التَّابِعِينَ. وَعَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَمَعْمَرٍ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدٍ قُلْت لِعَطَاءٍ: الْعُمْرَةُ عَلَيْنَا فَرِيضَةٌ كَالْحَجِّ قَالَ: نَعَمْ. وَعَنْ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ, وَابْنِ سِيرِينَ جَمِيعًا الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ وَعَنْ طَاوُوس الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ; فَقِيلَ لَهُ: إنَّ فُلاَنًا يَقُولُ: لَيْسَتْ وَاجِبَةً, فَقَالَ: كَذَبَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ مَسْرُوقًا يَقُولُ أُمِرْتُمْ فِي الْقُرْآنِ بِإِقَامَةِ أَرْبَعٍ: الصَّلاَةُ, وَالزَّكَاةُ, وَالْحَجُّ, وَالْعُمْرَةُ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شَدَّادٍ يَقُولُ: الْعُمْرَةُ الْحَجُّ الأَصْغَرُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ إنَّمَا كُتِبَتْ عَلَيَّ عُمْرَةٌ, وَحَجَّةٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرِيضَتَانِ; وَعَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ الْعُمْرَةُ الْحَجَّةُ الصُّغْرَى, وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الْعُمْرَةِ فَقَالَ: مَا نَعْلَمُهَا إلاَّ وَاجِبَةً {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} . وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ السَّرَّاجِ قَالَ: سَأَلْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ, وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، عَنِ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ فَقَرَأَ جَمِيعًا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ

(7/41)


وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، نا مُغِيرَةُ، هُوَ ابْنُ مَقْسَمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْعُمْرَةِ: هِيَ وَاجِبَةٌ وَعَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ قَالَ: الْعُمْرَةُ وَاجِبَةٌ.
قال أبو محمد: وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالأَوْزَاعِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لَيْسَتْ فَرْضًا, وَالْقَوْمُ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ, وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ, وَابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنَ مَسْعُودٍ, وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ, وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفٌ لَهُمْ فِي هَذَا إلاَّ رِوَايَةً سَاقِطَةً مِنْ طَرِيقِ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: الْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ, وَالصَّحِيحُ عَنْهُ خِلاَفُ هَذَا كَمَا ذَكَرْنَا. وَعَهْدُنَا بِهِمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الْجُمْهُورِ, وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا عَطَاءً, وطَاوُوسًا, وَمُجَاهِدًا, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ, وَالْحَسَنَ, وَابْنَ سِيرِينَ, وَمَسْرُوقًا, وَعَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ, وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ, وَهُشَامَ بْنَ عُرْوَةَ, وَالْحَكَمَ بْنَ عُتَيْبَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ, وَالشَّعْبِيَّ, وَقَتَادَةَ وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ قَالَ: لَيْسَتْ وَاجِبَةً سَلَفًا, مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَحْدَهُ; وَرِوَايَةٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَدْ صَحَّ عَنْهُ خِلاَفُهَا كَمَا ذَكَرْنَا وَتَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ.
قال أبو محمد: وَمَوَّهَ بَعْضُهُمْ بِحَدِيثَيْنِ هُمَا مِنْ أَعْظَمِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ: أَحَدُهُمَا: الْخَبَرُ الثَّابِتُ فِي الَّذِي سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الإِسْلاَمِ فَأَخْبَرَهُ بِالصَّلاَةِ, وَالزَّكَاةِ, وَالصِّيَامِ, وَالْحَجِّ; فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: لاَ إلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ. وَالثَّانِي: خَبَرُ ابْنِ عُمَرَ "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ" فَذَكَرَ شَهَادَةَ التَّوْحِيدِ, وَالصَّلاَةَ, وَالزَّكَاةَ, وَالصِّيَامَ, وَالْحَجَّ.
قال أبو محمد: وَهُمَا أَقْوَى, حُجَجِنَا عَلَيْهِمْ لِصِحَّةِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" فَصَحَّ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِوُجُوبِ الْحَجِّ, وَأَنَّ فَرْضَهَا دَخَلَ فِي فَرْضِ الْحَجِّ. وَأَيْضًا: فَحَتَّى لَوْ لَمْ يَأْتِ هَذَا الْخَبَرُ لَكَانَ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوُرُودُ الْقُرْآنِ بِهَا شَرْعًا زَائِدًا وَفَرْضًا وَارِدًا مُضَافًا إلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ الْمَذْكُورَةِ; وَكُلُّهُمْ يَرَى النَّذْرَ فَرْضًا, وَالْجِهَادَ إذَا نَزَلَ بِالْمُسْلِمِينَ فَرْضًا; وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ فَرْضًا, وَالْوُضُوءَ فَرْضًا, وَلَيْسَ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَلَمْ يَرَوْا الْحَدِيثَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ حُجَّةً فِي سُقُوطِ فَرْضِ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا, فَوَضَحَ تَنَاقُضُهُمْ وَفَسَادُ مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

(7/42)


812 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا حَجُّ الْعَبْدِ, وَالأَمَةِ, فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَمَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ قَالُوا: لاَ حَجَّ عَلَيْهِ فَإِنْ حَجَّ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ. وقال أحمد بْنِ حَنْبَلٍ: إذَا عَتَقَ

(7/42)


بِعَرَفَةَ أَجْزَأَتْهُ تِلْكَ الْحَجَّةُ; وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: عَلَيْهِ الْحَجُّ كَالْحُرِّ, وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنْ جَابِرٍ, وَابْنِ عُمَرَ قَالَ أَحَدُهُمَا: مَا مِنْ مُسْلِمٍ, وَقَالَ الآخَرُ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلاَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ; فَقَطَعَاً وَعَمَّا وَلَمْ يَخُصَّا إنْسِيًّا مِنْ جِنِّيٍّ, وَلاَ حُرًّا مِنْ عَبْدٍ, وَلاَ حُرَّةً مِنْ أَمَةٍ, وَمَنْ ادَّعَى عَلَيْهِمَا تَخْصِيصَ الْحُرِّ, وَالْحُرَّةِ; فَقَدْ كَذَبَ عَلَيْهِمَا;، وَلاَ أَقَلَّ حَيَاءً مِمَّنْ يَجْعَلُ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ حُجَّةٌ فِي إسْقَاطِ فَرْضِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ فَرْضِهَا كَمَا ذَكَرْنَا، وَلاَ يَجْعَلُ قَوْلَهُ: مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إلاَّ عَلَيْهِ: حَجَّةٌ, وَعُمْرَةٌ: حُجَّةٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْعَبْدِ. فإن قيل: لَعَلَّهُمَا أَرَادَا إلاَّ الْعَبْدَ قِيلَ: هَذَا هُوَ الْكَذِبُ بِعَيْنِهِ أَنْ يُرِيدَا إلاَّ الْعَبْدَ ثُمَّ لاَ يُبَيِّنَانِهِ; وَأَيْضًا: فَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا إلاَّ الْمُقْعَدَ, وَإِلاَّ الأَعْمَى, وَإِلاَّ الأَعْوَرَ, وَإِلاَّ بَنِي تَمِيمٍ, وَإِلاَّ أَهْلَ إفْرِيقِيَةَ, وَهَذَا حَقٌّ لاَ خَفَاءَ بِهِ;، وَلاَ يَصِحُّ مَعَ هَذِهِ الدَّعْوَى قَوْلَةٌ لاَِحَدٍ أَبَدًا. وَلَعَلَّ كُلَّ مَا أَخَذُوا بِهِ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ; وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا تَخْصِيصًا لَمْ يُبَيِّنُوهُ وَهَذِهِ طَرِيقُ السُّوفُسْطَائِيَّة نَفْسِهَا; وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَحَدٌ مَا لَمْ يَقُلْ إلاَّ بِبَيَانٍ وَارِدٍ مُتَيَقَّنٍ يُنْبِئُ بِأَنَّهُ أَرَادَ غَيْرَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ. وَقَدْ ذَكَرُوا هَاهُنَا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}. {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}. {وَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ}. وَكُلُّ هَذَا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهَا إنَّمَا دَمَّرَتْ بِنَصِّ الآيَةِ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَدَمَّرَتْ مَا أَمَرَهَا رَبُّهَا بِتَدْمِيرِهِ لاَ مَا لَمْ يَأْمُرْهَا. وَمَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ; فَإِنَّمَا جَعَلَتْ كَالرَّمِيمِ مَا أَتَتْ عَلَيْهِ لاَ مَا لَمْ تَأْتِ عَلَيْهِ بِنَصِّ الآيَةِ. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: لاَ يَقْتَضِي إلاَّ بَعْضَ الأَشْيَاءِ; لإِنَّ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ, فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ شَيْئًا مَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ فَقَدْ آتَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ; لإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ الْعَالَمُ كُلُّهُ; فَمَنْ أُوتِيَ شَيْئًا فَقَدْ أُوتِيَ مِنْ الْعَالَمِ كُلِّهِ وَهَذَا بَيِّنٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَكَتَبَ إلَيَّ أَبُو الْمَرْجِيِّ الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِرٍّ الْمَصْرِيُّ قَالَ: نا أَبُو الْحَسَنِ الرَّحَبِيُّ: نا أَبُو مُسْلِمٍ الْكَاتِبُ، نا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ المغلس، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، نا أَبِي، نا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ الْعُكْلِيُّ، نا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَشَجِّ قَالَ: سَأَلْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ, وَسُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ، عَنِ الْعَبْدِ إذَا حَجَّ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَقَالاَ جَمِيعًا: تُجْزِئُ عَنْهُ مِنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ فَإِذَا حَجَّ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ تُجْزِهِ; وَبِهِ إلَى زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ أَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إذَا حَجَّ الْعَبْدُ وَهُوَ مُخَلًّى فَقَدْ أَجْزَأَتْ عَنْهُ حَجَّةُ الإِسْلاَمِ.

(7/43)


قال أبو محمد: وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ لِلْعَبْدِ حَجًّا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ شَيْخًا يُحَدِّثُ أَبَا إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ أَدْرَكَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ, وَأَيُّمَا مَمْلُوكٍ حَجَّ بِهِ أَهْلُهُ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَ عَنْهُ وَإِنْ عَتَقَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ".
قال أبو محمد: هَذَا مُرْسَلٌ, وَعَنْ شَيْخٍ لاَ يُدْرَى اسْمُهُ، وَلاَ مَنْ هُوَ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عُثْمَانَ بْنِ خِرْزَادٍ الأَنْطَاكِيِّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ الضَّرِيرِ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ لَمْ يَبْلُغْ الْحِنْثَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى, وَأَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً أُخْرَى".
قال علي: وهذا خَبَرٌ رَوَاهُ مَنْ هُوَ أَوْثَقُ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ خَرَّزَاذٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ شُعْبَةَ, وَمَنْ هُوَ إنْ لَمْ يَكُنْ فَوْقَ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ لَمْ يَكُنْ دُونَهُ، عَنْ شُعْبَةَ فَأَوْقَفَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَسْنَدَهُ الآخَرُ بِزِيَادَةٍ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ نُبَاتٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَوْنِ اللَّهِ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمِنْهَالِ, قَالَ ابْنُ الْمِنْهَالِ: نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، نا شُعْبَةُ, وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ: نا شُعْبَةُ, ثُمَّ اتَّفَقَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أُمِّ ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا حَجَّ الصَّبِيُّ لَهُ فَهِيَ حَجَّةُ صَبِيٍّ حَتَّى يَعْقِلَ, فَإِذَا عَقَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى, وَإِذَا حَجَّ الأَعْرَابِيُّ فَهِيَ لَهُ حَجَّةُ أَعْرَابِيٍّ, فَإِذَا هَاجَرَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى". وَأَوْقَفَهُ ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ وَأَوْقَفَهُ أَيْضًا: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَوْقَفَهُ أَيْضًا: أَبُو السَّفَرِ, وَعُبَيْدٌ صَاحِبُ الْحُلَى, وَقَتَادَةُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ أبو محمد: إنْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ حُجَّةً فِي أَنْ لاَ يُجْزِئَ الْعَبْدَ حَجُّهُ فَهُوَ حُجَّةٌ فِي أَنْ لاَ يُجْزِئَ الأَعْرَابِيَّ حَجُّهُ، وَلاَ فَرْقَ; وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الثَّابِتُ عَنْهُ كَمَا أَوْرَدْنَا. وَكَذَلِكَ أَيْضًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ, وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ فِي إعَادَةِ الْحَجِّ عَلَى الصَّبِيِّ إذَا احْتَلَمَ, وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ, وَعَلَى الأَعْرَابِيِّ إذَا هَاجَرَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. كَمَا رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ إسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: الصَّبِيُّ إنْ حَجَّ, وَالْمَمْلُوكُ إنْ حَجَّ, وَالأَعْرَابِيُّ

(7/44)


إنْ حَجَّ, ثُمَّ هَاجَرَ الأَعْرَابِيُّ, وَاحْتَلَمَ الصَّبِيُّ, وَعَتَقَ الْعَبْدُ فَعَلَيْهِمْ الْحَجُّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَمَّا الأَعْرَابِيُّ فَيُجْزِئُهُ حَجُّهُ, وَأَمَّا الصَّبِيُّ, وَالْمَمْلُوكُ فَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ. وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: لاَ يُجْزِئُ الْعَبْدَ حَجُّهُ إذَا أُعْتِقَ, وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أُخْرَى, وَأَمَّا الأَعْرَابِيُّ فَيُجْزِئْهُ حَجُّهُ. وَقَدْ رُوِّينَا أَيْضًا مِثْلَ هَذَا، عَنِ الْحَسَنِ, وَعَنِ الزُّهْرِيِّ, وطَاوُوس, وَمَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ التَّابِعِينَ رُوِيَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَاهُ, وَلاَ عَنِ الصَّحَابَةِ غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَا.
قال أبو محمد: فَمَنْ أَعْجَبُ شَأْنًا مِمَّنْ يَدَّعِي الإِجْمَاعَ فِي هَذَا وَلَيْسَ مَعَهُ فِيهِ إلاَّ خَمْسَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ, أَحَدُهُمْ مُخْتَلَفٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ, وَقَدْ رُوِّينَا مِثْلَ قَوْلِنَا، عَنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ, وَعَنْ اثْنَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كُلَّ قَوْلٍ جَاءَ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَهُمْ يُعَظِّمُونَ مِثْلَ هَذَا إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ فَلَمْ يَجْعَلُوا مَا رُوِيَ، عَنْ سِتَّةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ مِنْ التَّابِعِينَ فِي أَنَّ الْعُمْرَةَ فَرْضٌ;، وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ، وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ التَّابِعِينَ إلاَّ عَنْ وَاحِدٍ بِاخْتِلاَفٍ فَلَمْ يَجْعَلُوهُ إجْمَاعًا.
قال أبو محمد: لاَ تَخْلُو رِوَايَةُ عُثْمَانَ بْنِ خَرَّزَاذٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ بَشَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً أَوْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَحِيحَةٍ فَقَدْ كُفِينَا الْمُؤْنَةُ فِيهَا, وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً وَهُوَ الأَظْهَرُ فِيهَا; لإِنَّ رُوَاتَهَا ثِقَاتٌ فَإِنَّهُ خَبَرٌ مَنْسُوخٌ بِلاَ. شَكٍّ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ بِلاَ شَكٍّ كَانَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ; لإِنَّ فِيهِ إعَادَةُ الْحَجِّ عَلَى مَنْ حَجَّ مِنْ الأَعْرَابِ قَبْلَ هِجْرَتِهِ, وَقَدْ نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، نا أُبَيٌّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: "لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ فَإِذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ، نا يَحْيَى وَإِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ قَالاَ جَمِيعًا أَنَا جَرِيرُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لاَ هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ إذَا اُسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا". وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقٍ ثَابِتَةٍ، عَنْ مُجَاشِعٍ,

(7/45)


وَمُجَالِدٍ: ابْنَيْ مَسْعُودٍ السِّلْمِيَّيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذْ قَدْ صَحَّ بِلاَ شَكٍّ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ فَقَدْ نَسَخَهُ مَا رُوِّينَا بِالسَّنَدِ الْمَذْكُورِ إلَى مُسْلِمٍ.
نا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، نا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا", فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلاَثًا فَقَالَ عليه السلام: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ, لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ, ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ, فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ, فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ, وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ".
قال أبو محمد: كَانَ هَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَصَارَ عُمُومًا لِكُلِّ حُرٍّ, وَعَبْدٍ, وَأَعْرَابِيٍّ, وَعَجَمِيٍّ وَبِلاَ شَكٍّ، وَلاَ مِرْيَةٍ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ كَانَ غَيْرَ مُخَاطَبٍ بِالْحَجِّ فِي صَدْرِ الإِسْلاَمِ، وَلاَ الْحُرُّ أَيْضًا; فَكَانَ خَبَرُ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ فِي أَنَّ عَلَيْهِ وَعَلَى الأَعْرَابِيِّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ إذَا عَتَقَ الْعَبْدُ, وَهَاجَرَ الأَعْرَابِيُّ, مُوَافِقًا لِلْحَالَةِ الآُولَى وَبَقِيَا عَلَى أَنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ كَمَا كَانَا, وَجَاءَ هَذَا الْخَبَرُ فَدَخَلَ فِي نَصِّهِ فِي الْخِطَابِ بِالْحَجِّ: الْعَبْدُ, وَالأَعْرَابِيُّ; لاَِنَّهُمَا مِنْ النَّاسِ فَكَانَ بِلاَ شَكٍّ نَاسِخًا لِلْحَالَةِ الآُولَى وَمُدْخِلاً لَهُمَا فِي الْخِطَابِ بِالْحَجِّ ضَرُورَةً، وَلاَ بُدَّ.
وَرَأَيْت بَعْضَهُمْ قَدْ احْتَجَّ فَقَالَ: حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَزْوَاجِهِ, وَلَمْ يَحُجَّ بِأُمِّ وَلَدِهِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَهَذِهِ كِذْبَةٌ شَنِيعَةٌ لاَ نَجِدُهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الآثَارِ أَبَدًا وَإِنَّ التَّسَهُّلَ فِي مِثْلِ هَذَا لَعَظِيمٌ جِدًّا.
قال أبو محمد: عَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِي النَّفْيِ فِي الزِّنَا, وَفِي كَثِيرٍ مِنْ السُّنَنِ مِثْلَ: لاَ تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ، وَلاَ الرَّضْعَتَانِ, وَفِي خَبَرِ الْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ, هَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ, وَهَذَا خِلاَفُ مَا فِي الْقُرْآنِ, وَكَذَبُوا فِي كُلِّ ذَلِكَ, ثُمَّ لَمْ يَقُولُوا فِي هَذَا الْخَبَرِ: هَذَا تَخْصِيصٌ لِلْقُرْآنِ, وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, وَهَذَا خِلاَفٌ لِمَا فِي الْقُرْآنِ.
وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَرُدُّونَ السُّنَنَ الثَّابِتَةَ بِدَعْوَى الاِضْطِرَابِ: كَخَبَرِ الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ, وَخَبَرِ ابْنِ عُمَرَ فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ, وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ; ثُمَّ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِهَذَا الْخَبَرِ الَّذِي لاَ نَعْلَمُ خَبَرًا أَشَدَّ اضْطِرَابًا مِنْهُ. وَهُمْ يَتْرُكُونَ السُّنَنَ لِلْقِيَاسِ: كَخَبَرِ الْمُصَرَّاةِ, وَخَبَرِ الْقُرْعَةِ فِي السِّتَّةِ الأَعْبُدِ, وَهُمْ هَاهُنَا قَدْ تَرَكُوا الْقِيَاسَ; لأَنَّهُمْ لاَ يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الْعَبْدَ مُخَاطَبٌ بِالإِسْلاَمِ وَبِالصَّلاَةِ, وَالصِّيَامِ, فَمَا الَّذِي مَنَعَ مِنْ أَنْ يُخَاطَبَ بِالْحَجِّ, وَالْعُمْرَةِ; ثُمَّ يَقُولُونَ:

(7/46)


الْعَبْدُ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا حَضَرَهَا صَارَ مِنْ أَهْلِهَا وَأَجْزَأَتْهُ, فَهُمْ قَالُوا هَاهُنَا: إنَّ الْعَبْدَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ إذَا حَضَرَهُ صَارَ مِنْ أَهْلِهِ وَأَجْزَأَهُ وَأَكْثَرُهُمْ يَقُولُ: مَنْ نَوَى تَطَوُّعًا بِحَجِّهِ أَجْزَأَهُ، عَنِ الْفَرْضِ, وَأَقَلُّ حَالِ حَجِّ الْعَبْدِ: أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا فَهَلاَّ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُمْ فَإِنْ قَالُوا: هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ قلنا: قَدْ جَمَعْتُمْ فِي هَذَا الْقَوْلِ الْكَذِبَ وَخِلاَفَ الْقُرْآنِ إذْ لَمْ يَخُصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدًا مِنْ حُرٍّ, وَالتَّنَاقُضَ; لاَِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِهِ فَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّفَ، وَلاَ يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ، وَلاَ شَيْءٌ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ، وَلاَ فِدْيَةِ أَذًى، وَلاَ غَيْرِ ذَلِكَ كَمَا لاَ يَلْزَمُ الْحَائِضُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ, إذْ لَيْسَتْ مُخَاطَبَةً بِهِ, وَكَالصَّبِيِّ الَّذِي لاَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ أُمُورِ الْحَجِّ فَإِنْ فَعَلَهُمَا أَوْ فَعَلَ بِهِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ وَكَانَ لَهُ حَجٌّ لِلأَثَرِ فِي ذَلِكَ لاَ لِغَيْرِهِ.
فَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ الثَّابِتَةَ وَقَوْلَ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ وَالْقِيَاسُ: نَعَمْ, وَالْخَبَرُ الَّذِي بِهِ احْتَجُّوا; لأَنَّهُمْ خَالَفُوا مَا فِيهِ مِنْ حُكْمِ الأَعْرَابِيِّ فِي الْحَجِّ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/47)


813 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ ذَا مَحْرَمٍ يَحُجُّ مَعَهَا فَإِنَّهَا تَحُجُّ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهَا; فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ مَعَهَا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَتَحُجُّ هِيَ دُونَهُ وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ.
وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ, وطَاوُوس, وَالشَّعْبِيِّ, وَالْحَسَنِ: لاَ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ.
وَرُوِّينَا، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ: إنْ كَانَتْ مِنْ مَكَّةَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ لَيَالٍ ثَلاَثٍ فَلَهَا أَنْ تَحُجَّ مَعَ غَيْرِ زَوْجٍ, وَغَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ, وَإِنْ كَانَتْ عَلَى ثَلاَثٍ فَصَاعِدًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحُجَّ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ, أَوْ ذِي مَحْرَمٍ مِنْ رِجَالِهَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ: "لاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ عَلِيِّ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى: أَنَّ عِكْرِمَةَ سُئِلَ، عَنِ الْمَرْأَةِ تَحُجُّ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: تَحُجُّ فِي رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ، وَلاَ كَانَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ يُونُسَ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ الْمَرْأَةُ لاَ تُسَافِرُ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ قَالَتْ عَائِشَةُ: لَيْسَ كُلُّ النِّسَاءِ تَجِدُ مَحْرَماً.

(7/47)


وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ يُسَافِرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ مَوْلَيَاتٌ لَهُ لَيْسَ مَعَهُنَّ مَحْرَمٌ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَعَطَاءٍ, وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ, وَقَتَادَةَ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِمْ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي التَّحْدِيدِ الَّذِي ذُكِرَ فَلاَ نَعْلَمُ لَهُ سَلَفًا فِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَلاَ مِنْ التَّابِعِينَ، رضي الله عنهم،; بَلْ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَهُ قَبْلَهُمْ, وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ إذَا وَافَقَ تَقْلِيدَهُمْ, وَيَقُولُونَ: إنَّ الْمُرْسَلَ كَالْمُسْنَدِ, وَقَدْ صَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرْنَا; وَرُوِيَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَحْسَنِ مُرْسَلٍ يُمْكِنُ وُجُودُ مِثْلِهِ, وَلاَ يُعْرَفُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ مُخَالِفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،, وَقَدْ خَالَفَهُمَا أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ.
قال أبو محمد: ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَا احْتَجَّتْ بِهِ كُلُّ طَائِفَةٍ لِقَوْلِهَا فَوَجَدْنَا أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحْتَجُّونَ لِقَوْلِهِمْ بِالْخَبَرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ ثَلاَثًا إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ". وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ أَيْضًا "لَيْلَتَيْنِ" وَرُوِيَ "يَوْمًا وَلَيْلَةً" وَرُوِيَ "يَوْمًا" وَرُوِيَ "بَرِيدًا" قَالُوا: وَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَحْرِيمِ سَفَرِهَا ثَلاَثًا وَعَلَى شَكٍّ مِنْ تَحْرِيمِ سَفَرِهَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ; لاَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذِكْرُ الثَّلاَثِ مُتَقَدِّمًا وَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا فَالثَّلاَثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ مُحَرَّمٌ عَلَيْهَا سَفَرُهَا إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ فَنَأْخُذُ مَا لاَ شَكَّ فِيهِ وَنَدْعُ مَا فِيهِ الشَّكُّ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ غَيْرَ هَذَا أَصْلاً.
قال علي: وهذا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ صَوَابُ الْعَمَلِ مَا ذَكَرُوا; لاَِنَّهُ إنْ كَانَ خَبَرُ الثَّلاَثِ مُتَقَدِّمًا أَوْ مُتَأَخِّرًا فَلَيْسَ فِيهِ إنْ تَقَدَّمَ إبْطَالٌ لِحُكْمِ النَّهْيِ، عَنْ سَفَرِهَا أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ لَكِنَّهُ بَعْضُ مَا فِي سَائِرِ الرِّوَايَاتِ, وَسَائِرُ الرِّوَايَاتِ زَائِدَةٌ عَلَيْهِ, وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ نَسْخٍ أَصْلاً; بَلْ كُلُّ تِلْكَ الأَخْبَارِ حَقٌّ وَكُلُّهَا يَجِبُ اسْتِعْمَالُهَا وَلَيْسَ بَعْضُهَا مُخَالِفًا لِبَعْضٍ أَصْلاً. وَيُقَالُ لَهُمْ: خَبَرُ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم "لاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" جَامِعٌ لِكُلِّ سَفَرٍ فَنَحْنُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ تَحْرِيمِ كُلِّ سَفَرٍ عَلَيْهَا إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ, ثُمَّ لاَ نَدْرِي أَبَطَلَ هَذَا الْحُكْمُ أَمْ لاَ فَنَأْخُذُ بِالْيَقِينِ وَنُلْغِي الشَّكَّ; فَهَذَا مُعَارِضٌ لاِحْتِجَاجِهِمْ مَعَ مَا قَدَّمْنَا. وَيُقَالُ لَهُمْ: عَهْدُنَا بِكُمْ تَذُمُّونَ الأَخْبَارَ بِالاِضْطِرَابِ, وَهَذَا خَبَرٌ رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ, وَأَبُو هُرَيْرَةَ, وَابْنُ عُمَرَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, فَلَمْ يَضْطَرِبْ،

(7/48)


عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصْلاً وَاضْطَرَبَ، عَنْ سَائِرِهِمْ: فَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ تُسَافِرْ ثَلاَثًا; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ فَوْقَ ثَلاَثٍ; وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: لاَ تُسَافِرْ فَوْقَ ثَلاَثٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ لاَ تُسَافِرْ يَوْمَيْنِ; وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: لاَ تُسَافِرْ ثَلاَثًا; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ فَوْقَ ثَلاَثٍ; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ يَوْمًا وَلَيْلَةً; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ يَوْمًا; وَرُوِيَ عَنْهُ: لاَ تُسَافِرْ بَرِيدًا; فَعَلَى أَصْلِكُمْ دَعُوا رِوَايَةَ مَنْ اُخْتُلِفَ عَلَيْهِ وَاضْطَرَبَ عَنْهُ إذْ لَيْسَ بَعْضُ مَا رُوِيَ، عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ أَوْلَى مِنْ سَائِرِ مَا رُوِيَ عَنْهُ; وَخُذُوا بِرِوَايَةِ مَنْ لَمْ يُخْتَلَفْ عَلَيْهِ، وَلاَ اضْطَرَبَ عَنْهُ; وَ، هُوَ ابْنُ عَبَّاسٍ; فَهَذَا أَشْبَهُ مِنْ اسْتِدْلاَلِكُمْ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَأَبِي سَعِيدٍ, وَأَبِي هُرَيْرَةَ, كَمَا ذَكَرْنَا لاَ تُسَافِرْ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلاَثٍ; فَإِنْ صَحَّحْتُمْ اسْتِدْلاَلَكُمْ الْفَاسِدَ بِأَخْذِ أَكْثَرَ مِمَّا ذُكِرَ فِي تِلْكَ الأَخْبَارِ فَامْنَعُوهَا مِمَّا زَادَ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلاَثٍ; لاَِنَّهُ الْيَقِينُ وَأَبِيحُوا لَهَا سَفَرَ الثَّلاَثِ; لاَِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ كَمَا سَفَرُ الْيَوْمَيْنِ, وَالْيَوْمِ, وَالْبَرِيدِ مَشْكُوكٌ فِيهِ عِنْدَكُمْ; وَهَذَا مَا لاَ مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ; فَإِنْ ادَّعَوْا إجْمَاعًا هَاهُنَا فَمَا هَذَا يُنْكَرُ مِنْ إقْدَامِهِمْ, وَأَكْذَبَهُمْ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ;، وَلاَ سِيَّمَا، وَابْنُ عُمَرَ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ. وَأَكْذَبَهُمْ أَيْضًا مَا رُوِّينَا، عَنْ عِكْرِمَةَ آنِفًا مِنْ مَنْعِهِ إيَّاهَا مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ لاَ مَا دُونَ ذَلِكَ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي امْرَأَةٍ لاَ تَجِدُ مَعَاشًا أَصْلاً إلاَّ عَلَى ثَلاَثٍ فَصَاعِدًا; أَنَّهَا تَخْرُجُ بِلاَ زَوْجٍ، وَلاَ ذِي مَحْرَمٍ. وَيَقُولُونَ فِيمَنْ حَفَّزَتْهَا فِتْنَةٌ وَخَشِيَتْ عَلَى, نَفْسِهَا غَلَبَةَ الْكُفَّارِ, وَالْمُحَارِبِينَ, أَوْ الْفُسَّاقِ وَلَمْ تَجِدْ أَمْنًا إلاَّ عَلَى ثَلاَثٍ فَصَاعِدًا أَنَّهَا تَخْرُجُ مَعَ غَيْرِ زَوْجٍ وَمَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ, وَطَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ وَاجِبَةٌ عَلَيْهَا كَوُجُوبِ خَلاَصِ رُوحِهَا. فَإِنْ قَالُوا: الزَّوْجُ وَالْمَحْرَمُ مِنْ السَّبِيلِ قلنا: عَلَيْكُمْ الدَّلِيلُ وَإِلاَّ فَهِيَ دَعْوَى فَاسِدَةٌ لَمْ يَعْجِزْ، عَنْ مِثْلِهَا أَحَدٌ, فَسَقَطَ هَذَا الْقَوْلُ الْفَاسِدُ جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرَنَا فِي قَوْلِ عِكْرِمَةَ وَاحْتِجَاجِهِ بِالْخَبَرِ الَّذِي فِيهِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ فَوَجَدْنَاهُ لاَ حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ سَائِرَ الأَخْبَارِ وَرَدَتْ بِالْمَنْعِ, مِمَّا دُونَ الثَّلاَثِ; فَلَيْسَ الْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ نَهْيُهَا، عَنْ أَنْ تُسَافِرَ ثَلاَثًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ بِأَوْلَى مِنْ سَائِرِ الأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا مَنْعُهَا مِنْ سَفَرِ أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ.

(7/49)


قال أبو محمد: فَبَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا وَلَمْ يَبْقَ إلاَّ قَوْلُنَا, أَوْ قَوْلُ النَّخَعِيِّ, وَالشَّعْبِيِّ, وطَاوُوس, وَالْحَسَنِ فِي مَنْعِهَا جُمْلَةً أَوْ إطْلاَقِهَا جُمْلَةً; فَوَجَدْنَا الْمَانِعِينَ يَحْتَجُّونَ بِالأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرْنَا, وَهِيَ أَخْبَارٌ صِحَاحٌ لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهَا إلاَّ لِنَصٍّ آخَرَ يُبَيِّنُ حُكْمَهَا إنْ وُجِدَ. فَنَظَرْنَا فَوَجَدْنَا مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا أُبَيٌّ, وَابْنُ إدْرِيسَ قَالاَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ".
وَبِهِ إلَى ابْنِ نُمَيْرٍ، نا أُبَيٌّ، نا حَنْظَلَةُ، هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ الْجُمَحِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ سَالِمًا، هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إذَا اسْتَأْذَنَكُمْ نِسَاؤُكُمْ إلَى الْمَسَاجِدِ فَأْذَنُوا لَهُنَّ" فَأَمَرَ عليه السلام الأَزْوَاجَ وَغَيْرَهُمْ أَنْ لاَ يَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ الْمَسَاجِدِ; وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ أَجَلُّ الْمَسَاجِدِ قَدْرًا.
وَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} ثُمَّ وَجَدْنَا الأَسْفَارَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ سَفَرًا وَاجِبًا, وَسَفَرًا غَيْرَ وَاجِبٍ; فَكَانَ السَّفَرُ الْوَاجِبُ بَعْضَ الأَسْفَارِ بِلاَ شَكٍّ, وَكَانَ الْحَجُّ مِنْ السَّفَرِ الْوَاجِبِ; فَلَمْ يَجُزْ أَخْذُ بَعْضِ الآثَارِ دُونَ بَعْضٍ وَوَجَبَتْ الطَّاعَةُ لِجَمِيعِهَا وَلَزِمَ اسْتِعْمَالُهَا كُلُّهَا، وَلاَ بُدَّ: فَهَذَا هُوَ الْفَرْضُ, وَكَانَ مَنْ رَفَضَ بَعْضَهَا وَأَخَذَ بَعْضَهَا عَاصِيًا لِلَّهِ تَعَالَى, وَلاَ سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهَا إلاَّ بِأَنْ يُسْتَثْنَى الأَخَصُّ مِنْهَا مِنْ الأَعَمِّ, وَلاَ بُدَّ; فَكَانَ نَهْيُ الْمَرْأَةِ عَنِ السَّفَرِ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ, أَوْ ذِي مَحْرَمٍ عَامًّا لِكُلِّ سَفَرٍ; فَوَجَبَ اسْتِثْنَاءُ مَا جَاءَ بِهِ النَّصُّ مِنْ إيجَابِ بَعْضِ الأَسْفَارِ عَلَيْهَا مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ, وَالْحَجُّ سَفَرٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ. فَإِنْ قَالُوا: بَلْ إيجَابُ الْحَجِّ عَلَى النِّسَاءِ عُمُومٌ فَيُخَصُّ ذَلِكَ بِحَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ السَّفَرِ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ قلنا: هَذَا خَطَأٌ; لإِنَّ تِلْكَ الأَخْبَارَ إنَّمَا جَاءَتْ بِالنَّهْيِ، عَنْ كُلِّ سَفَرٍ جُمْلَةً لاَ، عَنِ الْحَجِّ خَاصَّةً, وَإِنَّمَا كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُعَارِضُوا بِهَذَا أَنْ لَوْ جَاءَتْ فِي النَّهْيِ، عَنْ أَنْ تَحُجَّ الْمَرْأَةُ إلاَّ مَعَ زَوْجٍ, أَوْ ذِي مَحْرَمٍ; فَكَانَ يَكُونُ حِينَئِذٍ اعْتِرَاضًا صَحِيحًا وَتَخْصِيصًا لاَِقَلِّ الْحُكْمَيْنِ مِنْ أَعَمِّهِمَا وَهَذَا بَيِّنٌ جِدًّا.
وَبُرْهَانٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ تِلْكَ الأَخْبَارَ كُلَّهَا إنَّمَا خُوطِبَ بِهَا ذَوَاتُ الأَزْوَاجِ, وَاَللاَّتِي لَهُنَّ الْمَحَارِمُ; لإِنَّ فِيهَا إبَاحَةَ الْحَجِّ أَوْ إيجَابَهُ مَعَ الزَّوْجِ, أَوْ ذِي الْمَحْرَمِ بِلاَ شَكٍّ; وَمِنْ

(7/50)


الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَصْلاً أَنْ يُخَاطِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ ذَا مَحْرَمٍ, فَبَقِيَ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، وَلاَ مَحْرَمَ عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا وَعَلَى خُرُوجِهَا، عَنْ ذَلِكَ النَّهْيِ.
وَبُرْهَانٌ آخَرُ: وَهُوَ مَا ناهُ حُمَامٌ قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَشْوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيُّ، نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ, وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كِلاَهُمَا، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ يَقُولُ: "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ, وَلاَ تُسَافِرْ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ" , فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ امْرَأَتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً وَإِنِّي اكْتَتَبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا قَالَ: "انْطَلِقْ فَاحْجُجْ مَعَ امْرَأَتِكَ" فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ رَافِعًا لِلإِشْكَالِ وَمُبَيِّنًا لِمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ, لإِنَّ نَهْيَهُ عليه السلام، عَنْ أَنْ تُسَافِرَ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ وَقَعَ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّجُلُ، عَنْ امْرَأَتِهِ الَّتِي خَرَجَتْ حَاجَّةً لاَ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَلاَ مَعَ زَوْجٍ فَأَمَرَهُ عليه السلام بِأَنْ يَنْطَلِقَ فَيَحُجَّ مَعَهَا وَلَمْ يَأْمُرْ بِرَدِّهَا، وَلاَ عَابَ سَفَرَهَا إلَى الْحَجِّ دُونَهُ وَدُونَ ذِي مَحْرَمٍ, وَفِي أَمْرِهِ عليه السلام بِأَنْ يَنْطَلِقَ فَيَحُجَّ مَعَهَا بَيَانٌ صَحِيحٌ وَنَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ مُمْكِنًا إدْرَاكُهَا بِلاَ شَكٍّ فَأَقَرَّ عليه السلام سَفَرَهَا كَمَا خَرَجْتُ فِيهِ, وَأَثْبَتَهُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ; فَصَارَ الْفَرْضُ عَلَى الزَّوْجِ; فَإِنْ حَجَّ مَعَهَا فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ صُحْبَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهَا التَّمَادِي فِي حَجِّهَا وَالْخُرُوجُ إلَيْهِ دُونَهُ أَوْ مَعَهُ أَوْ دُونَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ مَعَهُ كَمَا أَقَرَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهَا, فَارْتَفَعَ الشَّغَبُ جُمْلَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ كَثِيرًا.
فإن قال قائل: فَأَيْنَ أَنْتُمْ عَمَّا رَوَيْتُمُوهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عِكْرِمَةُ, أَوْ أَبُو مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْنَ نَزَلْتَ" قَالَ عَلَى فُلاَنَةَ, قَالَ: "أَغْلَقْتَ عَلَيْهَا بَابَكَ مَرَّتَيْنِ لاَ تَحُجَّنَّ امْرَأَةٌ إلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ" قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: وَأَمَّا ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَخْبَرَنَاهُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ لَيْسَ فِيهِ شَكٌّ قلنا: هَذَا خَبَرٌ لَمْ يَحْفَظْهُ ابْنُ جُرَيْحٍ لاَِنَّهُ شَكَّ فِيهِ أَحَدَّثَهُ بِهِ عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلاً أَمْ حَدَّثَهُ بِهِ عَمْرٌو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ مُسْنَدًا فَلَمْ يُثْبِتْهُ أَصْلاً; فَبَطَلَ التَّعَلُّقُ بِهِ وَإِنَّمَا صَوَابُهُ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ, وَابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا أَوْرَدْنَاهُ آنِفًا لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ اللَّفْظَةُ.

(7/51)


وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ كَمَا حدثنا بِهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: "لاَ تُسَافِرَنَّ امْرَأَةٌ إلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ, وَلاَ يَدْخُلَنَّ عَلَيْهَا رَجُلٌ إلاَّ وَمَعَهَا مَحْرَمٌ"; فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ نَذَرْتُ أَنْ أَخْرُجَ فِي جَيْشِ كَذَا وَكَذَا وَامْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ قَالَ: فَاخْرُجْ مَعَهَا". فَلَمْ يَقُلْ عليه السلام: "لاَ تَخْرُجْ إلَى الْحَجِّ إلاَّ مَعَكَ"; وَلاَ نَهَاهَا، عَنِ الْحَجِّ أَصْلاً, بَلْ أَلْزَمَ الزَّوْجَ تَرْكَ نَذْرِهِ فِي الْجِهَادِ وَأَلْزَمَهُ الْحَجَّ مَعَهَا; فَالْفَرْضُ فِي ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ لاَ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ عِكْرِمَةَ فَمُرْسَلٌ كَمَا نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ نُبَاتٍ، نا إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ الْبَصْرِيُّ، نا عِيسَى بْنُ خَبِيبٍ قَاضِي أُشُونَةَ قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، نا جَدِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: "قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ سَفَرٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ نَزَلْتَ عَلَى فُلاَنَةَ فَأَغْلَقْتَ عَلَيْهَا بَابَكَ مَرَّتَيْنِ".
فَهَذَا هُوَ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ اخْتَلَطَ عَلَى ابْنِ جُرَيْجٍ فَلَمْ يَدْرِ أَحَدَّثَهُ بِهِ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَمْ حَدَّثَهُ بِهِ عَمْرٌو، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَدْخَلَ فِيهِ ذِكْرَ الْحَجِّ بِالشَّكِّ;، وَلاَ تَثْبُتُ الْحُجَّةُ بِخَبَرٍ مَشْكُوكٍ فِي إسْنَادِهِ أَوْ فِي إرْسَالِهِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ لَهُ مَنْعَهَا مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ فَلاَِنَّ طَاعَتَهُ فَرْضٌ عَلَيْهَا فِيمَا لاَ مَعْصِيَةَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ, وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْحَجِّ التَّطَوُّعِ مَعْصِيَةٌ.

(7/52)


814 - مَسْأَلَةٌ: فَإِنْ أَحْرَمَتْ مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ مِنْ مَكَان يَجُوزُ الإِحْرَامُ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا, وَأَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ; فَإِنْ كَانَ حَجَّ تَطَوُّعٍ كُلُّ ذَلِكَ فَلَهُ مَنْعُهُمَا وَإِحْلاَلُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ حَجَّ الْفَرْضِ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ لاَ غِنَى بِهِ عَنْهَا أَوْ عَنْهُ لِمَرَضٍ أَوْ لِضَيْعَتِهِ دُونَهُ أَوْ دُونَهَا أَوْ ضَيْعَةِ مَالِهِ فَلَهُ إحْلاَلُهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ". وَإِنْ كَانَ لاَ حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُمَا أَصْلاً فَإِنْ مَنَعَهُمَا فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمَا فِي حُكْمِ الْمُحْصَرِ; وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الاِبْنِ وَالاِبْنَةِ مَعَ الأَبِ وَالآُمِّ، وَلاَ فَرْقَ; وَطَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ مُتَقَدِّمَةٌ لِطَاعَةِ الأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجِ; قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الطَّاعَةِ" . وَقَالَ عليه السلام: "فَإِذَا أُمِرْتَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ،

(7/52)


وَلاَ طَاعَةَ" وَتَرْكُ الْحَجِّ مَعْصِيَةٌ, وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ طَاعَةِ الأَبَوَيْنِ وَالزَّوْجِ فِي تَرْكِ الْحَجِّ وَبَيْنَ طَاعَتِهِمْ فِي تَرْكِ الصَّلاَةِ أَوْ فِي تَرْكِ الزَّكَاةِ أَوْ فِي تَرْكِ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ. فإن قيل: الْحَجُّ فِي تَأْخِيرِهِ فُسْحَةٌ قلنا: إلَى مَتَى أَفَرَأَيْت إنْ لَمْ يُبِيحُوا الْحَجَّ لِلأَوْلاَدِ أَوْ الزَّوْجَةِ أَبَدًا فَإِنْ حَدُّوا فِي ذَلِكَ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ كَانُوا مُتَحَكِّمِينَ فِي الدِّينِ بِالْبَاطِلِ وَشَارِعِينَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، وَلاَ يَقُولُ أَحَدٌ بِطَاعَتِهِمْ فِي تَرْكِ الْحَجِّ أَبَدًا جُمْلَةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ قَتَادَةَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِي امْرَأَةٍ أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا, أَنَّهَا مُحْرِمَةٌ قَالَ الْحَكَمُ: حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ.

(7/53)


815 - مَسْأَلَةٌ: وَاسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَجُّ إمَّا صِحَّةُ الْجِسْمِ وَالطَّاقَةُ عَلَى الْمَشْيِ وَالتَّكَسُّبُ مِنْ عَمَلٍ أَوْ تِجَارَةٍ مَا يَبْلُغُ بِهِ إلَى الْحَجِّ وَيَرْجِعُ إلَى مَوْضِعِ عَيْشِهِ أَوْ أَهْلِهِ, وَأَمَّا مَالٌ يُمَكِّنُهُ مِنْ رُكُوبِ الْبَحْرِ أَوْ الْبَرِّ وَالْعَيْشِ مِنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَكَّةَ وَيَرُدَّهُ إلَى مَوْضِعِ عَيْشِهِ أَوْ أَهْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْجِسْمِ إلاَّ أَنَّهُ لاَ مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ بَرًّا أَوْ بَحْرًا; وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَنْ يُطِيعُهُ فَيَحُجَّ عَنْهُ وَيَعْتَمِرَ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ إنْ كَانَ هُوَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى النُّهُوضِ لاَ رَاكِبًا، وَلاَ رَاجِلاً; فَأَيُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَمْكَنَتْ الإِنْسَانَ الْمُسْلِمَ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ فَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَرْضٌ عَلَيْهِ, وَمَنْ عَجَزَ، عَنْ جَمِيعِهَا فَلاَ حَجَّ عَلَيْهِ، وَلاَ عُمْرَةَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الاِسْتِطَاعَةُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ. وقال مالك: الاِسْتِطَاعَةُ قُوَّةُ الْجِسْمِ أَوْ الْقُوَّةُ بِالْمَالِ عَلَى الْحَجِّ بِنَفْسِهِ, وَلَمْ يَرَ وُجُودَ مَنْ يُطِيعُهُ اسْتِطَاعَةً، وَلاَ أَوْجَبَ بِذَلِكَ حَجًّا. وَرُوِيَ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُقْعَدَ مِنْ رِجْلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَاسِعٌ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَلاَ حَجَّ عَلَيْهِ, وَكَذَلِكَ الأَعْمَى وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَجَّ وَعَلَى الأَعْمَى. وَرَأَى الشَّافِعِيُّ: أَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ إنَّمَا هِيَ بِمَالٍ يَحُجُّ بِهِ أَوْ مَنْ يُطِيعُهُ فَيَحُجُّ عَنْهُ فَقَطْ, وَلَمْ يَرَ قُوَّةَ الْجِسْمِ وَالْقُدْرَةَ عَلَى الرَّاحِلَةِ اسْتِطَاعَةً.
وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: الاِسْتِطَاعَةُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ بِآثَارٍ رُوِّينَاهَا: مِنْهَا: عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَخْزُومِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ سُئِلَ، عَنِ الاِسْتِطَاعَةِ فَقَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الْحَجُّ قَالَ: الأَشْعَثُ التَّفِلُ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَا قَتَادَةُ, وَحُمَيْدٌ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا السَّبِيلُ إلَيْهِ قَالَ: "زَادٌ وَرَاحِلَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ،

(7/53)


عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إبْرَاهِيمَ، نا هِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ، نا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمْ يَحُجَّ فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا, أَوْ نَصْرَانِيًّا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، عَنِ الْعَالَمِينَ} " . وَقَالُوا: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} عَلِمْنَا أَنَّهَا اسْتِطَاعَةٌ غَيْرُ الْقُوَّةِ بِالْجِسْمِ; إذْ لَوْ كَانَ تَعَالَى أَرَادَ قُوَّةَ الْجِسْمِ لَمَا احْتَاجَ إلَى ذِكْرِهَا; لاَِنَّنَا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا} . وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ} فَصَحَّ أَنَّ الرِّحْلَةَ شِقُّ الأَنْفُسِ بِالضَّرُورَةِ، وَلاَ يُكَلِّفُنَا اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . وَذَكَرُوا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّهُ قَالَ فِي اسْتِطَاعَةِ السَّبِيلِ إلَى الْحَجِّ: "زَادٌ وَرَاحِلَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ الضَّحَّاكَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ أَيْضًا: "زَادٌ, وَبَعِيرٌ": وَمِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسٍ "مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً" قَالَ: "زَادٌ, وَرَاحِلَةٌ". وَمِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً" قَالَ: "مِلْءُ بَطْنِهِ, وَرَاحِلَةٌ يَرْكَبُهَا" وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَمُجَاهِدٍ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ, وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ عَطَاءٍ.
قال أبو محمد: فَادَّعَوْا فِي هَذَا أَنَّهُ قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ وَلَيْسَ كَمَا قَالُوا أَصْلاً; لاَِنَّنَا قَدْ رُوِّينَا، عَنْ وَكِيعٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُدَيْرٍ، عَنِ النَّزَّالِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَنْ مَلَكَ ثَلاَثَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَحَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الإِمَاءِ". وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ, فِي الْحَجِّ: سَبِيلُهُ مَنْ وَجَدَ لَهُ سِعَةً, وَلَمْ يُحَلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَهَذَا هُوَ قَوْلُنَا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِي، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً قَالَ عَلَى قَدْرِ الْقُوَّةِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ عَطَاءٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: أَمَّا احْتِجَاجُهُمْ بِأَنَّ الاِسْتِطَاعَةَ لَوْ كَانَتْ عَلَى الْعُمُومِ لَمَا كَانَ لِذِكْرِهَا مَعْنًى فَكَلاَمٌ فَاسِدٌ, وَاعْتِرَاضٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى, وَإِخْرَاجٌ لِلْقُرْآنِ، عَنْ ظَاهِرِهِ بِلاَ بُرْهَانٍ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ الْحَجَّ عَلَى مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُهُ بِجِسْمِهِ, وَلاَ بِمَالِهِ إذَا وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى; فَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلاً فِي الاِسْتِطَاعَةِ بِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ الرِّحْلَةَ مِنْ شِقِّ الأَنْفُسِ وَالْحَرَجِ, وَاَللَّهُ تَعَالَى لاَ يُكَلِّفُ ذَلِكَ عِبَادَهُ, فَصَحِيحٌ وَلَمْ نَقُلْ نَحْنُ: إنَّ مَنْ كَانَتْ الرِّحْلَةُ تَشُقُّ

(7/54)


عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ فِيهَا حَرَجٌ أَنَّ الْحَجَّ يَلْزَمُهُ: بَلْ الْحَجُّ عَمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ سَاقِطٌ كَمَا قَالُوا; وَإِنَّمَا قلنا: إنَّ مَنْ يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْمَشْيُ وَهُوَ لَوْ كَانَتْ لَهُ فِي دُنْيَاهُ حَاجَةٌ لاَسْتَسْهَلَ الْمَشْيَ إلَيْهَا فَالْحَجُّ يَلْزَمُهُ; لاَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ.
وَأَمَّا الأَخْبَارُ الَّتِي ذَكَرُوا: فَإِنَّ فِي أَحَدِهَا: إبْرَاهِيمَ بْنَ يَزِيدَ وَهُوَ سَاقِطٌ مُطْرَحٌ; وَفِي الثَّانِي: الْحَارِثُ الأَعْوَرُ وَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْكَذِبِ, وَحَدِيثُ الْحَسَنِ مُرْسَلٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ وَالْعَجَبُ مِنْ مَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ; فَإِنَّ الْمَالِكِيِّينَ يَقُولُونَ: الْمُرْسَلُ, وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ لاَ سِيَّمَا مُرْسَلُ الْحَسَنِ فَإِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَنَّهُ كَانَ لاَ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ إلاَّ إذَا حَدَّثَهُ بِهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَصَاعِدًا; ثُمَّ خَالَفُوا هَاهُنَا أَحْسَنَ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ; وَالشَّافِعِيُّونَ لاَ يَقُولُونَ: إلاَّ بِالْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ وَأَخَذُوا هَاهُنَا بِالسَّاقِطِ, وَالْمُرْسَلِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَاتُ فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، فَوَاهِيَةٌ كُلُّهَا; لاَِنَّهَا إمَّا مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ مُرْسَلَةٌ, وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ إسْرَائِيلَ, وَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ رَجُلٍ لَمْ يُسَمَّ, وَأَحْسَنُهَا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُوَافِقَةُ لِقَوْلِنَا, وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الآُخْرَى عَنْهُ فِي الثَّلاَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ, إلاَّ أَنَّ هَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ وَهُمْ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ. وَالْحَنَفِيُّونَ يُبْطِلُونَ السُّنَنَ الصِّحَاحَ: كَنَفْيِ الزَّانِي, وَحَدِيثِ لاَ تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ، وَلاَ الْمَصَّتَانِ, وَحَدِيثِ رَضَاعِ سَالِمٍ, وَغَيْرِهَا; لِزَعْمِهِمْ: أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ, أَوْ مُخَالِفَةٌ لَهُ, وَأَخَذُوا هَاهُنَا بِأَخْبَارٍ سَاقِطَةٍ لاَ يَحِلُّ الأَخْذُ بِهَا مُخَصِّصَةٌ لِلْقُرْآنِ مُخَالِفَةٌ لَهُ, ثُمَّ خَالَفُوهَا مَعَ ذَلِكَ فِي تَخْصِيصِهِمْ الْمُقْعَدِ.
وَأَطْرَفُ شَيْءٍ احْتِجَاجُهُمْ فِي تَخْصِيصِ الْمُقْعَدِ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى

(7/55)


حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} وَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الأَعْرَجَ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ إذَا وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَقَدَرَ عَلَى الرُّكُوبِ, وَكَذَلِكَ الأَعْمَى; فَخَالَفُوا مَا فِي الآيَةِ وَحَكَمُوا بِهَا فِيمَا لَيْسَ فِيهَا مِنْهُ شَيْءٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَلَمَّا بَطَلَ كُلُّ مَا شَغَبُوا بِهِ وَجَبَ طَلَبُ الْبُرْهَانِ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً} فَكَانَ هَذَا عُمُومًا لِكُلِّ اسْتِطَاعَةٍ بِمَالٍ أَوْ جِسْمٍ هَذَا الَّذِي يُوجِبُهُ لَفْظُ الآيَةِ ضَرُورَةً, وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ مُقْعَدٌ، وَلاَ أَعْمَى، وَلاَ أَعْرَجُ إذَا كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ الرُّكُوبَ وَمَعَهُمْ سِعَةٌ, وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْحَرَجِ الَّذِي أَسْقَطَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ; لاَِنَّهُ لاَ حَرَجَ فِيهِ عَلَيْهِمْ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ هَذِهِ الآيَةَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ إنَّمَا نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ, وَهُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الشَّدِّ وَالتَّحَفُّظِ وَالْجَرْيِ, وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَجٌ ظَاهِرٌ عَلَى الأَعْرَجِ وَالأَعْمَى; وَأَمَّا الْحَجُّ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَصْلاً. وَبَقِيَ مَنْ لاَ مَالَ لَهُ، وَلاَ قُوَّةَ جِسْمٍ إلاَّ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ بِلاَ أُجْرَةٍ أَوْ بِأُجْرَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا; فَوَجَدْنَا اللُّغَةَ الَّتِي بِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ وَبِهَا خَاطَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَلْزَمَنَا إيَّاهُ لاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا فِي أَنَّهُ يُقَالُ: الْخَلِيفَةُ مُسْتَطِيعٌ لِفَتْحِ بَلَدِ كَذَا, وَلِنَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا مُثْبَتًا لاَِنَّهُ مُسْتَطِيعٌ لِذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَطَاعَةِ النَّاسِ لَهُ, وَكَانَ ذَلِكَ دَاخِلاً فِي نَصِّ الآيَةِ.
وَوَجَدْنَا مِنْ السُّنَنِ: مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، نا سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ عَلَيْهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "حُجِّي عَنْهُ".
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ: "إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: "نَعَمْ", وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ".
وَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَلِيُّ

(7/56)


ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، نا يَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ قَالَ: "كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ إنْ حَزَمَهَا خَشِيَ أَنْ يَقْتُلَهَا وَإِنْ لَمْ يَحْزِمْهَا لَمْ تَسْتَمْسِكْ فَأَمَرَهُ عليه السلام أَنْ يَحُجَّ عَنْهَا".
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، نا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، نا شُعْبَةُ، عَنِ النُّعْمَانِ، هُوَ ابْنُ سَالِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَوْسٍ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَالظَّعْنَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "حُجَّ، عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ". رُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذِهِ أَخْبَارٌ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ، عَنْ خَمْسَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، الْفَضْلُ, وَعَبْدُ اللَّهِ, وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ, وَأَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ. وَيَزِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَذْكُورُ هُوَ أَبُو سَعِيدٍ التُّسْتَرِيُّ بَصْرِيٌّ كَانَ يَنْزِلُ بِأَهْلِهِ عِنْدَ مَقْبَرَةِ بَنِي سَهْمٍ مَاتَ سَنَةَ 161هـ إحْدَى وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ, وَقِيلَ: بَلْ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ 162هـ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَمِائَةٍ ثِقَةٌ ثَبْتٌ, وَثَّقَهُ أَبُو الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَابْنُ مَعِينٍ, وَعَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ, وَأَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ, وَالنَّسَائِيُّ وَلَيْسَ هُوَ يَزِيدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الَّذِي يَرْوِي، عَنْ قَتَادَةَ, ذَلِكَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ.
فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَطُّ صَحِيحًا فَإِنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ لاَزِمَةٌ لَهُ إذَا وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ; لاَِنَّهُ عليه السلام سَمِعَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ، عَنْ أَبِيهَا: إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ تَعَالَى أَدْرَكَتْهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الثَّبَاتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ, فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهَا, وَلاَ عَلَى أَبِي رَزِينٍ مِثْلَ ذَلِكَ فِي أَبِيهِ; فَصَحَّ أَنَّ الْفَرْضَ بَاقٍ عَلَى هَذَيْنِ إذَا وَجَدَا مَنْ يَحُجُّ عَنْهُمَا. وقال الشافعي: إنَّمَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ زَادٌ وَرَاحِلَةٌ وَهَذَا خَطَأٌ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ رَاحِلَةٌ, وَلاَ فِي حَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَيْضًا; فَهَذِهِ زِيَادَةٌ فَاسِدَةٌ. فإن قيل: إنَّمَا جَاءَتْ هَذِهِ الأَحَادِيثُ فِي شَيْخٍ كَبِيرٍ, وَعَجُوزٍ كَبِيرَةٍ, فَمِنْ أَيْنَ تَعَدَّيْتُمْ مَا فِيهَا إلَى كُلِّ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَرَكَةَ بِزَمَانَةٍ, أَوْ مَرَضٍ وَلَمْ يَكُنْ شَيْخًا كَبِيرًا قلنا: لَيْسَ كُلُّ شَيْخٍ كَبِيرٍ تَكُونُ هَذِهِ صِفَتَهُ

(7/57)


وَإِنَّمَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَنْ غَلَبَهُ الضَّعْفُ, فَإِنَّمَا أَمَرَ عليه السلام بِذَلِكَ فِيمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ ثَبَاتًا عَلَى الدَّابَّةِ وَلَيْسَ لِلشَّيْخِ هُنَالِكَ مَعْنًى أَصْلاً. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْخِ حَدٌّ مَحْدُودٌ إذَا بَلَغَهُ الْمَرْءُ سُمِّيَ: شَيْخًا, وَلَمْ يُسَمَّ: شَيْخًا, حَتَّى يَبْلُغَهُ; وَدِينُ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يُتَسَامَحُ فِيهِ، وَلاَ يُؤْخَذُ بِالظُّنُونِ الْكَاذِبَةِ الْمُفْتَرَاةِ الْمَشْرُوعِ بِهَا مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى, وَلَوْ كَانَ لِلشَّيْخِ فِي ذَلِكَ حُكْمٌ لَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّهُ الَّذِي بِهِ يَنْتَقِلُ حُكْمُهُ إلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ كَمَا أَثْبَتَ ذَلِكَ فِيمَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الثَّبَاتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ, وَلاَ الْمَشْيَ إلَى الْحَجِّ; فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْخِ فِي ذَلِكَ حُكْمٌ أَصْلاً, وَإِنَّمَا الْحُكْمُ لِلْعَجْزِ، عَنِ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ فَكَانَ هَذَا اسْتِطَاعَةً لِلسَّبِيلِ مُضَافَةً إلَى الْقُوَّةِ بِالْجِسْمِ وَبِالْمَالِ.
قال أبو محمد: فَتَعَلَّلَ قَوْمٌ فِي هَذِهِ الآثَارِ بِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَأَحُجُّ، عَنْ أَبِي قَالَ: نَعَمْ, إنْ لَمْ تَزِدْهُ خَيْرًا لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا. قَالُوا: فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ لاَ فَرْضٌ".
قال علي: وهذا لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لاَِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَيِّتًا, وَلاَ أَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا، عَنِ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ، وَلاَ أَنَّهُ كَانَ حَجَّ الْفَرِيضَةِ; بَلْ إنَّمَا هُوَ سُؤَالٌ مُطْلَقٌ، عَنِ الْحَجِّ، عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ، عَنْ نَفْسِهِ, أَوْ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْحَجِّ; فَأَجَابَهُ عليه السلام بِإِبَاحَةِ ذَلِكَ; وَإِنَّمَا فِي هَذَا الْخَبَرِ, جَوَازُ الْحَجِّ، عَنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلاَ مَزِيدَ, وَهُوَ قَوْلُنَا. وَأَمَّا تِلْكَ الأَحَادِيثُ فَفِيهَا بَيَانٌ أَنَّهَا فِي الْحَجِّ الْفَرْضِ; وَأَيْضًا: فَلَيْسَ قَوْلُهُ عليه السلام: "إنْ لَمْ تَزِدْهُ خَيْرًا لَمْ تَزِدْهُ شَرًّا". بِمُخْرِجٍ لِذَلِكَ، عَنِ الْفَرْضِ إلَى التَّطَوُّعِ; لإِنَّ هَذِهِ صِفَةُ كُلِّ عَمَلٍ مُفْتَرَضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ إنْ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الْمَرْءِ فَإِنَّهُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لاَ يُكْتَبُ لَهُ بِهِ سَيِّئَةٌ; فَبَطَلَ اعْتِرَاضُهُمْ بِهَذَا الْخَبَرِ.
وَقَالُوا: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} . قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ بِلاَ خِلاَفٍ, وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ كَانَتْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.فَصَحَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ لَمْ يَجْعَلْ لِلإِنْسَانِ إلاَّ مَا سَعَى تَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَ لَهُمْ مَا سَعَى فِيهِ غَيْرُهُمْ عَنْهُمْ بِهَذِهِ النُّصُوصِ الثَّابِتَةِ.
وقال بعضهم: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} . قَالَ عَلِيٌّ: إذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَزِرَ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى لَزِمَ ذَلِكَ, وَكَانَ مَخْصُوصًا مِنْ هَذِهِ الآيَةِ; وَقَدْ أَجْمَعُوا مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَمْ تَقْتُلْ وَأَنَّهَا تَغْرَمُ، عَنِ الْقَاتِلِ, وَلَمْ يَعْتَرِضُوا عَلَى ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ, وَلَيْسَ

(7/58)


هُوَ إجْمَاعًا; فَإِنَّ عُثْمَانَ الْبَتِّيَّ لاَ يَرَى حُكْمَ الْعَاقِلَةِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الَّذِي أَتَانَا بِهَذَا هُوَ الَّذِي افْتَرَضَ أَنْ يُحَجَّ، عَنِ الْعَاجِزِ, وَالْمَيِّتِ, وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَهُمْ يُجِيزُونَ الْحَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ, وَالصَّدَقَةَ، عَنِ الْحَيِّ, وَالْمَيِّتِ, وَالْعِتْقَ عَنْهُمَا أَوْصَيَا بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِيَا, وَلاَ يَعْتَرِضُونَ فِي ذَلِكَ بِهَذِهِ الآيَةِ. فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا أَوْصَى بِالْحَجِّ كَانَ مِمَّا سَعَى.
قلنا لَهُمْ: فَأَوْجِبُوا بِذَلِكَ أَنْ يُصَامَ عَنْهُ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ; لاَِنَّهُ مِمَّا سَعَى. فَإِنْ قَالُوا: عَمَلُ الأَبَدَانِ لاَ يَعْمَلُهُ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ. فَقُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ وَدَعْوَى كَاذِبَةٌ, وَمِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ هَذَا بَلْ كُلُّ عَمَلٍ إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهِ أَنْ يَعْمَلَهُ الْمَرْءُ، عَنْ غَيْرِهِ وَجَبَ ذَلِكَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ الْمُعَانِدِ فَإِنْ قَالُوا: قِيَاسًا عَلَى الصَّلاَةِ قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ هَذَا عَلَيْكُمْ لاَ لَكُمْ; لاَِنَّكُمْ لاَ تَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ أَنْ يُصَلِّيَ الْمَرْءُ الَّذِي يَحُجُّ، عَنْ غَيْرِهِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ، عَنِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ, فَقَدْ جَوَّزْتُمْ أَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ، عَنْ بَعْضٍ فَقِيسُوا عَلَى ذَلِكَ سَائِرَ أَعْمَالِ الأَبَدَانِ.
وَقَالُوا: لَمَّا كَانَ الْحَجُّ فِيهِ مَدْخَلٌ لِلْمَالِ فِي جَبْرِهِ بِالْهَدْيِ, وَالإِطْعَامِ: جَازَ أَنْ يَعْمَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ، عَنْ بَعْضٍ قلنا: وَمِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا الْحُكْمُ الَّذِي هُوَ كَذِبٌ مُفْتَرًى وَشَرْعٌ مَوْضُوعٌ بِلاَ شَكٍّ ثُمَّ قَدْ تَنَاقَضْتُمْ فِيهِ; لإِنَّ الصِّيَامَ فِيهِ مَدْخَلٌ لِلْمَالِ فِي جَبْرِهِ بِالْعِتْقِ, وَالإِطْعَامِ، وَلاَ فَرْقَ, وَفِي وُجُوبِ زَكَاةِ الْفِطْرِ مِنْ صَوْمِهِ, فَأَجِيزُوا لِذَلِكَ أَنْ يَعْمَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ، عَنْ بَعْضٍ.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّ الْمَالِكِيِّينَ يُجِيزُونَ أَنْ يُجَاهِدَ الرَّجُلُ، عَنْ غَيْرِهِ بِجُعْلٍ, وَيُجِيزُونَ الْكَفَّارَةَ، عَنِ الْمَرْأَةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى الْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَلَى غَيْرِهَا عَنْهَا, وَهُوَ الَّذِي أَكْرَهَهَا, فَأَجَازُوا كُلَّ ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يُجِزْهُ اللَّهُ تَعَالَى, وَلاَ رَسُولُهُ عليه السلام وَمَنَعُوا مِنْ جَوَازِهِ حَيْثُ افْتَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنْ مَوَّهُوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ: نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ كَرِيمٍ الأَنْصَارِيُّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْعَدَوِيِّ النَّجَّارِيِّ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِتَحُجِّي عَنْهُ، وَلَيْسَ لاَِحَدٍ بَعْدَهُ" . وَبِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْكَرِيرِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حِبَّانَ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لاَ يَقْوَى عَلَى الْحَجِّ فَقَالَ عليه السلام: "فَلْتَحُجِّي عَنْهُ , وَلَيْسَ ذَلِكَ لاَِحَدٍ بَعْدَهُ" . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ حَدَّثَنِي هَارُونُ بْنُ صَالِحٍ الطَّلْحِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ أَسْلَمَ،

(7/59)


عَنْ رَبِيعَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَحُجُّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ إلاَّ وَلَدٌ، عَنْ وَالِدٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: فَهَذِهِ تَكَاذِيبُ, أَوَّلُ ذَلِكَ: أَنَّهَا مُرْسَلَةٌ، وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ: وَالأَوَّلُ: فِيهِ مَجْهُولاَنِ لاَ يُدْرَى مَنْ هُمَا وَهُمَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدَوِيُّ وَالآخَرَانِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حَبِيبٍ وَكَفَى; فَكَيْف وَفِيهِ: الطَّلْحِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْكَرِيرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حِبَّانَ, وَلاَ يُدْرَى مَنْ هُمْ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَهَذَا خَبَرٌ حَرَّفَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ; لاَِنَّنَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: "نَعَمْ وَلَك مِثْلُ أَجْرِهِ".
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبِي مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكَ دَيْنٌ فَدَعَوْتَ غُرَمَاءَهُ لِتَقْضِيَهُمْ أَكَانُوا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْكَ" قَالَ: نَعَمْ; قَالَ: "فَحُجَّ عَنْهُ فَإِنَّ اللَّهَ قَابِلٌ مِنْ أَبِيكَ".
قال أبو محمد: فَاعْجَبُوا لِهَذِهِ الْفَضَائِحِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ, ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانُوا مُخَالِفِينَ لَهَا; لأَنَّهُمْ يُجِيزُونَ الْحَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ إذَا أَوْصَى بِهِ, وَأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ غَيْرُ وَلَدِهِ; وَهُوَ خِلاَفٌ لِمَا فِي هَذِهِ الآثَارِ فَهِيَ عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ وَتَخْصِيصُهُمْ جَوَازَ الْحَجِّ إذَا أَوْصَى بِهِ لاَ يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ النُّصُوصِ, وَلاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ, وَلاَ يُوجِبُهَا قِيَاسٌ; لإِنَّ الْوَصِيَّةَ لاَ تَجُوزُ إلاَّ فِيمَا يَجُوزُ لِلإِنْسَانِ أَنْ يَأْمُرَ بِهِ فِي حَيَاتِهِ بِلاَ خِلاَفٍ.
قال أبو محمد: فَإِنْ قَالُوا: قَدْ صَحَّ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ يَصُومَنَّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ، وَلاَ يَحُجَّنَّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ أَفْلَحَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: لاَ يَحُجُّ أَحَدٌ، عَنْ أَحَدٍ قلنا: نَعَمْ, هَذَا صَحِيحٌ عَنْهُمَا, وَأَنْتُمْ مُخَالِفُونَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ; لاَِنَّكُمْ تُجِيزُونَ الْحَجَّ، عَنِ الْمَيِّتِ إذَا أَوْصَى بِذَلِكَ وَهُوَ خِلاَفُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ, وَالْقَاسِمِ وَمَا وَجَدْنَا قَوْلَهُمْ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،; وَصَحَّ قَوْلُنَا، عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُسْلِمٍ الْقَرِّيِّ قَالَ: قُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ أُمِّي حَجَّتْ وَلَمْ تَعْتَمِرْ, أَفَأَعْتَمِرُ عَنْهَا قَالَ: نَعَمْ.

(7/60)


قال أبو محمد فَهَذَا لاَ تَخْصِيصَ فِيهِ لِمَيِّتٍ دُونَ حَيٍّ.وَمِنْ طَرِيقِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ، عَنْ دَاوُد، أَنَّهُ قَالَ, قُلْت لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ, لاَِيِّهِمَا الأَجْرُ أَلِلْحَاجِّ أَمْ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَقَالَ سَعِيدٌ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاسِعٌ لَهُمَا جَمِيعًا.
قال أبو محمد: صَدَقَ سَعِيدٌ رحمه الله. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أُمِّ مُحِبَّةَ أَنَّهَا نَذَرَتْ أَنْ تَمْشِيَ إلَى الْكَعْبَةِ فَمَشَتْ حَتَّى إذَا بَلَغَتْ عَقَبَةَ الْبَطْنِ عَجَزَتْ فَرَكِبَتْ ثُمَّ أَتَتْ ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَتْهُ فَقَالَ: أَتَسْتَطِيعِينَ أَنْ تَحُجِّي قَابِلاً فَإِذَا انْتَهَيْت إلَى الْمَكَانِ الَّذِي رَكِبَتْ فِيهِ فَتَمْشِي مَا رَكِبْت قَالَتْ: لاَ, قَالَ لَهَا: فَهَلْ لَك ابْنَةٌ تَمْشِي عَنْك قَالَتْ: لِي ابْنَتَانِ وَلَكِنَّهُمَا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمَا مِنْ ذَلِكَ قَالَ: فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ. وَرُوِّينَا أَيْضًا مِثْلَهُ مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أُمِّهِ الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
قال أبو محمد: هَذِهِ هِيَ الَّتِي عَوَّلُوا عَلَى رِوَايَتِهَا، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، فِي أَمْرِ الْعَبْدِ الْمَبِيعِ مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ إلَى الْعَطَاءِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ ابْتَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ, وَتَرَكُوا فِيهِ فِعْلَ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَكَانَتْ حُجَّةً هُنَالِكَ إذْ لَمْ تُوَافِقْ النُّصُوصَ, وَلَمْ تَكُنْ حُجَّةً، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إذْ وَافَقَتْ النُّصُوصَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَفْصُ، هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الشَّيْخِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُجَهِّزُ رَجُلاً بِنَفَقَتِهِ فَيَحُجُّ عَنْهُ. وَمِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ قَالَ: رَمَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ الْجِمَارَ, وَطَافَ عَنْهُ طَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ وَكَانَ أَبُوهُ مَرِيضًا. وَعَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس فِي رَمْيِ الْجِمَارِ، عَنْ أَبِيهِ بِأَمْرِ أَبِيهِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ مَنْ حَجَّ، عَنْ رَجُلٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ. وَعَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ فَعَجَزَ قَالَ: يَمْشِي عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ بَيْتِهِ, وَأَنَّهُ رَأَى الرَّمْيَ، عَنِ الْمَرِيضِ لِلْجِمَارِ.
فَهَؤُلاَءِ: ابْنُ عَبَّاسٍ, وَعَلِيٌّ, وَعَطَاءٌ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ, وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُوس: وَرُوِيَ أَيْضًا: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَمَا نَعْلَمُ لِمَنْ خَالَفَنَا هَاهُنَا فَلَمْ يُوجِبْ الْحَجَّ عَلَى مَنْ وَجَدَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ وَهُوَ عَاجِزٌ, وَلاَ عَنِ الْمَيِّتِ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ: سَلَفًا أَصْلاً مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم, وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْجُمْهُورَ مِنْ الْعُلَمَاءِ; وَبِمِثْلِ قَوْلِنَا يَقُولُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَابْنُ أَبِي لَيْلَى, وَأَحْمَدُ, وَإِسْحَاقُ.

(7/61)


816 - مَسْأَلَةٌ: قال أبو محمد: فَإِنْ حَجَّ عَمَّنْ لَمْ يُطِقْ الرُّكُوبَ وَالْمَشْيَ لِمَرَضٍ أَوْ زَمَانَةٍ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ ثُمَّ أَفَاقَ; فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيَّ قَالاَ: عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ، وَلاَ بُدَّ, وَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بَعْدُ.
قال أبو محمد: إذَا أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ عَمَّنْ لاَ يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ رَاكِبًا، وَلاَ مَاشِيًا, وَأَخْبَرَ أَنَّهُ دَيْنُ اللَّهِ يُقْضَى عَنْهُ; فَقَدْ تَأَدَّى الدَّيْنُ بِلاَ شَكٍّ وَأَجْزَأَ عَنْهُ, وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ مَا سَقَطَ وَتَأَدَّى, فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ فَرْضُهُ بِذَلِكَ; إلاَّ بِنَصٍّ، وَلاَ نَصَّ هَاهُنَا أَصْلاً بِعَوْدَتِهِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَائِدًا لَبَيَّنَ عليه السلام ذَلِكَ; إذْ قَدْ يَقْوَى الشَّيْخُ فَيُطِيقُ الرُّكُوبَ; فَإِذْ لَمْ يُخْبِرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَلاَ يَجُوزُ عَوْدَةُ الْفَرْضِ عَلَيْهِ بَعْدَ صِحَّةِ تَأَدِّيهِ عَنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/62)


817 - مَسْأَلَةٌ: قال علي وَسَوَاءٌ مَنْ بَلَغَ وَهُوَ عَاجِزٌ، عَنِ الْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ, أَوْ مَنْ بَلَغَ مُطِيقًا ثُمَّ عَجَزَ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا, وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ يَلْزَمُ ذَلِكَ إلاَّ عَمَّنْ قَدَرَ بِنَفْسِهِ عَلَى الْحَجِّ وَلَوْ عَامًا وَاحِدًا ثُمَّ عَجَزَ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ; لإِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي قَدَّمْنَا فِيهِ فَرِيضَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْهُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الدَّابَّةِ.فَصَحَّ أَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَلَمْ يَكُنْ قَطُّ بَعْدَ لُزُومِهِ لَهُ قَادِرًا عَلَيْهِ بِجِسْمِهِ; فَصَحَّ قَوْلُنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/62)


818 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَا حُجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَاعْتُمِرَ، وَلاَ بُدَّ مُقَدَّمًا عَلَى دُيُونِ النَّاسِ إنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ تَطَوُّعًا سَوَاءً أَوْصَى بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يُوصِ بِذَلِكَ وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يُحَجُّ عَنْهُ إلاَّ أَنْ يُوصِيَ بِذَلِكَ فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمَوَارِيثِ: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فَعَمَّ عَزَّ وَجَلَّ الدُّيُونَ كُلَّهَا.
حدثنا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَّا عِمْرَانُ بْنُ مُوسَى الْمَصْرِيُّ، حدثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ التَّنُّورِيُّ، حدثنا أَبُو التَّيَّاحِ يَزِيدُ بْنُ حَمِيدٍ الْبَصْرِيُّ، حدثنا مُوسَى بْنُ سَلَمَةَ الْهُذَلِيُّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَمَرْتُ امْرَأَةَ سِنَانِ بْنِ سَلَمَةَ الْجُهَنِيِّ أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ أُمَّهَا مَاتَتْ وَلَمْ تَحُجَّ أَفَيُجْزِئُ، عَنْ أُمِّهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ, لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّهَا دَيْنٌ فَقَضَتْهُ عَنْهَا أَلَمْ يَكُنْ يُجْزِئُ عَنْهَا فَلْتَحُجَّ، عَنْ أُمِّهَا".

(7/62)


819 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَجُّ لاَ يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ إلاَّ فِي أَوْقَاتِهِ الْمَنْصُوصَةِ، وَلاَ يَحِلُّ الإِحْرَامُ بِهِ إلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَبْلَ وَقْتِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ أَوْقَاتِ السَّنَةِ, وَفِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ, وَفِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيِهَا لاَ تُحَاشِ شَيْئًا.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ، وَلاَ فُسُوقَ، وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} . الآيَةَ, فَنَصَّ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَابْنِ جُرَيْجٍ كِلَيْهِمَا، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُ أَيُهِلُّ أَحَدٌ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ: لاَ. وَمِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ أَنْ يُهِلَّ بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ قَالَ: رَأَى عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ أَدْرَكُوهُ رَجَمُوهُ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ أَنَّ عِكْرِمَةَ قَالَ لاَِبِي الْحَكَمِ: أَنْتَ رَجُلُ سُوءٍ; لاَِنَّك خَالَفْتَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرَكْتَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ

(7/65)


صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} . وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ, وَجَعَلَ الْقَرْيَةَ خَلْفَ ظَهْرِهِ أَهَلَّ وَإِنَّك تُهِلُّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَعَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ قَالُوا: لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَعَنْ عَطَاءٍ, وَالشَّعْبِيِّ مِثْلُ ذَلِكَ قَالاَ: فَإِنَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يُحِلُّ. وَعَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يُحِلُّ وَيَجْعَلُهَا عُمْرَةً وَأَنَّهُ لَيْسَ حَجًّا, يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْمُغِيرَةَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَنْبَغِي لاَِحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ; فَإِنْ فَعَلَ فَلاَ يَحِلُّ حَتَّى يَقْضِيَ حِجَّهُ. وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ, وَالشَّافِعِيُّ: تَصِيرُ عُمْرَةً، وَلاَ بُدَّ. وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: يُكْرَهُ ذَلِكَ وَيَلْزَمُهُ إنْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ.
قال أبو محمد مَا نَعْلَمُ فِي هَذَا الْقَوْلِ سَلَفًا مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَهُوَ خِلاَفُ الْقُرْآنِ وَخِلاَفُ الْقِيَاسِ, وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ كَمَنْ أَحْرَمَ بِصَلاَةِ فَرْضٍ قَبْلَ وَقْتِهَا أَنَّهَا تَكُونُ تَطَوُّعًا.
قال أبو محمد: هَذَا تَشْبِيهُ الْخَطَأِ بِالْخَطَأِ بَلْ هُوَ لاَ شَيْءَ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالصَّلاَةِ كَمَا أُمِرَ, وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ". فَصَحَّ أَنْ عَمَلَ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عَمَلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَلاَ أَمْرُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَصَحَّ أَنَّهُ رَدٌّ, وَلاَ يَصِيرُ عُمْرَةً، وَلاَ هُوَ حَجٌّ. وَالْعَجَبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَحْتَجُّ مِنْ الْحَنِيفِيِّينَ بِأَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ مَا, فَإِذْ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُمْرَةً فَهُوَ الْحَجُّ, وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُنَاظِرُ مَنْ يُسَاعِدُهُ عَلَى هَذَا الْخَطَأِ فَهُوَ لَعَمْرِي لاَزِمٌ لَهُ, وَإِنْ كَانَ قَصَدَ الإِيهَامَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ تَامٌّ فَقَدْ اسْتَسْهَلَ الْكَذِبَ عَلَى الآُمَّةِ كُلِّهَا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنِ الشَّعْبِيِّ, وَعَطَاءٍ أَنَّهُ يَحِلُّ, وَعَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ جُمْلَةً. وَنَقُولُ لِلْحَنَفِيِّينَ, وَالْمَالِكِيِّينَ: أَنْتُمْ تَكْرَهُونَ الإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَتُجِيزُونَهُ فَأَخْبِرُونَا عَنْكُمْ أَهُوَ عَمَلُ بِرٍّ وَفِيهِ أَجْرٌ زَائِدٌ فَلِمَ تَكْرَهُونَ الْبِرَّ وَعَمَلاً فِيهِ أَجْرٌ هَذَا عَظِيمٌ جِدًّا وَمَا فِي الدِّينِ كَرَاهِيَةُ الْبِرِّ وَعَمَلُ الْخَيْرِ, أَمْ هُوَ عَمَلٌ لَيْسَ فِيهِ أَجْرٌ زَائِدٌ، وَلاَ هُوَ مِنْ الْبِرِّ فَكَيْف أَجَزْتُمُوهُ فِي الدِّينِ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا؟
قال أبو محمد: إذْ هُوَ عَمَلٌ زَائِدٌ لاَ أَجْرَ فِيهِ فَهُوَ بَاطِلٌ بِلاَ شَكٍّ; وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} وَيُقَالُ لِلشَّافِعِيِّ: كَيْف تُبْطِلُ عَمَلَهُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ;

(7/66)


لاَِنَّهُ خَالَفَ الْحَقَّ, ثُمَّ تُلْزِمُهُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ عُمْرَةً لَمْ يُرِدْهَا قَطُّ، وَلاَ قَصَدَهَا، وَلاَ نَوَاهَا وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" وَهَذَا بَيِّنٌ لاَ خَفَاءَ بِهِ; فَبَطَلَ كِلاَ الْقَوْلَيْنِ {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
وَلاَ يَخْتَلِفُ الْمَذْكُورُونَ فِي أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِصَلاَةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا فَإِنَّهَا تَبْطُلُ وَمَنْ نَوَى صِيَامًا قَبْلَ وَقْتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ, وَمَنْ قَدَّمَ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ وَقْتِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ; فَهَلاَّ قَاسُوا الْحَجَّ عَلَى ذَلِكَ وَهَلاَّ قَاسُوا بَعْضَ عَمَلِ الْحَجِّ عَلَى بَعْضٍ فَهَذَا أَصَحُّ قِيَاسٍ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ, وَعَمَلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ لاَ يُعْرَفُ لَهُمْ مِنْهُمْ مُخَالِفٌ, وَالْقِيَاسُ. وَالْعَجَبُ أَنَّ الْحَنِيفِيِّينَ قَالُوا فِي قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فِي الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ" : حَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَلاَمٍ لاَ فَائِدَةَ فِيهِ فَهَلاَّ قَالُوا: هَاهُنَا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}. حَاشَا لِلَّهِ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِي الْقُرْآنِ قَوْلاً لاَ فَائِدَةَ فِيهِ هَذَا وَقَدْ صَحَّ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الْغَنَمِ جُمْلَةً دُونَ ذِكْرِ سَائِمَةٍ, وَلَمْ يَأْتِ قَطُّ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ جَوَازُ فَرْضِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ الْمَعْلُومَاتِ.
فَإِنْ قَالُوا: أَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ فَلِمَ جَعَلْتُمْ قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} حُجَّةً فِي أَنْ لاَ يَتَعَدَّى بِأَعْمَالِ الْحَجِّ إلَى غَيْرِهَا قلنا: إنَّمَا نَمْنَعُ مِنْ دَعْوَاكُمْ فِي دَلِيلِ الْخِطَابِ إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تُبْطِلُوا بِهِ سُنَّةً أُخْرَى عَامَّةً, وَأَمَّا إذَا وَرَدَ نَصٌّ بِحُكْمٍ وَلَمْ يَرِدْ نَصٌّ آخَرُ بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى بِذَلِكَ الْحُكْمِ النَّصَّ الَّذِي وَرَدَ فِيهِ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّ الْخِلاَفَ قَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ، عَنِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَقَالَ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ عُمْرَةٌ وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي رَوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: اجْعَلُوا الْعُمْرَةَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَتَمَّ لِحَجِّكُمْ وَلِعُمْرَتِكُمْ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنِ الْجُعَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ: أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ فِي الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: حَلَّتْ الْعُمْرَةُ الدَّهْرَ إلاَّ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ: يَوْمَ النَّحْرِ; وَيَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَمِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ، عَنْ مُعَاذَةَ عَنْهَا. وَرُوِّينَا أَيْضًا عَنْهَا: تَمَّتْ الْعُمْرَةُ السَّنَةَ كُلَّهَا إلاَّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمَ عَرَفَةَ, وَيَوْمَ النَّحْرِ وَيَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهَا إلاَّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ يَوْمُ

(7/67)


عَرَفَةَ, وَيَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وقال أبو حنيفة: الْعُمْرَةُ كُلُّهَا جَائِزَةٌ إلاَّ خَمْسَةَ أَيَّامٍ, يَوْمُ عَرَفَةَ, وَيَوْمُ النَّحْرِ, وَثَلاَثَةُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وقال مالك: الْعُمْرَةُ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ السَّنَةِ إلاَّ لِلْحَاجِّ خَاصَّةً فِي أَيَّامِ النَّحْرِ خَاصَّةً. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ كَمَا قلنا.
قَالَ عَلِيٌّ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي أَنْ يَعْتَمِرَ فِي شَوَّالٍ فَأَذِنَ لَهُ فَاعْتَمَرَ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجِّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَتْ أُخْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بَعْدَ مَا قَضَتْ حَجَّهَا أَتَعْتَمِرُ فِي ذِي الْحِجَّةِ قَالَ: نَعَمْ. وَعَنْ طَاوُوس أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ فَقَالَ: تَعَجَّلْتُ فِي يَوْمَيْنِ أَفَأَعْتَمِرُ قَالَ: نَعَمْ.
قال أبو محمد: لَيْسَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ أَوْلَى مِنْ بَعْضِ, وَلاَ بَعْضُ الرِّوَايَاتِ، عَنْ عَائِشَةَ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهَا, وَقَدْ نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، نا سُمَيٌّ هُوَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الْجَنَّةُ وَالْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ تَكْفِيرٌ لِمَا بَيْنَهُمَا". قال أبو محمد: فَحَضَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْعُمْرَةِ وَلَمْ يَحُدَّ لَهَا وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ; وَأَمَّا اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفَاسِدٌ جِدًّا; لاَِنَّهُ لاَ حُجَّةَ لَهُ عَلَى صِحَّتِهِ دُونَ سَائِرِ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/68)


820 - مَسْأَلَةٌ: وَالْحَجُّ لاَ يَجُوزُ إلاَّ مَرَّةً فِي السَّنَةِ; وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَنُحِبُّ الإِكْثَارَ مِنْهَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ فَضْلِهَا; فأما الْحَجُّ فَلاَ خِلاَفَ فِيهِ. وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: فِي كُلِّ شَهْرٍ عُمْرَةٌ. وَعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ كَرِهَ عُمْرَتَيْنِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا اعْتَمَرَتْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ: كَرَاهَةُ الْعُمْرَةِ أَكْثَرُ مِنْ مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ; وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ. وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس: إذَا مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَاعْتَمِرْ مَتَى شِئْت. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: اعْتَمِرْ مَتَى أَمْكَنَك الْمُوسَى. وَعَنْ عَطَاءٍ إجَازَةُ الْعُمْرَةِ

(7/68)


مَرَّتَيْنِ فِي الشَّهْرِ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَرَّتَيْنِ فِي عَامٍ وَاحِدٍ مَرَّةً فِي رَجَبٍ, وَمَرَّةً فِي شَوَّالٍ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَقَامَ مُدَّةً بِمَكَّةَ فَكُلَّمَا جَمَّ رَأْسُهُ خَرَجَ فَاعْتَمَرَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي حَنِيفَةَ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَبِهِ نَأْخُذُ لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْمَرَ عَائِشَةَ مَرَّتَيْنِ فِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكْرَهْ عليه السلام ذَلِكَ بَلْ حَضَّ عَلَيْهَا وَأَخْبَرَ أَنَّهَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهَا, وَبَيْنَ الْعُمْرَةِ الثَّانِيَةِ, فَالإِكْثَارُ مِنْهَا أَفْضَلُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ: بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْتَمِرْ فِي عَامٍ إلاَّ مَرَّةً وَاحِدَةً قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي هَذَا; لاَِنَّهُ إنَّمَا يُكْرَهُ مَا حَضَّ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ عليه السلام لَمْ يَحُجَّ مُذْ هَاجَرَ إلاَّ حَجَّةً وَاحِدَةً، وَلاَ اعْتَمَرَ مُذْ هَاجَرَ إلاَّ ثَلاَثَ عُمَرَ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَكْرَهُوا الْحَجَّ إلاَّ مَرَّةً فِي الْعُمْرِ, وَأَنْ تَكْرَهُوا الْعُمْرَةَ إلاَّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي الدَّهْرِ, وَهَذَا خِلاَفُ قَوْلِكُمْ; وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ عليه السلام يَتْرُكُ الْعَمَلَ هُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ أَوْ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَصُومَ الْمَرْءُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدَّهْرِ, وَأَنْ يَقُومَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ; وَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَصُمْ قَطُّ شَهْرًا كَامِلاً, وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الدَّهْرِ, وَلاَ قَامَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً, وَلاَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ, فَلَمْ يَرَوْا فِعْلَهُ عليه السلام هَاهُنَا حُجَّةً فِي كَرَاهَةِ مَا زَادَ عَلَى صِحَّةِ نَهْيِهِ، عَنِ الزِّيَادَةِ فِي الصَّوْمِ وَمِقْدَارِ مَا يُقَامُ مِنْ اللَّيْلِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ. وَجَعَلُوا فِعْلَهُ عليه السلام فِي أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ فِي الْعَامِ إلاَّ مَرَّةَ مَعَ حَضِّهِ عَلَى الْعُمْرَةِ وَالإِكْثَارِ مِنْهَا حُجَّةً فِي كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى عُمْرَةٍ مِنْ الْعَامِ وَهَذَا عَجَبٌ جِدًّا.

(7/69)


821 - مَسْأَلَةٌ: وَأَشْهُرُ الْحَجِّ: شَوَّالٌ, وَذُو الْقِعْدَةِ, وَذُو الْحِجَّةِ, وَقَالَ قَوْمٌ: شَوَّالٌ, وَذُو الْقِعْدَةِ, وَعَشَرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. رُوِّينَا قَوْلَنَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَصَحَّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ نَافِعٍ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ. وَرُوِّينَا الْقَوْلَ الآخَرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا, وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَرُوِّينَا، عَنِ الْحَسَنِ: شَوَّالٌ, وَذُو الْقَعْدَةِ, وَصَدْرُ ذِي الْحِجَّةِ.
قال أبو محمد: قَالَ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} ، وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى شَهْرَيْنِ, وَبَعْضٍ آخَرَ: أَشْهُرٌ, وَأَيْضًا فَإِنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ وَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ يُعْمَلُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ, وَطَوَافُ الإِفَاضَةِ وَهُوَ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ يُعْمَلُ فِي ذِي الْحِجَّةِ كُلِّهِ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْهُمْ; فَصَحَّ أَنَّهَا ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/69)


822- مَسْأَلَةٌ: وَلِلْحَجِّ, وَالْعُمْرَةِ مَوَاضِعُ تُسَمَّى: الْمَوَاقِيتَ, وَاحِدُهَا: مِيقَاتٌ

(7/69)


823 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا جَاءَ مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ إلَى أَحَدِ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَإِنْ كَانَ يُرِيدُ الْعُمْرَةَ فَلْيَتَجَرَّدْ مِنْ ثِيَابِهِ إنْ كَانَ رَجُلاً, فَلاَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ, وَلاَ سَرَاوِيلَ, وَلاَ عِمَامَةً, وَلاَ قَلَنْسُوَةً, وَلاَ جُبَّةً, وَلاَ بُرْنُسًا, وَلاَ خُفَّيْنِ, وَلاَ قُفَّازَيْنِ أَلْبَتَّةَ, لَكِنْ يَلْتَحِفُ فِيمَا شَاءَ مِنْ كِسَاءٍ, أَوْ مِلْحَفَةٍ أَوْ رِدَاءٍ; وَيَتَّزِرُ وَيَكْشِفُ رَأْسَهُ وَيَلْبَسُ نَعْلَيْهِ. وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَّزِرَ, وَلاَ أَنْ يَلْتَحِفَ فِي ثَوْبٍ صُبِغَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِوَرْسٍ, أَوْ زَعْفَرَانٍ, أَوْ عُصْفُرٍ. فَإِنْ كَانَ امْرَأَةً فَلْتَلْبَسْ مَا شَاءَتْ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لاَ يَلْبَسُهُ الرَّجُلُ وَتُغَطِّي رَأْسَهَا إلاَّ أَنَّهَا لاَ تَنْتَقِبُ أَصْلاً; لَكِنْ إمَّا أَنْ تَكْشِفَ وَجْهَهَا, وَأَمَّا أَنْ تَسْدُلَ عَلَيْهِ ثَوْبًا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا فَذَلِكَ لَهَا إنْ شَاءَتْ. وَلاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ شَيْئًا صُبِغَ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ بِوَرْسٍ أَوْ زَعْفَرَانٍ,

(7/78)


وَلاَ أَنْ تَلْبَسَ قُفَّازَيْنِ فِي يَدَيْهَا, وَلَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْخِفَافَ وَالْمُعَصْفَرَ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الرَّجُلُ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ كَمَا هِيَ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْ خُفَّيْهِ تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ، وَلاَ بُدَّ وَيَلْبَسُهُمَا كَذَلِكَ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْت عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَلْبَسُوا الْقُمُصَ, وَلاَ الْعَمَائِمَ, وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ, وَلاَ الْبَرَانِسَ، وَلاَ الْخِفَافَ إلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ, وَلاَ تَلْبَسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلاَ الْوَرْسُ".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، نا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، نا أَبِيٌّ قَالَ سَمِعْت قَيْسًا، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ يُحَدِّثُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ قَدْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ وَهُوَ مُصَفِّرٌ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ, وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ, وَاغْسِلْ عَنْكَ الصُّفْرَةَ, وَمَا كُنْتَ صَانِعًا فِي حَجِّكَ فَاصْنَعْهُ فِي عُمْرَتِكَ".
قال أبو محمد: كُلُّ مَا جُبَّ فِيهِ مَوْضِعٌ لاِِخْرَاجِ الرَّأْسِ مِنْهُ: فَهُوَ جُبَّةٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ; وَكُلُّ مَا خِيطَ أَوْ نُسِجَ فِي طَرَفَيْهِ لِيَتَمَسَّكَ عَلَى الرَّأْسِ فَهُوَ بُرْنُسٌ كَالْغِفَارَةِ وَنَحْوِهَا.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ السُّلَيْمِ، نا ابْنُ الأَعْرَابِيِّ، نا أَبُو دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ، نا يَعْقُوبُ، هُوَ ابْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، نا أَبِي، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: إنَّ نَافِعًا مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى النِّسَاءَ فِي إحْرَامِهِنَّ، عَنِ الْقُفَّازَيْنِ, وَالنِّقَابِ, وَمَا مَسَّ الْوَرْسُ وَالزَّعْفَرَانُ, مِنْ الثِّيَابِ وَلْتَلْبَسْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا أَحَبَّتْ مِنْ أَلْوَانِ الثِّيَابِ مِنْ مُعَصْفَرٍ, أَوْ خَزٍّ, أَوْ حُلِيٍّ, أَوْ سَرَاوِيلَ, أَوْ قَمِيصٍ, أَوْ خُفٍّ".

(7/79)


قَالَ عَلِيٌّ: وَحدثناه عبد الله بن ربيع قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا نُوحُ بْنُ حَبِيبٍ الْقُومِسِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ هُوَ الْقَطَّانُ، نا ابْنُ جُرَيْجٍ، نا عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِيهِ: "أَنَّ رَجُلاً أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ مُتَضَمِّخٌ, فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "أَمَّا الْجُبَّةُ فَاخْلَعْهَا, وَأَمَّا الطِّيبُ فَاغْسِلْهُ, ثُمَّ أَحْدِثْ إحْرَامًا".
قال أبو محمد: نُوحٌ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ; فَالأَخْذُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَاجِبٌ, وَيَجِبُ إحْدَاثُ الإِحْرَامِ لِمَنْ أَحْرَمَ فِي جُبَّةٍ مُتَضَمِّخًا بِصُفْرَةٍ مَعًا وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ إلاَّ مَنْ جَمَعَهَا, وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الرِّجَالَ، عَنِ الْمُعَصْفَرِ جُمْلَةً.
قال أبو محمد: وَفِي بَعْضِ مَا ذَكَرْنَا خِلاَفٌ, وَهُوَ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ بِالْوَرْسِ, أَوْ الزَّعْفَرَانِ, إذَا غُسِلَ حَتَّى لاَ يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ فَقَالَ قَوْمٌ: لِبَاسُهُ جَائِزٌ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ رَوَى بَعْضُ النَّاسِ فِي هَذَا أَثَرًا فَإِنْ صَحَّ وَجَبَ الْوُقُوفُ عِنْدَهُ، وَلاَ نَعْلَمُهُ صَحِيحًا, وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ لِبَاسُهُ أَصْلاً; لاَِنَّهُ قَدْ مَسَّهُ الْوَرْسُ, أَوْ الزَّعْفَرَانُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ التَّنُّورِيُّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُرْوَةَ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، عَنِ الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ إذَا غُسِلَ حَتَّى ذَهَبَ لَوْنُهُ يَعْنِي بِالزَّعْفَرَانِ لِلْمُحْرِمِ فَنَهَاهُ عَنْهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا هُشَيْمٌ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: كُنْت عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ وَمَعِي ثَوْبٌ مَصْبُوغًا بِالزَّعْفَرَانِ فَغَسَلْته حَتَّى ذَهَبَ لَوْنُهُ فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَمَعَك ثَوْبٌ غَيْرُهُ قَالَ: لاَ, قَالَ: فَأَحْرِمْ فِيهِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إبَاحَةَ الإِحْرَامِ فِيهِ إذَا غُسِلَ، وَلاَ يَصِحُّ سَمَاعُ إبْرَاهِيمَ مِنْ عَائِشَةَ. وَرُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِبْرَاهِيمَ, وَعَطَاءٍ, وَالْحَسَنِ, وطَاوُوس: إبَاحَةَ الإِحْرَامِ فِيهِ إذَا غُسِلَ وَفِي أَسَانِيدِهِمْ مَغْمَزٌ.
وَمِنْهُ: مَنْ وَجَدَ خُفَّيْنِ وَلَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَلْبَسُهُمَا كَمَا هُمَا، وَلاَ يَقْطَعُهُمَا.وَقَالَ قَوْمٌ يَشُقُّ السَّرَاوِيلَ فَيَتَّزِرُ بِهَا وَاحْتَجَّ مَنْ أَجَازَ لَهُ لِبَاسَ السَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ بِمَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، نا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، نا شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَار

(7/80)


سَمِعْت جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَاتٍ فَقَالَ: "مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ, وَمَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ سَرَاوِيلَ". وقال بعضهم: قَطْعُ الْخُفَّيْنِ إفْسَادٌ لِلْمَالِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهُ.
قال أبو محمد: حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ, فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ كَمَا هِيَ، وَلاَ شَيْءَ فِي ذَلِكَ; وَأَمَّا الْخُفَّانِ فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِيهِ زِيَادَةُ الْقَطْعِ حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلاَ يَحِلُّ خِلاَفُهُ, وَلاَ تَرْكُ الزِّيَادَةِ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ "إذَا لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ, وَإِنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا فَلْيَلْبَسْ السَّرَاوِيلَ وَصَحَّ أَيْضًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، نا نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ. وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: إذَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ النَّعْلَيْنِ لَبِسَ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ: قَالَ: يَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ وَيَقْطَعُهُمَا حَتَّى يَكُونَا مِثْلَ النَّعْلَيْنِ; وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَسُفْيَانَ, وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَبِهِ نَأْخُذُ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ إبَاحَةَ لِبَاسِ الْخُفَّيْنِ بِلاَ ضَرُورَةٍ لِلْمُحْرِمِ مِنْ الرِّجَالِ. وقال أبو حنيفة: إنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيلَ, فَإِنْ لَبِسَهَا يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ، وَلاَ بُدَّ. وَإِنْ لَبِسَهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ, وَإِنْ لَبِسَ خُفَّيْنِ لِعَدَمِ النَّعْلَيْنِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ, وَإِنْ لَبِسَهُمَا أَقَلَّ فَصَدَقَةٌ; وقال مالك: مَنْ لَمْ يَجِدْ إزَارًا لَبِسَ سَرَاوِيلَ وَافْتَدَى, وَإِنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ قَطَعَ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَبِسَهُمَا، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: يَشُقُّ السَّرَاوِيلَ وَيَتَّزِرُ بِهَا، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبو محمد: أَمَّا تَقْسِيمُ أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ لِبَاسِ السَّرَاوِيلِ وَالْخُفَّيْنِ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ, وَبَيْنَ لِبَاسِهِمَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَقَوْلٌ لاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلَيْتَ شِعْرِي مَاذَا يَقُولُونَ إنْ لَبِسَهُمَا يَوْمًا غَيْرَ طَرْفَةِ عَيْنٍ, أَوْ غَيْرَ نِصْفِ سَاعَةٍ وَهَكَذَا نَزِيدُهُمْ دَقِيقَةً دَقِيقَةً حَتَّى يَلُوحَ هَذَيَانُهُمْ, وَقَوْلُهُمْ بِالأَضَالِيلِ فِي الدِّينِ, وَكَذَلِكَ إيجَابُهُ الدَّمَ فِي ذَلِكَ, أَوْ الصَّدَقَةَ, لاَ نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ فَإِنْ قَالُوا: قِسْنَا ذَلِكَ عَلَى الْفِدْيَةِ الْوَاجِبَةِ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لإِنَّ فِدْيَةَ الأَذَى جَاءَتْ بِتَخْيِيرٍ بَيْنَ صِيَامٍ, أَوْ صَدَقَةٍ, أَوْ نُسُكٍ, وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ هَاهُنَا الدَّمَ، وَلاَ بُدَّ; أَوْ صَدَقَةً غَيْرَ مَحْدُودَةٍ،

(7/81)


وَلاَ بُدَّ;، وَلاَ سِيَّمَا وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ: إنَّ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَجُوزُ أَخْذُهَا بِالْقِيَاسِ, فَكَمْ هَذَا التَّلاَعُبُ بِالدِّينِ؟
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَتَقْسِيمُهُ بَيْنَ حُكْمِ السَّرَاوِيلِ وَبَيْنَ حُكْمِ لُبْسِ الْخُفَّيْنِ, خَطَأٌ لاَ بُرْهَانَ عَلَى صِحَّتِهِ, وَمَالِكٌ مَعْذُورٌ, لاَِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَإِنَّمَا الْمَلاَمَةُ عَلَى مَنْ بَلَغَهُ وَخَالَفَهُ لِتَقْلِيدِ رَأْيِ مَالِكٍ.
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فَخَطَأٌ; لاَِنَّهُ اسْتَدْرَكَ بِعَقْلِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ عليه السلام وَأَوْجَبَ فِدْيَةً حَيْثُ لَمْ يُوجِبْهَا النَّبِيُّ عليه السلام.
قال أبو محمد: وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الصَّاحِبِ الَّذِي لاَ يُعْرَفُ لَهُ مُخَالِفٌ; وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَعَائِشَةَ, وَعَلِيٍّ, وَالْمِسْوَرِ, وَلاَ نَعْلَمُ لاَِحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، قَوْلاً غَيْرَ الأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَخَالَفَهَا الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ كُلُّهَا آرَاءٌ فَاسِدَةٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهَا أَصْلاً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ نَهْيَ الْمَرْأَةِ، عَنِ الْقُفَّازَيْنِ, وَعَنْ عَلِيٍّ, وَابْنِ عُمَرَ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ, وَالْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ, وَغَيْرِهِمْ. وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إبَاحَةَ الْقُفَّازَيْنِ لِلْمَرْأَةِ, وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ, وَحَمَّادٍ, وَعَطَاءٍ, وَمَكْحُولٍ, وَعَلْقَمَةَ, وَغَيْرِهِمْ; وَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرْنَا هُوَ الْحَاكِمُ عَلَى مَا سِوَاهُ. وَأَمَّا الْمُعَصْفَرُ فَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمَنْعَ مِنْهُ جُمْلَةً وَلِلْمُحْرِمِ خَاصَّةً أَيْضًا، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ.
وَرُوِّينَا، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنِ عُمَرَ, وَنَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ: إبَاحَتَهُ لِلْمُحْرِمِ, وَلَمْ يُبِحْهُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ: لِلْمُحْرِمِ, وَأَبَاحَهُ الشَّافِعِيُّ. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَلِيٍّ, وَعَقِيلِ ابْنَيْ أَبِي طَالِبٍ, وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ, وَغَيْرِهِمْ, إبَاحَةَ الْمُوَرَّدِ لِلرَّجُلِ الْمُحْرِمِ, وَهُوَ مُبَاحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بِزَعْفَرَانٍ, أَوْ وَرْسٍ, أَوْ عُصْفُرٍ; لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَنْهُ نَهْيٌ فِي قُرْآنٍ، وَلاَ سُنَّةٍ.

(7/82)


824 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ الْغُسْلَ عِنْدَ الإِحْرَامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ, وَلَيْسَ فَرْضًا إلاَّ عَلَى النُّفَسَاءِ وَحْدَهَا: لِمَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: أَنَّهَا وَلَدَتْ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْبَيْدَاءِ فَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ تُهِلُّ".

(7/82)


825 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ لِلْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ أَنْ يَتَطَيَّبَا عِنْدَ الإِحْرَامِ بِأَطْيَبَ

(7/82)


826 - مَسْأَلَةٌ: ثُمَّ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ, أَوْ يَنْوِيَانِ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمَا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ" وَنَسْتَحِبُّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إثْرَ صَلاَةِ فَرْضٍ أَوْ نَافِلَةٍ.

(7/90)


827 - مَسْأَلَةٌ: ثُمَّ يَجْتَنِبَانِ تَجْدِيدَ قَصْدٍ إلَى الطِّيبِ فَإِنْ مَسَّهُمَا مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ شَيْءٌ لَمْ يَضُرَّ; أَمَّا اجْتِنَابُ الْقَصْدِ إلَى الطِّيبِ فَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا, وَأَمَّا إنْ مَسَّهُ شَيْءٌ مِنْ طِيبِ الْكَعْبَةِ أَوْ غَيْرِهَا، عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ, فَلاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِيهِ نَهْيٌ. وَقَدْ رُوِّينَا، عَنْ أَنَسٍ كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَصَابَهُ فَلَمْ يَغْسِلْهُ; وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ, وَسُئِلَ، عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ.

(7/90)


828 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ بَأْسَ أَنْ يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ بِمَا هُوَ مُلْتَحِفٌ بِهِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ، وَلاَ بَأْسَ أَنْ تَسْدُلَ الْمَرْأَةُ الثَّوْبَ مِنْ عَلَى رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا. أَمَّا أَمْرُ الْمَرْأَةِ, فَلاَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا نَهَاهَا، عَنِ النِّقَابِ;، وَلاَ يُسَمَّى السَّدْلُ نِقَابًا فَإِنْ كَانَ "الْبُرْقُعُ" يُسَمَّى نِقَابًا, لَمْ يَحِلَّ لَهَا لِبَاسُهُ.
وَأَمَّا اللِّثَامُ فَإِنَّهُ نِقَابٌ بِلاَ شَكٍّ; فَلاَ يَحِلُّ لَهَا. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ}.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا نَهَيْتُكُمْ، عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ". وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فَصَحَّ أَنَّ مَا لَمْ يُفَصِّلْ لَنَا تَحْرِيمَهُ فَمُبَاحٌ, وَمَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ فَحَلاَلٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَقَدْ صَحَّ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَى ابْنُ عُمَرَ امْرَأَةً قَدْ سَدَلَتْ ثَوْبَهَا عَلَى وَجْهِهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ فَقَالَ لَهَا: اكْشِفِي وَجْهَك فَإِنَّمَا حُرْمَةُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا.
وَصَحَّ خِلاَفُ هَذَا، عَنْ غَيْرِهِ, كَمَا رُوِّينَا، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ كَانَتْ تُغَطِّي وَجْهَهَا وَهِيَ مُحْرِمَةٌ. وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ، عَنْ مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ قَالَتْ: سَأَلْت عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا تَلْبَسُ الْمُحْرِمَةُ فَقَالَتْ: لاَ تَنْتَقِبُ, وَلاَ تَلْثِمُ, وَتَسْدُلُ الثَّوْبَ عَلَى وَجْهِهَا وَعَنْ عُثْمَانَ أَيْضًا ذَلِكَ, فَكَانَ الْمَرْجُوعُ فِي ذَلِكَ إلَى مَا مَنَعَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ.
وَأَمَّا الرَّجُلُ: فَإِنَّنَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْفُرَافِصَةِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ, وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ, وَابْنُ الزُّبَيْرِ يُخَمِّرُونَ وُجُوهَهُمْ وَهُمْ مُحْرِمُونَ. وَمِنْ طَرِيقِ مَعْمَرٍ, وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ كِلَيْهِمَا، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ يَقُولُ: رَأَيْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ مُخَمِّرًا وَجْهَهُ بِقَطِيفَةِ أُرْجُوَانٍ بِالْعَرْجِ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ وَهُوَ مُحْرِمٌ: نا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ نُبَاتٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْبَصِيرِ، نا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ الْخُشَنِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْت جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: الْمُحْرِمُ يُغَطِّي مِنْ الْغُبَارِ وَيُغَطِّي وَجْهَهُ إذَا نَامَ وَيَغْتَسِلُ وَيَغْسِلُ ثِيَابَهُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يُخَمِّرَانِ وُجُوهَهُمَا وَهُمَا مُحْرِمَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْمُحْرِمُ يُغَطِّي مَا دُونَ الْحَاجِبِ وَالْمَرْأَةُ تَسْدُلُ ثَوْبَهَا مِنْ قِبَلِ قَفَاهَا عَلَى هَامَتِهَا.

(7/91)


وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَيْضًا: إبَاحَةُ تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَعَلْقَمَةَ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ كُلِّهِمْ أَفْتَى الْمُحْرِمَ بِتَغْطِيَةِ وَجْهِهِ وَبَيَّنَ بَعْضُهُمْ مِنْ الشَّمْسِ, وَالْغُبَارِ, وَالذُّبَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ, وَأَصْحَابِهِمْ وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: لاَ يُغَطِّي الْمُحْرِمُ وَجْهَهُ وَقَالَ بِهِ مَالِكٌ, وَلَمْ يَرَ عَلَى الْمُحْرِمِ إنْ غَطَّى وَجْهَهُ شَيْئًا لاَ فِدْيَةَ, وَلاَ صَدَقَةَ, وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ إلاَّ أَنَّهُ كَرِهَهُ فَقَطْ, بَلْ قَدْ رَوَى عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الذَّقَنُ مِنْ الرَّأْسِ فَلاَ تُغَطِّهِ, وَقَالَ: إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا, وَإِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وقال أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ: لاَ يُغَطِّي الْمُحْرِمُ وَجْهَهُ فَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ.
قال أبو محمد: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ هَذَا قَبْلَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَهُمْ يُعَظِّمُونَ خِلاَفَ الْجُمْهُورِ; وَقَدْ خَالَفُوا هَاهُنَا: عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ عَوْفٍ, وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ, وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, وَابْنَ الزُّبَيْرِ, وَجُمْهُورَ التَّابِعِينَ; فَإِنْ تَعَلَّقُوا بِابْنِ عُمَرَ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْبَابِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَهْيَ الْمَرْأَةِ، عَنْ أَنْ تَسْدُلَ عَلَى وَجْهِهَا وَقَدْ خَالَفُوهُ, وَرُوِّينَا عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ تَغْطِيَةِ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا; فَمَرَّةً هُوَ حُجَّةٌ, وَمَرَّةً لَيْسَ هُوَ حُجَّةً, أُفٍّ لِهَذَا عَمَلاً.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ إحْرَامُهَا فِي وَجْهِهَا كَانَ الرَّجُلُ بِذَلِكَ أَحَقُّ لاَِنَّهُ أَغْلَظُ حَالاً مِنْهَا فِي الإِحْرَامِ.
قال أبو محمد: وَالسُّنَّةُ قَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الإِحْرَامِ فَوَجَبَ عَلَى الرَّجُلِ فِي الإِحْرَامِ كَشْفُ رَأْسِهِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَرْأَةِ, وَاتَّفَقَا فِي أَنْ لاَ يَلْبَسَا قُفَّازَيْنِ وَاخْتَلَفَا فِي الثِّيَابِ, فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهَا فِي تَغْطِيَةِ وَجْهِهِ إنَّ هَذَا الْقِيَاسَ سَخِيفٌ جِدًّا, وَأَيْضًا: فَقَدْ كَذَبُوا وَمَا نُهِيَتْ الْمَرْأَةُ، عَنْ تَغْطِيَةِ وَجْهِهَا; بَلْ هُوَ مُبَاحٌ لَهَا فِي الإِحْرَامِ وَإِنْ نُهِيَتْ، عَنِ النِّقَابِ فَقَطْ فَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِهِمْ.
وَالْعَجَبُ أَنَّهُمْ احْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِ فِي الَّذِي مَاتَ مُحْرِمًا أَنْ لاَ يُخَمَّرَ رَأْسُهُ, وَلاَ وَجْهُهُ رُوِّينَاهُ مِنْ طُرُقٍ جَمَّةٍ: مِنْهَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو كُرَيْبٍ، نا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً أَوْقَصَتْهُ رَاحِلَتُهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ فَمَاتَ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ

(7/92)


وَسِدْرٍ, وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ, وَلاَ تُخَمِّرُوا وَجْهَهُ، وَلاَ رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا".
قال أبو محمد: إنَّ الْحَيَاءَ لَفَضِيلَةٌ, وَكَمَا أَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ مِنْ الإِيمَانِ, وَهُمْ أَوَّلُ مُخَالِفٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ, وَأَوَّلُ عَاصٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ فَلاَ يَرَوْنَ فِيمَنْ مَاتَ مُحْرِمًا أَنْ يُكْشَفَ رَأْسُهُ وَوَجْهُهُ; بَلْ يُغَطُّونَ كُلَّ ذَلِكَ ثُمَّ يَحْتَجُّونَ بِهِ فِي أَنْ لاَ يُغَطِّيَ الْحَيُّ الْمُحْرِمُ وَجْهَهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ. وَيَقُولُونَ: إنَّ الصَّاحِبَ إذَا رَوَى خَبَرًا وَخَالَفَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى نَسْخِ ذَلِكَ الْخَبَرِ عِنْدَهُمْ هُوَ, وَابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى هَذَا الْخَبَرَ وَهُوَ رَأْيٌ لِلْمُحْرِمِ الْحَيِّ أَنْ يُخَمِّرَ وَجْهَهُ; فَأَيْنَ لَك ذَلِكَ الأَصْلُ الْخَبِيثُ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ فِي رَدِّ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَنَحْنُ نَقُولُ: إنَّ الْحَيَّ الْمُحْرِمَ لاَ يَلْزَمُهُ كَشْفُ وَجْهِهِ, وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ كَشْفُ رَأْسِهِ فَقَطْ; فَإِذَا مَاتَ أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ حُكْمًا زَائِدًا وَهُوَ أَنْ لاَ يُخَمَّرَ وَجْهُهُ، وَلاَ رَأْسُهُ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ تَعَالَى, وَالْقِيَاسُ ضَلاَلٌ, وَزِيَادَةٌ فِي الدِّينِ شَرْعًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ عَلِيٌّ: لَوْ كَانَ تَغْطِيَةُ الْمُحْرِمِ وَجْهَهُ مَكْرُوهًا أَوْ مُحَرَّمًا, لَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا لَمْ يَنْهَ، عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ مُبَاحٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/93)


829 - مَسْأَلَةٌ: وَنَسْتَحِبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ التَّلْبِيَةِ مِنْ حِينِ الإِحْرَامِ فَمَا بَعْدَهُ دَائِمًا فِي حَالِ الرُّكُوبِ, وَالْمَشْيِ, وَالنُّزُولِ, وَعَلَى كُلِّ حَالٍ, وَيَرْفَعُ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ صَوْتَهُمَا بِهَا، وَلاَ بُدَّ, وَهُوَ فَرْضٌ وَلَوْ مَرَّةً وَهِيَ: لَبَّيْكَ, اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ, لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكُ لاَ شَرِيكَ لَك.
نا أحمد بن محمد بن الجسور، نا أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْوَاسِطِيُّ، نا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، نا إِسْحَاقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ جَعْفَرَ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي دَاوُد الْمَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَبِي دَاوُد وَهُوَ بَدْرِيٌّ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ, فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ, ثُمَّ لَبَّى دُبُرَ الصَّلاَةِ, ثُمَّ خَرَجَ إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ, فَإِذَا رَاحِلَتُهُ قَائِمَةٌ فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ أَهَلَّ ثُمَّ مَضَى, فَلَمَّا عَلاَ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ.
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِنْ حَيْثُ أَهَلَّ أَجْزَأَهُ لاَِنَّهُ فِعْلٌ لاَ أَمْرٌ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: إنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَخْبَرَنِي، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُهِلُّ مُلَبِّيًا يَقُولُ: "لَبَّيْكَ, اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ,

(7/93)


لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ, وَالْمُلْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لاَ يَزِيدُ عَلَى هَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ".
قال أبو محمد: وَقَدْ رَوَى غَيْرُهُ الزِّيَادَةَ, وَمَنْ زَادَ ذِكْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَحَسَنٌ, وَمَنْ اخْتَصَرَ عَلَى هَذِهِ فَحَسَنٌ, كُلُّ ذَلِكَ ذِكْرٌ حَسَنٌ.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، نا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ مِنْ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَبَّيْكَ إلَهَ الْحَقِّ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ إلاَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ وَهُوَ ثِقَةٌ.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ خَلاَّدِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ مُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ".
قال أبو محمد: هَذَا أَمْرٌ, وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ. قال علي: وهذا خِلاَفٌ لِلسُّنَّةِ; وقال بعضهم: لاَ تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ. قال أبو محمد: هَذَا خَطَأٌ وَتَخْصِيصٌ بِلاَ دَلِيلٍ, وَقَدْ كَانَ النَّاسُ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ حَرَجَ فِي ذَلِكَ, وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُنَّ وَهُنَّ فِي حُدُودِ الْعِشْرِينَ سَنَةً وَفُوَيْقَ ذَلِكَ; وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَاسْتِحْبَابِهِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا حُمَيْدٍ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ حَتَّى أَنِّي لاََسْمَعُ دَوِيَّ صَوْتِهِ بَيْنَ الْجِبَالِ.
وَبِهِ إلَى هُشَيْمٍ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ عَطِيَّةَ، نا أَبُو حَازِمٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَحْرَمُوا لَمْ يَبْلُغُوا الرَّوْحَاءَ حَتَّى تُبَحَّ أَصْوَاتُهُمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: قَدِمَتْ امْرَأَةٌ أَعْجَمِيَّةٌ فَخَرَجَتْ مَعَ النَّاسِ وَلَمْ تُهِلَّ بِشَيْءٍ إلاَّ أَنَّهَا كَانَتْ تَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى, فَقَالَ عَطَاءٌ: لاَ يُجْزِئُهَا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ

(7/94)


ابْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ لَيْلَةَ النَّفَرِ فَسَمِعَ صَوْتَ تَلْبِيَةٍ فَقَالَ: مَنْ هَذَا قِيلَ: عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ اعْتَمَرَتْ مِنْ التَّنْعِيمِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ سَأَلَنِي لاََخْبَرْته; فَهَذِهِ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَرْفَعُ صَوْتَهَا حَتَّى يَسْمَعَهَا مُعَاوِيَةُ فِي حَالِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لاَ تَرْفَعُ الْمَرْأَةُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَنْ يَرْفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالتَّلْبِيَةِ قلنا: رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ هِيَ مِنْ طَرِيقِ عِيسَى بْنِ أَبِي عِيسَى الْحَنَّاطِ وَهُوَ ضَعِيفٌ, وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ مِنْ طَرِيقِ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلَوْ صَحَّا لَكَانَتْ رِوَايَةُ عَائِشَةَ مُوَافِقَةً لِلنَّصِّ.

(7/95)


830 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا قَدِمَ الْمُعْتَمِرُ, أَوْ الْمُعْتَمِرَةُ مَكَّةَ فَلْيَدْخُلاَ الْمَسْجِدَ، وَلاَ يَبْدَآ بِشَيْءٍ لاَ رَكْعَتَيْنِ، وَلاَ غَيْرَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَصْدِ إلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَيُقَبِّلاَنِهِ, ثُمَّ يَلْقَيَانِ الْبَيْتَ عَلَى الْيَسَارِ، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ يَطُوفَانِ بِالْبَيْتِ مِنْ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ إلَى أَنْ يَرْجِعَا إلَيْهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ, مِنْهَا ثَلاَثُ مَرَّاتٍ خَبَبًا وَهُوَ مَشْيٌ فِيهِ سُرْعَةٌ, وَالأَرْبَعُ طَوَّافَاتِ الْبَوَاقِي مَشْيًا, وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَخُبَّ فِي الثَّلاَثِ الطَّوَّافَاتِ, وَهِيَ الأَشْوَاطُ مِنْ الرُّكْنِ الأَسْوَدِ مَارًّا عَلَى الْحَجَرِ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ, ثُمَّ يَمْشِي رِفْقًا مِنْ الْيَمَانِيِّ إلَى الأَسْوَدِ فِي كُلِّ شَوْطٍ مِنْ الثَّلاَثَةِ فَذَلِكَ لَهُ وَكُلَّمَا مَرَّا عَلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ قَبَّلاَهُ, وَكَذَلِكَ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ أَيْضًا فَقَطْ, فَإِذَا تَمَّ الطَّوَافُ الْمَذْكُورُ أَتَيَا إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام فَصَلَّيَا هُنَالِكَ رَكْعَتَيْنِ وَلَيْسَتَا فَرْضًا. ثُمَّ خَرَجَا، وَلاَ بُدَّ إلَى الصَّفَا فَصَعِدَا عَلَيْهِ, ثُمَّ هَبَطَا فَإِذَا صَارَا فِي بَطْنِ الْوَادِي أَسْرَعَ الرَّجُلُ الْمَشْيَ حَتَّى يَخْرُجَ عَنْهُ ثُمَّ يَمْشِيَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدَ عَلَيْهَا ثُمَّ يَنْحَدِرَ كَذَلِكَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى الصَّفَا ثُمَّ يَرْجِعَ كَذَلِكَ إلَى الْمَرْوَةِ هَكَذَا حَتَّى يُتِمَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ: مِنْهَا ثَلاَثٌ خَبَبًا وَأَرْبَعٌ مَشْيًا, وَلَيْسَ الْخَبَبُ بَيْنَهُمَا فَرْضًا. ثُمَّ يَحْلِقُ الرَّجُلُ رَأْسَهُ, أَوْ يُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهِ، وَلاَ تَحْلِقُ الْمَرْأَةُ لَكِنْ تُقَصِّرُ مِنْ شَعْرِهَا, وَقَدْ تَمَّتْ الْعُمْرَةُ وَحَلَّ لَهُمَا كُلُّ مَا كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِمَا بِالإِحْرَامِ مِنْ لِبَاسٍ وَغَيْرِهِ.
قال أبو محمد: لاَ خِلاَفَ فِيمَا ذَكَرْنَا إلاَّ فِي أَشْيَاءَ نُبَيِّنُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, وَهِيَ: وُجُوبُ الْخَبَبِ فِي الطَّوَافِ, وَجَوَازُ تَنْكِيسِ الطَّوَافِ بِأَنْ يَلْقَى الْبَيْتَ عَلَى الْيَمِينِ, وَوُجُوبُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا مَا ناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبِيعٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ لُوَيْنٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ

(7/95)


ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْمُشْرِكُونَ إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا فَأَطْلَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عليه السلام عَلَى ذَلِكَ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَرْمُلُوا وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ فَهَذَا أَمْرٌ وَاجِبٌ.
َبِهِ إلَى أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ قُدَامَةَ، نا يَحْيَى، هُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَرْمُلُ الثَّلاَثَ وَيَمْشِي الأَرْبَعَ وَيَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَهَذَا بَيَانُ الرَّمَلِ إنَّمَا هُوَ فِي الثَّلاَثَةِ الأَشْوَاطِ الآُوَلِ, وَأَنَّ الرَّمَلَ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الأَشْوَاطِ جَائِزٌ. فإن قيل: إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ فِي الرَّمَلِ: لَيْسَ سُنَّةً, وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ قلنا: لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَسْأَلُكُمْ مَا قَوْلُكُمْ, وَقَوْلُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فِيهِمْ لَوْ أَنَّهُمْ إذْ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَرْمُلُوا يَقُولُونَ لَهُ: لاَ نَفْعَلُ وَقَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ أَعُصَاةً كَانُوا يَكُونُونَ أَمْ مُطِيعِينَ.
وَأَمَّا وُجُوبُهُ: فَقَدْ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ, وَعَطَاءٍ, وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ, وَمَكْحُولٍ, لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ رَمَلٌ مِنْ طُرُقٍ لَوْ شِئْنَا لَتَكَلَّمَنَا فِي أَكْثَرِهَا لِضَعْفِهَا. وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَعَطَاءٍ, لَيْسَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الرَّمَلَ شَيْءٌ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ فِدْيَةٌ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا الثَّقَفِيُّ هُوَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، عَنْ حَبِيبٍ، هُوَ ابْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ سَأَلَ، عَنِ الْمُجَاوِرِ إذَا أَهَلَّ مِنْ مَكَّةَ هَلْ يَسْعَى الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ قَالَ: إنَّهُمْ يَسْعَوْنَ قَالَ: فأما ابْنُ عَبَّاسٍ فَإِنَّهُ قَالَ: "نَّمَا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الآفَاقِ".
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: خَرَجَ ابْنُ الزُّبَيْرِ, وَابْنُ عُمَرَ فَاعْتَمَرَا مِنْ الْجِعْرَانَةِ لَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكُنْت جَالِسًا عِنْدَ زَمْزَمَ فَلَمَّا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ نَادَاهُ ابْنُ عُمَرَ أَرْمِلْ الثَّلاَثَ الآُوَلَ فَرَمَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ السَّبْعَ كُلَّهُ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ قَالاَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ رَمَلٌ, وَلاَ عَلَى مَنْ أَهَلَّ مِنْهَا إلاَّ أَنْ يَجِيءَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ خَارِجٍ.
فَهَذِهِ رِوَايَةٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِيجَابِ الرَّمَلِ عَلَى أَهْلِ الآفَاقِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ, وَعَطَاءٍ مِثْلُ ذَلِكَ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ بِإِيجَابِهِ ذَلِكَ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ

(7/96)


سَاكِنٌ بِمَكَّةَ, وَأَقَلُّ هَذَا أَنْ يَكُونَ اخْتِلاَفًا مِنْ قَوْلَيْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ.وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا تَرَكُوا فِيهِ الْجُمْهُورَ وَمَا انْفَرَدُوا بِهِ بِغَيْرِ سُنَّةٍ لَكِنْ بِرَأْيٍ; وَهُمْ يُعَظِّمُونَ ذَلِكَ, وَنَحْنُ لاَ نُنْكِرُهُ إذَا اُتُّبِعَتْ السُّنَّةُ فِي خِلاَفِهِ. وَأَمَّا تَقْبِيلُ الرُّكْنَيْنِ فَسُنَّةٌ وَلَيْسَ فَرْضًا, لاَِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ أَمْرٌ, وَإِنَّمَا هُوَ عَمَلٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ, وَقَدْ طَافَ عليه السلام رَاكِبًا يُشِيرُ بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ إلَى الرُّكْنِ.
وَأَمَّا تَنْكِيسُ الطَّوَافِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ أَجَازَ تَنْكِيسَ الْوُضُوءِ, وَتَنْكِيسَ الأَذَانِ, وَتَنْكِيسَ الإِقَامَةِ, وَتَنْكِيسَ الطَّوَافِ.
قال أبو محمد: إذْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْخَبَبِ فِي الأَشْوَاطِ الْمَذْكُورَةِ فَقَدْ عَلَّمَهُمْ مِنْ أَيْنَ يَبْتَدِئُونَ وَكَيْفَ يَمْشُونَ فَصَارَ ذَلِكَ أَمْرًا, وَأَمْرُهُ عليه السلام فَرْضٌ, وَلاَ أَعْجَبُ مِمَّنْ لاَ يَرَى الْعُمْرَةَ, أَوْ الْحَجَّ يَبْطُلاَنِ بِمُخَالَفَةِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَرَاهُمَا يَبْطُلاَنِ بِمَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ أَمْرٌ بِذَلِكَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى, وَلاَ مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم كَتَعَمُّدِ الإِمْنَاءِ فِي مُبَاشَرَةِ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ جِمَاعٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْعُمْرَةِ فَإِنَّ أَنَسًا وَغَيْرَهُ قَالُوا: لَيْسَ فَرْضًا, رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}.
قال أبو محمد: هَذَا قَوْلٌ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ إدْخَالٌ مِنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ. وَمِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ قَالَ: سَمِعْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقْرَأُ: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْمُقْرِي، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مِثْلُ ذَلِكَ, وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ, وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: هُمَا تَطَوُّعٌ. وَاحْتَجَّ مَنْ رَأَى هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إنَّ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . وَرُوِّينَا، عَنْ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، إيجَابَ فَرْضِ السَّعْيِ بَيْنَهُمَا, وَقَالَتْ فِي هَذِهِ الآيَةِ: إنَّمَا نَزَلَتْ فِي نَاسٍ كَانُوا لاَ يَطُوفُونَ بَيْنَهُمَا; فَلَمَّا كَانَ الإِسْلاَمُ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: لَوْ لَمْ تَكُنْ إلاَّ هَذِهِ الآيَةُ لَكَانَتْ غَيْرَ فَرْضٍ لَكِنَّ الْحُجَّةَ فِي فَرْضِ ذَلِكَ

(7/97)


مَا حدثناهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا شُعْبَةُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُنِيخٌ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ لِي: أَحَجَجْتَ فَقُلْتُ: نَعَمْ فَقَالَ: بِمَ أَهْلَلْتَ قَالَ قُلْتُ: لَبَّيْتُ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فَقَدْ أَحْسَنْتَ طُفْ بِالْبَيْتِ, وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَحِلَّ".
قَالَ عَلِيٌّ: بِهَذَا صَارَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْعُمْرَةِ فَرْضًا.
وَأَمَّا الرَّمَلُ بَيْنَهُمَا: فَنا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا مَحْمُودُ بْنُ غِيلاَنَ الْمَرْوَزِيِّ، نا بِشْرُ بْنُ السَّرِيِّ، نا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ جُمْهَانَ قَالَ: رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَّا وَالْمَرْوَةِ فَقَالَ: إنْ أَمْشِ فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي, وَإِنْ أَسْعَ فَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى.
قَالَ عَلِيٌّ: وَالْخَبَرُ الَّذِي فِيهِ "اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ" فَإِنَّمَا رَوَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ، عَنْ امْرَأَةٍ لَمْ تُسَمَّ; وَقَدْ قِيلَ: هِيَ بِنْتُ أَبِي تَجْرَاةَ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ, وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِوُجُوبِهِ, وَمَنْ عَجَزَ، عَنِ الْخَبَبِ الْمَذْكُورِ مَشَى، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}.

(7/98)


831 - مَسْأَلَةٌ: وَلاَ يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ أَوْ بِالْحَجِّ تَصَيُّدُ شَيْءٍ مِمَّا يُصَادُ لِيُؤْكَلَ, وَلاَ وَطْءٌ كَانَ لَهُ حَلاَلاً قَبْلَ إحْرَامِهِ, وَلاَ لِبَاسُ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى، عَنْ لِبَاسِ الْمُحْرِمِ, قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وَهَذَا أَيْضًا لاَ خِلاَفَ فِيهِ.

(7/98)


832 - مَسْأَلَةٌ: وَمَنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ وَهُوَ بِمَكَّةَ إمَّا مِنْ أَهْلِهَا, أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ لِلإِحْرَامِ بِهَا إلَى الْحِلِّ، وَلاَ بُدَّ فَيَخْرُجَ إلَى أَيِّ الْحِلِّ شَاءَ, وَيُهِلُّ بِهَا فَلاَِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ إلَى التَّنْعِيمِ لِيَعْتَمِرَ مِنْهُ وَاعْتَمَرَ عليه السلام مِنْ الْجِعْرَانَةِ فَوَجَبَ ذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ خَاصَّةً وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ أَنَا أَبُو عَاصِمٍ، نا عُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ، نا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ

(7/98)


833 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ إذَا جَاءَ إلَى الْمِيقَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ هَدْيٌ, أَوْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ, وَالْهَدْيُ إمَّا مِنْ الإِبِلِ, أَوْ الْبَقَرِ, أَوْ الْغَنَمِ, فَإِنْ كَانَ لاَ هَدْيَ مَعَهُ وَهَذَا هُوَ الأَفْضَلُ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَلاَ بُدَّ لاَ يَجُوزُ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ; فَإِنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ; أَوْ بِقِرَانِ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ أَنْ يَفْسَخَ إهْلاَلَهُ ذَلِكَ بِعُمْرَةٍ يَحِلُّ إذَا أَتَمَّهَا, لاَ يُجْزِئُهُ غَيْرُ ذَلِكَ; ثُمَّ إذَا أَحَلَّ مِنْهَا ابْتَدَأَ الإِهْلاَلَ بِالْحَجِّ مُفْرَدًا مِنْ مَكَّةَ وَهَذَا يُسَمَّى: مُتَمَتِّعًا. وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ سَاقَهُ مَعَ نَفْسِهِ فَنَسْتَحِبُّ لَهُ أَنْ يُشْعِرَ هَدْيَهُ إنْ كَانَ مِنْ الإِبِلِ, وَهُوَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِحَدِيدَةٍ فِي الْجَانِبِ الأَيْمَنِ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى يُدْمِيَهُ ثُمَّ يُقَلِّدَهُ, وَهُوَ أَنْ يَرْبِطَ نَعْلاً فِي حَبْلٍ وَيُعَلِّقُهَا فِي عُنُقِ الْهَدْيِ وَإِنْ جَلَّلَهُ بِجَلٍّ فَحَسَنٌ, فَإِنْ كَانَ الْهَدْيُ مِنْ الْغَنَمِ فَلاَ إشْعَارَ فِيهِ لَكِنْ يُقَلِّدُهُ رُقْعَةَ جِلْدٍ فِي عُنُقِهِ; فَإِنْ كَانَ مِنْ الْبَقَرِ فَلاَ إشْعَارَ فِيهِ، وَلاَ تَقْلِيدَ كَانَتْ لَهُ أَسْنِمَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ. ثُمَّ يَقُولُ: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ مَعًا, لاَ يُجْزِئُهُ إلاَّ ذَلِكَ، وَلاَ بُدَّ; وَإِنْ قَالَ: لَبَّيْكَ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ; أَوْ لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجًّا, أَوْ حَجَّةً وَعُمْرَةً; أَوْ نَوَى كُلَّ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ, وَلَمْ يَنْطِقْ بِهِ فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ; وَهَذَا يُسَمَّى: الْقِرَانَ.
وَمَنْ سَاقَ مِنْ الْمُعْتَمِرِينَ الْهَدْيَ فَعَلَ فِيهِ مِنْ الإِشْعَارِ, وَالتَّقْلِيدِ مَا ذَكَرْنَا; وَنُحِبُّ لَهُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا أَنْ يَشْتَرِطَ فَيَقُولَ عِنْدَ إهْلاَلِهِ: "اللَّهُمَّ إنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي", فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فَأَصَابَهُ أَمْرٌ مَا يَعُوقُهُ، عَنْ تَمَامِ مَا خَرَجَ لَهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَحَلَّ، وَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; لاَ هَدْيَ، وَلاَ قَضَاءَ إلاَّ إنْ كَانَ لَمْ يَحُجَّ قَطُّ، وَلاَ اعْتَمَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ وَعُمْرَتَهُ.
بُرْهَانُ مَا ذَكَرْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، نا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ, أَوْ عُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ, وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيُهِلَّ, وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهِلَّ" , قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحَجٍّ, وَأَهَلَّ بِهِ نَاسٌ مَعَهُ وَأَهَلَّ نَاسٌ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ; وَأَهَلَّ نَاسٌ بِعُمْرَةٍ وَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ.
قال أبو محمد: فَهَذَا أَوَّلُ أَمْرِهِ عليه السلام بِذِي الْحُلَيْفَةِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ إحْرَامِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ الإِهْلاَلَ بِلاَ شَكٍّ, إذْ هُوَ نَصُّ الْحَدِيثِ.
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا

(7/99)


أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا أَبُو نُعَيْمٍ هُوَ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، نا مُوسَى بْنُ نَافِعٍ قَالَ: قَدِمْت مَكَّة مُتَمَتِّعًا بِعُمْرَةٍ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِأَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَقَالَ النَّاسُ: تَصِيرُ حَجَّتُك الآنَ مَكِّيَّةً فَدَخَلْت عَلَى عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ, وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ فَطُوفُوا بِالْبَيْتِ, وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, وَقَصِّرُوا وَأَقِيمُوا حَلاَلاً حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّذِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً".
وَبِهِ إلَى مُسْلِمٍ، نا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ، عَنْ حَاتِمِ بْنِ إسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "حَتَّى إذَا كَانَ آخِرَ طَوَافٍ عَلَى الْمَرْوَةِ", قَالَ عليه السلام: "لَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقْ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً" فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلأَبَدِ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً فِي الآُخْرَى وَقَالَ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ مَرَّتَيْنِ, لاَ بَلْ لاَِبَدٍ أَبَدٍ".
نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، نا أَيُّوبُ هُوَ السِّخْتِيَانِيُّ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ: "الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ" ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى الصُّبْحِ ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا, فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا حَتَّى إذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ.
نا حمام بْنُ أَحْمَدَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاجِيَّ، نا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، نا عُبَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَشْوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْحُذَافِيُّ، نا عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا مَالِكٌ, وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ, ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، وَلاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا".
قال أبو محمد: فَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّابِتَةِ بُرْهَانُ كُلِّ مَا قلنا وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ: فَفِي الأَوَّلِ الَّذِي مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ،

(7/100)


وَلاَ هَدْيَ مَعَهُ بِأَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَلاَ بُدَّ, ثُمَّ يُهِلَّ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَيَصِيرُ مُتَمَتِّعًا". وَفِي الْحَدِيثِ الثَّالِثِ الَّذِي مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ قَارِنًا، وَلاَ هَدْيَ مَعَهُ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَلاَ بُدَّ; ثُمَّ يُهِلَّ بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَيَصِيرُ أَيْضًا مُتَمَتِّعًا. وَفِي الْحَدِيثِ الثَّانِي الَّذِي مِنْ طَرِيقِ جَابِرٍ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم كُلُّ مَنْ لاَ هَدْيَ مَعَهُ عُمُومًا بِأَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ, وَأَنَّ هَذَا هُوَ آخِرُ أَمْرِهِ عَلَى الصَّفَا بِمَكَّةَ; وَأَنَّهُ عليه السلام أَخْبَرَ بِأَنَّ التَّمَتُّعَ أَفْضَلُ مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ مَعَهُ, وَتَأَسَّفَ إذْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ هُوَ, وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ هُوَ بَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَقَدْ أَمِنَّا أَنْ يُنْسَخَ أَبَدًا; وَمَنْ أَجَازَ نَسْخَ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ فَقَدْ أَجَازَ الْكَذِبَ عَلَى خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا تَعَمُّدُهُ كُفْرٌ مُجَرَّدٌ; وَفِيهِ أَنَّ الْعُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ وَهَذَا هُوَ قَوْلُنَا لإِنَّ الْحَجَّ لاَ يَجُوزُ إلاَّ بِعُمْرَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ لَهُ يَكُونُ بِهَا مُتَمَتِّعًا أَوْ بِعُمْرَةٍ مَقْرُونَةٍ مَعَهُ، وَلاَ مَزِيدَ. وَفِي الْحَدِيثِ الرَّابِعِ الَّذِي مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم مَنْ مَعَهُ هَدْيٌ أَنْ يَقْرُنَ بَيْنَ الْحَجِّ, وَالْعُمْرَةِ:.وَبِهِ يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ, وَمُجَاهِدٌ, وَعَطَاءٌ, وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ, وَغَيْرُهُ.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا أَبُو إسْمَاعِيلَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، نا عَنْبَسَةُ حَدَّثَنِي يُونُسُ، هُوَ ابْنُ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ كُرَيْبٍ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا طَافَ رَجُلٌ بِالْبَيْتِ إنْ كَانَ حَاجًّا إلاَّ حَلَّ بِعُمْرَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ, وَلاَ طَافَ وَمَعَهُ هَدْيٌ إلاَّ اجْتَمَعَتْ لَهُ: حَجَّةٌ, وَعُمْرَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ، نا إِسْحَاقُ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَاجٌّ، وَلاَ غَيْرُ حَاجٍّ إلاَّ حَلَّ. فَقُلْت لِعَطَاءٍ: مِنْ أَيْنَ تَقُولُ ذَلِكَ قَالَ: مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قُلْت: فَإِنَّ ذَلِكَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: هُوَ بَعْدَ الْمُعَرَّفِ وَقَبْلَهُ. وَكَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ, وَمُجَاهِدٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَأْمُرُ الْقَارِنَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً إذَا لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْ طَرِيقِ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاَللَّهِ مَا تَمَّتْ حَجَّةُ رَجُلٍ قَطُّ إلاَّ بِمُتْعَةٍ إلاَّ رَجُلٌ اعْتَمَرَ فِي وَسَطِ السَّنَةِ.
نا عبد الله بن ربيع، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ مَهْدِيٍّ، نا سُفْيَانُ هُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى

(7/101)


الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: "بِمَ أَهْلَلْتَ" قُلْتُ: أَهْلَلْتُ بِإِهْلاَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "هَلْ سُقْتَ مِنْ هَدْيٍ" قُلْتُ: لاَ, قَالَ: "طُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حِلَّ, فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي وَغَسَلَتْ رَأْسِي فَكُنْتُ أُفْتِي النَّاسَ بِذَلِكَ فِي إمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ, وَإِمَارَةِ عُمَرَ; فَإِنِّي لَقَائِمٌ بِالْمَوْسِمِ إذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: إنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ قُلْتُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ كُنَّا أَفْتَيْنَاهُ بِشَيْءٍ فَلْيَتَّئِدْ فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ فَأَتَمُّوا بِهِ, فَلَمَّا قَدِمَ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا هَذَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ قَالَ: إنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ.
قال أبو محمد: هَذَا أَبُو مُوسَى قَدْ أَفْتَى بِمَا قلنا مُدَّةَ إمَارَةِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ إمَارَةِ عُمَرَ رضي الله عنهما, وَلَيْسَ تَوَقُّفُهُ لِمَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَوَقَّفَ لَهُ حُجَّةٌ عَلَى مَا رُوِيَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَحَسْبُنَا قَوْلُهُ لِعُمَرَ مَا الَّذِي أَحْدَثْتَ فِي شَأْنِ النُّسُكِ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عُمَرُ. وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رضي الله عنه فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَلاَ إتْمَامَ لَهُمَا إلاَّ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ وَهُوَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ, وَأُمِرَ بِبَيَانِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ عليه السلام لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ فَإِنَّ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ابْنَتَهُ حَفْصَةُ، رضي الله عنها، رَوَتْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَيَانَ فِعْلِهِ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحِلَّ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ: إنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْت هَدْيِي فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَلِيٌّ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ الأَشْعَرِيُّ، نا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، نا حَجَّاجٌ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرِ، نا يُونُسُ يَعْنِي أَبَا إِسْحَاقَ السَّبِيعِيَّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْبَرَاءِ، هُوَ ابْنُ عَازِبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: "إنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ, لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَفَعَلْتُ كَمَا فَعَلْتُمْ, وَلَكِنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ وَقَرَنْتُ". فَهَذَا أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ مِنْ رَأْيٍ رَآهُ عُمَرُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ رُجُوعُهُ عَنْهُ; وَقَدْ خَالَفُوهُ فِيهِ أَيْضًا كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ فِي

(7/102)


كِتَابِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلْيَسُقْ هَدْيَهُ مَعَهُ.
نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا مَنْصُورٌ، هُوَ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ قَالَ: حَجَّ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَحَجَجْت مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ جَاءَ رَجُلٌ إلَى الْحَسَنِ فَقَالَ: يَا أَبَا سَعِيدٍ إنِّي رَجُلٌ بَعِيدُ الشُّقَّةِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَإِنِّي قَدِمْت مُهِلًّا بِالْحَجِّ فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ: اجْعَلْهَا عُمْرَةً وَأَحِلَّ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ النَّاسُ عَلَى الْحَسَنِ وَشَاعَ قَوْلُهُ بِمَكَّةَ فَأَتَى عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: صَدَقَ الشَّيْخُ, وَلَكِنَّا نَفْرُقُ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِذَلِكَ.
قال أبو محمد: لَيْسَ إنْكَارُ أَهْلِ الْجَهْلِ حُجَّةً عَلَى سُنَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَنْ أَهَلَّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مِمَّنْ لَهُ مُتْعَةٌ بِالْحَجِّ خَالِصًا أَوْ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَهِيَ مُتْعَةُ سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَبِهِ إلَى عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَأَلَ، عَنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ فَقَالَ: هُوَ الرَّجُلُ يُفْرِدُ الْحَجَّ وَيَذْبَحُ فَقَدْ دَخَلَتْ لَهُ عُمْرَةٌ فِي الْحَجِّ فَوَجَبَتَا لَهُ جَمِيعًا. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: مَنْ جَاءَ حَاجًّا فَأَهْدَى هَدْيًا فَلَهُ عُمْرَةٌ مَعَ حَجَّةٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ، نا خُصَيْفٌ، عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَأْمُرُ الْقَارِنَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً إذَا لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ قَالَ خُصَيْفٌ: وَكُنْت مَعَ مُجَاهِدٍ فَأَتَاهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُلَيْمٍ وَقَدْ خَرَجَ حَاجًّا فَسَأَلَ مُجَاهِدًا فَقَالَ لَهُ مُجَاهِدٌ: اجْعَلْهَا عُمْرَةً, فَقَالَ: هَذَا أَوَّلُ مَا حَجَجْت فَلاَ تُشَايِعُنِي نَفْسِي فَأَيُّ ذَلِكَ تَرَى أَتَمَّ أَنْ أَمْكُثَ كَمَا أَنَا أَوْ أَجْعَلَهَا عُمْرَةً قَالَ خُصَيْفٌ: فَقُلْت لَهُ: أَظُنُّ هَذَا أَتَمَّ لِحَجِّك أَنْ تَمْكُثَ كَمَا أَنْتَ فَرَفَعَ مُجَاهِدٌ تَبِنَةً مِنْ الأَرْضِ وَقَالَ: مَا هُوَ بِأَتَمَّ مِنْ هَذَا, وَهُوَ قَوْلُ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِإِبَاحَةِ فَسْخِ الْحَجِّ لاَ بِإِيجَابِهِ وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَمَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ.
قَالَ عَلِيٌّ: رَوَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ لاَ هَدْيَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُ بِعُمْرَةٍ وَيَحِلَّ بِأَوْكَدِ أَمْرٍ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ, وَعَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ, وَحَفْصَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ, وَفَاطِمَةُ بِنْت رَسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم, وَعَلِيٌّ, وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ, وَأَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ, وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, وَأَنَسٌ، وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَابْنُ عُمَرَ, وَسَبْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ, وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ, وَسُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ, وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم،; وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ نَيِّفٌ وَعِشْرُونَ مِنْ التَّابِعِينَ; وَرَوَاهُ، عَنْ هَؤُلاَءِ مَنْ لاَ يُحْصِيهِ إلاَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, فَلَمْ يَسَعْ أَحَدًا الْخُرُوجُ، عَنْ هَذَا.

(7/103)


وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ كُلَّ هَذَا بِاعْتِرَاضَاتٍ لاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا; مِنْهَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوا خَبَرًا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ, وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ; وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ, فأما مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَّ, وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ.
وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عُرْوَةَ, وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ، عَنْ رَجُلٍ ذَكَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَحَلَّ". فَقَالَ عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ فِي حَدِيثٍ: قَالَتْ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ, ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ, ثُمَّ عُمَرُ مِثْلُ ذَلِكَ, ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْته أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ, ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ, ثُمَّ مُعَاوِيَةُ, وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ, ثُمَّ حَجَجْت مَعَ الزُّبَيْرِ أَبِي فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ, ثُمَّ رَأَيْت الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ, ثُمَّ لَمْ يَكُنْ غَيْرُهُ، وَلاَ أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَيْءٍ حِينَ يَضَعُونَ أَقْدَامَهُمْ أَوَّلَ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّونَ, وَقَدْ رَأَيْت أُمِّي, وَخَالَتِي تَقْدُمَانِ لاَ تَبْدَآنِ بِشَيْءٍ أَوَّلَ مِنْ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لاَ تَحِلاَّنِ, وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَقْبَلَتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ بِعُمْرَةٍ قَطُّ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا, وَقَدْ كَذَبَ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ".
وَبِخَبَرٍ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ بَشِيرٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَجِّ ثُمَّ ذَكَرْت أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرَدٍ, أَوْ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ فَلَمْ يَحْلِلْ حَتَّى قَضَى مَنَاسِكَ الْحَجِّ, وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ حَجًّا".
قال أبو محمد: حَدِيثُ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ, وَحَدِيثُ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ عَنْهَا مُنْكَرَانِ, وَخَطَأٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ السَّقَطِيُّ، نا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الْخُتَّلِيُّ، نا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْجَوْهَرِيُّ السُّدَّانِيُّ، نا

(7/104)


أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَثْرَمُ، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الَّذِي ذَكَرْنَا آنِفًا فَقَالَ أَحْمَدُ: إيشِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْعَجَبِ هَذَا خَطَأٌ, قَالَ الأَثْرَمُ: فَقُلْت لَهُ: الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ بِخِلاَفِهِ قَالَ أَحْمَدُ: نَعَمْ, وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ.
قال أبو محمد: وَلاَِبِي الأَسْوَدِ الْمَذْكُورِ حَدِيثٌ آخَرُ فِي هَذَا الْبَابِ لاَ خَفَاءَ بِفَسَادِهِ, وَهُوَ خَبَرٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، نا ابْنُ وَهْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ تَقُولُ كُلَّمَا مَرَّتْ بِالْحَجُونِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ لَقَدْ نَزَلْنَا مَعَهُ هَاهُنَا, وَنَحْنُ يَوْمئِذٍ خِفَافٌ قَلِيلٌ ظَهْرُنَا قَلِيلَةٌ أَزْوَادُنَا فَاعْتَمَرْت أَنَا وَأُخْتِي عَائِشَةُ, وَالزُّبَيْرُ, وَفُلاَنٌ, وَفُلاَنٌ; فَلَمَّا مَسَحْنَا الْبَيْتَ أَحْلَلْنَا ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنْ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ.
قال علي: وهذا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ مِنْ أَحَدٍ; لإِنَّ عَائِشَةَ، رضي الله عنها، لَمْ تَعْتَمِرْ فِي عَامِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَبْلَ الْحَجِّ أَصْلاً; لاَِنَّهَا دَخَلَتْ وَهِيَ حَائِضٌ حَاضَتْ بِسَرَفٍ وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ إلاَّ بَعْدَ أَنْ طَهُرَتْ يَوْمَ النَّحْرِ هَذَا أَمْرٌ فِي شُهْرَةِ الشَّمْسِ; وَلِذَلِكَ رَغِبَتْ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَعْمُرَهَا بَعْدَ الْحَجِّ فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كُلِّهَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ, وَرَوَاهُ، عَنْ عَائِشَةَ: عُرْوَةُ, وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ, وَالأَسْوَدُ بْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ.
وَبَلِيَّةٌ أُخْرَى فِي هَذَا الْخَبَرِ وَهِيَ قَوْلُهُ فِيهِ: ثُمَّ أَهْلَلْنَا مِنْ الْعَشِيِّ بِالْحَجِّ, وَهَذَا بَاطِلٌ بِلاَ خِلاَفٍ, لإِنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ; وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ, وَابْنَ عَبَّاسٍ, كُلَّهُمْ رَوَوْا: أَنَّ الإِحْلاَلَ كَانَ يَوْمَ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ إهْلاَلَهُمْ بِالْحَجِّ كَانَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَهُوَ يَوْمُ مِنًى وَبَيْنَ يَوْمِ إحْلاَلِهِمْ يَوْمَ إهْلاَلِهِمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بِلاَ شَكٍّ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ, وَالأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كُتُبِنَا وَذَكَرَهَا النَّاسُ وَكُلُّ مَنْ جَمَعَ فِي الْمُسْنَدِ; فَظَهَرَ عَوَارُ رِوَايَةِ أَبِي الأَسْوَدِ. وَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لاَ هَدْيَ لَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ وَأَنَّهُمْ فَسَخُوهُ, وَلاَ يُعْدَلُ أَبُو الأَسْوَدِ بِالزُّهْرِيِّ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، نا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فِي صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ

(7/105)


مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيُقَصِّرُ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ"; قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ: إنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَ بِهِ سَالِمٌ، عَنْ أَبِيهِ. وَرَوَاهُ أَيْضًا، عَنْ عَائِشَةَ مَنْ لاَ يُذْكَرُ مَعَهُ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ حَاطِبٍ وَهُمْ: الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ; وَالأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ, وَذَكْوَانُ مَوْلاَهَا وَكَانَ يَؤُمُّهَا, وَعَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ, وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ أَخَصُّ بِعَائِشَةَ وَأَعْلَمُ وَأَضْبَطُ وَأَوْثَقُ مِنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْغَيْلاَنِيُّ، نا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَرَ الْعَقَدِيُّ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: وَفِيهِ فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَِصْحَابِهِ: "اجْعَلُوهَا عُمْرَةً" فَأَحَلَّ النَّاسُ إلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ, فَكَانَ الْهَدْيُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَذَوِي الْيَسَارَةِ ثُمَّ أَهَلُّوا حِينَ رَاحُوا.
وَيَكْفِي مِنْ كُلِّ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ الثَّلاَثَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الأَسْوَدِ, وَيَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ إنَّمَا هِيَ مَوْقُوفَةٌ لاَ مُسْنَدَةٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مَوْقُوفٍ فَكَيْفَ إذَا رَوَى بِضْعَةٌ وَعِشْرُونَ مِنْ التَّابِعِينَ، عَنْ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلاَفَ ذَلِكَ.
وَأَسْلَمُ الْوُجُوهِ لِحَدِيثَيْ أَبِي الأَسْوَدِ, وَحَدِيثِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهَا: إنَّ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِحَجٍّ, أَوْ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ لَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ إنَّمَا كَانُوا مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا أَوْ أَضَافَ الْعُمْرَةَ إلَى الْحَجِّ كَمَا رَوَى مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَتَخْرُجُ حِينَئِذٍ هَذِهِ الأَخْبَارُ سَالِمَةً لإِنَّ مَا رَوَتْهُ الْجَمَاعَةُ عَنْهَا فِيهِ زِيَادَةٌ لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو الأَسْوَدِ, وَلاَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ لَوْ كَانَ مَا رَوَيَا مُسْنَدًا فَكَيْفَ وَلَيْسَ مُسْنَدًا وَنَحْمِلُ حَدِيثَ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ فِي حَجِّ أَبِي بَكْرٍ, وَعُمَرَ, وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسُوقُونَ الْهَدْيَ فَتَتَّفِقُ الأَخْبَارُ. وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِنَهْيِ عُمَرَ, وَعُثْمَانَ، عَنْ ذَلِكَ.

(7/106)


قال أبو محمد: هَذَا عَلَيْهِمْ لاَ لَهُمْ لاَِنَّهُ إنْ كَانَ نَهْيُهُمَا رضي الله عنهما حُجَّةً فَقَدْ صَحَّ عَنْهُمَا النَّهْيُ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ, وَهُمْ يُخَالِفُونَهُمَا فِي ذَلِكَ.
نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ الطَّلْمَنْكِيُّ، نا ابْنُ مُفَرِّجٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ فِرَاسٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ, وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ هُشَيْمٌ: أَنَا خَالِدُ هُوَ الْحَذَّاءُ وَقَالَ حَمَّادٌ: عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ ثُمَّ اتَّفَقَ أَيُّوبُ, وَخَالِدٌ كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أُنْهِي عَنْهُمَا وَأَضْرِبُ عَلَيْهِمَا; هَذَا لَفْظُ أَيُّوبَ; وَفِي رِوَايَةِ خَالِدٍ: أَنَا أُنْهِي عَنْهُمَا, وَأُعَاقِبُ عَلَيْهِمَا: مُتْعَةُ النِّسَاء, وَمُتْعَةُ الْحَجِّ.
وَبِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ: أَنَّ عُثْمَانَ نَهَى، عَنِ الْمُتْعَةِ يَعْنِي مُتْعَةَ الْحَجِّ وَبِهِ إلَى سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ نَبِيهٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سَمِعَ رَجُلاً يُهِلُّ بِعُمْرَةٍ وَحَجٍّ فَقَالَ: عَلَيَّ بِالْمُهِلِّ; فَضَرَبَهُ وَحَلَقَهُ.
قال أبو محمد: وَهُمْ يُخَالِفُونَهُمَا وَيُجِيزُونَ الْمُتْعَةَ حَتَّى أَنَّهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيِّ أَفْضَلُ مِنْ الإِفْرَادِ, فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ نَهْيَ عُمَرَ, وَعُثْمَانَ رضي الله عنهما، عَنْ فَسْخِ الْحَجِّ حُجَّةً وَلَمْ يَجْعَلْ نَهْيَهُمَا، عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَضَرْبَهُمَا عَلَيْهَا حُجَّةً إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ فَإِنْ قَالُوا: قَدْ أَبَاحَهَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَغَيْرُهُ قلنا: وَقَدْ أَوْجَبَ فَسْخَ الْحَجِّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ، وَلاَ فَرْقَ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْبَزَّارِ، نا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السِّجِسْتَانِيُّ، نا الْفِرْيَابِيُّ، نا أَبَانُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ حَفْصٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَلَّ لَنَا الْمُتْعَةَ ثُمَّ حَرَّمَهَا عَلَيْنَا. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي ذَرٍّ كَانَتْ الْمُتْعَةُ فِي الْحَجِّ رُخْصَةً لَنَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ عُثْمَانَ: كَانَتْ مُتْعَةُ الْحَجِّ لَنَا لَيْسَتْ لَكُمْ.
قال أبو محمد: هَذَا كُلُّهُ خَالَفَهُ الْحَنَفِيُّونَ, وَالْمَالِكِيُّونَ, وَالشَّافِعِيُّونَ, لأَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى إبَاحَةِ مُتْعَةِ الْحَجِّ وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي مُتْعَةِ النِّسَاءِ بِلاَ شَكٍّ, لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْهُ الرُّجُوعُ إلَى الْقَوْلِ بِهَا فِي الْحَجِّ; وَهَؤُلاَءِ مُخَالِفُونَ لِهَذَا الْخَبَرِ إنْ كَانَ مَحْمُولاً عِنْدَهُمْ عَلَى مُتْعَةِ الْحَجِّ. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَوْ اعْتَمَرْت فِي سَنَةٍ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ حَجَجْت لَجَعَلْت مَعَ حَجَّتِي عُمْرَةً. وَرُوِّينَاهُ

(7/107)


أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ بِمِثْلِهِ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طُرُقٍ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمُرَقَّعِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ فَسْخُ الْحَجِّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَنَا خَاصَّةً. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ سُلَيْمَانَ أَوْ سُلَيْمِ بْنِ الأَسْوَدِ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ قَالَ فِيمَنْ حَجَّ ثُمَّ فَسَخَهَا عُمْرَةً: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلاَّ لِلرَّكْبِ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم; وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لاَِحَدٍ بَعْدَنَا أَنْ يَجْعَلَ حَجَّتَهُ عُمْرَةً إنَّمَا كَانَتْ لَنَا رُخْصَةً أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قال أبو محمد: إنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَبِي ذَرٍّ إنَّ مُتْعَةَ الْحَجِّ خَاصَّةً لَهُمْ حُجَّةٌ فَلَيْسَ قَوْلُهُ: إنَّ فَسْخَ الْحَجِّ خَاصَّةً لَهُمْ حُجَّةٌ; لاَ سِيَّمَا وَذَلِكَ الإِسْنَادُ عَنْهُ صَحِيحٌ; لاَِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ; وَهَذِهِ الأَسَانِيدُ عَنْهُ وَاهِيَةٌ; لاَِنَّهَا، عَنِ الْمُرَقَّعِ, وَسُلَيْمَانَ أَوْ سُلَيْمٍ, وَهُمَا مَجْهُولاَنِ. وَعَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ فَكَيْفَ وَقَدْ خَالَفَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ, وَأَبُو مُوسَى فَلَمْ يَرَيَا ذَلِكَ خَاصَّةً، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي سُنَّةٍ ثَابِتَةٍ أَنَّهَا خَاصَّةٌ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ إلاَّ بِنَصِّ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ; لإِنَّ أَوَامِرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى لُزُومِ الإِنْسِ, وَالْجِنِّ, الطَّاعَةُ لَهَا وَالْعَمَلُ بِهَا.
فإن قيل: هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ قلنا: فَيَجِبُ عَلَى هَذَا مَتَى وُجِدَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ يَقُولُ فِي آيَةٍ أَنَّهَا مَخْصُوصَةٌ أَوْ مَنْسُوخَةٌ أَنْ يُقَالَ بِقَوْلِهِ; وَأَقَرَّ بِذَلِكَ قَوْلَهُمْ فِي الْمُتْعَةِ: إنَّهَا خَاصَّةٌ, وَقَدْ خَالَفُوا ذَلِكَ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ رَبِيعَةَ الرَّأْيِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلاَلِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِيهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَسْخُ الْحَجِّ لَنَا خَاصَّةً أَوْ لِمَنْ بَعْدَنَا قَالَ: "لَكُمْ خَاصَّةً".
قال أبو محمد الْحَارِثُ بْنُ بِلاَلٍ مَجْهُولٌ وَلَمْ يُخَرِّجْ أَحَدٌ هَذَا الْخَبَرَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ; وَقَدْ صَحَّ خِلاَفُهُ بِيَقِينٍ; كَمَا أَوْرَدْنَا مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم إذْ أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لاَِبَدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ لاَِبَدِ الأَبَدِ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ، نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ, وَعَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالاَ جَمِيعًا: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ يُهِلُّونَ بِالْحَجِّ لاَ يَخْلِطُهُ شَيْءٌ; فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً, وَأَنْ نَحِلَّ إلَى نِسَائِنَا فَفَشَتْ فِي ذَلِكَ الْقَالَةُ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "بَلَغَنِي أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا وَاَللَّهِ لاََنَا أَبَرُّ وَأَتْقَى لِلَّهِ مِنْهُمْ, وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ

(7/108)


مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ, وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لاََحْلَلْتُ فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ "هِيَ لَنَا أَوْ لِلأَبَدِ قَالَ: لاَ بَلْ لِلأَبَدِ".
قال أبو محمد: وَهَكَذَا رَوَاهُ مُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ جَابِرٍ.
قال أبو محمد: فَبَطَلَ التَّخْصِيصُ وَالنَّسْخُ وَأُمِنَ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا, وَوَاللَّهِ إنَّ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْخَبَرَ ثُمَّ عَارَضَ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَلاَمِ أَحَدٍ وَلَوْ أَنَّهُ كَلاَمُ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةَ, وَعَائِشَةَ, وَأَبَوَيْهِمَا، رضي الله عنهم، لَهَالِكٌ; فَكَيْفَ بِأُكْذُوبَاتٍ كَنَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ الَّذِي هُوَ أَوْهَنُ الْبُيُوتِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ بِلاَلٍ, وَالْمُرَقَّعِ, وَسُلَيْمَانَ أَوْ سُلَيْمٍ الَّذِينَ لاَ يُدْرَى مَنْ هُمْ فِي الْخَلْقِ, وَمُوسَى الرَّبَذِيِّ, وَكَفَاك وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, وَلَيْسَ لاَِحَدٍ أَنْ يَقْتَصِرَ بِقَوْلِهِ عليه السلام: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ جَوَازَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ دُونَ مَا بَيَّنَهُ جَابِرٌ, وَابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ إنْكَارِهِ عليه السلام أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ لَهُمْ خَاصَّةً أَوْ لِعَامِهِمْ دُونَ ذَلِكَ, وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا.
قال أبو محمد: وَأَتَى بَعْضُهُمْ بِطَامَّةٍ, وَهِيَ أَنَّهُ ذَكَرَ الْخَبَرَ الثَّابِتَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْحِلِّ قَالَ: "الْحِلُّ كُلُّهُ" فَقَالَ قَائِلُهُمْ: إنَّمَا أَمَرَهُمْ عليه السلام بِذَلِكَ لِيُوقِفَهُمْ عَلَى جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَوْلاً وَعَمَلاً.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ عَظِيمَةٌ; أَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَذِبٌ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ لِيُعَلِّمَهُمْ جَوَازَ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: هَبْكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَبِحَقِّ أَمْرٍ أَمْ بِبَاطِلٍ فَإِنْ قَالُوا: بِبَاطِلٍ كَفَرُوا, وَإِنْ قَالُوا: بِحَقٍّ قلنا: فَلْيَكُنْ أَمْرُهُ عليه السلام بِذَلِكَ لاَِيِّ وَجْهٍ كَانَ قَدْ صَارَ حَقًّا وَاجِبًا, ثُمَّ لَوْ كَانَ هَذَا الْهَوَسُ الَّذِي قَالُوهُ فَلاَِيِّ مَعْنًى كَانَ يَخُصُّ بِذَلِكَ مَنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ دُونَ مَنْ سَاقَ.
وَأَطَمُّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ هَذَا الْجَاهِلَ الْقَائِلَ بِذَلِكَ قَدْ عَلِمَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ بِهِمْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ قَبْلَ الْفَتْحِ, ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامَ الْفَتْحِ, ثُمَّ قَالَ لَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي ذِي الْحُلَيْفَةِ: مَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ, وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ, وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ فَلْيَفْعَلْ; فَفَعَلُوا كُلَّ ذَلِكَ, فَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْمُسْلِمِينَ أَبَلَغَ الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم، مِنْ الْبَلاَدَةِ, وَالْبَلَهِ, وَالْجَهْلِ أَنْ لاَ يَعْرِفُوا مَعَ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْعُمْرَةَ جَائِزَةٌ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَقَدْ عَمِلُوهَا مَعَهُ عليه السلام عَامًا بَعْدَ عَامٍ بَعْدَ عَامٍ [فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ]

(7/109)


حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَفْسَخَ حَجَّهُمْ فِي عُمْرَةٍ لِيَعْلَمُوا جَوَازَ ذَلِكَ, تَاللَّهِ إنَّ الْحَمِيرَ لِتُمَيِّزَ الطَّرِيقَ مِنْ أَقَلَّ مِنْ هَذَا; فَكَمْ هَذَا الإِقْدَامُ وَالْجُرْأَةُ عَلَى مُدَافَعَةِ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ فِي نَصْرِ التَّقْلِيدِ مَرَّةً بِالْكَذِبِ الْمَفْضُوحِ, وَمَرَّةً بِالْحَمَاقَةِ الْمَشْهُورَةِ, وَمَرَّةً بِالْغَثَاثَةِ وَالْبَرْدِ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى السَّلاَمَةِ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي جَوَازِ الإِفْرَادِ بِالْحَجِّ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُهِلَّنَ ابْنُ مَرْيَمَ بِفَجِّ الرَّوْحَاءِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ لَيَثْنِيَنَّهُمَا".
قال أبو محمد: كُلُّ مُسْلِمٍ فَلاَ يَشُكُّ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْلَمْ هَذَا إلاَّ بِوَحْيٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ لاَ يُمْكِنُ غَيْرُ هَذَا أَصْلاً;، وَلاَ شَكَّ فِي أَنَّ وَحْيَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُتْرَكُ بِشَكٍّ لاَِنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَشُكُّ.فَصَحَّ أَنَّ هَذَا الشَّكَّ مِنْ قِبَلِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ مِمَّنْ دُونَهُ لاَ مِنْ قِبَلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, ثُمَّ لَوْ صَحَّ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِهِ عليه السلام لَكَانَ ذَلِكَ إذْ كَانَ الإِفْرَادُ مُبَاحًا, ثُمَّ نُسِخَ بِأَمْرِهِ عليه السلام مَنْ لاَ هَدْيَ مَعَهُ بِالْمُتْعَةِ، وَلاَ بُدَّ, وَمَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِالْقِرَانِ، وَلاَ بُدَّ.
قَالَ عَلِيٌّ: فَظَهَرَ الْحَقُّ وَاضِحًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ, وقال مالك: الإِفْرَادُ أَفْضَلُ, وَوَافَقَنَا هُوَ وَالشَّافِعِيُّ فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا, وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَلِمَنْ لَمْ يَسُقْهُ. وقال الشافعي مَرَّةً: الإِفْرَادُ أَفْضَلُ, وَمَرَّةً قَالَ: التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ, وَمَرَّةً قَالَ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ; وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدَهُ جَائِزٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: الْقِرَانُ أَفْضَلُ ثُمَّ التَّمَتُّعُ ثُمَّ الإِفْرَادُ, وَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُ لِمَنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَلِمَنْ لَمْ يَسُقْهُ إلاَّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا الإِشْعَارُ: فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَبِيعٍ، نا قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، نا أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ أَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ الْفَلاَّسُ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، نا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا مِنْ الشِّقِّ الأَيْمَنِ ثُمَّ سَلَتَ الدَّمَ عَنْهَا وَقَلَّدَهَا نَعْلَيْنِ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْخَبَرِ. وَبِهِ إلَى عَمْرِو بْنِ عَلِيٍّ، نا وَكِيعٌ حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَشْعَرَ بُدْنَهُ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، نا عَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ أَحْمَدَ، نا الْفَرَبْرِيُّ، نا الْبُخَارِيُّ، نا أَبُو النُّعْمَانِ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَارِمٌ،

(7/110)


نا عَبْدُ الْوَاحِدِ، هُوَ ابْنُ زِيَادٍ، نا الأَعْمَشُ، نا إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: كُنْت أَفْتِلُ الْقَلاَئِدَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلاَلاً.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَمَنْصُورٍ, كُلِّهِمْ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
قال أبو محمد: وَلَمْ يَأْتِ فِي الْبَقَرِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا, وَرُوِّينَا كَمَا نَذْكُرُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ عَلِيًّا بِأَنْ يَقْسِمَ لُحُومَ الْبُدْنِ وَجَلاَّلِهَا; فَصَحَّ التَّجْلِيلُ فِيهَا.
وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مِسْهَرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ هَدْيَ إلاَّ مَا قَلَّدَ وَأَشْعَرَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إنْ شِئْت فَأَشْعِرْ, وَإِنْ شِئْت فَلاَ تُشْعِرْ, وَإِنْ شِئْت فَقَلِّدْ, وَإِنْ شِئْت فَلاَ تُقَلِّدْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ أَنَّهُ أَرْسَلَ إلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فِي إشْعَارِ الْبَدَنَةِ فَقَالَتْ: إنْ شِئْت, إنَّمَا تُشْعِرُ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا بَدَنَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يُشْعِرُ فِي الشِّقِّ الأَيْمَنِ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِمَ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تُشْعِرُهَا مِنْ الأَيْمَنِ وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا أَفْلَحُ، هُوَ ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: رَأَيْت الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ أَشْعَرَهَا فِي الْجَانِبِ الأَيْمَنِ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ; وَأَبِي سُلَيْمَانَ; وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ ذَرٍّ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: رَأَيْت عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ تَفْتِلُ الْقَلاَئِدَ لِلْغَنَمِ تُسَاقُ مَعَهَا هَدْيًا. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت الْغَنَمَ يُؤْتَى بِهَا مُقَلَّدَةً. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ، عَنْ بُرْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: رَأَيْت نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسُوقُونَ الْغَنَمَ مُقَلَّدَةً. وَعَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: رَأَيْت الْكِبَاشَ تُقَلَّدُ; وَعَنْ وَكِيعٍ، عَنْ بَسَّامٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: رَأَيْت الْكِبَاشَ تُقَلَّدُ وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْت الْغَنَمَ تُقَلَّدُ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: رَأَيْت الْغَنَمَ تَقْدُمُ مَكَّةَ مُقَلَّدَةً.
قال أبو محمد: وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَكْرَهُ الإِشْعَارَ, وَهُوَ مُثْلَةٌ قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ طَامَّةٌ مِنْ طَوَامِّ الْعَالَمِ أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ شَيْءٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أُفٍّ لِكُلِّ عَقْلٍ يَتَعَقَّبُ حُكْمَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَلْزَمُهُ أَنْ تَكُونَ الْحِجَامَةُ, وَفَتْحُ الْعِرْقِ مِثْلَهُ

(7/111)


فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ, وَأَنْ يَكُونَ الْقِصَاصُ مِنْ قَطْعِ الأَنْفِ, وَقَلْعِ الأَسْنَانِ, وَجَدْعِ الآُذُنَيْنِ: مُثْلَةٌ; وَأَنْ يَكُونَ قَطْعُ السَّارِقِ وَالْمُحَارِبِ: مُثْلَةً; وَالرَّجْمُ لِلزَّانِي الْمُحْصَنِ: مُثْلَةً, وَالصَّلْبُ لِلْمُحَارِبِ: مُثْلَةً, إنَّمَا الْمُثْلَةُ فِعْلُ مَنْ بَلَّغَ نَفْسَهُ مَبْلَغَ انْتِقَادِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَذَا هُوَ الَّذِي مَثَّلَ بِنَفْسِهِ; وَالإِشْعَارُ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّهْيُ، عَنِ الْمُثْلَةِ كَانَ قَبْلَ قِيَامِ ذَلِكَ بِأَعْوَامٍ; فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ مُثْلَةً وَهَذِهِ قَوْلَةٌ: لاَ يُعْلَمُ لاَِبِي حَنِيفَةَ فِيهَا مُتَقَدِّمٌ مِنْ السَّلَفِ, وَلاَ مُوَافِقٌ مِنْ فُقَهَاءِ أَهْلِ عَصْرِهِ إلاَّ مَنْ ابْتَلاَهُ اللَّهُ بِتَقْلِيدِهِ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْبَلاَءِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ, وَمَالِكٌ: يُشْعِرُ فِي الْجَانِبِ الأَيْسَرِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا خِلاَفُ السُّنَّةِ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قَالُوا: قَدْ رَوَيْتُمْ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا كَانَتْ بَدَنَةٌ وَاحِدَةٌ أَشْعَرَهَا فِي الْجَانِبِ الأَيْسَرِ وَإِذَا كَانَتْ بَدَنَتَيْنِ قَلَّدَ إحْدَاهُمَا فِي الْجَانِبِ الأَيْمَنِ, وَالآُخْرَى فِي الأَيْسَرِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الإِشْعَارَ فِي الْجَانِبِ الأَيْسَرِ قلنا: هَذَا مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ; وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَيْسَ هُوَ قَوْلُكُمْ, وَسَالِمٌ ابْنُهُ أَوْثَقُ وَأَجَلُّ وَأَعْلَمُ بِهِ مِنْ نَافِعٍ رَوَى عَنْهُ الإِشْعَارَ فِي الْجَانِبِ الأَيْمَنِ كَمَا أَوْرَدْنَا, وَلاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْعَجَبُ مِنْ احْتِجَاجِهِمْ بِابْنِ عُمَرَ فِي فِعْلٍ قَدْ اُخْتُلِفَ عَنْهُ فِيهِ فَمَرَّةً عَلَيْهِمْ وَمَرَّةً لَيْسَ لَهُمْ, وَهُمْ قَدْ خَالَفُوا قَوْلَهُ الَّذِي لَمْ يَخْتَلِفْ عَنْهُ فِيهِ مِنْ أَنَّهُ لاَ هَدْيَ إلاَّ مَا قَلَّدَ وَأَشْعَرَ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفَ فِيهِ الْمَالِكِيُّونَ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَمَا ذَكَرْنَا.
فإن قيل: فَلِمَ لَمْ تَقُولُوا أَنْتُمْ: بِأَنَّهُ لاَ يَكُونُ هَدْيًا إلاَّ مَا أَشْعَرَ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْتُمْ آنِفًا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ فَأُشْعِرَ فِي سَنَامِهَا قلنا: لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَمْرٌ بِالإِشْعَارِ, وَلَوْ كَانَ فِيهِ لَقُلْنَا بِإِيجَابِهِ مُسَارِعِينَ, وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ أَمَرَ بِبَدَنَتِهِ فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهَا فَأُدْنِيَتْ إلَيْهِ فَأَشْعَرَ فِي سَنَامِهَا; لاَِنَّهُ هُوَ عليه السلام تَوَلَّى بِيَدِهِ إشْعَارَهَا, بِذَلِكَ صَحَّ الأَثَرُ عَنْهُ عليه السلام كَمَا ذَكَرْنَا. وَرُوِّينَا، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ, وَابْنِ عُمَرَ إشْعَارَ الْبَقَرِ فِي أَسْنِمَتِهَا. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: الشَّاةُ لاَ تُقَلَّدُ. وَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَالَفُوا ابْنَ عُمَرَ كَمَا أَوْرَدْنَا آنِفًا فِي قَوْلِهِ فِي الْهَدْيِ, فَمِنْ الْبَاطِلِ احْتِجَاجُهُمْ بِمَنْ لاَ مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ فِي مُخَالَفَتِهِ. وَرُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الإِبِلُ تُقَلَّدُ, وَتُشْعَرُ, وَالْغَنَمُ لاَ تُقَلَّدُ, وَلاَ تُشْعَرُ, وَالْبَقَرُ تُقَلَّدُ, وَلاَ تُشْعَرُ وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ تُقَلَّدُ الْغَنَمُ وَرَأَى مَالِكٌ إشْعَارَ الْبَقَرِ إنْ كَانَتْ لَهَا أَسْنِمَةٌ.
قال علي: وهذا خَطَأٌ وَمَقْلُوبٌ; بَلْ الإِبِلُ: تُقَلَّدُ, وَتُشْعَرُ; وَالْبَقَرُ: لاَ تُقَلَّدُ, وَلاَ تُشْعَرُ, وَالْغَنَمُ: تُقَلَّدُ, وَلاَ تُشْعَرُ. وقال أبو حنيفة: لاَ يُقَلَّدُ إلاَّ هَدْيُ الْمُتْعَةِ, وَالْقِرَانِ, وَالتَّطَوُّعِ مِنْ الإِبِلِ, وَالْبَقَرِ فَقَطْ: وَلاَ يُقَلَّدُ: هَدْيُ الإِحْصَارِ, وَلاَ الْجِمَاعِ, وَلاَ جَزَاءِ الصَّيْدِ. وقال مالك,

(7/112)


وَالشَّافِعِيُّ: يُقَلَّدُ كُلُّ هَدْيٍ وَيُشْعَرُ; وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِعُمُومِ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ عَلِيٌّ: وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَعْمَاهُ الْهَوَى وَأَصَمَّهُ: إنَّمَا مَعْنَى مَا رُوِيَ، عَنْ عَائِشَةَ مِنْ هَدْيِ الْغَنَمِ مُقَلَّدَةً; إنَّمَا هُوَ أَنَّهَا فَتَلَتْ قَلاَئِدَ الْهَدْيِ مِنْ الْغَنَمِ أَيْ مِنْ صُوفِ الْغَنَمِ.
قال أبو محمد: وَهَذَا اسْتِسْهَالٌ لِلْكَذِبِ الْبَحْتِ وَخِلاَفٌ لِمَا رَوَاهُ النَّاسُ عَنْهَا مِنْ إهْدَائِهِ عليه السلام الْغَنَمَ مُقَلَّدَةً وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَأَمَّا الاِشْتِرَاطُ: فَلِمَا نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، نا أَحْمَدُ بْنُ فَتْحٍ، نا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى، نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، نا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، نا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ الْهَمْدَانِيُّ، نا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهَا: أَرَدْتِ الْحَجَّ قَالَتْ: وَاَللَّهِ مَا أَجِدُنِي إلاَّ وَجِعَةً فَقَالَ لَهَا: حُجِّي وَاشْتَرِطِي وَقُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي, وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ لِضُبَاعَةَ حُجِّي وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ طَاوُوس, وَعِكْرِمَةَ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, كُلِّهِمْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ لِضُبَاعَةَ أَهِّلِي بِالْحَجِّ وَاشْتَرِطِي أَنَّ مَحِلِّي حَيْثُ تَحْبِسُنِي.
وَرُوِّينَاهُ أَيْضًا: مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ ضُبَاعَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ لاَ يَسَعُ أَحَدًا الْخُرُوجُ عَنْهَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ لِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إنْ حَجَجْت وَلَسْت صَرُورَةً فَاشْتَرَطَ إنْ أَصَابَنِي مَرَضٌ أَوْ كَسْرٌ أَوْ حَبْسٌ فَأَنَا حِلٌّ. وَرُوِّينَا أَيْضًا الأَمْرَ بِالاِشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ مِنْ طَرِيقِ: وَكِيعٍ, وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ, كُلِّهِمْ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الأَعْلَى، عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَهْدِيٍّ, وَيَحْيَى:، أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَفْرِدْ الْحَجَّ وَاشْتَرِطْ, فَإِنَّ لَك مَا اشْتَرَطْت, وَلِلَّهِ عَلَيْك مَا شَرَطْت.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ مِثْلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّ عُثْمَانَ رَأَى رَجُلاً وَاقِفًا بِعَرَفَةَ قَالَ لَهُ: أَشَارَطْتَ قَالَ: نَعَمْ.
وَمِنْ طَرِيقِ جَمَّةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مَيْسَرَةَ: أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ إذَا أَرَادَ الْحَجَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَجَّةٌ إنْ تَيَسَّرَتْ, أَوْ عُمْرَةٌ إنْ أَرَادَ الْعُمْرَةَ وَإِلاَّ فَلاَ حَرَجَ.

(7/113)


وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُمَيْرَةَ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ مَسْعُودٍ: حُجَّ وَاشْتَرِطْ, وَقُلْ: اللَّهُمَّ الْحَجُّ أَرَدْت وَلَهُ عَمَدْت فَإِنْ تَيَسَّرَ وَإِلاَّ فَعُمْرَةٌ. وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ لِلْحَجِّ خَرَجْت وَلَهُ عَمَدْت فَإِنْ قَضَيْت فَهُوَ الْحَجُّ وَإِنْ حَالَ دُونَهُ شَيْءٌ فَهِيَ عُمْرَةٌ; وَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ عُرْوَةَ بِأَنْ يَشْتَرِطَ كَذَلِكَ. وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ عَمَّارٍ، هُوَ ابْنُ يَاسِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا أَرَدْت الْحَجَّ فَاشْتَرِطْ. وَمِنْ طَرِيقِ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالاِشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ.
فَهَؤُلاَءِ: عُمَرُ, وَعُثْمَانُ, وَعَلِيٌّ وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ, وَابْنُ مَسْعُودٍ, وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمِنْ التَّابِعِينَ عُمَيْرَةُ بْنُ زِيَادٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ إنْ تَيَسَّرَ, وَإِلاَّ فَعُمْرَةٌ إنْ تَيَسَّرَتْ, اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ إنْ تَيَسَّرَتْ وَإِلاَّ فَلاَ حَرَجَ عَلَيَّ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الرَّبِيعُ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ, قَالاَ جَمِيعًا فِي الْمُحْرِمِ يَشْتَرِطُ: قَالاَ جَمِيعًا: لَهُ شَرْطُهُ. وَمِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ عَلْقَمَةُ, وَالأَسْوَدُ يَشْتَرِطَانِ فِي الْحَجِّ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنِ الْمُسَيِّبِ بْنِ رَافِعٍ أَرَدْت الْحَجَّ فَأَرْسِلْ إلَيَّ عَبِيدَةُ هُوَ السَّلْمَانِيُّ أَنْ اشْتَرِطْ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَشْتَرِطُ فِي الْحَجِّ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّك قَدْ عَرَفْت نِيَّتِي وَمَا أُرِيدُ; فَإِنْ كَانَ أَمْرًا تُتِمُّهُ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ حَرَجَ. وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ فِي الْعُمْرَةِ; وَجَاءَ أَيْضًا نَصًّا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ, وَعِكْرِمَةَ وقال الشافعي: إنْ صَحَّ الْخَبَرُ قُلْت بِهِ.
قال أبو محمد: قَدْ صَحَّ الْخَبَرُ وَبَالَغَ فِي الصِّحَّةِ فَهُوَ قَوْلُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدُ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَأَبِي.سُلَيْمَانَ وَرُوِيَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَأَلَ، عَنِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْحَجِّ قَالَ: لاَ أَعْرِفُهُ.
وَرُوِّينَا، عَنْ إبْرَاهِيمَ اضْطِرَابًا فَرُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ، أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَشْتَرِطُوا عِنْدَ الإِحْرَامِ وَكَانُوا لاَ يَرَوْنَ الشَّرْطَ شَيْئًا لَوْ أَنَّ الرَّجُلَ اُبْتُلِيَ وَرُوِّينَا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الأَعْمَشِ، أَنَّهُ قَالَ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَشْتَرِطُوا فِي الْحَجِّ.
قال أبو محمد: هَذَا تَنَاقُضٌ فَاحِشٌ, مَرَّةً كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ الشَّرْطَ, وَمَرَّةً كَانُوا يَكْرَهُونَهُ, فَأَقَلُّ مَا فِي هَذَا تَرْكُ رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ جُمْلَةً لاِضْطِرَابِهَا. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا قَالاَ: الْمُشْتَرِطُ وَغَيْرُ الْمُشْتَرِطِ سَوَاءٌ إذَا أَحْصَرَ فَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً.

(7/114)


وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ سَاقِطٌ، عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ هَذَا, وَالصَّحِيحُ، عَنْ عَطَاءٍ خِلاَفُ هَذَا. وَمِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى الاِشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ شَيْئًا. وَعَنْ طَاوُوس الاِشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ لَيْسَ شَيْئًا. وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ أَنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى الاِشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ شَيْئًا. وَعَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَحَمَّادٍ مِثْلُ هَذَا; وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ, وَالْحَنَفِيِّينَ.
قال أبو محمد: وَشَغَبُوا فِي مُخَالَفَةِ السُّنَنِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَنْ قَالُوا: هَذَا الْخَبَرُ خِلاَفٌ لِلْقُرْآنِ, لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} .
قَالَ عَلِيٌّ: هَذِهِ الآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لاَ عَلَيْنَا لأَنَّهُمْ يُفْتُونَ مَنْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ أَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ إنْ فَاتَهُ الْحَجُّ; فَقَدْ خَالَفُوا الآيَةَ فِي إتْمَامِ الْحَجِّ; وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نَقُولُ: إنَّ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ وَأُمِرَ بِبَيَانِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَنَا قَدْ أَمَرَ بِالاِشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ، وَأَنَّ مَحِلَّهُ حَيْثُ حَبَسَهُ رَبُّهُ تَعَالَى بِالْقَدَرِ النَّافِذِ; فَنَحْنُ لَمْ نُخَالِفْ الآيَةَ إذَا أَخَذْنَا بِبَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمُوهَا بِآرَائِكُمْ الْفَاسِدَةِ إلَى مُخَالَفَتِكُمْ السُّنَّةَ الْوَارِدَةَ فِي ذَلِكَ.
وَقَالُوا: هَذَا الْخَبَرُ خِلاَفٌ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} قلنا: كَذَبَ مَنْ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ خِلاَفٌ لِهَذِهِ الآيَةِ; بَلْ أَنْتُمْ خَالَفْتُمُوهَا إذْ قُلْتُمْ: مَنْ أُحْصِرَ بِمَرَضٍ لَمْ يَحِلَّ إلاَّ بِعُمْرَةٍ بِرَأْيٍ لاَ نَصَّ فِيهِ; وَأَمَّا نَحْنُ.فَقُلْنَا بِهَذِهِ الآيَةِ: إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ كَمَا أَمَرَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ وَأَمَرَ بِبَيَانِهَا لَنَا
قال أبو محمد: وَمَنْ جَعَلَ هَذِهِ السُّنَّةَ مُعَارِضَةً لِلْقُرْآنِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الرِّوَايَةَ فِي الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ إذْ يَقُولُ تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}. لإِنَّ حَدِيثَ الاِشْتِرَاطِ لَمْ يُضْطَرَبْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَهُوَ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ; وَقَدْ اضْطَرَبَ فِي حَدِيثِ الْقَطْعِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ عَلَيْهَا وَلَمْ يَصِحَّ قَطُّ خَبَرٌ فِي تَحْدِيدِ الْقَطْعِ فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ بَلْ قَوْلُهُمْ هُوَ الْمُخَالِفُ لِلْقُرْآنِ حَقًّا; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. وَقَالَ تَعَالَى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}. وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} ، وَلاَ حَرَجَ, وَلاَ عُسْرَ, وَلاَ تَكْلِيفَ مَا لَيْسَ فِي الْوُسْعِ أَكْثَرُ مِنْ إيجَابِ الْبَقَاءِ عَلَى حَالِ الإِحْرَامِ, وَمَنْعِ الثِّيَابِ, وَالطِّيبِ, وَالنِّسَاءِ, لِمَنْ قَدْ مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ; فَلَوْ لَمْ يَكُنْ إلاَّ هَذِهِ الآيَاتُ لَكَفَتْ فِي وُجُوبِ إحْلاَلِ مَنْ عَاقَهُ عَائِقٌ، عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ, فَكَيْفَ وَالسُّنَّةُ قَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ نَصًّا

(7/115)


وَشَغَبَ بَعْضُهُمْ بِالْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ, كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ".
قال أبو محمد: هَذَا مِنْ أَعْجَبْ شَيْءٍ لأَنَّهُمْ احْتَجُّوا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ, وَالاِشْتِرَاطُ فِي الْحَجِّ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْصُوصٌ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا}. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. {وَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}. وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} . وَقَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . وَإِنَّمَا الشُّرُوطُ الَّتِي لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهِيَ الشُّرُوطُ الَّتِي أَبَاحُوا: مِنْ أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَى فُلاَنَةَ امْرَأَتِهِ فَهِيَ طَالِقٌ, وَكُلَّ أَمَةٍ اشْتَرَاهَا عَلَيْهَا فَهِيَ حُرَّةٌ. وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُ الصَّدَاقِ لاَ يَلْزَمُ إلاَّ إلَى كَذَا وَكَذَا عَامًا وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}. وَكَبَيْعِ السُّنْبُلِ وَعَلَى الْبَائِعِ دَرْسُهُ. وَكَنُزُولِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِأَيْدِيهِمْ الأَسْرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِشَرْطِ أَنْ لاَ يُمْنَعُوا مِنْ الْوَطْءِ لَهُنَّ، وَلاَ مِنْ رَدِّهِمْ إلَى بِلاَدِ الْكُفْرِ وَسَائِرُ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي أَبَاحُوا; وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ رَوَاهُ عُرْوَةُ, وَعَطَاءٌ, وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ, وطَاوُوس وَرُوِيَ عَنْهُمْ خِلاَفُهُ.
قال أبو محمد:.فَقُلْنَا: سَمِعْنَاكُمْ تَقْبَلُونَ هَذَا فِي الصَّاحِبِ إذَا رَوَى الْخَبَرَ وَخَالَفَهُ فَأَنْكَرْنَاهُ حَتَّى أَتَيْتُمْ بِالآبِدَةِ إذْ جَعَلْتُمْ تَرْكَ التَّابِعِ لِمَا رَوَى حُجَّةً فِي تَرْكِ السُّنَنِ; وَهَذَا إنْ أَدْرَجْتُمُوهُ بَلَغَ إلَيْنَا وَإِلَى مَنْ بَعْدَنَا فَصَارَ كُلُّ مَنْ بَلَغَهُ حَدِيثٌ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَرَكَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ مِنْ النَّاسِ حُجَّةً فِي رَدِّ السُّنَنِ; وَهَذَا حُكْمُ إبْلِيسَ اللَّعِينِ, وَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِ رَأْيِ مَنْ ذَكَرْتُمْ; وَإِنَّمَا أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ رِوَايَتِهِمْ; لأَنَّهُمْ ثِقَاتٌ عُدُولٌ وَلَيْسُوا مَعْصُومِينَ مِنْ الْخَطَإِ فِي الرَّأْيِ. وَلاَ عَجَبَ مِمَّنْ يَعْتَرِضُ فِي رَدِّ السُّنَنِ بِأَنَّ طَاوُوسًا, وَعَطَاءً, وَعُرْوَةَ, وَسَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ: خَالَفُوا مَا رَوَوْا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ لَوْ أَنَّهُ عَزَمَ عَلَى صَبْغِ قَمِيصِهِ أَخْضَرَ فَقَالُوا لَهُ: بَلْ اُصْبُغْهُ أَحْمَرَ لَمْ يَرَ رَأْيَهُمْ فِي ذَلِكَ حُجَّةً، وَلاَ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الأَخْذَ بِهِ ثُمَّ رَأْيُهُمْ حُجَّةٌ فِي مُخَالَفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَئِنْ كَانَ خَالَفَ هَؤُلاَءِ مَا رَوَوْا فَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُمْ وَلَمْ يُخَالِفْهُ: كَعِكْرِمَةَ, وَعَطَاءٍ;، وَلاَ يَصِحُّ، عَنْ عَطَاءٍ إلاَّ الْقَوْلُ بِهِ وَقَدْ رَوَاهُ، عَنْ عَائِشَةَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ, وَأَخَذَا بِهِ.
وَقَالُوا: لَمْ يَعْرِفْهُ ابْنُ عُمَرَ. فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا فَقَدْ عَرَفَهُ: عُمَرُ, وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ,

(7/116)


وَعَائِشَةُ, وَابْنُ مَسْعُودٍ, وَعَمَّارٌ, وَابْنُ عَبَّاسٍ, وَأَخَذُوا بِهِ, وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ جُمْهُورَ الصَّحَابَةِ بَلْ لَيْسَ لاِبْنِ عُمَرَ هَاهُنَا خِلاَفٌ; لاَِنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِإِبْطَالِهِ, وَإِنَّمَا قَالَ: لاَ أَعْرِفُهُ. وَالْعَجَبُ كُلُّهُ أَنَّ عُمَرَ رَأَى الاِشْتِرَاطَ فِي الْحَجِّ وَمَعَهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ فَخَالَفُوهُ وَتَعَلَّقُوا فِي ذَلِكَ بِأَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ لَمْ يَعْرِفْهُ. وَصَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الإِهْلاَلُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَمَعَهُ السُّنَّةُ فَخَالَفُوهُ وَتَعَلَّقُوا بِرِوَايَةٍ جَاءَتْ فِي ذَلِكَ، عَنْ عُمَرَ وَقَالَ عُمَرُ, وَعُثْمَانُ, بِالاِشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ فَخَالَفُوهُمَا وَمَعَهُمَا السُّنَّةُ وَتَعَلَّقُوا بِهِمَا فِي الْمَنْعِ مِنْ فَسْخِ الْحَجِّ فِي عُمْرَةٍ إذْ جَاءَ عَنْهُمَا خِلاَفُ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكَأَنَّهُمْ مُغْرَمُونَ بِمُخَالَفَةِ السُّنَنِ, وَمُخَالَفَةِ الصَّحَابَةِ فِيمَا جَاءَ عَنْهُمْ مِنْ مُوَافَقَةِ السُّنَنِ:
وَالْقَوْمُ غَرْقَى فِي بِحَارِ هَوَاهُمْ ... وَبِكُلِّ مَا يُرْدِي الْغَرِيقَ تَعَلَّقُوا
وَذَكَرُوا قَوْلَ إبْرَاهِيمَ: كَانُوا يَشْتَرِطُونَ فِي الْحَجِّ، وَلاَ يَرَوْنَهُ شَيْئًا.
قال أبو محمد: وَهَذَا كَلاَمٌ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ يَصِفُهُمْ بِفَسَادِ الرَّأْيِ وَالتَّلاَعُبِ; إذْ يَشْتَرِطُونَ مَا لاَ فَائِدَةَ فِيهِ, وَلاَ يَصِحُّ, وَلاَ يَجُوزُ, وَهَذِهِ صِفَةُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ, وَيَكْفِي مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ السُّنَّةَ إذَا صَحَّتْ لَمْ يَحِلَّ لاَِحَدٍ خِلاَفُهَا, وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَحَدٍ حُجَّةً فِي مُعَارَضَتِهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَهَذَا مِمَّا خَالَفُوا فِيهِ الْقُرْآنَ, وَالسُّنَّةَ الثَّابِتَةَ, وَجُمْهُورَ الصَّحَابَةِ, وَالْقِيَاسَ; لأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: مَنْ دَخَلَ فِي صَلاَةٍ فَعَجَزَ، عَنْ إتْمَامِهَا قَائِمًا, وَعَنِ الرُّكُوعِ, وَعَنِ السُّجُودِ: سَقَطَ عَنْهُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ. وَمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ فَرْضٍ فَعَجَزَ، عَنْ إتْمَامِهِ: سَقَطَ عَنْهُ وَلَمْ يُكَلَّفْهُ; وَكَذَلِكَ التَّطَوُّعُ, وَقَالُوا هَاهُنَا: مَنْ دَخَلَ فِي حَجِّ فَرْضٍ, أَوْ تَطَوُّعٍ, أَوْ عُمْرَةٍ, كَذَلِكَ فَعَجَزَ عَنْهُمَا: لَمْ يَسْقُطَا عَنْهُ; بَلْ هُوَ مُكَلَّفٌ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ.

(7/117)


834 - مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا جَوَازُ تَقْدِيمِ لَفْظَةِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ, أَوْ لَفْظَةِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ; فَلاَِنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فَبَدَأَ بِلَفْظَةِ الْحَجِّ; وَصَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: لَبَّيْكَ عُمْرَةً وَحَجَّةً وَصَحَّ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" فَلاَ نُبَالِي أَيُّ ذَلِكَ قُدِّمَ فِي اللَّفْظِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/117)


835 - مَسْأَلَةٌ: فَإِذَا جَاءَ الْقَارِنُ إلَى مَكَّةَ عَمِلَ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا قلنا فِي الْعُمْرَةِ إلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْمُلَ فِي الثَّلاَثِ, وَلَيْسَ ذَلِكَ فَرْضًا فِي الْحَجِّ ثُمَّ إذَا أَتَمَّ ذَلِكَ أَقَامَ مُحْرِمًا كَمَا هُوَ إلَى يَوْمِ مِنًى وَهُوَ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا ثُمَّ نَهَضَ الْقَارِنُ, وَالْمُتَمَتِّعُ إلَى مِنًى فَيَبْقَيَانِ بِهَا نَهَارَهُمَا وَلَيْلَتَهُمَا فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ وَهُوَ الْيَوْمُ التَّاسِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ نَهَضُوا كُلُّهُمْ إلَى

(7/117)


مَسَائِلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ
836 - مَسْأَلَةٌ: مَنْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَهْلٌ غَيْرُ حَاضِرِينَ فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلاَ صَوْمَ; لإِنَّ أَهْلَهُ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَنْ حَجَّ بِأَهْلِهِ فَتَمَتَّعَ, فَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِأَهْلِهِ بِمَكَّةَ فَأَهْلُهُ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, وَإِنْ لَمْ يُقِمْ بِهَا إلاَّ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ فَأَقَلَّ فَلَيْسَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ. وَقَدْ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلُهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، رضي الله عنهم، بِأَهْلِهِمْ فَوَجَبَ عَلَى مَنْ تَمَتَّعَ مِنْهُمْ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ.فَصَحَّ أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَلَيْسَ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, وَإِنَّمَا أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ عليه السلام بِمَكَّةَ أَرْبَعًا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ, ثُمَّ رَجَعْنَا، عَنْ هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَنَّهُ إنْ أَقَامَ بِأَهْلِهِ بِمَكَّةَ عِشْرِينَ يَوْمًا فَأَقَلَّ فَلَيْسَ مِمَّنْ أَهْلُهُ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَإِنْ بَقِيَ أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ يَوْمًا مُذْ يَدْخُلُ مَكَّةَ إلَى أَنْ يُهِلُّ بِالْحَجِّ فَهُوَ مِمَّنْ أَهْلُهُ حَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً يُقْصِرُ الصَّلاَةَ. وَإِنْ كَانَ مَكِّيٌّ لاَ أَهْلَ لَهُ أَصْلاً, أَوْ لَهُ أَهْلٌ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَتَمَتَّعَ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ, لاَِنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ أَهْلُهُ حَاضِرُوا الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَالأَهْلُ: هُمْ الْعِيَالُ خَاصَّةً هَاهُنَا; لإِنَّ كُلَّ مَنْ حَجَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قُرَيْشٍ فَإِنَّ أَهْلَهُمْ كَانُوا بِمَكَّةَ يَعْنِي أَقَارِبَهُمْ فَلَمْ يُسْقِطْ هَذَا عَنْهُمْ حُكْمَ الْهَدْيِ أَوْ الصَّوْمِ الَّذِي عَلَى الْمُتَمَتِّعِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ الْهَدْيَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ رَأْسٌ مِنْ الْغَنَمِ أَوْ مِنْ الإِبِلِ أَوْ مِنْ الْبَقَرِ, أَوْ شِرْكٌ فِي بَقَرَةٍ أَوْ نَاقَةٍ بَيْنَ عَشْرَةٍ فَأَقَلَّ سَوَاءٌ كَانُوا مُتَمَتِّعِينَ أَوْ بَعْضُهُمْ, أَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ نَصِيبَهُ لَحْمًا لِلأَكْلِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ لِنَذْرٍ أَوْ لِتَطَوُّعٍ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَاسْمُ الْهَدْيِ يَقَعُ عَلَى الشَّاةِ, وَالْبَقَرَةِ, وَالْبَدَنَةِ.
وَرُوِّينَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ فِي ذَلِكَ الشَّاةَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَ ذَلِكَ. وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ فَرُوِيَ عَنْهَا مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ عَنْهَا أَيْضًا, وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ فِي ذَلِكَ شَاةٌ وَأَنَّهُ إنَّمَا فِي ذَلِكَ النَّاقَةُ أَوْ الْبَقَرَةُ. كَمَا رُوِّينَا، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ هُوَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ وَبَرَةَ

(7/149)


بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: صَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْت إلَى أَهْلِك أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَسْأَلُ، عَنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَهُمْ يَذْكُرُونَ الشَّاةَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: شَاةٌ شَاةٌ, وَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ; لاَ; بَلْ بَقَرَةٌ, أَوْ نَاقَةٌ وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ. وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس التَّرْتِيبَ رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي، نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ، نا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ طَاوُوس يَزْعُمُ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِقَدْرِ يَسَارِ الرَّجُلِ إنْ اسْتَيْسَرَ جَزُورٌ فَجَزُورٌ, وَإِنْ اسْتَيْسَرَ بَقَرَةٌ فَبَقَرَةٌ, وَإِنْ لَمْ يَسْتَيْسِرْ إلاَّ شَاةً فَشَاةً. قَالَ: وَكَانَ أَبِي يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا اسْتَيْسَرَ وَتَيَسَّرَ. قَالَ: فَإِنْ اسْتَيْسَرَ عَلَى قَدْرِ يَسَارِهِ, وَتَيَسَّرَ مَا شَاءَ.
قال أبو محمد: وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَنَا شُعْبَةُ، نا أَبُو جَمْرَةَ هُوَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ قَالَ: سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ الْمُتْعَةِ فَأَمَرَنِي بِهَا وَسَأَلْته، عَنِ الْهَدْيِ فَقَالَ: فِيهَا جَزُورٌ, أَوْ بَقَرَةٌ, أَوْ شَاةٌ, أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ; وَهَكَذَا رُوِّينَاهُ فِي تَفْسِيرِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَبِهَذَا نَأْخُذُ.
فأما إجَازَةُ الشَّاةِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ: وَأَمَّا الشِّرْكُ فِي الدَّمِ فَبِهِ يَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ, وَالشَّافِعِيُّ, وَالأَوْزَاعِيُّ, وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ, وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ, وَإِسْحَاقُ, وَأَبُو ثَوْرٍ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ; إلاَّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ: لاَ يَجُوزُ الشِّرْكُ فِي الدَّمِ إلاَّ بِأَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ يُرِيدُونَهُ لِلْهَدْيِ, وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَسْبَابُهُمْ. وَقَالَ صَاحِبُهُ زُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ: لاَ يَجُوزُ إلاَّ بِأَنْ تَكُونَ أَسْبَابُهُمْ وَاحِدَةً, مِثْلُ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَمَتِّعِينَ, أَوْ كُلُّهُمْ مُفْتَدِينَ, وَنَحْوُ هَذَا. وقال الشافعي, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: كَمَا قلنا, إلاَّ أَنَّهُمْ كُلَّهُمْ قَالُوا: لاَ يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعَةٍ.
فأما قَوْلُ مَالِكٍ: فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ رُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْعَالِيَةِ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَابْنِ سِيرِينَ, كُلُّهُمْ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: يَقُولُونَ: الْبَدَنَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ, مَا أَعْلَمُ النَّفْسَ تُجْزِئُ إلاَّ عَنِ النَّفْسِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَا كُنْت أَشْعُرُ أَنَّ النَّفْسَ تُجْزِئُ إلاَّ عَنِ النَّفْسِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ عَنْهُ،

(7/150)


أَنَّهُ قَالَ: لاَ أَعْلَمُ وَمَا يُرَاقُ، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ إنْسَانٍ وَاحِدٍ. وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ سِيرِينَ; وَكَرِهَ ذَلِكَ الْحَكَمُ, وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ, مَا نَعْلَمُ لَهُمْ شُبْهَةً غَيْرَ هَذَا وَهَذَا لاَ حُجَّةَ فِيهِ, لإِنَّ ابْنَ عُمَرَ قَدْ رَجَعَ، عَنْ هَذَا إلَى إجَازَةِ الاِشْتِرَاكِ, وَإِنَّمَا أَخْبَرَ هَاهُنَا بِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ، وَلاَ شَعَرَ بِهِ, وَلَيْسَ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ عَلِمَ.
نا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّمَرِيُّ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ يُوسُفَ الأَزْدِيُّ الْقَاضِي، نا إِسْحَاقُ بْنُ أَحْمَدَ، نا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُوسَى الْعُقَيْلِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْهَاشِمِيُّ، نا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، نا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، نا عَرِيفُ بْنُ دِرْهَمٍ، عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الْجَزُورُ, وَالْبَقَرَةُ, عَنْ سَبْعَةٍ.
قال أبو محمد: إجَازَتُهُ، عَنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ بِالسُّنَّةِ فِي ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهَا, وَقَدْ جَاءَ هَذَا نَصًّا عَنْهُ كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ نُمَيْرٍ، نا مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عُمَرَ: الْبَقَرَةُ, وَالْبَعِيرُ تُجْزِئُ، عَنْ سَبْعَةٍ فَقَالَ: وَكَيْفَ أَلَهَا سَبْعَةُ أَنْفُسٍ فَقُلْتُ لَهُ: إنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ بِالْكُوفَةِ أَفْتَوْنِي; فَقَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ قَدْ قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا شَعَرْتُ, فَبَطَلَ تَعَلُّقُهُمْ بِابْنِ عُمَرَ, وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ حَمَّادٌ, وَالْحَكَمُ, لَكِنْ كَرِهَاهُ فَقَطْ. فَصَحَّ أَنَّهُمَا مُجِيزَانِ لِذَلِكَ, وَإِنَّمَا، هُوَ ابْنُ سِيرِينَ رَأْيٌ لاَ، عَنْ أَثَرٍ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الْقَوْلِ مُتَعَلَّقٌ أَصْلاً. وَقَدْ ذَكَرْنَا، عَنِ ابْنِ عُمَرَ آنِفًا أَنَّهُ رَأَى الصَّوْمَ فِي التَّمَتُّعِ وَلَمْ يُجِزْ الشَّاةَ فِي ذَلِكَ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ عَمَّنْ يُهْدِي جَمَلاً فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا فَعَلَ ذَلِكَ.
قَالَ عَلِيٌّ: مِنْ الْبَاطِلِ الْفَاحِشِ أَنْ يَكُونَ ابْنُ عُمَرَ, أَوْ غَيْرُهُ حُجَّةً فِي مَكَان غَيْرَ حُجَّةٍ فِي مَكَان آخَرَ وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: "الْبَدَنَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ". وَعَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يُشْرِكُونَ السَّبْعَةَ فِي الْبَدَنَةِ مِنْ الإِبِلِ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُسْلِمٍ الْقَرِّيِّ، عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْبَدَنَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ زَافِرٍ الْعَبْسِيِّ قَالَ: أَنَا وَأُمِّي أَخَذْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ مِنْ بَقَرَةٍ، عَنْ سَبْعَةٍ فِي الأَضْحَى. وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ قَالَ: تُنْحَرُ الْبَدَنَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،

(7/151)


عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: الْبَقَرَةُ, وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَبِهِ إلَى ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: الْبَقَرَةُ, وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَعَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: الْجَزُورُ, وَالْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَصَحَّ الْقَوْلُ بِذَلِكَ أَيْضًا، عَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ, وَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَقَتَادَةَ, وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ, وَغَيْرِهِمْ.
وَالْحُجَّةُ لِهَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ قَالَ: نَحَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ الْبَدَنَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أُبَيٌّ هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، نا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فَذَكَرَ حَجَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفِيهَا فَنَحَرَ عليه السلام ثَلاَثًا وَسِتِّينَ, فَأَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ, وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَنَا أَبُو دَاوُد هُوَ الطَّيَالِسِيُّ، نا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَحَرَ الْبَدَنَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ.
قال أبو محمد: فَصَحَّ هَذَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ إجْمَاعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا أَوْرَدْنَا وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ لَمْ يُجِزْ ذَلِكَ إلاَّ عَنْ سَبْعَةٍ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ بِمَا ذَكَرْنَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم. فأما الصَّحَابَةُ، رضي الله عنهم، وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفُوا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، هُوَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، نا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ عَلْيَاءَ بْنِ أَحْمَرَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَضَرَ النَّحْرُ فَنَحَرْنَا الْبَعِيرَ، عَنْ عَشَرَةٍ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا مَعْمَرٌ، نا قَتَادَةُ قَالَ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: الْبَدَنَةُ، عَنْ عَشَرَةٍ.
فَهَذَا اخْتِلاَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ, عَلَى أَنَّنَا إذَا تَأَمَّلْنَا فِعْلَ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، وَقَوْلَهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ أَنَّ الْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَدَنَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ, وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعٌ مِنْ جَوَازِهِمَا، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ. وَكَذَلِكَ الأَثَرُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيْضًا إنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ عليه السلام: "نَحَرَ الْبَدَنَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْبَقَرَةَ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَهَذَا حَقٌّ وَدَيْنٌ, وَلَيْسَ فِيهِ مَنْعُ مَنْ نَحَرَهُمَا، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ, أَوْ، عَنْ أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ" . وَكَذَلِكَ مَا رُوِّينَاهُ مِنْ

(7/152)


طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ، نا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ". فَنَعَمْ, قَالَ: الْحَقُّ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ, وَلَيْسَ فِي هَذَا مَنْعٌ مِنْ جَوَازِهِمَا، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ إنْ جَاءَ بُرْهَانٌ بِذَلِكَ, وَإِلاَّ فَلاَ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ بِالدَّعْوَى.
فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، نا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرَّازِيّ قَالاَ جَمِيعًا: نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَبَحَ عَمَّنْ اعْتَمَرَ مِنْ أَزْوَاجِهِ بَقَرَةً بَيْنَهُنَّ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا عُثْمَانُ، هُوَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا جَرِيرُ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلاَ نَرَى إلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ.
قال أبو محمد: كُنَّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِنَّ تِسْعًا خَرَجَتْ مِنْهُنَّ عَائِشَةُ لاَِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لَكِنَّهَا أَرْدَفَتْ حَجًّا عَلَى عُمْرَتِهَا كَمَا جَاءَ فِي أَثَرٍ آخَرَ فَبَقِيَ ثَمَانٍ لَمْ يَسُقْنَ الْهَدْيَ فَأَحْلَلْنَ كَمَا تَسْمَعُ وَنَحَرَ عليه السلام عَنْهُنَّ كُلِّهِنَّ بَقَرَةً وَاحِدَةً فَهَذَا، عَنْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ. فإن قيل: قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام أَهْدَى، عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ قلنا: هَذَا لَفْظٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَتْ حَدِيثًا, وَفِيهِ: فَأَتَيْنَا بِلَحْمٍ, فَقُلْتُ: مَا هَذَا قَالُوا: أَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ.
وَقَدْ رُوِّينَا هَذَا الْخَبَرَ نَفْسَهُ عَمَّنْ هُوَ أَحْفَظُ وَأَضْبَطُ مِنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَبَيَّنَ مَا أَجْمَلَهُ ابْنُ الْمَاجِشُونِ. وَرُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ فَذَكَرَتْ الْحَدِيثَ "وَفِيهِ قَالَتْ: فَلَمَّا كُنَّا بِمِنًى أُتِيتُ بِلَحْمِ بَقَرٍ, فَقُلْتُ: مَا هَذَا قَالُوا: ضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ أَزْوَاجِهِ بِالْبَقَرِ. فَبَيَّنَ سُفْيَانُ فِي هَذَا

(7/153)


الْخَبَرِ وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمَاجِشُونِ نَفْسُهُ أَنَّ تِلْكَ الْبَقَرَ كَانَتْ أَضَاحِيَ, وَالأَضَاحِيُّ غَيْرُ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ فِي التَّمَتُّعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِلاَ شَكٍّ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَا أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ، عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا أَحْلَلْنَا أَنْ نُهْدِيَ وَنَجْمَعَ النَّفَرَ مِنَّا فِي الْفِدْيَةِ وَذَلِكَ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا فِي هَدْيِهِمْ مِنْ حَجِّهِمْ".
قال أبو محمد: هَذَا سَنَدٌ لاَ نَظِيرَ لَهُ, وَبَيَانٌ لاَ إشْكَالَ فِيهِ, وَالْبَقَرُ يَقَعُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ; فَنَظَرْنَا فِي الآيَةِ فَوَجَدْنَا اللَّهَ تَعَالَى أَيْضًا يَقُولُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ فَجَازَ الاِشْتِرَاكُ فِي الْهَدْيِ بِظَاهِرِ الآيَةِ.
فإن قيل: فَمِنْ أَيْنَ اقْتَصَرْتُمْ عَلَى الْعَشَرَةِ فَقَطْ قلنا: لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِكَ فِي هَدْيِ فَرْضٍ أَكْثَرُ مِنْ عَشَرَةٍ وَالثَّانِي: مَا رُوِّينَاهُ، عَنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا مُسَدَّدٌ، نا أَبُو الأَحْوَصِ، نا سَعِيدُ بْنُ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ حُنَيْنٍ وَفِيهِ أَنَّهُ عليه السلام "قَسَمَ بَيْنَهُمْ وَعَدَلَ بَعِيرًا بِعَشْرِ شِيَاهٍ".
قَالَ عَلِيٌّ: قَدْ صَحَّ إجْمَاعُ الْمُخَالِفِينَ لَنَا مَعَ ظَاهِرِ الآيَةِ بِأَنَّ شَاةً تُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ فِي التَّمَتُّعِ, وَالإِحْصَارِ, وَالتَّطَوُّعِ, وَقَدْ عَدَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ شِيَاهٍ بِبَعِيرٍ. فَصَحَّ أَنَّ الشَّاةَ بِإِزَاءِ عُشْرِ الْبَعِيرِ جُمْلَةً;، وَأَنَّ الْبَقَرَةَ كَالْبَعِيرِ فِي جَوَازِ الاِشْتِرَاكِ فِيهَا فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ فِيمَا ذَكَرْنَا. فَصَحَّ أَنَّ الْبَعِيرَ وَالْبَقَرَةَ يُجْزِئَانِ عَمَّا يُجْزِئُ عَنْهُ عَشْرُ شِيَاهٍ, وَعَشْرُ شِيَاهٍ تُجْزِئُ، عَنْ عَشْرَةٍ, فَالْبَعِيرُ, وَالْبَقَرَةُ يُجْزِئُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، عَنْ عَشَرَةٍ, وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ. وَبِهِ نَقُولُ لِمَا ذَكَرْنَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْ اخْتِلاَفِ أَغْرَاضِ الْمُشْتَرِكِينَ فِي الْهَدْيِ فَإِنَّهُمْ احْتَجُّوا بِأَنْ قَالُوا: إذَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ يُرِيدُ نَصِيبَهُ لِلْبَيْعِ, أَوْ لِلأَكْلِ لاَ لِلْهَدْيِ فَلَمْ تَحْصُلْ الْبَدَنَةُ, وَلاَ الْبَقَرَةُ مُذَكَّاةً لِلْهَدْيِ الْمَقْصُودِ بِهِ إلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. وَحُجَّةُ زُفَرَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ الْهَدْيُ الْمَذْكُورُ إذَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْمُحْصِرُ, وَالْمُتَمَتِّعُ, وَالْمُتَطَوِّعُ, وَالْقَارِنُ, فَلَمْ يَحْصُلْ مُذَكًّى لِمَا قَصَدَهُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ, وَالذَّكَاةُ لاَ تَتَبَعَّضُ.

(7/154)


قال أبو محمد: وَهَذَا لاَ يَحِلُّ الاِحْتِجَاجُ بِهِ; لاَِنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَوْرَدْنَا أَنَّهُ أَمَرَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّفَرُ مِنْهُمْ فِي الْهَدْيِ وَ، أَنَّهُ قَالَ عليه السلام: "الْبَقَرَةُ، عَنْ سَبْعَةٍ, وَالْجَزُورُ، عَنْ سَبْعَةٍ" فَعَمَّ عليه السلام وَلَمْ يَخُصَّ مَنْ اتَّفَقَتْ أَغْرَاضُهُمْ مِمَّنْ اخْتَلَفَتْ; وَإِنَّمَا أُمِرْنَا فِي الْهَدْيِ بِالتَّذْكِيَةِ وَبِالنِّيَّةِ عَمَّا يَقْصِدُهُ الْمَرْءُ, وَقَدْ قَالَ عليه السلام: "وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى" فَحَصَلَتْ الْبَدَنَةُ, وَالْبَقَرَةُ مُذَكَّاةٌ إذْ ذُكِّيَتْ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَمْرِ مَالِكِهَا وَسَمَّى اللَّهَ تَعَالَى عَلَيْهَا; ثُمَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حِصَّتِهِ مِنْهَا نِيَّةٌ, قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاَّ عَلَيْهَا} فَأَحْكَامُ جُمْلَتِهَا أَنَّهَا مُذَكَّاةٌ; وَحُكْمُ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا مَا نَوَاهُ فِيهِ مَالِكُهُ, وَلاَ فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ سَبْعَةٍ مِنْ الْبَقَرَةِ, أَوْ الْبَعِيرِ وَبَيْنَ سَبْعِ شِيَاهٍ، وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّهُمْ, وَإِنْ كَانَتْ أَغْرَاضُهُمْ مُتَّفِقَةً وَكَانَ سَبَبُهُمْ كُلُّهُمْ وَاحِدًا, فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُكْمَهُ وَأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَعْضِهِمْ, وَلاَ يَقْبَلُ مِنْ بَعْضِهِمْ;، وَلاَ يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْمُتَقَبَّلِ مِنْهُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يُهْدِيَهُ إلاَّ بَعْدَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ, وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ أَوْ يَنْحَرَهُ مَتَى شَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلاَ يُجْزِئُهُ أَنْ يُهْدِيَهُ, وَيَنْحَرَهُ إلاَّ بِمِنًى أَوْ بِمَكَّةَ; فَلاَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} فَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, لاَ عَلَى مَنْ لَمْ يَتَمَتَّعْ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِلاَ شَكٍّ فَهُوَ مَا لَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ فَلَمْ يَتَمَتَّعْ بَعْدُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, وَإِذْ لَمْ يَتَمَتَّعْ بَعْدُ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَالْهَدْيُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ, وَلاَ يُجْزِئُ غَيْرُ وَاجِبٍ، عَنْ وَاجِبٍ إلاَّ بِنَصٍّ وَارِدٍ فِي ذَلِكَ; وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنَّهُ إنْ بَدَا لَهُ فَلَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لاَ هَدْيَ عَلَيْهِ; فَصَحَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ بَعْدُ, وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فَلاَ يُجْزِئُهُ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَمَّا يَكُونُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ; وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ, وَأَبِي سُلَيْمَانَ.
وَأَمَّا ذَبْحُهُ وَنَحْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلاَِنَّ هَذَا الْهَدْيَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا أَوَّلَ وَقْتِ وُجُوبِهِ, وَلَمْ يَحُدَّ آخِرَ وَقْتَ وُجُوبِهِ بِحَدٍّ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ دَيْنٌ بَاقٍ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدَّى; وَالأَمْرُ بِهِ ثَابِتٌ حَتَّى يُؤَدَّى; وَمَنْ خَصَّهُ بِوَقْتٍ مَحْدُودٍ فَقَدْ قَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَا لَمْ يَقُلْهُ، عَزَّ وَجَلَّ، وَهَذَا عَظِيمٌ جِدًّا.
وقال أبو حنيفة, وَمَالِكٌ: لاَ يُجْزِئُ هَدْيُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ, وَهَذَا قَوْلٌ لاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ بَلْ هُوَ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ, وَمَا كَانَ هَكَذَا فَهُوَ سَاقِطٌ; وَالْعَجَبُ مِنْ تَجْوِيزِ أَبِي حَنِيفَةَ تَقْدِيمَ الزَّكَاةِ وَإِجَازَةِ أَصْحَابِهِ لِمَنْ نَذَرَ صِيَامَ يَوْمِ الْخَمِيسِ فَصَامَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ قَبْلَهُ أَجْزَأَهُ ثُمَّ لاَ يُجِيزُونَ هَدْيَ الْمُتْعَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ.

(7/155)


وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّهُ لاَ يُجْزِئُ إلاَّ بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يُجْزِئُ فِي كُلِّ بَلَدٍ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَحُدَّ مَوْضِعَ أَدَائِهِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ, وَلَوْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى قَصْرَهُ عَلَى مَكَان دُونَ مَكَان لَبَيَّنَهُ كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وَلَمْ يَقُلْ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ, وَلاَ فِي هَدْيِ الْمُحْصِرِ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} . فإن قيل: نَقِيسُ الْهَدْيَ عَلَى الْهَدْيِ فِي ذَلِكَ قلنا: الْقِيَاسُ كُلُّهُ بَاطِلٌ, ثُمَّ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْبَاطِلِ; لاَِنَّهُ إنْ صَحَّحْتُمْ قِيَاسَكُمْ هَدْيَ الْمُتْعَةِ عَلَى هَدْيِ جَزَاءِ الصَّيْدِ لَزِمَكُمْ أَنْ تَقِيسُوهُ عَلَيْهِ فِي تَعْوِيضِ الإِطْعَامِ مِنْ الْهَدْيِ وَالصِّيَامِ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَأَنْتُمْ لاَ تَقُولُونَ هَذَا; فَظَهَرَ فَسَادُ قِيَاسِكُمْ وَتَنَاقُضُهُ.
قال أبو محمد: لَكِنَّ الْحُجَّةَ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} . فَجَاءَ النَّصُّ بِأَنَّ شَعَائِرَ اللَّهِ تَعَالَى مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ، وَأَنَّ الْبُدْنَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ أَحَدٍ فِي أَنَّ حُكْمَ الْهَدْيِ كُلِّهِ كَحُكْمِ الْبُدْنِ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، نا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَدْ نَحَرْتُ هُنَا, وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ". نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّى، نا مُسَدَّدٌ، نا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ عِنْدَ الْمَنْحَرِ: "هَذَا الْمَنْحَرُ, وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ" وَقَالَ عليه السلام فِي مِنًى: "هَذَا الْمَنْحَرُ, وَفِجَاجُ مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ" فَصَحَّ أَنَّهُ حَيْثُمَا نُحِرَتْ الْبُدْنُ, وَالإِهْدَاءُ مِنْ فِجَاجِ مَكَّةَ وَمِنًى وَهُوَ الْحَرَمُ كُلُّهُ فَقَدْ أَصَابَ النَّاحِرُ, وَأَنَّهُ لاَ يَجُوزُ نَحْرُ الْبُدْنِ وَالْهَدْيِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ إلاَّ مَا خَصَّهُ النَّصُّ مِنْ هَدْيِ الْمُحْصِرِ, وَهَدْيِ التَّطَوُّعِ إذَا عَطِبَ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَكَّةَ. وَرُوِّينَا، عَنْ طَاوُوس, وَعَطَاءٍ قَالاَ: كُلُّ مَا كَانَ مِنْ هَدْيٍ فَهُوَ بِمَكَّةَ, وَالصِّيَامُ وَالإِطْعَامُ حَيْثُ شِئْتَ وَعَنْ مُجَاهِدٍ: انْحَرْ حَيْثُ شِئْت.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: وَمَنْ كَانَ أَهْلُهُ سَاكِنِينَ فِي الْحَرَمِ فَلاَ يَلْزَمُهُ فِي تَمَتُّعِهِ هَدْيٌ، وَلاَ صَوْمٌ, وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي تَمَتُّعِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُسِيءٌ فِي تَمَتُّعِهِ.
قال أبو محمد: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ

(7/156)


يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
قَالَ عَلِيٌّ: فَقَالَ الْمُخَالِفُونَ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ مَا قُلْتُمْ لَقَالَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ; فَصَحَّ أَنَّ الْمُتْعَةَ إنَّمَا هِيَ لِغَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ.
قال أبو محمد: لَيْسَ كَمَا قَالُوا; لإِنَّ الْهَدْيَ أَوْ الصَّوْمَ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التَّمَتُّعِ إنَّمَا هُوَ نُسُكٌ زَائِدٌ وَفَضِيلَةٌ وَلَيْسَ جَبْرًا لِنَقْصٍ كَمَا ظَنَّ مَنْ لاَ يُحَقِّقُ; فَهُوَ لَهُمْ لاَ عَلَيْهِمْ.
بُرْهَانُ صِحَّةِ ذَلِكَ: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ, وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً, وَلاََحْلَلْتُ" أَوْ كَمَا قَالَ عليه السلام; فَأَخْبَرَ عليه السلام بِفَضْلِ الْمُتْعَةِ, وَأَنَّهَا أَفْضَلُ أَعْمَالِ الْحَجِّ, وَأَسْقَطَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، الْهَدْيَ، عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالصَّوْمَ فِيهَا لِمَا هُوَ أَعْلَمُ بِهِ, وَظَاهِرُهُ الرِّفْقُ بِهِمْ, لاَِنَّهُ لاَ شَكَّ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ كَلَّفَهُمْ ذَلِكَ لَكَانَ حَرَجًا عَلَيْهِمْ لِسُهُولَةِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهِمْ وَلاِِمْكَانِهَا لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ بِخِلاَفِ أَهْلِ الآفَاقِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ، وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ}. وَيُبْطِلُ قَوْلَ الْمُخَالِفِ: أَنَّ الآيَةَ لَوْ كَانَتْ كَمَا ظَنَّ لَحُرِّمَتْ الْعُمْرَةُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ; وَهَذَا خِلاَفُ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ مِنْ الْحَضِّ عَلَى الْعُمْرَةِ, وَأَنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا, فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ.
رُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، نا الْحَجَّاجُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ هَدْيٌ فِي الْمُتْعَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ، وَوَكِيعٌ, قَالَ هُشَيْمٌ: نا الْمُغِيرَةُ بْنُ مِقْسَمٍ, وَيُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ, قَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنِ النَّخَعِيِّ, وَقَالَ يُونُسُ: عَنِ الْحَسَنِ, وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ; ثُمَّ اتَّفَقَ عَطَاءٌ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ, وَالْحَسَنُ, وَالنَّخَعِيُّ, قَالُوا كُلُّهُمْ: لَيْسَ عَلَى الْمَكِّيِّ هَدْيٌ فِي الْمُتْعَةِ.
وَمِنْ طَرِيقِ الْحُذَافِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ, وَمَعْمَرٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ عَطَاءٍ, وَقَالَ مَعْمَرٌ, عَنِ الزُّهْرِيِّ; ثُمَّ اتَّفَقَ الزُّهْرِيُّ, وَعَطَاءٌ قَالاَ جَمِيعًا فِي الْمَكِّيِّ يَمُرُّ بِالْمِيقَاتِ فَيَعْتَمِرُ مِنْهُ: إنَّهُ لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَبِهَذَا نَقُولُ. وَرُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْمِيقَاتِ فَتَمَتَّعَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.
قال أبو محمد: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ; لإِنَّ أَهْلَهُ حَاضِرُو الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَزَعَمَ الْمَالِكِيُّونَ: أَنَّ الْهَدْيَ إنَّمَا جُعِلَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ لاِِسْقَاطِهِ سَفَرَ الْحَجِّ إلَى مَكَّةَ.

(7/157)


قال علي: وهذا بَاطِلٌ بَحْتٌ, وَالْعَجَبُ مِنْ تَسْهِيلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ الَّذِي يَفْتَضِحُونَ بِهِ مِنْ قُرْبٍ, وَيُقَالُ لَهُمْ: هَذِهِ الْعِلَّةُ نَفْسُهَا مَوْجُودَةٌ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ, ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ فَقَدْ أَسْقَطَ أَحَدَ السَّفَرَيْنِ, وَأَنْتُمْ لاَ تَرَوْنَ عَلَيْهِ هَدْيًا، وَلاَ صَوْمًا, ثُمَّ تَقُولُونَ فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ خَرَجَ إلَى مَا وَرَاءَ أَبْعَدِ الْمَوَاقِيتِ فَأَهَلَّ بِالْحَجِّ مِنْهُ, وَهُوَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ, أَوْ الشَّامِ, أَوْ الْعِرَاقِ أَنَّهُ لاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلاَ صَوْمَ, وَلَمْ يَسْقُطْ أَحَدُ السَّفَرَيْنِ, وَيَقُولُونَ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْبِلاَدِ فَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ لاَ يُرِيدُ حَجًّا, وَكَانَتْ حَاجَتُهُ بِعُسْفَانَ, أَوَبِبَطْنٍ; فَلَمَّا صَارَ بِهَا بَدَا لَهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَحَجَّ بَعْدَ أَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ: فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ, وَهُوَ قَدْ أَسْقَطَ السَّفَرَيْنِ إلَى الْحَجِّ, وَإِلَى الْعُمْرَةِ أَيْضًا; وَلَعَمْرِي مَا يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ دِينٌ, أَوْ عَقْلٌ أَنْ يُطْلِقَ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ, وَبِاَللَّهِ تَعَالَى نَتَأَيَّدُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: وَالْمُتَمَتِّعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ أَوْ الْهَدْيُ هُوَ مَنْ ابْتَدَأَ عُمْرَتَهُ بِأَنْ يُحْرِمَ لَهَا فِي أَحَدِ أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلاً, وَيُتِمَّ عُمْرَتَهُ ثُمَّ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ سَوَاءٌ رَجَعَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ إلَى الْمِيقَاتِ أَوْ إلَى مَنْزِلِهِ أَوْ إلَى أُفُقٍ أَبْعَدَ مِنْ مَنْزِلِهِ, أَوْ مِثْلِهِ أَوْ أَقْرَبَ مِنْهُ, أَوْ أَقَامَ بِمَكَّةَ, اعْتَمَرَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ عُمَرًا كَثِيرَةً أَوْ لَمْ يَعْتَمِرْ; فَإِنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ هِلاَلِ شَوَّالٍ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ, وَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ, وَلاَ صَوْمَ إنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ, أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ لَمْ يُقِمْ عَمِلَ بَعْضَ عُمْرَتِهِ أَكْثَرَهَا أَوْ أَقَلَّهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, أَوْ لَمْ يَعْمَلْ مِنْهَا شَيْئًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلاَّ أَنْ يَعْتَمِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا: فَإِنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ سُوَيْد قَالَ: سَمِعْت ابْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ الْمُتَمَتِّعَ لَيْسَ بِاَلَّذِي تَصْنَعُونَ يَتَمَتَّعُ أَحَدُكُمْ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ الْحَجِّ, وَلَكِنَّ الْحَاجَّ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ أَوْ ضَلَّتْ رَاحِلَتُهُ أَوْ كُسِرَ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهَا عُمْرَةً, وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ, وَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: الْمُتْعَةُ لِمَنْ أُحْصِرَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُتَمَتِّعُ هُوَ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَيِّ أَشْهُرِ السَّنَةِ كَانَتْ عُمْرَتُهُ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ, فَهَذَا عَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ; وَكَذَلِكَ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ أَوْ لَمْ يَحُجَّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ طَاوُوس قَالَ: إذَا أَهَلَّ

(7/158)


بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ, وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ إلَى الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إذَا خَرَجَ الْمَكِّيُّ إلَى الْمِيقَاتِ فَاعْتَمَرَ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: لَيْسَ الْمُتَمَتِّعُ إلاَّ مِنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا. رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا الْعُمَرِيُّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إذَا أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ, وَإِذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ حَجَّ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ, وَحَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ قَالَ حَفْصٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَقَالَ وَكِيعٌ: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالاَ جَمِيعًا: مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ رَجَعَ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ, ذَاكَ مَنْ أَقَامَ وَلَمْ يَرْجِعْ. وَبِهِ إلَى وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ, وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ قَالَ الْمُغِيرَةُ: عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَقَالَ يَحْيَى: عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالاَ جَمِيعًا: مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْمُتَمَتِّعُ هُوَ مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ قَبْلَهَا, ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ, فَإِنْ خَرَجَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ إلَى مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ مِنْ مَكَّةَ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: لَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ حَتَّى يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يُهِلُّ فِيهِ فَإِذَا سَافَرَ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، نا سُفْيَانُ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِيمَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ قَالَ: لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنَّ الْمُتَمَتِّعَ مَنْ طَافَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ, رُوِيَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي يَطُوفُ فِيهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ قَالَتْ: أَحْرَمْنَا بِالْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فِي شَوَّالٍ فَسَأَلْنَا الْفُقَهَاءَ وَالنَّاسُ مُتَوَافِرُونَ فَكُلُّهُمْ قَالَ: هِيَ مُتْعَةٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مَطَرٍ، عَنْ مَطَرٍ بِصَلاَتِهِ، عَنِ الْحَسَنِ وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ فِيمَنْ أَهَلَّ فِي رَمَضَانَ وَطَافَ فِي شَوَّالٍ قَالاَ جَمِيعًا: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي طَافَ فِيهِ.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: إذَا رَجَعَ إلَى

(7/159)


أَهْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ وَبَعْدَ أَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا; فَإِنْ أَقَامَ حَتَّى يَحُجَّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ, وَهُوَ كُلُّهُ قَوْلُ سُفْيَانَ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَدَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ هِلاَلِ شَوَّالٍ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا, وَإِنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بَعْدَ هِلاَلِ شَوَّالٍ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ. كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ, وَابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ مَعْمَرٌ: عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ, وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: إذَا دَخَلَ الْمُحْرِمُ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يَرَى هِلاَلَ شَوَّالٍ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا, وَإِنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بَعْدَ أَنْ يَرَى هِلاَلَ شَوَّالٍ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إذَا مَكَثَ إلَى الْحَجِّ وَهُوَ قَوْلُ الأَوْزَاعِيِّ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِثْلَ قَوْلِنَا: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ أَوْ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ الْحَجِّ فَقَدْ اسْتَمْتَعَ, وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَدْيُ, أَوْ الصِّيَامُ إذَا لَمْ يَجِدْ هَدْيًا.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ سَيْفٍ، عَنْ يَزِيدَ الْفَقِيرِ أَنَّ قَوْمًا اعْتَمَرُوا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى الْمَدِينَةِ فَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَيْهِمْ الْهَدْيُ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ فِي مَنْ قَدِمَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُعْتَمِرًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ: لاَ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا حَتَّى يَأْتِيَ مِنْ مِيقَاتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, قُلْت لَهُ: أَرَأْيٌ أَمْ عِلْمٌ قَالَ: بَلْ عِلْمٌ.
قال أبو محمد: إنَّمَا وَافَقْنَا عَطَاءً فِي أَنَّهُ لاَ يَكُونُ الْمُتَمَتِّعُ إلاَّ مَنْ أَحْرَمَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ لاَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ مَنْ قَدِمَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُحْرِمًا ثُمَّ اعْتَمَرَ ثُمَّ حَلَّ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَنَّهُ لَيْسَ مُتَمَتِّعًا, بَلْ هُوَ مُتَمَتِّعٌ إنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: عُمْرَتُهُ فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَهَلَّ فِيهِ. وَمِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا هُشَيْمٌ, وَأَبُو عَوَانَةَ, قَالَ أَبُو عَوَانَةَ: عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ, وَقَالَ هُشَيْمٌ: أَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ, ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَسَنُ وَسَعِيدٌ قَالاَ: فِي الْمُتَمَتِّعِ عَلَيْهِ الْهَدْيُ, وَإِنْ رَجَعَ إلَى بِلاَدِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: إنْ أَحْرَمَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ مِنْ عُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَهَلَّ هِلاَلُ شَوَّالٍ فَأَتَمَّ عُمْرَتَهُ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ لَمْ يُقِمْ إلاَّ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى بَلَدِهِ أَوْ أَهَلَّ بِعُمْرَتِهِ كَذَلِكَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ, فَمَا دُونِهَا فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ عَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ, فَإِنْ أَهَلَّ بِعُمْرَتِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ, وَطَافَ مِنْ عُمْرَتِهِ ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ, ثُمَّ أَهَلَّ هِلاَلُ شَوَّالٍ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَوَافَقَهُ أَبُو يُوسُفَ عَلَى ذَلِكَ

(7/160)


إلاَّ، أَنَّهُ قَالَ: إذَا رَجَعَ إلَى مَا وَرَاءَ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا, وَقَالُوا: مَنْ كَانَ مُتَمَتِّعًا، وَلاَ هَدْيَ مَعَهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ إذَا أَتَمَّ عُمْرَتَهُ, فَإِنْ كَانَ أَتَى بِهَدْيِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ الْحَجِّ يَوْمَ النَّحْرِ, فَإِنْ حَلَّ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ آخَرُ لاِِحْلاَلِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ شَيْءٌ وَإِنْ قَلَّ فَأَهَلَّ هِلاَلُ شَوَّالٍ ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَوْ رَجَعَ إلَى أُفُقٍ دُونَ أُفُقِهِ فِي الْبُعْدِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ, فَإِنْ أَتَمَّ عُمْرَتَهُ فِي رَمَضَانَ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا وَكَذَلِكَ الَّذِي يَعْتَمِرُ فِي شَهْرٍ مِنْ شُهُورِ الْحَجِّ, ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أُفُقِهِ أَوْ أُفُقٍ مِثْلِ أُفُقِهِ فِي الْبُعْدِ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا, وَإِنْ حَجَّ مِنْ عَامِهِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: مَنْ اعْتَمَرَ أَكْثَرَ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, ثُمَّ أَقَامَ أَوْ خَرَجَ إلَى مَا دُونَ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إذَا حَجَّ مِنْ عَامِهِ; فَإِنْ خَرَجَ إلَى مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ أَوْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَلَيْسَ مُتَمَتِّعًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقْسِيمِهِ بَيْنَ الأَرْبَعَةِ الأَشْوَاطِ وَالأَقَلِّ فِيمَا يَكُونُ بِهِ مُتَمَتِّعًا, فَقَوْلٌ لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ حُجَّةَ لَهُ فِيهِ لاَ مِنْ قُرْآنٍ, وَلاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ قَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ تَابِعٍ; وَلاَ قِيَاسٍ. وَاحْتَجَّ لَهُ بَعْضُ مُقَلِّدِيهِ بِأَنَّهُ عَوَّلَ عَلَى قَوْلِ عَطَاءٍ فِي الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ أَنْ طَافَتْ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ.
قال أبو محمد: وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ الْمُتْعَةِ, وَقَوْلُ عَطَاءٍ أَيْضًا فِيهَا خَطَأٌ; لاَِنَّهُ خِلاَفُ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الْحَائِضَ أَنْ لاَ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَلاَِنَّهُ تَقْسِيمٌ بِلاَ دَلِيلٍ أَصْلاً.
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: إنَّ الْمُعْتَمِرَ الَّذِي مَعَهُ الْهَدْيُ الْمُرِيدَ الْحَجَّ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ حَجِّهِ فَإِنَّهُ بَنَى عَلَى الآثَارِ الْوَارِدَةِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَمْرِهِ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِالْبَقَاءِ عَلَى إحْرَامِهِ, وَمَنْ لاَ هَدْيَ مَعَهُ بِالإِحْلاَلِ; وَالاِحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الآثَارِ لِقَوْلٍ أَبِي حَنِيفَةَ جَهْلٌ مُظْلِمٌ وَقَوْلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ, أَوْ تَعَمُّدٌ مِمَّنْ يَعْلَمُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكِلاَهُمَا بَلِيَّةٌ; لإِنَّ جَمِيعَ تِلْكَ الآثَارِ إنَّمَا وَرَدَتْ بِأَنَّهُ عليه السلام أَمَرَ مَنْ لاَ هَدْيَ مَعَهُ مِنْ الْمُفْرِدِينَ لِلْحَجِّ وَالْقَارِنِينَ بِالإِحْلاَلِ, وَأَمَرَ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِأَنْ يَقْرِنَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ; وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَ مُعْتَمِرًا لَمْ يُقْرِنْ بِالْبَقَاءِ عَلَى إحْرَامِهِ; وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي ذِكْرِنَا عَمَلَ الْحَجِّ مِنْ دِيوَانِنَا هَذَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فِي تَفْرِيقِهِ بَيْنَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ السَّعْيِ لِعُمْرَتِهِ حَتَّى يَهُلَّ هِلاَلُ شَوَّالٍ فَلاَ يُحْفَظُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ, وَلاَ لَهُ أَيْضًا مُتَعَلَّقٌ فِي ذَلِكَ لاَ بِقُرْآنٍ, وَلاَ بِسُنَّةٍ, وَلاَ بِرِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ سَقِيمَةٍ, وَلاَ بِقَوْلِ صَاحِبٍ, وَلاَ تَابِعٍ، وَلاَ قِيَاسٍ.

(7/161)


وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا: لاَ حُجَّةَ لَهُ فِيهِ أَصْلاً, وَإِنَّمَا هِيَ آرَاءٌ مَحْضَةٌ فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي سَائِرِ الأَقْوَالِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ: أَحَدُهَا: مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ, وَالثَّانِي: مَنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ أَوْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْ بَلَدِهِ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ; وَالثَّالِثُ: مَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثُمَّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ; وَالرَّابِعُ: هَلْ الْمُتَمَتِّعُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ كَمَا قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَمْ لَيْسَ هَذَا مُتَمَتِّعًا؟
فَنَظَرْنَا فِي قَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ هَذَا فَوَجَدْنَا غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، قَدْ خَالَفُوهُ; وَوَجَدْنَاهُ قَوْلاً بِلاَ دَلِيلٍ; بَلْ الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى خَطَئِهِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى مَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إدْرَاكِ الْحَجِّ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ: مُحْصَرًا, وَلَمْ يُسَمِّهِ: مُتَمَتِّعًا وَفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِهِ وَبَيْنَ حُكْمِ الْمُتَمَتِّعِ, قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ اسْمَيْهِمَا وَبَيْنَ حُكْمَيْهِمَا; فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ: هُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِي قَوْلِ طَاوُوس: إنَّ مَنْ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ, وَإِنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ, فَوَجَدْنَاهُ خَطَأً; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} فَصَحَّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَيْسَ مُتَمَتِّعًا إلاَّ مَنْ حَجَّ بَعْدَ عُمْرَتِهِ لِوُجُوبِ الصِّيَامِ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا.
ثُمَّ نَظَرْنَا فِيمَنْ اعْتَمَرَ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ, أَوْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ, أَوْ اعْتَمَرَ بَعْضَ عُمْرَتِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ أَقَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا, وَبَعْضَهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَقَلَّهَا أَوْ أَكْثَرَهَا, وَفِيمَنْ أَقَامَ مِنْ هَؤُلاَءِ بِمَكَّةَ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ أَوْ لَمْ يُقِمْ لَكِنْ خَرَجَ إلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلاَةُ أَوْ لاَ تُقْصَرُ, أَوْ إلَى مِيقَاتٍ أَوْ وَرَاءَ مِيقَاتٍ إلَى بَلَدِهِ أَوْ مِثْلِ بَلَدِهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْ بَلَدِهِ, ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَكَانَ كُلُّ هَؤُلاَءِ مُمْكِنًا فِي اللُّغَةِ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ: مُتَمَتِّعٌ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, وَمُمْكِنًا أَنْ لاَ يَقَعَ عَلَيْهِ أَيْضًا اسْمُ: مُتَمَتِّعٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُوقِعَ عَلَى أَحَدٍ إيجَابُ غَرَامَةِ هَدْيٍ أَوْ إيجَابُ صَوْمٍ بِالظَّنِّ إلاَّ بِبَيَانٍ جَلِيٍّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْزَمَهُ ذَلِكَ, فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى بَيَانِ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ.
فَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ، نا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، نا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, وَأَهْدَى وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ

(7/162)


مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, فَكَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى, فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ, فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حُرِمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَقْصُرْ وَيَحِلَّ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ; فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بَيَانُ مَنْ هُوَ الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ الْمَذْكُورُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا أَمَرَ بِهَذَا أَصْحَابَهُ الْمُتَمَتِّعِينَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, وَهُمْ قَوْمٌ ابْتَدَءُوا الإِحْرَامَ لِعُمْرَتِهِمْ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجُّوا فِي تِلْكَ الأَشْهُرِ فَخَرَجَ بِهَذَا الْخَبَرِ الثَّابِتِ، عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَتِّعًا بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ كُلُّ مَنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ عُمْرَتِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كُلِّهَا أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ أَقَلِّهَا; لاَِنَّهُ عليه السلام لَمْ يُخَاطِبْ بِهَذَا الْحُكْمِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصِّفَاتِ بِلاَ شَكٍّ وَارْتَفَعَ الإِشْكَالُ فِي أَمْرِ هَؤُلاَءِ بِيَقِينٍ. وَأَيْضًا فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إنْ عَمِلَ الأَكْثَرَ مِنْ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا دُونَ أَنْ يَقُولَ: إنَّ مَنْ عَمِلَ مِنْهَا شَيْئًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ;، وَلاَ سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا: مِنْ أَيْنَ لَكَ أَنَّ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ هُوَ الأَكْثَرُ بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الأَقَلِّ; لإِنَّ الْعُمْرَةَ عِنْدَك وَعِنْدَنَا إحْرَامُ مُدَّةٍ ثُمَّ سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ, ثُمَّ سَبْعَةِ أَطَوَافً بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ; فَالْبَاقِي بَعْدَ الأَرْبَعَةِ الأَشْوَاطِ قَدْ يَكُونُ أَكْثَرَ مِمَّا مَضَى لَهُ مِنْ عَمَلِ الْعُمْرَةِ. وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إنْ عَمِلَ مِنْ عُمْرَتِهِ شَيْئًا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ: مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا دُونَ أَنْ تَقُولَ: إنْ عَمِلَ الأَكْثَرَ مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ;، وَلاَ سَبِيلَ إلَى دَلِيلٍ أَصْلاً; وَكِلْتَا الدَّعْوَتَيْنِ تُعَارِضُ الآُخْرَى, وَكِلْتَاهُمَا لاَ شَيْءَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَبَقِيَ أَمْرُ مَنْ خَرَجَ بَعْدَ اعْتِمَارِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ إلَى بَلَدِهِ أَوْ إلَى بَلَدٍ فِي الْبُعْدِ مِثْلِ بَلَدِهِ, أَوْ إلَى وَرَاءِ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ, أَوْ إلَى مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ, أَوْ إلَى مَا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ: فَوَجَدْنَا هَذَا الْخَبَرَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُبَيِّنِ، عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُرَادَهُ لَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ عَلَى مَنْ خَاطَبَهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ إقَامَةً بِمَكَّةَ وَتَرْكَ خُرُوجٍ مِنْهَا أَصْلاً {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ شَرْطِ التَّمَتُّعِ لَمَا أَغْفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيَانَهُ حَتَّى نَحْتَاجَ فِي ذَلِكَ إلَى بَيَانٍ بِرَأْيٍ فَاسِدٍ, وَظَنٍّ كَاذِبٍ, وَتَدَافُعٍ مِنْ الأَقْوَالِ بِلاَ بُرْهَانٍ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْخَبَرِ الثَّابِتِ: وَيَحِلَّ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ بَيَانٌ بِإِبَاحَةِ الْمُهْلَةِ بَيْنَ الإِحْلاَلِ وَالإِهْلاَلِ; وَلاَ مَانِعَ لِمَنْ عَرَضَتْ لَهُ مِنْهُمْ، رضي

(7/163)


الله عنهم، حَاجَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ، عَنْ مَكَّةَ لَهَا فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ الإِقَامَةُ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ مِنْ شُرُوطِ التَّمَتُّعِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَصَحَّ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ بِنَصِّ الْخَبَرِ الْمَذْكُورِ هُوَ مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ فِي تِلْكَ الأَشْهُرِ فَقَطْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إنْ خَرَجَ إلَى بَلَدِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْهَدْيُ وَالصَّوْمُ اللَّذَانِ افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدَهُمَا عَلَى الْمُتَمَتِّعِ: مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا وَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَالَ: إنْ خَرَجَ إلَى بَلَدٍ مِثْلِ بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَهَكَذَا يُقَالُ أَيْضًا لِمَنْ قَالَ: إنْ خَرَجَ إلَى بَلَدٍ فِي الْبُعْدِ مِثْلِ بَلَدِهِ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ مِنْ أَيْنَ قُلْتَ هَذَا وَهَلاَّ خَصَّصَتْ بِسُقُوطِ التَّمَتُّعِ مَنْ خَرَجَ إلَى بَلَدِهِ فَقَطْ; وَيُقَالُ لَهُمَا جَمِيعًا: هَلاَّ قُلْتُمَا مَنْ خَرَجَ إلَى وَرَاءِ مِيقَاتٍ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ؟
قال أبو محمد: لاَ مَخْلَصَ لَهُمْ مِنْ هَذَا السُّؤَالِ أَصْلاً إلاَّ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ أَوْ مِنْ مِيقَاتٍ مِنْ الْمَوَاقِيتِ فَنَقُولُ لِمَنْ قَالَ هَذَا: قُلْت الْبَاطِلَ, وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ أَنْ يَأْتِيَ بِالْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ، وَلاَ مِنْ مِثْلِ بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ، وَلاَ مِنْ مِيقَاتٍ، وَلاَ بُدَّ; بَلْ أَنْتُمْ مُجْمِعُونَ مَعَنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الاِسْتِطَاعَةِ لِلْحَجِّ لَوْ خَرَجَ تَاجِرًا أَوْ مُسَافِرًا لِبَعْضِ الأَمْرِ قَبْلَ مِقْدَارٍ مَا إنْ أَرَادَ الْحَجَّ كَانَتْ لَهُ مُهْلَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَقْتِ الَّذِي إذَا أَهَلَّ فِيهِ أَدْرَكَ الْحَجَّ عَلَى سَعَةٍ وَمَهْلٍ, فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى مَكَّةَ حِينَئِذٍ أَصْلاً, وَأَنَّهُ إنْ قَرُبَ مِنْ مَكَّةَ لِحَاجَتِهِ فَقَرُبَ وَقْتُ الْحَجِّ وَهُوَ بِمُسْتَطِيعٍ لَهُ فَحَجَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَنَّهُ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ بِأَتَمِّ مَا يَلْزَمُهُ, وَأَنَّهُ لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَأْتِ لِلْحَجِّ مِنْ بَلَدِهِ أَصْلاً. وَكَذَلِكَ لاَ خِلاَفَ فِيمَنْ جَازَ عَلَى مِيقَاتٍ لاَ يُرِيدُ حَجًّا, وَلاَ عُمْرَةً, وَلاَ دُخُولَ مَكَّةَ لَكِنْ لِحَاجَةٍ لَهُ فِي رِهَاطٍ أَوْ فِي بُسْتَانِ ابْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ الإِهْلاَلُ مِنْ هُنَالِكَ, وَأَنَّهُ إنْ بَدَا لَهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ, وَقَدْ تَجَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَإِنَّهُ يُهِلُّ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ, وَحَجُّهُ تَامٌّ وَعُمْرَتُهُ تَامَّةٌ, وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَصِّرٍ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَلْزَمُهُ. فَصَحَّ أَنَّ الْقَصْدَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ مِنْ بَلَدِ الإِنْسَانِ, أَوْ مِنْ مِثْلِ بَلَدِهِ فِي الْبُعْدِ, أَوْ مِنْ الْمِيقَاتِ لِمَنْ لَمْ يَمُرَّ بِهِ, وَهُوَ يُرِيدُ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ الْحَجِّ, وَلاَ الْعُمْرَةِ فَبَطَلَتْ هَذِهِ الأَقْوَالُ الْفَاسِدَةُ جِدًّا, وَكَانَ تَعَارُضُهَا وَتَوَافُقُهَا بُرْهَانًا فِي فَسَادِ جَمِيعِهَا, فَإِنْ قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّهُ إنْ خَرَجَ إلَى الْمِيقَاتِ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ; لإِنَّ أَهْلَ الْمَوَاقِيتِ لَيْسَ لَهُمْ التَّمَتُّعُ قلنا لَهُ: قَدْ قُلْتَ الْبَاطِلَ, وَاحْتَجَجْت لِلْخَطَأِ بِالْخَطَأِ, وَلِدَعْوَى كَاذِبَةٍ, وَكَفَى بِهَذَا مَقْتًا. فَإِنْ قَالَ: إنَّ أَهْلَ

(7/164)


الْمَوَاقِيتِ فَمَا دُونَهَا إلَى مَكَّةَ لاَ هَدْيَ عَلَيْهِمْ، وَلاَ صَوْمَ فِي التَّمَتُّعِ قلنا: قُلْت الْبَاطِلَ وَادَّعَيْت مَا لاَ يَصِحُّ, ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَك لَكَانَ حُجَّةً عَلَيْك; لإِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لاَ هَدْيَ عَلَيْهِمْ, وَلاَ صَوْمَ فِي التَّمَتُّعِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُقِيمُ بِهَا حَتَّى يَحُجَّ كَذَلِكَ, بَلْ الْهَدْيُ عَلَيْهِ, أَوْ الصَّوْمُ; فَهَلاَّ إذْ كَانَ عِنْدَك مَنْ خَرَجَ إلَى مِيقَاتٍ فَمَا دُونَهُ إلَى مَكَّةَ يَصِيرُ فِي حُكْمِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي سُقُوطِ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ عَلَيْهِ, جَعَلْت أَيْضًا الْمُقِيمَ بِمَكَّةَ حَتَّى يَحُجَّ فِي حُكْمِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي سُقُوطِ الْهَدْيِ وَالصَّوْمِ عَنْهُمَا فَظَهَرَ تَنَاقُضُ هَذَا الْقَوْلِ الْفَاسِدِ أَيْضًا. ثُمَّ يُقَالُ لِمَنْ قَالَ: إنْ خَرَجَ إلَى مَكَان تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلاَةُ, سَقَطَ عَنْهُ الْهَدْيُ وَالصَّوْمُ: مِنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا، وَلاَ دَلِيلَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَصْلاً. فَإِنْ قَالَ: لاَِنَّهُ قَدْ سَافَرَ إلَى الْحَجِّ قلنا: نَعَمْ فَكَانَ مَاذَا وَمَا الَّذِي جَعَلَ سَفَرَهُ مُسْقِطًا لِلْهَدْيِ, وَالصَّوْمِ اللَّذَيْنِ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ هَاتُوا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَلاَ سَبِيلَ إلَى ذَلِكَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
قال أبو محمد: وَمِنْ هَذَا الْخَبَرِ الَّذِي ذَكَرْنَا غَلِطَ أَبُو حَنِيفَةَ, وَأَصْحَابُهُ فِي إيجَابِهِمْ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ: أَنْ يَبْقَى عَلَى إحْرَامِهِ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ.
قال أبو محمد: وَلاَ حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ; لإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَاوِي الْخَبَرِ رضي الله عنه وَإِنْ كَانَ قَالَ فِي أَوَّلِهِ: تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي الْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَإِنَّهُ بَيَّنَ إثْرَ هَذَا الْكَلاَمِ صِفَةَ عَمَلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَنَّهُ عليه السلام بَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَذَكَرَ صِفَةَ الْقِرَانِ. وَهَكَذَا صَحَّ فِي سَائِرِ الأَخْبَارِ مِنْ رِوَايَةِ الْبَرَاءِ, وَعَائِشَةَ, وَحَفْصَةَ أُمَّيْ الْمُؤْمِنِينَ, وَأَنَسٍ, وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ عليه السلام كَانَ قَارِنًا. فَصَحَّ أَنَّ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ عليه السلام إذْ أَهْدَوْا بِأَنْ لاَ يَحِلُّوا إنَّمَا كَانُوا قَارِنِينَ وَهَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، رضي الله عنها، أَنَّهُ عليه السلام أَمَرَ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِأَنْ يُهِلَّ بِحَجٍّ مَعَ عُمْرَتِهِ فَعَادَ احْتِجَاجُهُمْ عَلَيْهِمْ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ. فإن قال قائل: قَدْ صَحَّ الإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَابْتَدَأَ عُمْرَتَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ; ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ إلَى أَنْ حَجَّ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا أَنَّهُ مُتَمَتِّعٌ عَلَيْهِ الْهَدْيُ, أَوْ الصَّوْمُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ إذَا أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ, وَإِذَا خَرَجَ بَيْنَ عُمْرَتِهِ, وَحَجِّهِ مِنْ مَكَّةَ أَمُتَمَتِّعٌ هُوَ أَمْ لاَ فَوَجَبَ أَنْ لاَ يَلْزَمَهُ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ إلاَّ مَنْ أَجْمَعَ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْمُتَمَتِّعِ قلنا: هَذَا خَطَأٌ, وَمَا أَجْمَعَ النَّاسُ قَطُّ عَلَى مَا قُلْتُمْ; وَقَدْ رُوِّينَا، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ هُوَ الْمُحْصَرُ لاَ مَنْ حَجَّ بَعْدَ أَنْ اعْتَمَرَ, وَلاَ مَعْنَى لِمُرَاعَاةِ الإِجْمَاعِ مَعَ وُرُودِ بَيَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم; لإِنَّ فِي الْقَوْلِ بِهَذَا إيجَابَ مُخَالَفَةِ أَوَامِرِهِ عليه السلام مَا لَمْ يُجْمِعْ النَّاسُ عَلَيْهَا; وَهَذَا عَيْنُ الْبَاطِلِ بَلْ إذَا تَنَازَعَ النَّاسُ

(7/165)


رَدَدْنَا ذَلِكَ إلَى مَا افْتَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا الرَّدَّ إلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ, وَالسُّنَّةِ لاَ نُرَاعِي مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ بَيَانِ السُّنَّةِ فِي أَحَدِ أَقْوَالِ الْمُتَنَازِعِينَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: لاَ يَجِبُ الْوُقُوفُ بِالْهَدْيِ بِعَرَفَةَ فَإِنْ وَقَفَ بِهَا فَحَسَنٌ, وَإِلاَّ فَحَسَنٌ; فَإِنَّ مَالِكًا وَمَنْ قَلَّدَهُ قَالَ: لاَ يُجْزِئُ مِنْ الْهَدْيِ الَّذِي يُبْتَاعُ فِي الْحَرَمِ إلاَّ أَنْ يُوقَفَ بِعَرَفَةَ، وَلاَ بُدَّ; وَإِلاَّ فَلاَ يُجْزِئُ إنْ كَانَ وَاجِبًا; فَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَلَمْ يُوقَفْ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُنْحَرُ بِمَكَّةَ، وَلاَ بُدَّ, وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُنْحَرَ بِمِنًى, فَإِنْ اُبْتِيعَ الْهَدْيُ فِي الْحِلِّ ثُمَّ أُدْخِلَ الْحَرَمَ أَجْزَأَ, وَإِنْ لَمْ يُوقَفْ بِعَرَفَةَ وَالإِبِلُ, وَالْبَقَرُ, وَالْغَنَمُ عِنْدَهُمْ سَوَاءٌ فِي كُلِّ ذَلِكَ. وَقَالَ اللَّيْثُ: لاَ يَكُونُ هَدْيًا إلاَّ مَا قَلَّدَ وَأَشْعَرَ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ: وقال أبو حنيفة, وَالشَّافِعِيُّ, وَسُفْيَانُ, وَأَبُو سُلَيْمَانَ: لاَ مَعْنَى لِلتَّعْرِيفِ بِالْهَدْيِ سَوَاءٌ اُبْتِيعَ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْحِلِّ, إنْ عَرَّفَ فَجَائِزٌ, وَإِنْ لَمْ يُعَرِّفْ فَجَائِزٌ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ فَمَا نَعْلَمُهُ، عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لاَ قَبْلَهُ، وَلاَ مَعَهُ, وَلاَ نَعْرِفُ لَهُ وَجْهًا أَصْلاً لاَ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ, وَلاَ مِنْ رِوَايَةٍ سَقِيمَةٍ, وَلاَ مِنْ قَوْلِ سَلَفٍ, وَلاَ مِنْ قِيَاسٍ, وَلاَ مِنْ رَأْيٍ لَهُ مَعْنَى. وَأَمَّا قَوْلُ اللَّيْثِ فَإِنَّهُ يُحْتَجُّ لَهُ بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ, وَإِسْرَائِيلَ, وَيُونُسَ بْنِ يُونُسَ, قَالَ حَجَّاجٌ: عَنْ عَطَاءٍ; وَقَالَ إسْرَائِيلُ: عَنْ ثُوَيْرِ بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنْ طَاوُوس أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَّفَ بِالْبُدْنِ.
قال علي: وهذانِ مُرْسَلاَنِ, وَلاَ حُجَّةَ فِي مُرْسَلٍ, ثُمَّ إنَّ الْحَجَّاجَ, وَإِسْرَائِيلَ, وَثُوَيْرًا كُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ, لإِنَّ هَذَا فِعْلٌ لاَ أَمْرٌ, وَلاَ حُجَّةَ فِيهِ لِمَالِكٍ لاَِنَّهُ شَرَطَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ شَيْءٌ مِنْهَا, وَهَدْيُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا سِيقَ مِنْ الْمَدِينَةِ بِلاَ خِلاَفٍ; وَمَالِكٌ لاَ يُوجِبُ التَّوْقِيفَ بِعَرَفَةَ فِيمَا أُدْخِلَ مِنْ الْحِلِّ. وَيُحْتَجُّ لِقَوْلِ اللَّيْثِ أَيْضًا بِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ، هُوَ ابْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لاَ هَدْيَ إلاَّ مَا قُلِّدَ, وَسِيقَ, وَوُقِفَ بِعَرَفَةَ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُلُّ هَدْيٍ لَمْ يُشْعَرْ وَيُقَلَّدْ وَيُفَضْ بِهِ مِنْ عَرَفَةَ فَلَيْسَ بِهَدْيٍ إنَّمَا هِيَ ضَحَايَا.
قَالَ عَلِيٌّ: مَالِكٌ لاَ يُحْتَجُّ لَهُ بِهَذَا; لاَِنَّهُ لاَ يَرَى التَّرْكَ لِلتَّقْلِيدِ وَلِلإِشْعَارِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ هَدْيًا.
قَالَ عَلِيٌّ: لاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ خَالَفَ ابْنُ عُمَرَ فِي هَذَا غَيْرَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا رَبَاحُ بْنُ أَبِي مَعْرُوفٍ،

(7/166)


عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إنْ شِئْت فَعَرِّفْ الْهَدْيَ, وَإِنْ شِئْت فَلاَ تُعَرِّفْ بِهِ إنَّمَا أَحْدَثَ النَّاسُ السِّيَاقَ مَخَافَةَ السُّرَّاقِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، نا الأَعْمَشُ، عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: دَعَا الأَسْوَدُ مَوْلًى لَهُ فَأَمَرَهُ أَنْ يُخْبِرَنِي بِمَا قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ, فَقَالَ: نَعَمْ سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْت: أُعَرِّفُ بِالْهَدْيِ فَقَالَتْ: لاَ عَلَيْك أَنْ لاَ تُعَرِّفَ بِهِ. وَعَنْ عَطَاءٍ, وطَاوُوس: لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تُعَرِّفَ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَعْرِيفِ بَدَنَةٍ أُدْخِلَتْ مِنْ الْحِلِّ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَمْ يَرَ هَدْيًا إلاَّ مَا عُرِّفَ بِهِ مِنْ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ خَاصَّةً.
قال أبو محمد: لَمْ يَأْتِ أَمْرٌ بِتَعْرِيفِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي قُرْآنٍ, وَلاَ سُنَّةٍ, وَلاَ يَجِبُ إلاَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَحَدِهِمَا, وَلاَ قِيَاسَ يُوجِبُ ذَلِكَ أَيْضًا; لإِنَّ مَنَاسِكَ الْحَجِّ إنَّمَا تَلْزَمُ النَّاسَ لاَ الإِبِلَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: وَلاَ هَدْيَ عَلَى الْقَارِنِ غَيْرُ الْهَدْيِ الَّذِي سَاقَ مَعَ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ, وَهُوَ هَدْيُ تَطَوُّعٍ سَوَاءٌ مَكِّيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَكِّيٍّ فَإِنَّ مَالِكًا, وَالشَّافِعِيَّ قَالاَ عَلَى الْقَارِنِ هَدْيٌ وَحُكْمُهُ كَحُكْمِ الْمُتَمَتِّعِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ فِي تَعْوِيضِ الصَّوْمِ مِنْهُ إنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا, وَلَيْسَ عَلَى الْمَكِّيِّ عِنْدَهُمَا هَدْيٌ, وَلاَ صَوْمٌ إنْ قَرَنَ, كَمَا لاَ شَيْءَ عَلَيْهِ فِي التَّمَتُّعِ. وقال مالك: لَمْ أَسْمَعْ قَطُّ أَنَّ مَكِّيًّا قَرَنَ. وقال أبو حنيفة: إنْ تَمَتَّعَ الْمَكِّيُّ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ لاَ هَدْيَ, وَلاَ صَوْمَ وَإِنْ قَرَنَ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَلاَ بُدَّ;، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يُعَوَّضَ مِنْهُ صَوْمٌ وَجَدَ هَدْيًا أَوْ لَمْ يَجِدْ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا. قَالَ: وَالْمَكِّيُّ عِنْدَهُ مَنْ كَانَ سَاكِنًا فِي أَحَدِ الْمَوَاقِيتِ فَمَا دُونَهَا إلَى مَكَّةَ قَالَ: فَإِنْ تَمَتَّعَ مَنْ هُوَ سَاكِنٌ فِيمَا وَرَاءَ الْمَوَاقِيتِ أَوْ قَرَنَ; فَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ, فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصَوْمُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعَ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَفِيهِ وُجُوهٌ جَمَّةٌ مِنْ الْخَطَأِ: أَوَّلُهَا أَنَّهُ تَقْسِيمٌ لاَ يُعْرَفُ، عَنْ أَحَدٍ قَبْلَهُ. وَالثَّانِي تَفْرِيقُهُ بَيْنَ قِرَانِ الْمَكِّيِّ وَبَيْنَ تَمَتُّعِهِ, وَتَسْوِيَتُهُ بَيْنَ قِرَانِ غَيْرِ الْمَكِّيِّ وَبَيْنَ تَمَتُّعِهِ بِلاَ بُرْهَانٍ. الثَّالِثُ تَعْوِيضُهُ الصَّوْمَ مِنْ هَدْيِ غَيْرِ الْمَكِّيِّ, وَمَنْعُهُ مِنْ تَعْوِيضِهِ الصَّوْمَ مِنْ هَدْيِ الْمَكِّيِّ; كُلُّ ذَلِكَ رَأْيٌ فَاسِدٌ لاَ سَلَفَ لَهُ فِيهِ, وَلاَ دَلِيلَ أَصْلاً. فَقَالُوا: إنَّ الْمَكِّيَّ إذَا قَرَنَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي إسَاءَةٍ. فَقُلْنَا: فَكَانَ مَاذَا وَأَيْنَ وَجَدْتُمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي إسَاءَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُعَوِّضَ مِنْ هَدْيهِ دَمٌ وَهَذَا قَاتِلُ الصَّيْدِ مُحْرِمًا دَاخِلٌ فِي أَعْظَمِ الإِسَاءَةِ وَأَشَدِّ الإِثْمِ, وَقَدْ عَوَّضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَدْيِهِ صَوْمًا وَإِطْعَامًا وَخَيَّرَهُ فِي أَيِّ ذَلِكَ شَاءَ وَهَذَا الْمُحْصَرُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إسَاءَةٍ بَلْ مَأْجُورٌ مَعْذُورٌ وَلَمْ يُعَوِّضْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ هَدْيِهِ صَوْمًا، وَلاَ إطْعَامًا; فَكَمْ هَذَا التَّخْلِيطُ وَالْخَبْطُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِشَرْعِ الشَّرَائِعِ الْفَاسِدَةِ فِيهِ؟

(7/167)


وَأَيْضًا: فَالْمَكِّيُّ عِنْدَهُمْ إذَا تَمَتَّعَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي إسَاءَةٍ أَوْ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي إسَاءَةٍ لاَ بُدَّ مِنْ أَحَدِهِمَا, فَإِنْ كَانَ دَاخِلاً فِي إسَاءَةٍ فَلِمَ لَمْ يَجْعَلُوا عَلَيْهِ هَدْيًا كَاَلَّذِي جَعَلُوا فِي الْقِرَانِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ دَاخِلاً فِي إسَاءَةٍ فَمِنْ أَيْنَ وَجَبَ أَنْ يَدْخُلَ إذَا قَرَنَ فِي إسَاءَةٍ فَهَلْ فِيمَا يَأْتِي بِهِ الْمَمْرُورُونَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا وَأَمَّا نَحْنُ فَلَيْسَ الْمَكِّيُّ، وَلاَ غَيْرُهُ مُسِيئًا فِي قِرَانِهِ، وَلاَ فِي تَمَتُّعِهِ بَلْ هُمَا مُحْسِنَانِ فِي كُلِّ ذَلِكَ كَسَائِرِ النَّاسِ، وَلاَ فَرْقَ; فَسَقَطَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِعَظِيمِ تَنَاقُضِهِ وَفَسَادِهِ, وَأَمَّا مَالِكٌ, وَالشَّافِعِيُّ, فَإِنَّهُمَا قَاسَا الْقِرَانَ عَلَى الْمُتْعَةِ فِي الْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ.
قال أبو محمد: الْقِيَاسُ كُلُّهُ خَطَأٌ ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَيْنَ الْخَطَأِ; لاَِنَّهُ لاَ شَبَهَ بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ; لإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ يَجْعَلُ بَيْنَ عُمْرَتِهِ وَحَجِّهِ إحْلاَلاً، وَلاَ يَجْعَلُ الْقَارِنُ بَيْنَ عُمْرَتِهِ وَحَجِّهِ إحْلاَلاً. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْقَارِنَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَنَا لاَ يَطُوفُ إلاَّ طَوَافًا وَاحِدًا، وَلاَ يَسْعَى إلاَّ سَعْيًا وَاحِدًا وَالْمُتَمَتِّعُ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ. وَأَيْضًا: فَإِنَّ الْقَارِنَ لاَ بُدَّ لَهُ مِنْ عَمَلِ الْحَجِّ مَعَ عُمْرَتِهِ وَالْمُتَمَتِّعُ إنْ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَحُجَّ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَحُجَّ, وَالْقِيَاسُ عِنْدَهُمَا لاَ يَكُونُ إلاَّ عَلَى عِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ، وَلاَ عِلَّةَ تَجْمَعُ بَيْنَ الْقَارِنِ وَالْمُتَمَتِّعِ.
فَإِنْ قَالُوا: الْعِلَّةُ فِي ذَلِكَ هِيَ إسْقَاطُ أَحَدِ السَّفَرَيْنِ قلنا: هَذِهِ عِلَّةٌ مَوْضُوعَةٌ لاَ دَلِيلَ لَكُمْ عَلَى صِحَّتِهَا وَقَدْ أَرَيْنَاكُمْ بُطْلاَنَهَا مِرَارًا, وَأَقْرَبُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ وَعَمِلَ عُمْرَتَهُ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ ثُمَّ أَهَلَّ هِلاَلُ شَوَّالٍ إثْرَ إحْلاَلِهِ مِنْهَا ثُمَّ أَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَبْرَحْ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا، وَلاَ صَوْمَ; وَقَدْ أَسْقَطَ أَحَدَ السَّفَرَيْنِ. وَكَذَلِكَ مَنْ قَصَدَ إلَى مَا دُونَ التَّنْعِيمِ دَاخِلَ الْعَامِ لِحَاجَةٍ فَلَمَّا صَارَ هُنَالِكَ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ حَجًّا، وَلاَ عُمْرَةً بَدَا لَهُ فِي الْعُمْرَةِ فَاعْتَمَرَ مِنْ التَّنْعِيمِ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ; ثُمَّ أَقَامَ حَتَّى حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَلاَ هَدْيَ عَلَيْهِ، وَلاَ صَوْمَ عِنْدَهُمَا; وَهُوَ قَدْ أَسْقَطَ السَّفَرَيْنِ جَمِيعًا سَفَرَ الْحَجِّ وَسَفَرَ الْعُمْرَةِ. ثُمَّ يَقُولاَنِ فِيمَنْ حَجَّ بَعْدَهُ بِسَاعَةٍ إثْرَ ظُهُورِ هِلاَلِ شَوَّالٍ فَاعْتَمَرَ, ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْبَيْدَاءِ عَلَى أَقَلَّ مِنْ بَرِيدٍ مِنْ الْمَدِينَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ, أَوْ إلَى مَدِينَةِ الْفُسْطَاطِ, وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الإِسْكَنْدَرِيَّة عِنْدَ مَالِكٍ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ: فَعَلَيْهِ الْهَدْيُ أَوْ الصَّوْمُ, وَهُوَ لَمْ يُسْقِطْ سَفَرًا أَصْلاً; فَظَهَرَ فَسَادُ هَذِهِ الْعِلَّةِ الَّتِي لاَ عِلَّةَ أَفْسَدَ مِنْهَا, وَلاَ أَبْطَلَ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ مِمَّنْ يَرَى الْهَدْيَ فِي الْقِرَانِ بِأَنْ قَالَ: قَدْ صَحَّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ, وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ, وَعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ, وَعِمْرَانَ بْنَ الْحُصَيْنِ, وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُمْ سَمَّوْا الْقِرَانَ: تَمَتُّعًا, وَهُمْ الْحُجَّةُ فِي اللُّغَةِ; فَإِذْ الْقِرَانُ تَمَتُّعٌ فَالْهَدْيُ فِيهِ, أَوْ الصَّوْمُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي إيجَابِ ذَلِكَ عَلَى الْمُتَمَتِّعِ.

(7/168)


قال أبو محمد: لاَ يَخْتَلِفُ هَؤُلاَءِ، رضي الله عنهم، وَلاَ غَيْرُهُمْ فِي أَنَّ عَمَلَ الْمُهِلِّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ مَعًا هُوَ عَمَلٌ غَيْرُ عَمَلِ الْمُهِلِّ بِعُمْرَةٍ فَقَطْ, ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ بِإِهْلاَلٍ آخَرَ مُبْتَدَأً; فَإِذْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ هُوَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَبْكَ أَنَّ كِلَيْهِمَا يُسَمَّى تَمَتُّعًا إلاَّ أَنَّهُمَا عَمَلاَنِ مُتَغَايِرَانِ. فَنَظَرْنَا فِي ذَلِكَ فَوَجَدْنَا الْحَدِيثَ الَّذِي ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ عليه السلام بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ, فَكَانَ مِنْ النَّاس مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ, فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ مِنْ شَيْءٍ حُرِمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ, وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَقْصُرْ وَيَحِلَّ; ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ".
وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مَنْ مَعَهُ الْهَدْيُ بِأَنْ يَجْعَلَ مَعَ عُمْرَتِهِ حَجًّا. فَصَحَّ أَمْرُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ بِالْهَدْيِ, أَوْ الصَّوْمِ وَلَمْ يَأْمُرْ الْقَارِنَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَوَجَدْنَا مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ مُوَافِينَ لِهِلاَلِ ذِي الْحِجَّةِ فَكُنْتُ فِيمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ لَمْ أَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِي فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "دَعِي عُمْرَتَكِ وَانْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" قَالَتْ: فَفَعَلْتُ فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ وَقَدْ قَضَى اللَّهُ حَجَّنَا أَرْسَلَ مَعِي عَبْدَ الرَّحْمَانِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَأَرْدَفَنِي, وَخَرَجَ بِي إلَى التَّنْعِيمِ فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ, وَقَضَى اللَّهُ حَجَّنَا وَعُمْرَتَنَا وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ, وَلاَ صَدَقَةٌ, وَلاَ صَوْمٌ.
وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد، نا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ أَنا مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا: "طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ" فَصَحَّ أَنَّهَا كَانَتْ قَارِنَةً, وَلَمْ يَجْعَلْ عليه السلام فِي ذَلِكَ هَدْيًا، وَلاَ صَوْمًا.

(7/169)


فإن قيل: إنَّهَا، رضي الله عنها، رَفَضَتْ عُمْرَتَهَا. قلنا: إنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنَّهَا حَلَّتْ مِنْهَا فَقَدْ كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ; لإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَهَا أَنَّ طَوَافَهَا وَسَعْيَهَا يَكْفِيهَا لِحَجَّتِهَا وَعُمْرَتِهَا, وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يَكْفِيَهَا، عَنْ عُمْرَةٍ قَدْ أَحَلَّتْ مِنْهَا; وَإِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنَّهَا رَفَضَتْهَا وَتَرَكَتْهَا بِمَعْنَى أَخَّرَتْ عَمَلَ الْعُمْرَةِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَتَّى أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ فَطَافَتْ وَسَعَتْ لِحَجَّتِهَا وَعُمْرَتِهَا مَعًا فَنَعَمْ, وَهَذَا قَوْلُنَا. فإن قيل: فَإِنَّ وَكِيعًا رَوَى هَذَا الْخَبَرَ فَجَعَلَ قَوْلَهَا, وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ هَدْيٌ، وَلاَ صَوْمٌ مِنْ قَوْلِ هِشَامٍ قلنا: فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ نُمَيْرٍ, وَعَبْدَةَ جَعَلاَهُ مِنْ كَلاَمِ عَائِشَةَ, وَمَا ابْنُ نُمَيْرٍ دُونَ وَكِيعٍ فِي الْحِفْظِ, وَالثِّقَةِ, وَكَذَلِكَ عَبْدَةٌ; وَكِلاَ الرِّوَايَتَيْنِ حَقٌّ قَالَتْهُ هِيَ, وَقَالَهُ هِشَامٌ, وَنَحْنُ أَيْضًا نَقُولُهُ.
فإن قيل: قَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه السلام أَهْدَى، عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ قلنا: نَعَمْ, وَقَدْ بَيَّنَ مَعْنَى ذَلِكَ الإِهْدَاءِ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ أَضَاحِيَ, لاَ هَدْيَ مُتْعَةٍ, وَلاَ هَدْيًا، عَنْ قِرَانٍ.
قال أبو محمد: وَقَالُوا: قَدْ رُوِيَ، عَنْ عُمَرَ, وَجَابِرٍ وُجُوبُ الْهَدْيِ عَلَى الْقَارِنِ قلنا: أَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ عُمَرَ فَإِنَّهَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ السَّلاَمِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَرَ, فَعَبْدُ السَّلاَمِ ضَعِيفٌ, وَأَبُو مَعْشَرٍ مِثْلُهُ، وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ يُولَدْ إلاَّ بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ رضي الله عنه. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ جَابِرٍ فَرُوِّينَاهَا مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ سَأَلَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَنْ يَقْرِنَ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرَةٍ بِغَيْرِ هَدْيٍ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنَّا فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ, فَمُوسَى ضَعِيفٌ, وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ عَجِبَ أَلْبَتَّةَ; ثُمَّ لَوْ صَحَّتْ لَكَانَتْ مُوَافِقَةً لِقَوْلِنَا; لإِنَّ ظَاهِرَهَا الْمَنْعُ مِنْ الْقِرَانِ دُونَ أَنْ يَسُوقَ مَعَ نَفْسِهِ هَدْيًا, وَهَكَذَا نَقُولُ. ثُمَّ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُمَا لَكَانَ لاَ حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَكَانَ قَدْ خَالَفَهُمَا غَيْرُهُمَا مِنْ الصَّحَابَةِ كَمَا ذَكَرْنَا آنِفًا، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَرُوِّينَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ جُمْهَانَ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ مَعَ قَوْمٍ، عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْقِرَانِ مَا كَفَّارَتُهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: كَفَّارَتُهُ أَنْ يَرْجِعَ بِأَجْرَيْنِ, وَيَرْجِعُونَ بِأَجْرٍ فَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ هَدْيٌ لاََفْتَاهُمْ بِهِ.
وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَرَنَ بَيْنَ حَجٍّ, وَعُمْرَةٍ, وَلَمْ يُهْدِ قَالَ الْحَكَمُ: وَقَرَنَ أَيْضًا شُرَيْحٌ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ, وَلَمْ يُهْدِ. فإن قيل: فَقَدْ رَوَيْتُمْ، عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ

(7/170)


إسْمَاعِيلَ، هُوَ ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إذَا قَرَنَ الرَّجُلُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ فَقِيلَ لَهُ: إنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: شَاةٌ, فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الصِّيَامُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ شَاةٍ قلنا: نَعَمْ, وَأَنْتُمْ أَوَّلُ مَنْ خَالَفَ ابْنَ عُمَرَ فِي هَذَا; وَمِنْ التَّلاَعُبِ فِي الدِّينِ أَنْ تُوجِبُوا قَوْلَ الصَّاحِبِ حُجَّةً لاَ يَجُوزُ خِلاَفُهَا إذَا وَافَقَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ, أَوْ مَالِكٍ, أَوْ الشَّافِعِيِّ, وَغَيْرَ حُجَّةٍ إذَا خَالَفَهُمْ نَبْرَأُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْعَمَلِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ, مِنْ مُعْتَمِرٍ, أَوْ قَارِنٍ, أَوْ مُتَمَتِّعٍ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ; فَفَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ آخِرَ عَمَلِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ, فَإِنْ تَرَدَّدَ بِمَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ أَعَادَ الطَّوَافَ، وَلاَ بُدَّ, فَإِنْ خَرَجَ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ فَفَرَضَ عَلَيْهِ الرُّجُوعَ, وَلَوْ كَانَ بَلَدُهُ بِأَقْصَى الدُّنْيَا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ, فَإِنْ خَرَجَ، عَنْ مَنَازِلِ مَكَّةَ فَتَرَدَّدَ خَارِجًا مَاشِيًا, فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ إلاَّ الَّتِي تَحِيضُ بَعْدَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَنْتَظِرَ طُهْرَهَا لِتَطُوفَ لَكِنْ تَخْرُجُ كَمَا هِيَ; فَإِنْ حَاضَتْ قَبْلَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ فَلاَ بُدَّ لَهَا أَنْ تَنْتَظِرَ حَتَّى تَطْهُرَ, وَتَطُوفَ, وَتُحْبَسُ عَلَيْهَا الْكِرَى وَالرُّفْقَةُ: فَلَمَّا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ قَالَ: نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، نا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، نا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بَعْدَمَا أَفَاضَتْ فَذَكَرَتْ حَيْضَتَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عليه السلام: "أَحَابِسَتُنَا هِيَ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا قَدْ كَانَتْ أَفَاضَتْ وَطَافَتْ بِالْبَيْتِ ثُمَّ حَاضَتْ بَعْدَ الإِفَاضَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلْتَنْفِرْ".
قال أبو محمد: فَمَنْ خَرَجَ وَلَمْ يُوَدِّعْ مِنْ غَيْرِ الْحَائِضِ فَقَدْ تَرَكَ فَرْضًا لاَزِمًا فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ قَوْمًا نَفَرُوا وَلَمْ يُوَدِّعُوا فَرَدَّهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَتَّى وَدَّعُوا.
قَالَ عَلِيٌّ: وَلَمْ يَخُصَّ عُمَرُ مَوْضِعًا مِنْ مَوْضِعٍ. وقال مالك: بِتَحْدِيدِ مَكَان إذَا بَلَغَهُ لَمْ يَرْجِعْ مِنْهُ وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ يُوجِبْهُ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قِيَاسٌ, وَلاَ قَوْلُ صَاحِبٍ.
وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَدَّ عُمَرُ

(7/171)


ابْنُ الْخَطَّابِ نِسَاءً مِنْ ثَنِيَّةَ هَرْشَى كُنَّ أَفَضْنَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ حِضْنَ فَنَفَرْنَ فَرَدَّهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ وَيَطُفْنَ بِالْبَيْتِ, ثُمَّ بَلَغَ عُمَرَ بَعْدَ ذَلِكَ حَدِيثٌ غَيْرُ مَا صَنَعَ فَتَرَكَ صُنْعَهُ الأَوَّلَ.
قال أبو محمد: هَرْشَى هِيَ نِصْفُ الطَّرِيقِ مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ بَيْنَ الأَبْوَاءِ وَالْجُحْفَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ الأَبْوَاءِ وَبِهَا عَلَمَانِ مَبْنِيَّانِ عَلاَمَةً; لاَِنَّهُ نِصْفُ الطَّرِيقِ. وَقَدْ رُوِيَ أَثَرٌ مِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَوْسٍ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَفْتَيَاهُ فِي الْمَرْأَةِ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ, ثُمَّ تَحِيضُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ".
قال أبو محمد: الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَانِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ; ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَكَانَ دَاخِلاً فِي جُمْلَةِ أَمْرِهِ عليه السلام أَنْ لاَ يَنْفِرَ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ وَعُمُومُهُ, وَكَأَنْ يَكُونَ أَمْرُهُ عليه السلام الْحَائِضَ الَّتِي أَفَاضَتْ بِأَنْ تَنْفِرَ حُكْمًا زَائِدًا مَبْنِيًّا عَلَى النَّهْيِ الْمَذْكُورِ مُسْتَثْنًى مِنْهُ لِيُسْتَعْمَلَ الْخَبَرَانِ مَعًا، وَلاَ يُخَالَفَ شَيْءٌ مِنْهُمَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: مَنْ تَرَكَ عَمْدًا أَوْ بِنِسْيَانٍ شَيْئًا مِنْ طَوَافِ الإِفَاضَةِ أَوْ مِنْ السَّعْيِ الْوَاجِبِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَلْيَرْجِعْ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا مُمْتَنِعًا مِنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ, فَإِنْ خَرَجَ ذُو الْحِجَّةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ, وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ النِّسَاءِ فَلاَِنَّ طَوَافَ الإِفَاضَةِ فَرْضٌ. وَقَالَ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا شَوَّالٌ, وَذُو الْقَعْدَةِ, وَذُو الْحِجَّةِ, فَإِذْ هُوَ كَذَلِكَ فَلاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ أَنْ يَعْمَلَ شَيْئًا مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَيَكُونَ مُخَالِفًا لاَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَأَمَّا امْتِنَاعُهُ مِنْ النِّسَاءِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فَهُوَ مَا لَمْ يُتِمَّ فَرَائِضَ الْحَجِّ فَهُوَ فِي الْحَجِّ بَعْدُ. وَأَمَّا رُجُوعُهُ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ فَلَيْسَ هُوَ فِي حَجٍّ, وَلاَ فِي عُمْرَةٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ, وَلاَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ النِّسَاءِ; لإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ, وَلاَ رَسُولُ اللَّهِ, وَلاَ إحْرَامَ إلاَّ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ لِطَوَافٍ مُجَرَّدٍ فَلاَ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّ مَنْ لَمْ يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى خَرَجَ ذُو الْحِجَّةِ, أَوْ حَتَّى وَطِئَ عَمْدًا فَحَجُّهُ بَاطِلٌ, فَلِمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي دَاوُد السِّجِسْتَانِيِّ، نا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ هُوَ الْجَهْضَمِيُّ، نا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ أَنَا خَالِدٌ هُوَ الْحَذَّاءُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنِّي أَمْسَيْتُ وَلَمْ أَرْمِ قَالَ: "ارْمِ، وَلاَ حَرَجَ" فَأَمَرَ عليه السلام بِالرَّمْيِ الْمَذْكُورِ, وَأَمْرُهُ

(7/172)


فَرْضٌ, وَأَخْبَرَ عليه السلام أَنَّهُ لاَ حَرَجَ فِي تَأْخِيرِهِ فَهُوَ بَاقٍ مَا دَامَ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ شَيْءٌ, وَلاَ يُجْزِئُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ; لاَِنَّهُ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا: رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: إنْ ذَكَرَ, وَهُوَ بِمِنًى رَمَى, وَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَنْفِرَ فَإِنَّهُ يَحُجُّ مِنْ قَابِلٍ وَيُحَافِظُ عَلَى الْمَنَاسِكِ.
قال أبو محمد: وَالْعَجَبُ كُلُّهُ مِمَّنْ يُبْطِلُ حَجَّ الْمُسْلِمِ بِأَنْ بَاشَرَ امْرَأَتَهُ حَتَّى أَمْنَى مِنْ غَيْرِ إيلاَجٍ, وَلاَ نَهْيَ، عَنْ ذَلِكَ أَصْلاً لاَ فِي قُرْآنٍ, وَلاَ فِي سُنَّةٍ, وَلاَ جَاءَ بِإِبْطَالِ حَجَّةٍ بِذَلِكَ نَصٌّ, وَلاَ إجْمَاعٌ, وَلاَ قِيَاسٌ, ثُمَّ لاَ يُبْطِلُ حَجَّهُ بِتَرْكِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ, وَتَرْكِ مُزْدَلِفَةَ, وَقَدْ صَحَّ الأَمْرُ بِهِمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُنَا: إنَّهُ يُجْزِئُ الْقَارِنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَوَافٌ وَاحِدٌ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَهُمَا جَمِيعًا, وَسَعْيٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ لَهُمَا جَمِيعًا, كَالْمُفْرِدِ سَوَاءٌ سَوَاءٌ: فَلِمَا رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، هُوَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ لَهُمْ: اشْهَدُوا أَنِّي قَدْ أَوْجَبْت حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي, ثُمَّ انْطَلَقَ يُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحْلِقْ, وَلاَ قَصَّرَ, وَلاَ أَحَلَّ مِنْ شَيْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ وَرَأَى أَنَّهُ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ, وَقَالَ: هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، نا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، نا وُهَيْبٍ، هُوَ ابْنُ خَالِدٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُوس، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ فَقَدِمَتْ, وَلَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ حَتَّى حَاضَتْ فَنَسَكَتْ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا, وَقَدْ أَهَلَّتْ بِالْحَجِّ, فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّفَرِ: "يَسَعُكِ طَوَافُكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ" فَأَبَتْ, فَبَعَثَ بِهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ.
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي حَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ، نا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ حَدَّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا حَاضَتْ بِسَرِفَ فَتَطَهَّرَتْ بِعَرَفَةَ, فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُجْزِي عَنْكِ طَوَافُكِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، عَنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ".
وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا قُتَيْبَةُ، نا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ بِعُمْرَةٍ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ; وَفِيهِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا, وَهِيَ تَبْكِي فَقَالَ:

(7/173)


"مَا شَأْنُكِ" قَالَتْ: [شَأْنِي أَنِّي] قَدْ حِضْتُ, وَقَدْ حَلَّ النَّاسُ, وَلَمْ أَحْلِلْ, وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَالنَّاسُ يَذْهَبُونَ إلَى الْحَجِّ الآنَ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاغْتَسِلِي, ثُمَّ أَهِلِّي بِالْحَجِّ" فَفَعَلَتْ وَوَقَفَتْ الْمَوَاقِفَ حَتَّى إذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْكَعْبَةِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ حَلَلْتِ مِنْ حَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ جَمِيعًا".
وَمِنْ طَرِيقِ أَحْمَدَ بْنِ شُعَيْبٍ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَا أَشْهَبُ أَنَّ مَالِكًا حَدَّثَهُمْ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ وَهِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ حَدَّثَاهُ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَدِمْنَا مَكَّةَ فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ, ثُمَّ حَلُّوا, ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى لِحَجِّهِمْ; وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا.
نا أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ أَنَسٍ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عِقَالٍ، نا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْجَهْمِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرِ بْنِ مَطَرٍ، نا أَبُو الْمُصْعَبِ, وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَكَانِيُّ قَالاَ جَمِيعًا: نا الدَّرَاوَرْدِيُّ هُوَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلْيَطُفْ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا".
فَهَذِهِ آثَارٌ مُتَوَاتِرَةٌ مُتَظَاهِرَةٌ تُوجِبُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ: لِلْقَارِنِ سَعْيٌ وَاحِدٌ, وَلِلْمُتَمَتِّعِ سَعْيَانِ.
وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَكْفِيك لَهُمَا طَوَافُك الأَوَّلُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَعْنِي الْقَارِنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ قَالَ: حَلَفَ لِي طَاوُوس مَا طَافَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ إلاَّ طَوَافًا وَاحِدًا. وَمِنْ طَرِيقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ لِلْقَارِنِ طَوَافًا وَاحِدًا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ خِلاَفَ مَا يَحْفَظُ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَمِنْ طَرِيقِ هُشَيْمِ بْنِ بَشِيرٍ، نا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْيَشْكُرِيِّ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَوْ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا تُخِصُّ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَلَكُنْتُ مُهْدِيًا يَعْنِي سُوقَ الْهَدْيِ قَبْلَ الإِحْرَامِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ, وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ, وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ, وَعَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ,

(7/174)


وَسَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ, وَالزُّهْرِيِّ, وَمَالِكٍ, وَالشَّافِعِيِّ, وَأَحْمَدَ, وَإِسْحَاقَ, وَأَبِي ثَوْرٍ, وَدَاوُد, وَأَصْحَابِهِمْ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ, وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ: كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ الصُّبَيّ بْنَ مَعْبَدٍ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ, وَلَمْ يَحِلَّ بَيْنَهُمَا وَأَهْدَى, وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ, فَقَالَ عُمَرُ: هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ, ويَاسِين الزَّيَّاتِ قَالَ يَاسِين: عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ الأَصْبَهَانِيِّ وَقَالَ عَبَّادٌ: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ الأَصْبَهَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِعُمْرَتِهِ, ثُمَّ قَعَدَ فِي الْحِجْرِ سَاعَةً, ثُمَّ قَامَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا لِحَجِّهِ, ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ النَّبِيَّ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ. وَرُوِيَ، عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ, كَمَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ، هُوَ ابْنُ عَمْرٍو السُّلَمِيُّ وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ; وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي عَوَانَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أُذَيْنَةَ; وَمِنْ طَرِيقِ وَكِيعٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطَاءٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ, وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَزِيَادِ بْنِ مَالِكٍ, وَمِنْ طَرِيقِ ابْنِ سَمْعَانَ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ, ثُمَّ اتَّفَقَ أَبُو نَصْرِ بْنُ عَمْرٍو, وَالرَّجُلُ السُّلَمِيُّ, وَالرَّجُلُ الْعُذْرِيُّ, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أُذَيْنَةَ, وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ, وَزِيَادُ بْنُ مَالِكٍ, وَابْنُ شُبْرُمَةَ كُلُّهُمْ، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّهُ قَالَ: يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ وَمِنْ طَرِيقِ مَنْصُورِ بْنِ زَاذَانَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مَالِكٍ وَمِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ, ثُمَّ اتَّفَقَ زِيَادُ بْنُ مَالِكٍ, وَأَبُو إِسْحَاقَ كِلاَهُمَا، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَلَى الْقَارِنِ طَوَافَانِ, وَسَعْيَانِ. وَمِنْ طَرِيقِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الأَسْوَدِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: إذَا قَرَنْتَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطُفْ طَوَافَيْنِ وَاسْعَ سَعْيَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ, وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ, وَشُرَيْحٍ الْقَاضِي, وَالشَّعْبِيِّ, وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ, وَحَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ, وَالْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ, وَرُوِيَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ, وَسُفْيَانَ, وَالْحَسَنِ بْنِ حَيٍّ; وَأَشَارَ نَحْوَهُ الأَوْزَاعِيُّ وَهَا هُنَا قَوْلٌ ثَالِثٌ رُوِّينَاهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ

(7/175)


قَالَ: نا جَهْمُ بْنُ وَاقِدٍ الأَنْصَارِيُّ سَأَلَتْ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ فَقُلْتُ: قَرَنْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَقَالَ: تَطُوفُ طَوَافَيْنِ بِالْبَيْتِ وَيُجْزِئُك سَعْيٌ وَاحِدٌ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
قال أبو محمد: أَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ هَذَا فَإِنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ; فَلِذَلِكَ أَجْزَأَهُ عِنْدَهُ سَعْيٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا; لاَِنَّهُ لِلْحَجِّ وَحْدَهُ.
قال أبو محمد: أَمَّا مَا شَغَبَ بِهِ, مَنْ يَرَى أَنْ يَطُوفَ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَاقِطٌ كُلُّهُ لاَ يَجُوزُ الاِحْتِجَاجُ بِهِ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا رَوَوْا فِي ذَلِكَ، عَنِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، لاَ يَصِحُّ مِنْهُ, وَلاَ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ, وَلَكِنَّهُ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ التَّابِعِينَ صَحِيحٌ إلاَّ عَنِ الأَسْوَدِ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ الْجُعْفِيُّ.
أَمَّا حَدِيثُ الضَّبِّيِّ بْنِ مَعْبَدٍ فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يُدْرِكْ الضَّبِّيَّ, وَلاَ سَمِعَ مِنْهُ, وَلاَ أَدْرَكَ عُمَرَ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ, وَقَدْ رَوَاهُ الثِّقَاتُ: مُجَاهِدٌ, وَمَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنِ الضَّبِّيِّ فَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ طَوَافًا, وَلاَ طَوَافَيْنِ, وَلاَ سَعْيًا, وَلاَ سَعْيَيْنِ أَصْلاً; وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَقَطْ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَمُرْسَلٌ; ثُمَّ هُوَ أَيْضًا، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ;، وَلاَ يَجُوزُ الاِحْتِجَاجُ بِرِوَايَتِهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ, فَعَنْ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ, ويَاسِين, وَكِلاَهُمَا ضَعِيفٌ جِدًّا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ, فَسَقَطَ كُلُّ ذَلِكَ, وَتَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ الرِّوَايَةُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ.
وَوَاللَّهِ مَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عُذْرًا لِمَنْ يُعَارِضُ رِوَايَةَ عَطَاءٍ, وطَاوُوس, وَمُجَاهِدٍ, وَعُرْوَةَ, عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِوَايَةُ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ, كِلاَهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ هَذِهِ الْعُفُونَاتِ الذَّفِرَةِ, وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلاَنِ.
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنْ عَلِيٍّ فَأَبُو نَصْرِ بْنِ عَمْرٍو, وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بْنُ أُذَيْنَةَ, وَزِيَادُ بْنُ مَالِكٍ, وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ, وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ لاَ يَدْرِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ هُمْ وَأَمَّا الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ, وَابْنُ شُبْرُمَةَ فَلَمْ يُدْرِكْهُ عَلِيًّا، وَلاَ وَلَدًا إلاَّ بَعْدَ مَوْتِهِ, وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ الْحُسَيْنِ ابْنِهِ, فَعَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَزِيَادُ بْنُ مَالِكٍ لاَ يُدْرَى مَنْ هُوَ. وَأَمَّا أَبُو إِسْحَاقَ فَلَمْ يُولَدْ إلاَّ سَنَةَ مَوْتِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْ بَعْدَهَا.
فَمَنْ أَعْجَبُ مِمَّنْ يُعَارِضُ رِوَايَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ, وَرِوَايَةَ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَرِوَايَةَ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ طَاوُوس، عَنِ الصَّحَابَةِ جُمْلَةً, وَرِوَايَةَ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ الْيَشْكُرِيِّ، عَنْ جَابِرٍ, وَرِوَايَةَ مَالِكٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ, وَهِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، عَنْ كُلِّ مَنْ قَرَنَ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ

(7/176)


صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ النَّطَائِحِ الْمُتَرَدِّيَاتِ, وَهَذَا لِمَنْ تَأَمَّلَهُ إجْمَاعٌ صَحِيحٌ مِنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم، بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَ يَكْدَحُ فِيهِ مَا جَاءَ بَعْدَهُ لَوْ جَاءَ فَكَيْفَ وَكُلُّهُ بَاطِلٌ مُطْرَحٌ؟
قال أبو محمد: وَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي رَوَاهُ طَاوُوس, وَمُجَاهِدٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ, وَرَوَاهُ عَطَاءٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ جَابِرٍ, وَرَوَاهُ طَاوُوس، عَنْ سُرَاقَةَ, كُلُّهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
قَالَ عَلِيٌّ: وَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ تَحْتَاجَ الْعُمْرَةُ إلَى عَمَلٍ غَيْرِ عَمَلِ الْحَجِّ, وَقَدْ دَخَلَتْ فِيهِ; وَمِنْ عَجَائِبِ الدُّنْيَا احْتِجَاجُهُمْ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ السُّقَّاطِ الَّذِينَ يُؤْنَسُ بِالْخَيْرِ فَقْدُهُمْ مِنْهُ, وَيُوحَشُ مِنْهُ وُجُودُهُمْ فِيهِ. ثُمَّ يَقُولُونَ فِي الثَّابِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَمْرِهِ مَنْ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ يَطُوفَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا وَسَعْيًا وَاحِدًا: هَذَا مِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ, نَعَمْ, إنَّهُ لَمِنْ رِوَايَةِ الدَّرَاوَرْدِيِّ الثِّقَةِ الْمَأْمُونِ, لاَ مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ, وَعَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ, ويَاسِين الزَّيَّاتِ, الْمُطْرَحَيْنِ الْمَتْرُوكَيْنِ. ثُمَّ أَعْجَبُ شَيْءٍ: أَنَّ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ أُذَيْنَةَ الْمَذْكُورِ، عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ بَدَأَ بِالإِهْلاَلِ بِالْحَجِّ أَنْ يُرْدِفَ عَلَيْهِ عُمْرَةً فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا رَوَى ابْنُ أُذَيْنَةَ، عَنْ عَلِيٍّ مِنْ أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ حُجَّةً خَالَفَ لَهَا السُّنَنَ الثَّابِتَةَ وَإِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ, وَلَمْ يَجْعَلْ مَا رَوَاهُ ابْنُ أُذَيْنَةَ، عَنْ عَلِيٍّ: مِنْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ بَدَأَ بِالإِهْلاَلِ بِالْحَجِّ أَنْ يُضِيفَ إلَيْهِ عُمْرَةً: حُجَّةً, فَمَا هَذَا التَّلاَعُبُ وَلَئِنْ كَانَتْ رِوَايَةُ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ عَلِيٍّ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ حُجَّةً: إنَّهَا لَحُجَّةٌ فِي الْوَجْهِ الآخَرِ, وَلَئِنْ لَمْ تَكُنْ حُجَّةً فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فَمَا هِيَ حُجَّةٌ فِي الآخَرِ. ثُمَّ اعْتَرَضُوا فِي الآثَارِ الْوَارِدَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مُتَمَتِّعًا, وَلَوْ أَنَّ الَّذِي احْتَجَّ بِهَذَا يَسْتَحْيِي مِمَّنْ حَضَرَهُ مِنْ النَّاسِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَبْلُغَ إلَى الْحَيَاءِ مِنْ الْمَلاَئِكَةِ, ثُمَّ مِنْ الَّذِي إلَيْهِ مَعَادُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَرَدَعَهُ عَنْ هَذِهِ الْمُجَاهَرَةِ الْقَبِيحَةِ. وَهَذَا الْخَبَرُ قَدْ ذَكَرْنَاهُ وَفِيهِ مِنْ تَمَتُّعِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَدَأَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ, ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ فَوَصَفَ عَمَلَ الْقِرَانِ وَسَمَّاهُ: تَمَتُّعًا.
وَالْعَجَبُ أَنَّ هَذَا الْمُجَاهِرَ بِهَذِهِ الْعَظِيمَةِ يُنَاظِرُ الدَّهْرَ فِي إثْبَاتِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قَارِنًا, ثُمَّ أَضْرَبَ، عَنْ ذَلِكَ الآنَ وَجَعَلَ يُوهِمُ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا, وَهَذَا مِنْ الْغَايَةِ فِي السَّمَاجَةِ وَالصِّفَةِ الْمَذْمُومَةِ, وَاعْتَرَضَ فِي الآثَارِ الْمَذْكُورَةِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ الْخَبَرِ

(7/177)


مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "اُرْفُضِي الْعُمْرَةَ, وَدَعِي الْعُمْرَةَ, وَاتْرُكِي الْعُمْرَةَ, وَامْتَشِطِي, وَانْقُضِي رَأْسَكِ, وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ" وَأَوْهَمَ هَذَا الْمُكَابِرُ بِهَذِهِ الأَلْفَاظِ: أَنَّهَا أَحَلَّتْ مِنْ الْعُمْرَةِ; وَهَذَا بَاطِلٌ لإِنَّ مَعْنَى اُرْفُضِي الْعُمْرَةَ, وَدَعِي الْعُمْرَةَ, وَاتْرُكِي الْعُمْرَةَ, وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ أَنْ تَدَعَ الطَّوَافَ الَّذِي هُوَ عَمَلُ الْعُمْرَةِ وَتَتْرُكَهُ, وَتَرْفُضَ عَمَلَ الْعُمْرَةِ مِنْ أَجْلِ حَيْضِهَا, وَتُدْخِلَ حَجًّا عَلَى عُمْرَتِهَا, فَتَكُونَ قَارِنَةً, فَإِذَا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ حِينَئِذٍ لِلْعُمْرَةِ وَلِلْحَجِّ.
وَأَمَّا نَقْضُ الرَّأْسِ وَالاِمْتِشَاطُ فَلاَ يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الإِحْرَامِ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ مُطْلَقٌ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَهَا حِينَئِذٍ طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَسَعْيُكِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكْفِيَهَا طَوَافُهَا وَسَعْيُهَا لِعُمْرَةٍ قَدْ أَحَلَّتْ مِنْهَا لَوْلاَ الْهَوَى الْمُعْمِي الْمُصِمُّ الْمُقْحِمُ فِي بِحَارِ الضَّلاَلَةِ بِالْمُجَاهَرَةِ بِالْبَاطِلِ. فَصَحَّ يَقِينًا أَنَّهُ إنَّمَا كَفَاهَا طَوَافُهَا وَسَعْيُهَا لِحَجِّهَا وَعُمْرَتِهَا اللَّذَيْنِ كَانَتْ قَارِنَةً بَيْنَهُمَا; هَذَا مَا لاَ يَحِيلُ عَلَى مَنْ لَهُ أَدْنَى فَهْمٍ, وَلَمْ يَجِدْ مَا يُمَوِّهُ بِهِ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ, وَلاَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ مِنْ الصَّحَابَةِ طَافُوا لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. فَرَجَعَ إلَى أَنْ قَالَ: إنَّ عَلِيًّا كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجِّهِ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ, فَلَمْ يَقُلْ مَا قَالَ إلاَّ عَنْ عِلْمٍ فَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ: إنَّك تَنْسِبُ إلَى عَلِيٍّ الْبَاطِلَ, وَقَوْلاً لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ قَطُّ, ثُمَّ لَوْ ثَبَتَ عَنْهُ فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ أَبْطَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْلَمَ بِهِ مِنْ عَلِيٍّ وَغَيْرِ عَلِيٍّ; وَإِذْ صَارَ عَلِيٌّ هَاهُنَا يَجِبُ تَقْلِيدُهُ وَإِطْرَاحُ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ; وَأَقْوَالِ سَائِرِ الصَّحَابَةِ لِقَوْلٍ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ, فَهَلاَّ وَجَبَ تَقْلِيدُهُ فِي الثَّابِتِ عَنْهُ مِنْ بَيْعِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ, وَمِنْ قَوْلِهِ: إنَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِلِ خَمْسَ شِيَاهٍ; وَسَائِرِ مَا خَالَفُوهُ فِيهِ لِمَا هُوَ أَقَلُّ مِمَّا تَرَكُوا هَاهُنَا وَلَكِنَّ الْهَوَى إلَهٌ مَعْبُودٌ.
وَعَهْدُنَا بِهِمْ يَقُولُونَ فِيمَا رُوِيَ، عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ إذْ قَالَتْ لاُِمِّ وَلَدِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فِي بَيْعِهَا غُلاَمًا مِنْ زَيْدٍ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ, ثُمَّ ابْتَاعَتْهُ مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا: أَبْلِغْ زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إنْ لَمْ يَتُبْ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَهَلاَّ قَالُوا هَاهُنَا فِي قَوْلِ عَائِشَةَ, وَجَابِرٍ, وَابْنِ عُمَرَ, وَابْنِ عَبَّاسٍ: إنَّ الْقَارِنَ يُجْزِئُهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ: مِثْلُ هَذَا لاَ يُقَالُ بِالرَّأْيِ, وَلَكِنْ حَسْبُهُمْ وَنَصْرُ الْمَسْأَلَةِ الْحَاصِلَةِ الْحَاضِرَةِ بِمَا يُمْكِنُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

(7/178)


ويجزِى في الهدي المعيب والسالم أحب إلينا ولا تجزِئ جذعة من الإبل ولا من البقرِ ولا من الغنم إلا في جزاء الصيد فقط
...
837 - مَسْأَلَةٌ: وَيُجْزِئُ فِي الْهَدْيِ: الْمَعِيبُ, وَالسَّالِمُ أَحَبُّ إلَيْنَا، وَلاَ تُجْزِئُ جَذَعَةٌ مِنْ الإِبِلِ, وَلاَ مِنْ الْبَقَرِ, وَلاَ مِنْ الْغَنَمِ, إلاَّ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ فَقَطْ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ: أَنَّ نَهْيَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ الْعَرْجَاءِ الْبَيِّنِ عَرَجُهَا, وَالْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوَرُهَا,

(7/178)


وَالْمَرِيضَةِ الْبَيِّنِ مَرَضُهَا, وَالْعَجْفَاءِ الَّتِي لاَ تُنَقَّى, وَأَنْ لاَ يُضَحَّى بِشَرْقَاءَ, وَلاَ خَرْقَاءَ, وَلاَ مُقَابِلَةٍ, وَلاَ مُدَابِرَةٍ, إنَّمَا جَاءَ فِي الأَضَاحِيّ نَصًّا, وَالآُضْحِيَّةُ غَيْرُ الْهَدْيِ, وَالْقِيَاسُ بَاطِلٌ. وَقَدْ وَافَقْنَا الْمُخَالِفَ عَلَى اخْتِلاَفِ حُكْمِ الْهَدْيِ وَالآُضْحِيَّةِ فِي الإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ, وَحُكْمُهُ إذَا عَطِبَ قِبَلَ مَحِلِّهِ. فَمِنْ الْبَاطِلِ أَنْ يُقَاسَ حُكْمُ الْهَدْيِ عَلَى الأَضَاحِيّ فِي مَكَان, وَلاَ يُقَاسُ عَلَيْهِ فِي مَكَان آخَرَ بِغَيْرِ بُرْهَانٍ مُفَرِّقٍ بَيْنَ ذَلِكَ, وَالْهَدْيُ جَائِزٌ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ, وَلاَ تَجُوزُ الآُضْحِيَّةَ عِنْدَهُمْ إلاَّ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ; فَبَطَلَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا الْجَذَعَةُ: فَلِ مَا رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُسْلِمٍ، نا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ دَاوُد بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: أَنَّ خَالَهُ أَبَا بُرْدَةَ بْنَ نِيَارٍ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا الْيَوْمَ اللَّحْمُ فِيهِ مَكْرُوهٌ, وَإِنِّي عَجَّلْتُ نَسِيكَتِي لاُِطْعِمَ أَهْلِي, وَجِيرَانِي, وَأَهْلَ دَارِي فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَعِدْ نُسُكًا" فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ عِنْدِي عِنَاقَ لَبَنٍ هِيَ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ فَقَالَ عليه السلام: "هِيَ خَيْرُ نَسِيكَتَيْكَ, وَلاَ تُجْزِئُ جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ".
وَهَذَا عُمُومٌ مِنْهُ عليه السلام وَابْتِدَاءُ قَضِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهَا وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ هَذَا مَقْصُورًا عَلَى الآُضْحِيَّةَ لَوْ قَالَ عليه السلام: "وَلاَ تُجْزِئُ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك", فَكَانَ يَكُونُ الضَّمِيرُ مَرْدُودًا إلَى الآُضْحِيَّةَ; لَكِنْ ابْتَدَأَ عليه السلام فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لاَ يُجْزِئُ جَذَعَةٌ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَهَا; فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ. وَإِنَّمَا خَصَّصْنَا جَزَاءَ الصَّيْدِ بِنَصِّ قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} فَعَمَّ تَعَالَى أَيْضًا, وَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ الْجَذَعُ بِمِثْلِهِ, وَالصَّغِيرُ بِمِثْلِهِ, وَالْمَعِيبُ بِمِثْلِهِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ.

==========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُوْل الله r قَالَ : (( إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم فأتِمّوا ))

  حَدِيْث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُوْل الله r قَالَ : (( إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة ، فما أدركتم فصلّوا ، وما فاتكم...